باب صوم أهل الأعذار


الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح

فيه ثماني مسـائـل:
المسألة الأولى: يلزم الصوم كل مسلم مكلف قادر مقيم.
هذه شروط أربعة:
1- مسلم: نخرج الكافر، ولو مرتدًّا، فلا يصح منه.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة: 183]، فالخطاب للمؤمنين.
وقوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 54]، فإذا كانت النفقة ونفعها متعدٍّ لا تقبل منهم لكفرهم، فالعبادات الخاصة من باب أولى، وتقدم في أول الصلاة أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وسيُحاسبون على تركها، ومنها الصيام.
2- مكلف: وهو البالغ العاقل، فنخرج الصغير والمجنون، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
ويدل على ذلك: حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: ((رُفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ...))؛ [رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم].
• ويلحق بالمجنون من فقد عقله لكبر سنه.
قال ابن عثيمين في الممتع 6/ 323: "وعليه فالمهذري - أي: المخرف - لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله؛ لفقد الأهلية وهي العقل".
وقال في مجالس شهر رمضان (ص: 28): "والهرم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه لا يجب عليه الصيام، ولا الإطعام عنه، لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه، فأشبه الصبي قبل التمييز، فإن كان يميز أحيانًا ويهذي أحيانًا، وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه".
فائدة: البلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذَّكَر:
1- إتمام خمس عشرة سنة.
2- إنبات شعر العانة.
3- إنزال المني بشهوة.
وللأنثى أربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع؛ وهو:
4- الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت، حتى ولو كانت في سن العاشرة.
3- قادر: أي: قادر على الصيام، فنخرج العاجز عن الصيام، فلا يجب عليه الصيام في الحال.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
والعاجز ينقسم إلى قسمين:
(أ) عجز طارئ وهو الذي يرجى زوال عجزه، وهو المذكور في الآية السابقة، فينتظر هذا العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي؛ لقوله تعالى: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
(ب) عجز دائم وهو الذي لا يرجى زوال عجزه، فيطعم عن كل يوم مسكينًا.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]؛ حيث فسر هذه الآية ابن عباس كما عند البخاري بالشيخ والشيخة، إذا كانا لا يطيقان الصوم، فيطعمان عن كل يوم مسكينًا، وسيأتي مزيد بحث في هذه المسألة بإذن الله تعالى.
4- مقيم: نخرج المسافر، فلا يجب عليه الصوم بالإجماع، ويقضي فيما بعد.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185].
المسألة الثانية: إذا لم يعلم الناس بدخول رمضان إلا أثناء النهار، وجب الإمساك، وهل يجب القضاء؟
المذهب: يجب عليهم أن يمسكوا بقية اليوم ويجب عليهم أن يقضوا هذا اليوم، وبه قال جمهور العلماء.
ويدل على ذلك: حديث حفصة رضي الله عنها مرفوعًا: ((من لم يبيِّت الصيام فلا صيام له))؛ [رواه أحمد وأبو داود].
وقالوا: لا بد أن يستوعب الصيام جميع النهار، وتكون النية من الليل كما دل عليه هذا الحديث.
والقول الثاني: أنه يجب عليهم الإمساك ولا يجب القضاء.
ويدل على ذلك: حديث سلمة بن الأكوعرضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا مِن أسلم أن أذن في الناس: أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء))؛ [متفق عليه]، ويوم عاشوراء كان واجبًا على المسلمين قبل نسخه برمضان، وقد صامه الصحابة من النهار، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، فيكون هذا الحديث مخصصًا لدليل وجوب تبييت النية من الليل، والنية تتبع العلم، وهم لم يعلموا بالصيام إلا من النهار، وهذا القول قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول قوي.
المسألة الثالثة: إذا زال مانع وجوب الصوم أثناء النهار، فهل يجب الإمساك والقضاء؟
أمثلة المسألة:
1- مسافر قدم إلى بلده أثناء النهار وكان مفطرًا.
