دعوة رمضانية


محمد أكرم الندوي




قالوا: كيف تقضي ليلك ونهارك في رمضان؟

قلت: سؤال جَلَل وذو شأن جسيم، وينبغي أن يوجَّه إلى غيري من عباد الله الصالحين والعلماء العاملين الذين يغتنمون أيامهم ويقدِّرونها فوق ما يقدِّر الناس الدر الثمين أو الجوهر المتألق الغالي، ولا يفرقونها بددا ولا يبذرونها تبذيرا، عابدين ربهم، مدبرين كتابه، تالين لآياته، وزائدي أنفسهم إيمانا وعلما، فإذا بلغوا رمضان شمروا عن ساق الجد، وبالغوا في السعي، وضاعفوا الخير، فارتفعوا إلى ربهم قربى وزلفى.

قالوا: قد حكيت لنا عن بعضهم ما ملأ قلوبنا طموحا إلى المعالي وحنينا وشوقا، ونشكرك على نصحك لنا وسعيك في نفعنا وإسداء المعروف إلينا، وقد دفعنا هوانا لك أن نطلع على بواطنك وخباياك فأنت شيخنا وأستاذنا ومعلمنا.

قلت: لا يغرينكم حب الفضول باستكشاف معايبي وتتبع عثراتي وملاحقة نقائصي، وإني على إحسانكم الظن بي لكم لمن الشاكرين، وعلى ستر عيوبي لربي لمن الحامدين.

قالوا: رغبنا في استبيان ما أنت ناكف عن بيانه، وهوينا استجلاء ما أنت متقبض عنه ومشمئز منه اشمئزازا.

قلت: أعفوني، فحياتي كتاب مفتوح أمامكم في صفحات فيها سواد وبياض، وفي ليال وأيام فيها أنوار وظلمات، وفي تقلبات من الدهر فيها أحزان ومسرات، لا خفي فيها ولا سر مكنون، لن تجدوا فيها ما تستطيبونه أو تستحلون، ولن تظفروا فيها بما يهدي إلى قلوبكم جمالا وحسنا، ولن تسكنوا فيها إلى ما يشفي أفئدتكم بعد كلالها وأساتها، وليس فيها طلول تمتع نظراتكم أو تستوقفكم استيقافا، وإنها لو عرضت للشرى لما كان لها شار، ولو شراها شار لتقطع قلبه حسرات على غبن.

قالوا: ألق إلينا حياتك اليومية في هذا الشهر المبارك على هيئتها الرثة ومنحاها المهمل ومجافاتها الاستطراف والاستحسان، لعلنا نقف في طي المألوف من شأنك والمعتاد من أمرك على حكمة ضالة هى أغلى لنا من الزلال للعطشى الحيارى، وأحلى لنا من قبلة الأبكار العذارى، بمثابة مصباح ينير ظاهرنا وباطننا وجلايانا وخفايانا، أو بمنزلة عظة نتعلم منها درسا أو نستلهم منها استلهاما، أو تعطينا دافعا وأملا لنسير على درب ذوي العقول والألباب.

قلت: أما إذ ألححتم هذا الإلحاح فاسمعوا: أستيقظ قبل طلوع الفجر بنصف ساعة أو أكثر، فأتوضأ، وأصلي ما تيسر لي، ثم أتسحر بشراب معتصر من ثمار وفواكه يغذيني ولا يثقلني إثقالا، وأتلو جزءا من كتاب الله تعالى يصلني به في رقة قلب وحنان، وأصلي ركعتي السنة، وأخرج إلى المسجد، وأصلي الفجر جماعة، وأسلم على بعض الشيوخ ممن أعتقد فيه الصلاح، حرصا مني على أن أسمع منه السلام علي فيمضي يومي كله في أمن وبركة، وأنقلب إلى بيتي وأنام ثلاث ساعات أو أكثر.

أقوم في الساعة السابعة أو بعدها فأقبل على شرحي لصحيح مسلم، وغيره من الأعمال، وأخرج في الساعة الحادية عشر والنصف للرياضة البدنية، وأرتد منها قبل الساعة الواحدة، فأتلو جزءا من القرآن المجيد، ثم أصلي الظهر في المسجد جماعة، وأفيئ إلى مسكني وأعكف على بعض كتاباتي إلى الساعة الثالثة والنصف، ثم أستريح قليلا، وأستيقظ وأشتغل بالمطالعة والتأليف إلى الساعة السابعة قريبا، وأصلي العصر في المسجد جماعة، وأثوب من المسجد وأتدبر كتاب الله تعالى تدبرا، وقد أصرف شيئا من وقتي في التذكير والوعظ للمسلمين في أوكسفورد.

