كيف يستقبل المسلمون شهر رمضان


محمد عدنان كاتبي




ما إن يهلّ هلال شهر رمضان المبارك، حتى تمتلئ القلوب المؤمنة بفيض من الروحانية، وتكسى النفوس حلة من الجلال، فتصفو النفوس المؤمنة من أدران البشرية، ونزاعات الهوى الشيطانية، التي تكاد تأتي على البشرية لتودي بها، وتطوّحها في موطن الهلاك، وهكذا يقبل شهر رمضان، ليجدد للإنسانية حياتها، ويكسبها ذلك السمو الروحي ويضفي عليها الهالة الإيمانية، والروعة والجلال، ويلبسها حللاً من التقوى والكمال الروحي والأخلاقي، فإذا بهذه النفوس الطاهرة تهلل فرحاً واستبشاراً بقدوم هذا الشهر الكريم، لأنها تحس بنوره يشرق على الدنيا، وينير الكون، ويمسح غشاوات صفيقة رانت على القلوب، فاستحالت إلى ظلمات كثيفة، استبد بها المقام فيها شهوراً طويلة.

يقبل شهر رمضان، فتهلّل الأرواح فرحاً بقدومه، لأنها تستشعر فيه الخير يعم البشرية جمعاء، والرضا يرفعها إلى مقام الأنبياء والصالحين ويسمو بها عن ذميم الخصال، ويحجبها عن الرذائل والدنايا، فتستبدل الروحانية والشموخ والصبر والرقة، بالترابية والضعة والخسة والعنفوان وترتقي في أخلاقها ورغباتها إلى أن تصل إلى أسمى معاني الكمال وأحمد الخصال وأرفع أنواع السلوك البشري.

يقبل شهر رمضان، فيستقبله المسلمون بالفرح والسرور، لأنهم يدركون ما يمنحهم هذا الشهر العظيم من تربية أخلاقية وسلوكية، تجعل الصائم قوي الإرادة، وتزرع فيه الصبر والصلابة، وقوة التحمل، وحب الناس، ورعاية الضعفاء والمساكين، ومساندة الحق، والوقوف إلى جانب المحتاج، وتقوي فيه روح المحبة، والمودة للناس جميعاً، فينعم الفقراء والضعفاء بهذه الروح التي سيطرت على قلوب الصائمين، فراحوا يلبون نداء الله، فيؤدون حقه لهؤلاء المحتاجين، ويكفونهم مؤونة الحاجة ويغنونهم عن ذلّ السؤال، بعد أن قتل هذا الشهر العظيم في نفوسهم حبّ الأثرة والاستعلاء، والغلّ والكبرياء التي كانت حاجزاً دون الود والمحبة والتعاطف بين أبناء البشر جميعاً.

بهذه المعاني العظيمة، كان سلفنا الصالح يستقبلون شهر رمضان

ونحن كيف نستقبل هذا الشهر المبارك

مع حلول شهر شعبان من كل عام، يبدأ المسلمون استعدادهم لاستقبال هذا الشهر المبارك، فكيف يستعد المسلمون لاستقبال شهر الرحمة والغفران شهر الصوم والإيمان، شهر الصبر والقرآن؟.. وماذا يعدون لاستقباله؟..

هذه بعض صور استعداد مجتمعنا الإسلامي اليوم لاستقبال هذا الشهر العظيم المبارك.

أولاً: تبدأ القنوات الفضائية تبشر المسلمين، بأنها أعدت لهم مجموعة من المسلسلات، والبرامج التلفزيونية المتكررة في مضمونها وشكلها والمختلفة في عناوينها، وهي في جملتها لا تخرج عن موضوعات تاريخية، يحاول أكثرها تشويه تاريخنا الإسلامي المشرق، أو النيل من رجاله وتشكيك الناس في تاريخهم وأبطاله، الذين أرسو قواعد الحضارة العربية الإسلامية، وبنوا لنا أمجاد دولة إسلامية، نشرت الخير والعدل والعلم في مختلف أصقاع الأرض، وإذا كان موضوع هذه المسلسلات اجتماعياً، فهي تحاول تقديم صور لمجتمع تخلى عن قيمه ومبادئه وأخلاقه، مجتمع تعم فيه الخيانة، وينتشر فيه الفساد والرذيلة ويسهل به ضياع القيم والأخلاق وتنتشر فيه الفاحشة.

وأما البرامج الترفيهية، فحدث ولا حرج عن انحطاطها الخلقي وتعري أبطالها، وتفاهة أغانيها وألحانها.

ثم تبدً سلسلة الدعايات، وما فيها من تزين للإسراف وإنفاق الأموال على شراء المواد الغذائية، التي هي في غالبها مواد كمالية فائضة عن حاجة الإنسان الطبيعي، الذي ننشد أن يكون مسلماً صالحاً جديراً بأن يكون خليفة الله في الأرض، ناهيك عن تفاهة مقدميها وخلاعتهم.

وفي خضم هذا القَدْر الهائل من المسلسلات والبرامج الترفيهية والدعائية، ينسى معظم المسلمين المعاني والقيم والمبادئ، التي جاء بها الإسلام في رمضان، هذا الشهر المبارك العظيم، الذي نزل فيه القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

ثانياً: يبدأ ربّ كلّ أسرة بشراء أنواع من المآكل والمشارب وتخزينها بالإضافة إلى شراء أنواع من الملابس لأفراد العائلة، دون أن ينسى الألعاب وأدوات التسلية والترفيه له ولأولاده.

ثالثاً: تبدأ ربة الأسرة في إعداد أصناف من الطعام والحلوى والأشربة المتنوعة، التي تثقل كاهل الأسرة، بمزيد من النفقات التي يمكن الاستغناء عنها، وتوفيرها لإخوة لنا، يعانون أشد المعاناة من الاحتلال والحصار والتدمير، بل والجوع والبرد والفناء.

