مشكلة التضخم النقدي وآثاره السلبية


محمد رجب حميدو




وكيفية سداد الديون عند هبوط العملة على ضوء الشريعة الإسلامية

عرض لبعض الآثار السلبية المترتبة على هبوط الليرة السورية

(هبوطُ الليرة السورية) كان نتيجة طبيعية للحرب التي أثرت سلبا على القيم الأخلاقية ، والمبادئ الإنسانية ، وعبثت بكل المفاهيم والتصورات لدى السوريين ، فأحدثت خللا كبيرا في البنية الاجتماعية السورية ، وانتزعت الرحمة من القلوب ، وحولت الحياة إلى حال أشبه بيوم القيامة ، فصار لسان حالهم يقول : " اُنجُ سَعدُ فقد هَلَكَ سَعِيد " ..

وكما كان للحرب تلك الآثارُ السلبيةُ على البُنْية الاجتماعية ، فقد كان لها أسوأُ الأثر على الوضع الاقتصادي ، حيث ارتفعتْ بها السلع ارتفاعاً جنونياً ، وهبطت الليرة هبوطا مخيفا ، مما أثر على حركة المعاملات المالية ، التي تمسُّ الدائنَ والمدينَ ، والراهنَ والمرتهنَ ، والمقرضَ والمقترضَ ، والمؤجرَ والمستأجرَ ، كما أثَّرَ ذلك على حركةِ شركاتِ المضاربة ، وبيوعِ السَّلَفِ ، والتقسيطِ ... مما أحدث هزَّةً مالية عنيفة ، كادتْ أن تأتي على بُنْيان النسيجِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ من القواعد . وصار لزاماً على علماء الشريعة الإسلامية أن يُدلُو بِدَلْوِهِمْ في حَلِّ هذه المعضلة الطارئة ، وبيان حُكْم الشرع في كيفية سَدَادِ الديون ، مستنيرين بِهَدي الكتاب والسنة ، ففيهما الضمانُ لكلِّ إصلاح ، والأمانُ من كل إفساد . ( عن مالك - رحمه الله - أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تركتُ فيكم أمرينِ لن تَضِلُّوا ما تمسَّكْتُمْ بهما كتابَ الله وسنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم ) موطأ مالك

وهذا المقالُ سوف يُلقي الضوءَ على كيفية سداد الديون عند وقوع التضخم المالي ، سواء أكانت بسبب البيوع كبيع التقسيط ، والبيع إلى أجل .. أو جرَّاءَ معاملات التوثيق كالرهونات .. أو بسبب بيع المنافع كالإيجار .. أو بسبب قضايا مالية أخرى ، كمؤخَّر صداق مثلا ، أو قرضٍ حسن ، أو وديعةٍ ؛ تلفتْ بتقصير ممن هي في يده ، أو عاريةٍ هلكتْ بتصرفٍ غير مأذون فيه .؟؟

فحسمُ أسباب النزاع بين الناس في هذه القضايا المالية ؛ هو من أهمِّ المطالبِ الشرعية ، ونحن نعلمُ أن أحكام الشريعة الإسلامية كفيلة بمعالجة كلِّ طارئ من القضايا المستجدَّة ، بما يُـحقّقُ مصالح البشر ، ويُرضي سائر الأطراف .. في كل زمان ومكان ..

ما هي الطريقة المثلى في سداد الدين بعد هبوط الليرة :

هل تُؤَدَّى هذه الديون بالمثل ؟ أم بالقيمة ؟ أم بالصلح بين الدائن والمدين ؟ وما هو المستند الشرعي لكل واحد من هذه الآراء .؟؟ فهيا بنا نمضي ببيان ذلك كله وفق الفقرات التالية :

أولا – وقبل الخوض في مفردات هذا الموضوع ، علينا أن نستحضر أن الأصل الشرعي في سداد الديون ؛ هو ( السداد بالمثل ) عملا بقواعد العدل التي أمر الله تعالى بتطبيقها بين الناس، قال تعالى (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ، ومن استوفى بمثل ما أعطى فقد عمل بمقتضى العدل ، وما ظَلَمَ ولا ظُلِمَ . قال تعالى ( فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون ) . والأخذُ بهذا المبدأ يمنحُ المعاملات المالية استقرارا وثباتا ، ويحول دون الخصومات والمنازعات بين البشر ..