2- حائض ونفساء طهرتا أثناء النهار.
3- مريض برئ أثناء النهار وكان مفطرًا.
4- صغير بلغ أثناء النهار وكان مفطرًا.
المذهب: يجب الإمساك والقضاء.
والقول الراجح والله أعلم: أنه يجب القضاء، ولا يجب الإمساك.
ويدل على ذلك: قول ابن مسعود رضي الله عنه: "من أكل أول النهار فليأكل آخره"؛ [رواه البيهقي].
فمن أُبيح له الفطر أول النهار، أُبيح له الفطر آخره؛ إذ لا فائدة من إمساكه، ولأنه أفطر بعذر شرعي، ولم يوجب الله على عباده صيام نصف يوم.
المسألة الرابعة: ما أحكام الصيام في أهل الأعذار الآتية:
أولًا: المريض:
• المرض ينقسم إلى قسمين:
أ- مرض دائم لا يرجى زواله.
ب- مرض طارئ يرجى زواله.
أولًا: من أفطر لمرض لا يرجى زواله:
فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا، ويدخل في هذا من أفطر لكبر سن لا يستطيع معه الصيام؛ لأن الكبر لا يرجى زواله، فالرجوع إلى الشباب متعذر.
ويدل على ذلك:
1- قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]: "ليست بمنسوخة؛ هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم"؛ [رواه البخاري].
2- قول أبي هريرة رضي الله عنه: "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان، فعليه لكل يوم مد من قمح"؛ [رواه البيهقي، وأيضًا عن أنس عند البخاري].
مقدار الإطعام:
قال ابن عثيمين في الممتع 6/ 238: "ولكن ما الذي يطعَم؟ وما مقداره؟
الجواب: كل ما يسمى طعامًا من تمر أو برٍّ، أو رز أو غيره، وأما مقداره، فلم يقدر هنا ما يعطى، فيرجع إلى العرف وما يحصل به الإطعام، وكان أنس بن مالك عندما كبر يجمع ثلاثين فقيرًا، ويطعمهم خبزًا وأدمًا، وعلى هذا، فإذا غدى المساكين أو عشاهم، كفاه ذلك في الفدية".
قال البخاري: "وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس بن مالك بعد ما كبر عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا وأفطر".
كيفية الإطعام: له طريقتان:
الأولى: أن يصنع لهم طعامًا فيدعو إليه المساكين بعدد الأيام التي عليه؛ كما فعل أنس بن مالك.
الثانية: أن يطعمهم طعامًا غير مطبوخ مدًّا من البر أو نصف صاع من غيره، فيملكهم إياه.
• فائدة: والمذهب أن الطريقة الأولى لا تجزئ، والصحيح أنها تجزئ؛ لفعل أنس رضي الله عنه.
• إن شاء من عليه الإطعام أن يطعم كل يوم بيومه، أو يؤخر الإطعام إلى آخر الشهر، ولكن لا يقدم الإطعام قبل وقته؛ لأنه كتقديم الصيام قبل وقته، فهل يجزئ أن يقدم الصيام في شعبان؟
• إذا لم يستطع الكبير أو المريض الذي لا يرجى برؤه الإطعام، فهل يسقط عنه؟
المذهب: أنه لا يسقط عنه.
والقول الراجح والله أعلم: أنه يسقط لأن الواجبات تسقط بالعجز.
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: ((إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم)).
ثانيًا: من أفطر لمرض طارئ يرجى زواله:
فإنه يجب عليه القضاء إذا زال مرضه باتفاق الأئمة.
والدليل: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
المرض ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يكون المرض يسيرًا، لا يتأثر به الصائم، كوجع الضرس والجرح في الإصبع، فهذا يجب عليه الصوم؛ لأن اليسير ملحق بالعدم.
الثاني: أن يضره الصوم، فهذا يحرم عليه الصوم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وقوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))؛ [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني].
