البناء اللغوي لفواصل سورة الكهف


نعمان لطفي





الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما، والصلاة والسلام على نبيه محمد

وبعد:

فإن الفاصلة يقصد بها رأس الآية، وهذه التسمية اختصت بها آيات القرآن تمييزًا لها من خواتيم الأبيات الشعرية التي تسمى قوافي، وخواتيم الجمل النثرية المسجوعة التي يقال لها: السجع.

والمتأمل لفواصل سورة الكهف يشعر بنغم داخلي يسري في الآيات، يجذب القارئ والسامع، لذا قمت بهذا التحليل لألفاظ فواصل السورة محاولًا الكشف عن سبب هذا الشعور، وهذا التحليل له عدة مستويات: مستوى المفردات، والمستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى النحوي.

مستوى المفردات:

عدد آيات السورة مائة وعشر (110) آيات، والكلمات التي أتت في الفاصلة إحدى وثمانون (81) كلمة، حيث تكررت بعض الكلمات، وكان بعضها أسعد حظًّا من بعض، حيث كان النصيب الأكبر لكلمة (أحدًا)، التي تكررت ثماني مرات، ثم كلمة (صبرًا) التي تكررت خمس مرات، يليهما كلمتا (سببًا، أبدًا)، حيث تكرر كل منهما أربع مرات.

ولو نظرنا إلى دلالة هذا التكرار، لوجدنا أن الأحدية أو الوحدانية بارزة جلية، وهو الموضوع الأساس الذي تناولته السورة، به افتتحت وبه اختتمت، حيث نجد في مطلع السورة الوعيد لمن نسبوا لله تعالى الولد، ثم قصة أصحاب الكهف وبروز قضية التوحيد في قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14].

وانتهت بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

ومرورًا بقصة الرجلين، وقول المؤمن منهما للكافر: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 37 - 38].

لا عجب إذن أن يتكرر لفظ (أحدًا) ثماني مرات، يلي ذلك لوازم الإيمان من الصبر على الشدائد والمكاره التي يتعرض لها المؤمن في سبيل الحفاظ على عقيدته، والصبر مع المؤمنين على الطاعة، والصبر في طلب العلم الموصل إلى معرفة الله تعالى؛ لذا نجد أن (الصبر) قد تكرر خمس مرات.

بعد ذلك يأتي (سببًا، وأبدًا)، أما لفظ (سببًا) وإن ارتبط بقصة ذي القرنين، فهو يصور لنا أن للفلاح والنجاح أسبابا لا بد للإنسان أن يأخذ بها ليسعد في حياته، إلا أننا إن نظرنا إلى دلالة تكرار اللفظ، وأنه يأتي في المرتبة التالية بعد لفظي (أحدًا، وصبرًا)، لقلنا إن للفلاح والنجاح في الآخرة كذلك أسبابا لا بد للإنسان أن يأخذ بها لينجو ويسعد، وهذه الأسباب هي: توحيد الله تعالى، والصبر على المكاره، والعلم الموصل إلى الله تعالى.

من ذلك ندرك أن لفظ (أبدًا) هذا اللفظ الدال على امتداد الزمان، يأتي مناسبا لهذه الألفاظ، فالإنسان إما ينجو فيعيش في نعيم أبدًأ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2 - 3]. وإما يشقى فيعيش في جحيم أبدًا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20].

المستوى الصوتي:

أما على المستوى الصوتي، فإننا نجد أن أكثر الأصوات تكرارا هي: الدال "حيث تكررت ثماني وعشرين (28) مرة"، ثم الراء "حيث تكررت أربعًا وعشرين (24) مرة"، ثم الباء "حيث تكررت سبع عشرة (17) مرة"، وأخيرا اللام "حيث تكررت ثلاث عشرة (13) مرة".

أما من حيث عدد الكلمات التي تكررت فيها هذه الحروف، فإن الترتيب سيكون على النحو التالي: الراء (17 كلمة)، ثم الدال (15 كلمة)، ثم الباء (12 كلمة)، وأخيرا اللام (11 كلمة).

وحروف الراء والباء واللام من حروف الذلاقة، وحروف الذلاقة هي الحروف التي تخرج من طرف أسلة اللسان والشفتين، وهي ستة أحرف، ثلاثة ذلقية تخرج من ذَلْق اللسان، وهي: الراء واللام والنون، وثلاثة شفوية، وهي: الفاء والباء والميم، وتمتاز أصوات الذلاقة بسمتين أساسيتين: 1. السهولة واليسر في النطق لخروجها من طرف اللسان والشفتين. 2. الوضوح في السمع؛ إذ إنها أصوات انفجارية (ما عدا الفاء)؛ فالأصوات الانفجارية أيسر في النطق وأوضح في السمع من الأصوات الاحتكاكية؛ لذا تكثر أصوات الذلاقة في الكلام، ولا تخلو أبنية الرباعي والخماسي من حروف الذلاقة، وكما كثرت أصوات الذلاقة في الكلام، فإن هذه الأحرف الثلاثة الواردة في فواصل السورة (الراء واللام والباء)، كثرت حتى إنها مثلت نحو نصف فواصل السورة؛ إذ تكررت في أربع وخمسين (54) فاصلة، من مجموع مائة وعشر (110) فواصل.