وبالرجوع إلى كتب الفقهاء القديمة يتضح أنها مجمعة على وجوب المثلية في سداد الديون ، أي : مِثْلاً بِـمِثْلٍ سواء أكانت من الديون النقدية ، أو الديون العينية . فمن استدان ذهبا سدَّد بمثل ما استدان من ذهب ، ومن استدان فضةً سدَّد بمثل ما استدان من فضة ، ومن استدان مكيلا أو موزونا لأجَلٍ يسدد مثلَهُ عند حلول الأَجَل ، بغضِّ النظر عن اختلاف القيمة بين يوم الاستدانة ؛ وبين يوم السداد . لأن هذه الأموال لها قيمة ثابتة في نفسها ، ولا يترتب على اعتماد المثلية فيها عند السداد ؛ أيُّ ضررٍ ؛ لا على الدائن ولا على المدين ..

ولكن وبمرور الزمن ؛ استحدث الناس عملة ورقية حلَّتْ محل الذهب والفضة في المعاملات المالية ، واتفق العالم كلُّه على هذا الإجراء حتى صار عرفا دوليا ، وصار لهذه الأوراق النقدية قيمة اعتبارية ، تساوي قيمة رصيدها من الذهب والفضة . وصارت تُعامل في الصرف معاملة الأثمان في اعتبارها أموالا ربوية ، وتجري عليها أحكام ربا الفضل وربا النسيئة ؛ لوجود علة الثمنية فيها ؛ كالذهب والفضة تماما ..

ومما لا شك فيه أن الديون يجب أن تُسدد بهذه الأوراق مثلا بمثل ، وأن تُعَامَلَ في الصرف معاملةَ الذهب والفضة تماما ، شأنُها شأنَهما وشأنَ بقية المكيلات والموزونات من الربويات ، وإلا كانت المعاملةُ من الربا المحظور شرعا .. قال صلى الله عليه وسلم « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الآخِذُ وَالْمُعْطِى فِيهِ سَوَاءٌ » صحيح مسلم .

ثانيا – ونظرا لكون هذه الأوراق النقدية ليس لها قيمة ذاتية في نفسها ، خلافا لما عليه حال الذهب والفضة ؛ لهذا كانت قيمتها متذبذبة بين الهبوط والصعود ، تبعا لارتفاع قيمة أرصدتها من الذهب والفضة في السوق العالمية ، مما يسمح بحدوث بعض الأزمات المالية ، كتلك التي تقع بين الدائن والمدين ؛ أثناء سداد الدَّين في أوقات الحروب ، حيث يطرأ على قيمة هذه الأوراق هبوط أو صعود ..

أضف إلى ذلك أنَّ قيمة الأوراق النقدية ؛ عدا عن كونها اعتبارية ؛ فهي غير ثابتة ولا مستقرة ، فقد تكسد وينصرف الناس عن التعامل بها مرة واحدة ، وقد يقوم الحاكم بإلغائها أيضا ، ويستبدل بها غيرها من العملات الورقية أو المعدنية من غير الذهب والفضة .. فكيف العمل في هذه الحال أو تلك .؟