وأفطر في المسجد على تمرات وماء، وأصلي المغرب، ثم أنكفئ إلى منزلي وأتناول عشاءا خفيفا، وأراجع مقالاتي يمليها الخاطر إملاء، وقد أبذل نصف ساعة أتحدث مع أهلي وبناتي، ثم أخرج لصلاة العشاء والتراويح، وقد تستلفتني بعض الآيات فأغرق فيها إغراقا، وقد تغلبني أحوال أستدر منها معاني جديدة وغذاء لقلبي وعقلي، وأرجع بعد الساعة الثانية عشرة، وأنام إلى الساعة الثانية والنصف.

هذا دأبي في عامة أيام الأسبوع، وأقضي يومي السبت والأحد في إلقاء الدروس والمحاضرات، فيذهب فيها جل النهار أو كله.

قالوا: لقد ساءنا ما ذكرت مستقلين عملك، فليس يومك مختلفا عن أيامنا.

قلت: صدقتم، فلم أعهد في حياتي جديدًا ولا طريفًا، وإنها ذكريات أخْلِق بها أن تكتب على سطور النسيان، بيد أني أحمد الله ربي على أنه صانني من إهدار أوقاتي في زيارة الأصدقاء تضمنا أوقات الرزانة أوساحات اللعب، أو مطارحة الحديث مع الآنسين الذين عطفهم نبع الحنان كدجلة وفرات، ترن في أذني كلماتهم في الجد والهزل كنغمات عذبة، أو التسكع في الشوارع في مرح وعبث، أو مشاهدة البرامج الترفيهية، أو الوقوع في أعراض المسلمين، والحمد لله حمدا كثيرا على أني أحاول أن أصبح وأمسي غرثان من لحوم الغافلين والغافلات وشحومهم.

قالوا: ذلك أمر ينبغي أن تحمد ربك عليه، ويا لها من سعادة حرمها كثير من الناس، ويا لها من بركة من أوتيها فقد أوتي حظا كثيرا.

قلت: الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا به، وما أجمل الأيام وأصفاها تمضي في غير غفلة، وزمن المدمن في اللهو والباطل يمضي في عجلة، وساعات الخلي الفارغ ليست بمحسود عليها.

قالوا: كيف ذكرك الله تعالى؟

قلت: أذكره وأنا أمشي إلى المسجد أو إلى حاجة من حوائجي، وأذكره وأنا في مضجعي وأوان استجمامي.

قالوا: هل تشعر بحلاوة في الذكر؟

قلت: قد أجدها، فأحمد ربي عليها، وليس ذكره المجرد عن لذة ظاهرة عندي بدون ذكره الحافل بالحلاوة، فذكره رأس كل مقصود مستقل عما يضيف إليه فضلا أو يزيده معنى.

قالوا: كيف تدبرك للقرآن؟

قلت: أقرأ آيات ثم أسعى لفقهها واستيعاب معانيها، مستعينا بتعليقات الإمام الفراهي وبعض تفاسيره، وقلما أراجع تفسير الكشاف أو الطبري وغيرهما.

قالوا: كيف دعواتك في رمضان؟

قلت: أدعوه بدعوات،

قالوا: ما أفضل دعوة دعوت بها في رمضانك هذا؟

قلت: دعوته أن يرزقني تدبر كتابه فأفقهه وأتبعه وأزداد بركة. قال تعالى: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب"، ومن بركة القرآن أنه كتاب هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبير"، وقال: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا". وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تعالى أهلين من الناس، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم أهل القران أهل الله وخاصته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وأخرج مسلم عن عقبة بن عامر الجهني قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان والعقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين بغير إثم بالله ولاقطع رحم؟ قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خيرا له من ناقتين وإن ثلاث فثلاث مثل أعدادهن من الإبل.

قالوا: ما أحسن دعوتك!


قلت: نعم هي السعادة لا أطلب غيرها، وهي تساوي الخلود في ربا الجنات، أنسى معها الأحزان والكدرات، ولا أبغي عنها بدلا مهما اشتدّ الزمان أو كان رفيقا، ومهما وفى الخليل أو كان ناكرا، ومهما داهمني حزن أو لاقيت ألمًا قاهرًا، قالوا: سنجعلها دعوتنا منذ اليوم سائلين ربنا الاستقامة لك والثبات.