(وإذا أضفنا إلى ذلك الحروف الثلاثة الباقية من حروف الذلاقة وهي: الفاء والميم والنون التي تمثل ثماني "8" فواصل، لوجدنا أن مجموع حروف الذلاقة في فواصل السورة اثنتين وستين "62" فاصلة).

ويشترك حرف الدال مع أحرف الذلاقة السابقة في أنه حرف مجهور، ويمكن تقسيم هذه الأحرف الأربعة إلى قسمين، يضم القسم الأول حرفي الدال والباء، ويضم القسم الثاني حرفي اللام والراء، فكل من الدال والباء حرف مرقق، وهما من حروف القلقلة، كما أنهما من الحروف الشديدة أو الانفجارية، ويقصد بالانفجارية "خروج الصوت فجأة في صورة انفجار للهواء عقب احتباسه عند المخرج".

وأما اللام والراء فلكل منهما حالات من التفخيم والترقيق، كما أنهما يصنفان من الحروف المتوسطة أو المائعة، وهي الحروف التي يخرج فيها الصوت دون انفجار أو احتكاك عند المخرج.

المستوى الصرفي:

يلاحظ أن الصيغ الثلاثية هي الغالبة على كلمات الفواصل في سورة الكهف، فهي تمثل مائة فاصلة وثلاث فواصل (103) من مجموع مائة فاصل وعشر فواصل (110)، تمثلها خمس وسبعون (75) كلمة من مجموع إحدى وثمانين (81) كلمة، هي مجموع الكلمات التي جاءت في الفواصل.

ويلاحظ أن صيغة (فَعَل) هي أكثر الصيغ تكرارًا، فقد تكررت إحدى وأربعين (41) مرة، من خلال أربع وعشرين (24) كلمة، مثال ذلك: (حَسَنًا، أَبَدًا، عَمَلًا، رَشَدًا)، تليها صيغة (فَعْل) في ثماني عشرة (18) فاصلة، بواقع أربع عشرة (14) كلمة، مثل: (زَرْعًا، أَمْرًا، أَجْرًا)، ثم صيغة (فُعْل) في أربع عشرة (14) فاصلة، بواقع اثنتي عشرة (12) كلمة، مثل: (رُعْبًا، عُقْبًا، رُشْدًا).

ومعلوم أن الصيغ الثلاثية هي أخف صيغ الكلام، كما قالوا: حرف يُبْتَدأ به، وحرف يُحَشَّى به، وحرف يوقف عليه، وهذه الخفة في كلمات الفواصل واطرادها في السورة، مما أكسبها ذلك النغم الذي يسري في السورة من أولها إلى آخرها، فتشعر بشيء يأخذ بلبك عند القراءة أو السماع.

المستوى النحوي:

من اللافت للنظر في فواصل هذه السورة أنها كلها التزمت حالة إعرابية واحدة، وهي النصب، لم تشذ في ذلك فاصلة واحدة، ويبدل من تنوين النصب ألف عند الوقف، وهذا يجعل فواصل السورة مطلقة لا مقيدة، والإطلاق والتقييد من مصطلحات القوافي، والقافية في الشعر تقابل الفاصلة في النظم القرآني، والإطلاق أن يُشْبَع الحرف الأخير بحرف مد من جنس حركته، بخلاف التقييد الذي يعني إسكان الحرف، ولا شك أن إطلاق الفواصل بحرف الألف المبدل من تنوين النصب عند الوقف، وما فيه من المد، يؤثر في السمع، فيشعر القارئ والسامع بارتياح ولذة للتلاوة، كأنما هي نفثات ينفثها القارئ ويتجاوب معها السامع، بخلاف ما لو كانت الفواصل مقيدة ساكنة، فإن ما فيها من الانقطاع المفاجئ يؤثر في السمع رهبة وخوفا، خصوصا إذا لم يتكئ هذا الوقف على مد أو لين، وهذا يناسب الآيات التي فيها تعظيم وتمجيد، كما في فواصل سورة الإخلاص، أو تكليف وأوامر، كما في فواصل سورة المدثر، أو تهديد ووعيد، كما في فواصل سورة القمر.


هذه العناصر مجتمعة هي ما يعطي لفواصل سورة الكهف نغما يسري فيها، يجعلها سهلة الحفظ، ويأنس إليها السمع، ويلذها القارئ، والله أعلى وأعلم.