الثالث: أن يشق عليه الصوم ولا يضره، فيفطر للآية، ويكره له الصوم، لأنه خروج عن رخصة الله تعالى، وتعذيب لنفسه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))؛ [رواه أحمد].
ثانيًا: المسافر:
المسافر يجوز له الفطر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، ثم يقضي ذلك اليوم.
أيهما أفضل في حق المسافر الصيام أم الفطر؟
المسافر له أحوال:
الأولى: أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة غير محتملة؛ أي: يتضرر معها، فيحرم عليه الصوم.
والدليل: حديث جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفطر حين شق الصوم على الناس، قيل له: إن بعض الناس صام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئـك العصاة، أولئـك العصاة))؛ [رواه مسلم].
الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة محتملة، ولكن الفطر أرفق به، فالأفضل الفطر ويكره الصوم.
ويدل على ذلك: حديث جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحامًا، ورجلًا قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر))؛ [متفق عليه].
ولأن في صيامه خروجًا عن رخصة الله تعالى وتعذيبًا لنفسه.
الثالثة: أن يتساوى الأمران بألَّا يشق عليه الصيام:
المذهب: الأفضل الفطر.
والقول الراجح والله أعلم: أن الصوم أفضل، وهو قول جمهور العلماء.
ويدل على ذلك:
1- أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو الدرداء: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة))؛ [متفق عليه]، والصوم لا يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم هنا؛ لأنه يفعل الأفضل والأرفق به.
2- أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر، ولأنه أسهل للمكلف أن يصوم مع الناس.
3- أن به يدرك الصيام في الزمن الفاضل وهو رمضان.
• مقيم صام ثم سافر في أثناء اليوم، فهل له الفطر؟
المذهب: له أن يفطر، وهو القول الراجح، والله أعلم.
الأدلة:
1- عموم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
2- حديث جابر عند مسلم: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح صام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس ثم أفطر لما قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام)).
• هل يجوز لمن عزم على السفر الفطر في الحضر، وإن لم يفارق البنيان؟
المذهب: لا بد من مفارقة البنيان، وهو القول الراجح، والله أعلم.
الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، ومن لم يخرج من بلده لم يكن على سفر، بل على نية سفر.
2- فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر السابق عند مسلم؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطر حتى بلغ كراع الغميم.
3- وأيضًا هذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات الأخرى - كالصلاة مثلًا - فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج إلى مكة، وهو بالمدينة، فإنه صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناوٍ للسفر لحجة الوداع، ومع ذلك لم يقصر، فلما فارق بنيان المدينة، وأتى ذا الحليفة صلى العصر بها ركعتين قصرًا، مع أنه أصبح ذلك اليوم وهو ناوٍ للسفر، ولم يقصر الظهر، وكذلك في الصوم لو أصبح وهو ناوٍ للسفر، فليس له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها.
ويشكل على هذا القول حديثان:
1- أثر أنس رضي الله عنه: ((أنه رحلت له راحلته فدعا بطعام فأكل وقال: سنة، ثم ركب))؛ [رواه الترمذي، وضعفه جمع من أهل العلم]، وقيل: إنما فعل هذا أنس خارج البلد.
2- أثر أبي بصرة رضي الله عنه: عن أبي عبيد بن جبير رضي الله عنه قال: ((ركبت مع أبي بصرة الغفاري سفينة من الفسطاط في شهر رمضان، فدفع، ثم قرب غداءه، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه أبو داود].
ونوقش أثر أبي بصرة بأن أبا بصرة قد فارق البنيان، لكن عينه لم تفارق البنيان، فالعبرة بمجاوزة البنيان، ولو كان يرى البينان قريبة، ولم يفارقها كثيرًا؛ [انظر: المغني 4/ 347].
ثالثًا: الحامل والمرضع:
الحامل والمرضع لها ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن تخافا على نفسيهما، فلا خلاف أنه يجوز لهما الإفطار؛ كالمريض الخائف على نفسه، ولكن هل يجب عليهما قضاء الصوم والإطعام؟
المذهب، وهو القول الراجح، والله أعلم: أنه يجب عليهما القضاء فقط، وبه قال جمهور العلماء.
الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فيجب عليهما القضاء كالمريض والمسافر؛ لأن الحامل والمرضع تستطيعان القضاء إذا زال العذر.
2- ورد إيجاب القضاء عن ابن عمر رضي الله عنه كما عند البيهقي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما كما في مصنف عبدالرزاق.
وأما حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم))؛ [رواه أحمد وأبو داود]، فالمقصود أن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم في نفس اليوم أداءً، ولكن يجب عليهما القضاء إذا زال العذر.
الحال الثانية: أن تخافا على نفسيهما وولديهما، فيجوز لهما الإفطار، ويجب عليهما القضاء.
الحال الثالثة: أن تخافا على ولديهما فقط، فيجوز الإفطار، ويجب القضاء لكن الخلاف: هل يجب عليهما الإطعام عن كل يوم أفطرت فيه؟
المذهب: أنه يجب الإطعام مع القضاء.
والقول الراجح، والله أعلم: أنه لا يجب عليهما الإطعام، بل يجب القضاء فقط.
الأدلة:
1- حديث أنس رضي الله عنه السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم))؛ [رواه أحمد وأبو داود]؛ حيث إنهما لم تؤمرا بالإطعام.
2- أنهما أفطرتا لعذر فلم يجب عليهما الإطعام كالفطر للمرض؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
3- الأصل براءة الذمة، وليس هناك نص صريح صحيح في وجوب الإطعام، وغاية ما ورد آثار عن الصحابة كابن عمر عند البيهقي وأبي جرير في إثبات الإطعام، وورد عن ابن عباس إثبات ذلك أيضًا عند أبي داود وابن جرير، وورد عن ابن عباس خلاف ذلك في مصنف عبدالرزاق؛ حيث نفى الإطعام وأثبت القضاء فقط، ومع اختلاف الآثار، فالمرجع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نص قاطع في هذا، فغاية ما في الأمر - والله أعلم - أن تلحق الحامل والمرضع بالمريض.
• قال ابن عثيمين في الممتع 6/ 349: "يلزمها القضاء فقط دون الإطعام، وهذا القول أرجح الأقوال عندي؛ لأن غاية ما يكون أنهما كالمريض، والمسافر، فيلزمهما القضاء فقط".
رابعًا: الحائض والنفساء:
يجب على الحائض والنفساء أن تفطرا حال الحيض والنفاس، ويجب عليهم أن تقضيا ما أفطرتا من رمضان.
ويدل على ذلك:
1- حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((... أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم))؛ [متفق عليه].
2- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانت إحدانا تحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة))؛ [متفق عليه].
3- وأيضًا حكي الإجماع على ذلك.
• وإذا أسقطت المرأة حملها، فإن كان الجنين قد تبين فيه خلق إنسان - وهو ما تم له واحد وثمانون يومًا فأكثر - فإنها تعتبر نفساء تفطر وتقضي، وإن لم يتبين فيه خلق إنسان - وهو ما لم يتم له واحد وثمانون يومًا - فإنها لا تعتبر نفساء، ويجب عليها الصيام؛ لأن حكمها حكم الطاهرات؛ [انظر: الممتع 1/ 509]، وسبق توضيح المسألة في آخر كتاب الطهارة تحت باب الحيض.
المسألة الخامسة: من نوى الصوم ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يفق أي جزء من نهاره: المذهب وهو القول الراجح والله أعلم: عدم صحة صوم المجنون، ولا قضاء عليه؛ لأنه ليس أهلًا للتكليف (وسبقت المسألة)، وأما المغمى عليه، فلا يصح صومه أيضًا؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء.
• قال ابن قدامة في المغني 4/ 244: "بغير خلاف علمناه".
مسألة: من تسحر ونام من قبل أذان الفجر، ولم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس:
المذهب وهو القول الراجح والله أعلم: أن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، وبه قال جمهور العلماء.