ثالثا - الأصلُ أنْ يُسَدَّدَ الدَّيْنُ بنفس العملة التي استلمها المدين من الدائن ، ولا يُلْتَفَتُ إلى ما طرأ عليها من هبوط أو صعود ، لأن تأثير ذلك لا يخص أحد الطرفين دون الآخر ، وإنما يمسُّ كُلّاً منهما على السواء ، ففي حال الهبوط يتضرَّرُ الدائنُ ، وفي حال الصعود يتضرَّرُ المدينُ ، مما يجعل كلا منهما مُعَرَّضاً للخسارة أو الربح بسبب التضخم الذي طرأ على العملة .. ومنطقُ الإنصاف والعدل؛ يَفْرِضُ على كل من الدائن والمدين؛ أن يقبل بالخسارة حين وقوعها؛ كما قَبِلَ بالربح حين جرت الرياح على هواه . عملاً بالقاعدة الشرعية { الغُنْمُ بالغُرْم } وهي قاعدةٌ معتبرة ، مستفادةٌ من قوله صلى الله عليه وسلم {الخَرَاجُ بالضَّمَان } أخرجه أصحاب السنن الأربع عن عائشة رضي الله عنها ، وتلقته الأمة بالقبول . لأنه أسَّسَ لقاعدةٍ شرعية عامة ، تقضي بأن مَنْ يتحمَّلُ الخسارة يستحقُّ الربح .

ثم إن هبوط الليرة اليوم قد يقابله صعودٌ لها غداً ، فيكون من حظ الدائن ويتأذى به المدين .!! والمقاديرُ – كما نعلم - لا تجري على سنن واحد ، وإنما تتبدل من حال لحال ، والأيامُ دولٌ "يوم لك ويوم عليك" .. فهل يَقْبَلُ الدائنُ حينها بأن يُسدَّدَ له الدَّيْنِ مُقدَّراً بالسعر الأوكس ؛ مراعاة لمصلحة غريمه ؟

رابعا – إن القول بالصلح بين الدائن والمدين في حالتي ( هبوط الليرة أو صعودها ) على تقاسم الخسارة ، هو أمرٌ مخالفٌ لمبدأ العدل ( أولاً ) ، ثم إنه عقوبة مالية فرضت بغير حق ( ثانياً ) ..

فأمَّا أنه صلحٌ مخالفٌ لمبدأ العدل ؛ فلأنه يجعل المرء مسؤولا عن جناية لم يرتكبها ، والأصلُ أن لا يُسألَ المرءُ شرعا إلا عن فعله وكسبه ( لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبتْ ) ونحن نعلمُ أنَّ هبوط الليرة السورية ليس من كَسْبِ الدائنِ ولا مِنْ كَسْبِ المدين ، فبأيِّ حق نُطالب المدين بتحمل كامل الضرر الواقع على الدائن، أو جزءاً منه ؛ في حال هبوط الليرة السورية ؛ وهو أمرٌ خارج عن كسب المدين وإرادته .؟ ولا يعتبر مسؤولاً عنه ، لأن الله تعالى يقول :{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور } ..

وأمَّا أنه صلحٌ يفرض عقوبة مالية بغير حق ، ويقضي بأخذ مال مسلم بالإكراه ، فلأنه مصادمٌ لعددٍ من الأحاديث النبوية الثابتة كقوله صلى الله عليه وسلم [ لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مُسلمٍ إلا عن طِيْبِ نَفْسٍ منه ] سنن الدارقطني وقوله صلى الله عليه وسلم [حُرْمَةُ مَالِ الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ] سنن الدارقطني ، مما يعني أن هذا الصُّلْحَ غيرُ مشروع ، لأنه صلحٌ أحلَّ حراماً ، قال صلى الله عليه وسلم [ الصلحُ جائزٌ بين المسلمين إلا صُلحاً حرَّمَ حلالاً أو أحلَّ حراماً ] سنن الترمذي وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

خامسا - ثم إنَّ المصالحةَ على تَقَاسُمِ الخسارة لا تَحِلُّ المشكلة ، بل قد تزيدها تعقيدا ، فما مقدار النسبة من الخسارة التي تفرض على المدين أو الدائن ؟ وهل هي نسبة ثابتة مقدرة في الشرع ، أم أنها لم يَرِدْ فيها نَصٌّ ولا تقدير ؟ ولو سلَّمنا جدلا بثبوتها ، فهل هي مأمور بها على سبيل الندب أو الوجوب ؟ وشتان بين الحُكْمَيْنِ ، فتاركُ المندوب يُعاتَبُ ، وتاركُ الواجب يُعاقَبُ .. والقولُ بِصُلحٍ مبنيٍّ على كل هذا الغُموض ، ما أظنه يُنتجَ حلّاً للنزاع بين الخصمين ، وإنما سيفتحُ لهما بابَ الخصومة على مصراعيه ..