هذه بعض مظاهر استعداد المسلمين اليوم لاستقبال هذا الشهر الذي جعله الله تعالى علامة فارقة بين الشهور، ليستعيد فيه المسلم صفاء نفسه وخشوع قلبه، وتلاوة القرآن والتآلف مع إخوانه، والشعور بشعورهم.

الاستعداد لاستقبال شهر رمضان في منهج السلف الصالح:

ونتساءل هل كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام البررة، وسلفنا الصالح في استعدادهم لاستقبال هذا الشهر، يشبه هذا الاستعداد؟... وهل كان همهم وهم يستعدون لاستقبال هذا الشهر العظيم في المطعم والمشرب والملبس والترفيه، والخلود إلى النوم والراحة في رمضان؟.. كلا – والله - لقد كان استعدادهم لاستقبال هذا الشهر المبارك على غير ما نحن عليه اليوم، لقد كان رمضان مائلاً في أذهانهم طول العام، وهذه بعض معالم سلفنا الصالح في استعدادهم لهذا الشهر العظيم.

أولاً: الالتجاء إلى الله بالدعاء لبلوغ شهر رمضان.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعد له بالدعاء من حين دخول شهر رجب، بقوله: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".

ثانياً: تجديد الإيمان والبعد عن الذنوب والمعاصي.

أدرك سلفنا الصالح أن شهر رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة واستجابة الدعاء وينبغي فيه على المسلم أن يستعد له بتجديد إيمانه، وابتعاده عن كل الذنوب التي تمنع المغفرة، ومن أعظم هذه الذنوب الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق والزنى، وقطع الأرحام، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وغيرها.

ثالثاً: التوبة وكثرة الاستغفار

ولم تكن توبة سلفنا الصالح واستغفارهم -استعداداً لاستقبال هذا الشهر العظيم- ترديداً لكلمات الاستغفار باللسان فحسب، دون إدراك للمعنى الحقيقي للتوبة القائم على أركان ثلاثة هي: العلم، والندم، والعمل.

أما العلم: فهو معرفة الإنسان عظم الذنوب التي يقترفها، وأنها سبب شقائه، وبعده عن ربه، وقسوة قلبه، فيأسف على ما ارتكبه من الذنوب أشد الأسف، وهذا الأسف هو ما يطلق عليه: الندم، فإذا سيطر هذا الندم على قلب المسلم التائب، انبعثت منه إرادة على ترك الذنب والعزم على أن لا يعود إليه إلى آخر حياته، فإذا كان الذنب في حق المخلوقين أسرع بردّ الحقوق إلى أصحابها، وهذا هو: العمل،

بمثل هذه التوبة الصادقة، كان السلف الصالح يستعد لاستقبال شهر رمضان موقنين أن أبواب التوبة مفتوحة للعباد في كل أوقات العام، وهي في شهر شعبان أولى.

رابعاً: كثرة الصيام في شعبان

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر الصيام في شهر شعبان، بل ربما صامه كله، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان"

خامساً: الإكثار تلاوة القرآن الكريم

فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "كان المسلمون إذا دخل شعبان، أكبوا على المصاحف، فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان"

سادساَ: صلة الأرحام

لقد كان السلف الصالح يستشعرون وهم في خضم استعدادهم لاستقبال هذا الشهر العظيم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (1)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك، قالت بلى، قال: فذلك لك، ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (2)

سابعاً: برّ الوالدين

وإذا كانت هذه الحقوق ماثلة أمام سلفنا الصالح وواجبة في حق الأرحام، فهي أوجب وأكد في حق الوالدين، ذلك أن الله سبحانه وتعالى، قد قرن توحيده وعبادته ببر الوالدين والإحسان إليهما: فقال: (وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْ نِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا وقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (3) وروي عن عبد الله بن مسعود، قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟.. قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟.. قال الجهاد في سبيل الله)(4)

ثامناً: الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له

فقد كان سلفنا الصالح - رحمهم الله - يستعدون لاستقبال هذا الشهر المبارك بكثرة ذكرهم لهادم اللذات، وذلك لمعرفتهم بأن آجال العباد تقطع في شهر شعبان، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى" (5)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يستعد لاستقبال شهر رمضان بكثرة الصيام في شهر شعبان، وعندما سئل عن ذلك، قال: "إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة في تلك السنة، فأحب أن يأتي أجلي وأنا صائم" (6)

تاسعاً: المبادرة إلى إخراج الزكاة، والإكثار من الصدقات

فقد كان سلفنا الصالح إذا اقترب شهر رمضان سارعوا إلى إخراج الزكاة وأكثروا من الصدقات، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قوله: "كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان" (7)

فمنهج السلف الصالح في الاستعداد لاستقبال شهر رمضان، كان بتجديد الإيمان، وترك المعاصي، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الحقوق لأصحابها، والبعد عن الشحناء والخصام والاستعداد للموت، والصيام، والقيام، والتوبة، وهذا هو الاستعداد الحقيقي لاستقبال هذا الشهر المبارك.

المقال مأخوذ من كتاب: رمضان منهج متكامل في تربية الفرد وبناء المجتمع

---------

1- النساء .1

2 - سورة محمد الآية 22 والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.

3 - الإسراء الآية 23


4 - رواه البخاري (2،9) باب الصلاة على وقتها

5 - رواه الديلمي في (الفردوس) ج 2 ص73 عن عثمان بن الأخنس وابن ابي الدنيا وغيرهما من حديث ابي هريرة

6 - رواه أبو يعلى (ج 8، ص 312) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 ص 192)

7 - لطائف المعارف ص 292