التعليل: لأنه من أهل التكليف ولم يوجد ما يبطل صومه، والفرق بينه وبين المغمى عليه أن النائم إذا أوقظ يستيقظ بخلاف المغمى عليه الذي زال إحساسه بالكلية.
المسألة السادسة: يجب تعيين نية الصوم قبل الفجر لكل صوم واجب.
وهذا قول المذهب وهو القول الراجح والله أعلم: أن من نوى صومًا واجبًا، فلا بد من تعيينه قبل طلوع الفجر، ولو بدقيقة، فينوي صيامه عن رمضان، أو عن كفارة، أو عن نذر، أو ما أشبه ذلك.
الأدلة:
1- عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ [رواه الجماعة].
2- حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له))؛ [رواه الدارقطني والبيهقي].
• إذا كان الصوم متتابعًا كصوم رمضان أو كفارة القتل، فتكفي له نية واحدة أول الصيام، ورمضان عبادة تجب في العام مرة واحدة، فجاز أن تشملها نية واحدة كالزكاة.
ويدل على ذلك: حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))؛ [متفق عليه].
ولكن بشرط ألَّا يقطع هذه النية بعذر كمن أفطر لسفر أو مرض، فلا بد من نية جديدة.
وهذا هو القول الراجح والله أعلم: أن رمضان تكفي له نية واحدة في أول الشهر، خلافًا للمذهب الذين قالوا: لكل يوم من أيام رمضان نية تخصه.
فائدة الخلاف: لو نام رجل صائم بعد صلاة العصر ولم يستيقظ إلا بعد الفجر من الغد.
المذهب: أن اليوم الجديد لا يصح صومه فيه؛ لأنه لم ينوِ له نيةً خاصة.
والقول الراجح والله أعلم: أنه يصح صيامه؛ لأنه يكفي لشهر رمضان نية واحدة ما لم يقطعها بعذر.
المسألة السابعة: يصح صوم النفل بنية من النهار:
مثال: رجل أصبح ولم يأكل شيئًا، ولم يأتِ بشيء من المفطرات، فنوى أن يصوم هذا اليوم نفلًا لله عز وجل، فصيامه صحيح، وهذا هو المذهب، وهو القول الراجح، والله أعلم.
ويدل على ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها: ((دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذًا صائم))؛ [رواه الجماعة إلا البخاري]، والصحيح: أنه يصح أن ينوي صيام النفل، ولو بعد الزوال خلافًا لمن منع ذلك.
والدليل: عدم الدليل على عدم صحة صومه، وحديث عائشة مطلق فيدخل فيه قبل الزوال وبعده.
• يجوز أن ينوي صوم النفل في أي ساعة من النهار، وهذا هو قول المذهب، وهو الراجح، والله أعلم، ولكن يستثنى من ذلك صيام النفل المعين، فنيته من الليل؛ كصيام ستة أيام من شوال، ويوم عرفة، وغيرها؛ لأن من صام يوم عرفة من منتصفه لا يسمى أنه صام يوم عرفة، إلا إذا نواه من الـفجر.
المسألة الثامنة: لو نوى إن كان غدًا من رمضان، فهو فرضي.
مثال: رجل في ليلة الثلاثين من شعبان، قال: إن كان غدًا من رمضان، فأنا صائم، ثم نام ولم يتتبع الهلال، فلما أصبح، قيل له: إن هذا أول يوم من رمضان، فهل يصح صومه؟
المذهب: أن هذا اليوم لا يجزئ.
والقول الراجح والله أعلم: أنه يجزئ؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
ويدل على ذلك:

1- حديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها مرفوعًا: ((حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني))؛ [متفق عليه]، وعند النسائي: ((فإن لك على ربك ما استثنيت)).
2- لأن التردد في نية الصوم مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا التردد في أصل النية.
فائدة: من نوى أن يفطر، وكان صائمًا، فقد انقطع صيامه بنيته.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب رمضان)