تقدم فما زال هناك بقية


قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37].

فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه من دار كرامته، أو يتأخر عما خُلق له وعما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم؛ [السعدي].

والأزمنة الفاضلة مضمار السباق فيها والتقدم والفوز فرصة عظيمة لمن أراد أن يتقدم ويتقرب إلى الله والدار الآخرة، ورمضان زمن فاضل، وفيه ليلة خير من ألف شهر؛ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، فيا مسكين، متى تتقرب إلى الله إن لم تتقرب في مثل هذه الليالي الفاضلة، وترحم نفسك من إصر الذنوب وتكبيل الخطايا لك؟

الصالحون شدوا مئزرهم بذرًا وسقيا وتعاهدًا بالغرس، وأنت ما بذرت وما سقيت وما تعاهدت، يا مسكين، استدرك قلبك وجسدك، أعتقهما من العوائد والعوالق والعلائق؛ لتصل إلى المطلب الأعلى.

ما زال في رمضان بقية، وما زالت أنفاسك تدخل وتخرج، فالفرصة قائمة، ولا يكن حظك في رمضان الجوع والعطش والتعب.

قال ابن القيم: "كم جاءك الثواب يسعى إليك، فوقف في الباب، فرده بوَّاب سوف ولعل وعسى".

وليس أي ثواب؛ إنه العتق من النار، إنه الفوز العظيم، الذي لا خسران بعده، ولا شقاء، ولا همَّ، ولا عذاب، ولا خوف، ولا حزن؛ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].

استغل رمضان بساعاته ودقائقه وثوانيه، واعلم أنك إن وفقك الله لهذا، فما هو إلا بتوفيق الله وكرمه وإحسانه.

فاستعن بالله، واخلع ثوب الكسل والفتور، والبس ثياب الهمة العالية، واجعل أوقاتك ما بين صلاة ودعاء، وقيام وقرآن، وذكر وتفكر.

انظم لنفسك عقدًا من الطاعات يُزينك ويقربك إلى الله في يوم لاينفع فيه مال ولا بنون.

كل شيء له عِوض، وما من الله إن نسيته عوض.

كل ما تحسبه مهم في رمضان من أمور - هو في الحقيقة ليس بمهم، وتستطيع أن تؤجله.

جهازك أغلقه فهو من أكثر ما يشتت عليك أمرك ويصرف همتك، لا تقل: أنا لا أختلط بالناس وبعيد عنهم، بل أنت وسط دخان أنفاسهم ليلَ نهارَ، بل وأكثر من خلطتك الجسدية بهم.

تقلل من الطعام ومن النوم ومن الكلام؛ فهي من مفسدات القلب.

أكبَّ بقلبك وسمعك وبصرك ولسانك على القرآن، تأمل كلام ربك، ألقِ سمعك لآيات النعيم، وأسأله من فضله، وآيات العذاب واستعذ بالله منها.

ارفع يديك بالدعاء، فكما أن رمضان ظرف للصيام، فهو ظرف للدعاء.

استكثر من الدعوات؛ فللصائم دعوة لا ترد.

أطل سجودك، بثه همومك، اسأله حياة قلبك؛ فالقلب الحي قلب ناجٍ بحول الله وقوته، قلب قريب من الله.


وفقني الله وإياكم لِما يحب ويرضى، وأسأله كما وفقنا لبلوغ هذا الشهر الكريم أن يوفقنا لتمامه كما يحب ويرضى، ويجعلنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا من عتقائه من النار.
منقول