سادسا – الغريبُ العجيبُ قولُ من فرَّق ما بين حالتي ( الهبوط الفاحش ) و ( الهبوط اليسير ) في قيمة الليرة السورية .. وحدد ( الهبوط الفاحش ) بنزول قيمتها بمقدار الثلث ، ثم قال أصحاب هذا الرأي بناء على ذلك : [ إذا بلغ التغير في قيمة العملة الثلث، وجب المصير إلى المصالحة ، ليتحمل كل من الطرفين مقداراً من الخسارة ..] يحددون الهبوط الفاحش في قيمة الليرة ؛ بالثلث ياسا على الوصية .

وهذا القياس ، فيه جرأة عجيبة في الهجوم على إطلاق الأحكام الشرعية بدون دليل سوى التلاعب بالألفاظ .. فصحيح أنه جاز اعتبار الثلث في الوصية بالنص (الثلث والثلث كثير) ولكن الوصية نفسها؛ هي من الأمور التي شُرعَتْ على خلاف الأصل (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ) قال الصنعاني: طرقه ضعيفة يقوي بعضها بعضا .

إذ الأصلُ أن الميت خرج بالموت من ماله، وانتقلت ملكية تركته لورثته، وليس له التصرفُ بها أخذاً ولا عطاءً ، ولكنَّ الله تعالى أذن له بأن يتصدق بثلث تركته بعد موته زيادة في حسناته .. والقاعدة الأصولية تقول : [ ما شُرِعَ على خلاف القياس فغيرُهُ عليه لا يُقَاس ] أضف إلى هذا أنه ليس بين سداد الدين والوصية علة مشتركة .. ومعلومٌ أنه لا قياس بدون وصف معتبر ، أو علة جامعة بين المقيس والمقيس عليه ..

سابعا – وأختم بملاحظة لا تقل وجاهة عن سابقاتها ، وهي : فتاوى الباحثين أو جلُّها في هذه القضية ؛ تميل في الغالب إلى محاباة الجانب الأقوى على حساب الجانب الأضعف، ويراعى فيها تقديم مصلحة الدائن على مصلحة المدين . وهذا مخالف لروح الشريعة الإسلامية .. قال تعالى :

{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) البقرة } وجاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه :[ عَنْ كَعْبٍ بن مالك أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَما رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيِ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : قُمْ فَاقْضِهِ ] والأمر بالوضيعة إنما هو على سبيل الندب. لما جاء في رواية عند الدارقطني [ فَقَالَ لكعب : هَلْ لَكَ - يَعْنِي - أَنْ تَأْخُذَ النِّصْفَ وَقَالَ بِيَدِهِ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ] فقوله (هل لك) بأسلوب العرض هنا يفيد الندب ، لا الإلزام .. ومهما يكن من أمر فإن القرآن – كما نرى - يأمر الدائن بِنَظِرَةِ المدين المعسرِ إلى مَيْسَرَة ، ويَنْدِبُهُ إلى وضع الدَّيْنِ عنه كاملا، ويقول " ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون"

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض على الدائن وضع شطر الدَّيْنِ عن المدين لكونه الطرف الأضعف . وهذا ما يجعلنا نقول : حبذا لو راعينا في الفتوى هذه الاعتبارات ، التي تدعو الدائن إلى الرفق بغريمه ، وتندبه إلى التصدق عليه ، إما بإعفائه من الدين كله ، أو بوضع الشطر ابتغاء الأجر والثواب .


اللهم إن كان قولي هذا صوابا فمنك وحدك ولك الحمد . وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون .