روح العبادة


صالح المبارك





أثناء لقائي بمجموعة من الأصدقاء ثار حوار حول طرق يتبعها بعض الإخوة المدمنين على الشاي والقهوة (الكافئين) أو التدخين (النيكوتين) أثناء الصيام في شهر رمضان ، وذكر لي أحدهم أن هناك حبوب كافئين بطيئة الامتصاص يأخذها بعض مدمني القهوة مع السحور بحيث تعطي الجسم دفعات بطيئة ومستمرة من الكافئين فلا يشعر صاحبها بالصداع نتيجة نقص الكافئين خلال فترة الصوم. ثم تحول الحوار إلى لصقة النيكوتين التي يستعملها مدمنو التدخين والتي أيضا تعطي دفعات بطيئة ومستمرة من النيكوتين للمدمن الذي تعود على استمرار وجود النيكوتين في جسمه.

في البداية كان النقاش فقهيا: هل يجوز أم لا يجوز... قلت لمتحدثي: ما أعرفه هو أن ما دخل في الجوف قبل الفجر لا يُفَطّر ولكن إدخال شيء إلى الجوف عن طريق الحقن واللاصقات والقطرة وغيرها أمر آخر فصّل فيه العلماء... أنا لستُ فقيهاً ولا مفتياً ولا أريد الدخول في هذا الأمر لأني أرى أمراً لا يقل أهمية عن السؤال (هل يفطّر أم لا يفطّر؟) وهو روح الصيام والصبر على الطاعة والحرمان الطوعي لفترة محددة في اليوم ولأيام معدودة في السنة عن أشياء هي في الأصل مباحة (مع التنبيه أن التدخين ليس مباحاً). روح العبادة ومقاصد الشريعة لا تقل أهمية عن أحكامها فالصلاة ليست مجرد حركات مثل التمارين الرياضية ، والصوم بنيّة طاعة الله وتعبّده ليس مثل الصوم لتنزيل الوزن أو تحسين الصحة مع أن العبادة غالبا ما يكون فيها عنصر النفع الجسدي الذي نتحصله من التمارين والصوم الصحي.

إذا تأملنا أركان الإسلام الخمس: الركن الأول (شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هو المدخل للإسلام ولكل عبادة. لكن لنتأمل الأركان الأربعة الأخرى فكلها تحتاج قوة إرادة وجهاد النفس ومغالبة الهوى. فأداء الصلاة في وقتها يأخذ صاحبها من مشاغله أو متعه أو يوقظه من نومه ليمثل بين يدي ربه في أوقات معينة. كم يكون أحدنا في جلسة اجتماعية ممتعة أو يستمتع ببرنامج مسلٍّ على التلفزيون أو مستلقٍ أو نائم أو منهمكاً في عمله أو دراسته ثم يأتي وقت الصلاة فيأخذه مما هو فيه ليؤدي واجبه لربه ، هواه يقول له ابقَ مستمتعاً بما أنت عليه ولتكن الصلاة لاحقاً فربما تنطبق عليه الآية (فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) لكن ضمير الواجب يقول له: بل قم وأدِّ الصلاة في وقتها... إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا.

كذلك الصوم فهو معركة نفسية مع المغريات والشهوات: هل أنتصر عليها؟ في هذه المعركة يترك المسلم طعامه وشرابه وشهواته لساعات معدودة في اليوم طاعةً لله ، لا لمنفعة مادية ولا جسدية ولا نفسية... مع أن تلك المنافع قد تأتي مع الصوم ولكنها ليست الدافع للصوم بل هي استجابة لأمر الله تعالى كما قال في الحديث القدسي (.... يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أجْلِي الصِّيَامُ لِي، وأَنَا أجْزِي به).

كذلك في الركنين الآخرين مغالبة النفس والشهوات ففي الزكاة يدفع المسلم جزءاً من ماله لغيره استجابة لأوامر الله رغم ماجُبِلَ عليه الإنسان من حب المال (وإنه لحب الخير لشديد) ، وفي الحج يترك المسلم كل دنياه: بيته وأهله وماله ومكان ووسائل راحته... كي يقضي أياما يسير فيها بلباس الإحرام الذي يتساوى فيه الكبير والصغير والغني والفقير لا لغاية أو منفعة دنيوية بل طاعة لله.

تستطيع بالطبع أن تؤدي العبادات بعيداً عن روحها وربما يُجْزِئُك ذلك (أي أدّيتَ الفرض) حسب أقوال الفقهاء فتؤدي الصلاة حركات جسدية فحسب وذهنك غارقٌ في أمور الدنيا وتنهي صلاتك وأنت لا تدرك بماذا قرأت... وتستطيع أن تصوم رمضان بعيداً عن روح الصيام فينطبق عليك الوصف في الحديث الشريف (رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) وتحج وأنت لم تتخلَّ عن رفاهيتك وأطباق طعامك المفضلة (وربما حتى سيجارتك) وتقضي وقتك خلال أيام الحج في أحاديث جانبية مع الأصدقاء أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

كل عبادة لها أحكامها وروحها... وهناك درجات لروحها نسعى لأعلاها فهناك من يسمو إلى الأعالي وهناك يقنع بالحد الأدنى وهناك ما بين هذا وذاك. فما أجمل وأحلى من أن يؤدي المسلم عبادته محسناً لأحكامها مدركاً لروحها وساعياً إليها ، ومستمتعاً بأدائها وهو يشعر بأنه متصلٌ بربه شاعرٌ بمراقبته (فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

من جهة أخرى فالإدمان مشكلة نفسية أولاً قبل أن تكون عضوية فحين يصوم المرء صوماً صحيحاً لا تحايل فيه يصير انضباطه وقوة إرادته أقوى ويصبح أكثر قدرة على التحكم بالنفس ومغالبة الشهوات ، يقود نفسه ولا يتركها تقوده ، فما أقبح من أن يستعبد الإنسان شيء تافه كفنجان قهوة أو سيجارة وهو المخلوق الذي كرّمه الله بنعمة العقل والتمييز.


فيا صديقي الذي تسأل عن حكم بلع حبوب الكافئين أو لصقة النيكوتين وأنت صائم: لا تضيّع روح صيامك بالالتفاف حول الأحكام حتى ولو كان ذلك بطرقٍ يجيزها لك الفقهاء. صم عن الشهوات وجالد نفسك كي تشعر بحلاوة الأداء وتتحصّل على فرحتي الصائم: حين يفطر وحين يلقى ربه.