رمضان شهر القرآن

محمد عدنان كاتبي

يخاطب القرآن الكريم بآياته الإنسان بطاقاته الثلاث العقلية والروحية والجسدية، ويجعل الطاقة الروحية أساساً لبناء عقله وحسه، من غير إهمال للطاقتين العقلية والجسمية، ويشبع كل طاقة فيه بالغذاء المناسب لها، فيغذي روحه بالعبادة والخشية والذكر والاتصال بالله، ويغذي عقله بالعلم والمعرفة ويغذي جسمه بالمحسوسات المعروفة، ويدعوه إلى أن يقيم (التوازن) بين هذه الطاقات الثلاث، حتى يحقق وظيفته الإنسانية ورسالته الحضارية ...
ويأتي شهر رمضان ضمن هذه المنظومة من المفاهيم من أجل تحرير الإنسان من شهواته وعاداته، حتى لا يكون عبداً لضرورات جسده، بل عبداً لله سبحانه وتعالى، وبذلك يغدو (سلطان الروح) مهيمناً على سلطة حسه وجسده، ولا يكون ذلك إلا بامتلاك الإنسان إرادة قوية، تمكنه من ذلك، إرادة يستمدها من القرآن الكريم، الحجة الله البالغة على العالمين ودستور هذه الأمة وصراطها المستقيم ومنهاجها القويم، الذي، (لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (1) ، وهو خُلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها ، وهو حبل الله المتين وخيط النور الممتد من السماء إلى الأرض، وكان أول اتصال هذا النور بالأرض في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، ففيه نزلت أول آية من السماء على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث نزل جبريل الأمين على الرسول الكريم، ليبلغه رسالة ربه وقد أشار الله سبحانه إلى هذا بقوله (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى والْفُرْقَانِ)(2).
ولما كان القرآن الكريم قد نزل في هذا الشهر المبارك، فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الإكثار من قراءته في هذا الشهر، بل إن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة فيدارسه القرآن، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"(3)، وجاء حديث فاطمة رضي الله عنها، عن أبيها صلى الله عليه وسلم، "أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام، كان يعارضه القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين"(5).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يطيل القراءة في قيام شهر رمضان أكثر من غيره، وقد صلى معه حذيفة ليلة من ليالي رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمرّ بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: "فما صلى ركعتين، حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة"(6).
فالمؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه: جهاد في النهار على الصيام وترك الغيبة والنميمة، واللغو والرفث، وجهاد في الليل على القيام وتلاوة القرآن الكريم، والذكر والدعاء، فمن استطاع أن يجمع بين هذين الجهادين ويؤدي حقهما ويصبر عيهما، يوفى أجره بغير حساب، قال كعب الأحبار: "ينادي يوم القيامة مناد: إن كل حارث يعطى بحرثه ويزاد، غير أهل القرآن والصيام، يعطون أجورهم بغير حساب"(7)، والصيام والقرآن يشفعان للصائم يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان له"(8).
وقد استشعر سلفنا الصالح هذه المعاني العظيمة في شهر القرآن، وهذه العلاقة الوثيقة بين الصيام وتلاوة القرآن، حيث إن الصيام يهيئ القلب والعقل لتلاوة القرآن وتدبره، وفهم مرامه وأحكامه، فإذا أمضى المسلم نهاره صائماً، وليله قائماً بتلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه وأحكامه، وتطبيقها على نفسه، منح هذه المنزلة التي جعلها الله للصابرين الذين يوفون أجرهم دون حساب.
ولهذا فقد كان هؤلاء السلف يكثرون من تلاوة القرآن الكريم في هذا الشهر المبارك فكان بعضهم يختم القرآن في ليلة واحدة، بل إن بعضهم كان يختم القرآن في كل يوم من أيام رمضان مرتين، كما روى ذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله، حيث كان له في رمضان ستين ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان يقسم ليله إلى ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه العلم، وجزء يصلي فيه وجزء ينام فيه.
وكان الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله، يقرأ في كل يوم من أيام رمضان ختمه، وفي كل ليلة منه ختمة، وفي كل صلاة تراويح ختمة.
وكان الإمام مالك رحمه الله، إذا دخل رمضان، نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن الكريم.
وكان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، يختم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان.
وكان سفيان الثوري رحمه الله، إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن الكريم.
ولا ريب أن حرص هؤلاء السلف الصالح على الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان كان استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، حيث يقول: (إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ، وأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ المُنذِرِينَ )(9) واتباعاً لنهج المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، الذين كانوا لا يتوانون عن تلاوة القرآن في كل أحوالهم، فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت شمس نامت).
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقال: "ذاك لا يتوسد القرآن"(10) - يعني لا ينام عليه فيصير له كالوسادة- وعن بريدة مرفوعاً: "إن القرآن الكريم يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر كالرجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟.. أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وكل تاجر من وراء تجارته، فيعطي الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ثم يقال له: أقرأ وأصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذّاً كان أو ترتيلاً"(11).
ولقد كان القرآن الكريم يترك آثاره الواضحة في قرّائه، يظهر ذلك في طول قيامهم، وكثرة خوفهم وبكائهم، وشحوب ألوانهم من طول السهر في قراءته، والتفكير في معانيه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذ الناس ينامون، وبنهاره إذ الناس يفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون وبحزنه إذ الناس يفرحون"(12)، وما ذاك إلا لأنهم عرفوا مقام قارئ القرآن ومكانته عند الله، وعلموا ما أعد الله لقارئ القرآن من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"(13)، وعلموا أن شغلهم في تلاوة القرآن يغنيهم عن كثير من العبادات، والدعاء، والذكر، ومسألة الله تعالى، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن"(14)، "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(15).
فالقرآن الكريم يرفع صاحبه إلى مصاف الأنبياء، فما بالك إذا أضاف إلى ذلك صياماً وقياماً وصدقة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جانبيه، غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله"(16).
أما من يستقبل شهر رمضان، فيصوم نهاره، ويقوم ليله، ويتلو كتاب الله فيه، وهو كتاب الرحمة والنور والهدى والإيمان، ولا يشرق قلبه بنور الرحمة ولا تتألق نفسه بضياء الهدى والإيمان، ولا ترتدع جوارحه عمّا اعتادت من ظلمات الجهل، والبغي والكذب، وإيذاء الناس، فذلك يدل على أن شهر القرآن بما يحمل من وسائل النور والهدى، لم يتغلغل في نفسه فيصل إلى أعماقها، ويختلط بلحمه ودمه، فيربي نفسه ويرقى بها، ويربي شخصيته على الجود والإحسان والرقة والرأفة بالمسلمين.
أرجو الله سبحانه أن يعيننا على الصيام والقيام وتلاوة القرآن الكريم
من كتاب رمضان منهج متكامل في تربية الفرد وبناء المجتمع
1 فصلت ،42
2 البقرة ، 185
3 رواه البخاري (1\30) كتاب بدء الوحي، وفي الصوم رقم (1902)
4 رواه البخاري (3624) في المناقب
5 رواه الإمام أحمد في مسنده (5\ 400)
6 لطائف المعارف، ص 319.
7 رواه الإمام أحمد في مسنده (2\174)
8 النمل: 90، 91.
9 رواه الامام أحمد في مسنده (3\449)
10 رواه الامام أحمد في مسنده (5\348 )
11 لطائف المعارف ص: 321
12 رواه الترمذي في صحيحه (2910)
13 رواه أبو نعيم في فضائل القرآن من حديث النعمان بن بشير وأنس بإسناد ضعيف
14 رواه مسلم ( 2699 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله
15 رواه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر