شرح
أبواب جامع الترمذي
المقدمة :
١- جامع الترمذي للإمام الحافظ الناقد محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك أبو عيسى السلمي البُوغي الترمذي الضرير أضر في آخر عمره سنين (٢٠٩-٢٧٩)
وترمذ المستفيض بفتح التاء وكسر الميم وقيل بضمهما وقيل بفتح التاء وكسر الميم دخلت في الإسلام عام ٧٠ هجري وكانت على البوذية فتحها موسى بن عبدالله بن خازم السلمي
ذكر الحافظ المزي في تهذيب الكمال أن رحلة الترمذي كانت بعد ٢٤٠ وكانت إلى مدن خرسان ثم العراق ثم الحجاز وذكر الذهبي في السير أنه لم يدخل مصر والشام واستبعد الشيخ أحمد شاكر دخوله بغداد لأنه لو دخلها لسمع من الإمام أحمد ولترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والصحيح أنه دخلها فقد نص على ذلك الحافظ ابن نقطة البغدادي في كتابه التقييد وذكر أنه سمع ببغداد عن أربعة شيوخ بغداديين ومنهم من أكثر عنه وهو أحمد بن منيع (ت٢٤٤) وروى عن جمع غيرهم أقدمهم وفاة ٢٤٣ هجري ، وكل من توفي ببغداد سنة ٢٤١ فقد حدث عنه الترمذي بواسطة ، مما يدل على أن الإمام أحمد توفي قبل أن يدخل الترمذي بغداد وأما عدم ترجمة الخطيب فقد تكون سقطت ترجمته من الطبعة كغيرها من التراجم وهي كثيرة وقد استُدرِك على الخطيب عدد كبير من التراجم وهي على شرطه .
٢-شيوخ الترمذي في جامعه ٢٠٨ شيخ وأكثر من عول عليهم وأكثر عنهم ٩ ومجموع ما أخرج عنهم يقترب من شطر الكتاب فعدد ما أخرج لهم يبلغ ٢٦٠٤ وأحاديث الجامع ٤٣٠٠ وقيل غير ذلك بحسب منهج العاد والنسخ
وهم : قتيبة بن سعيد وبندار ومحمود بن غيلان وهناد بن السري وأحمد بن منيع
ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو كريب محمد بن العلاء وعلي بن حُجر وعبد بن حميد
٣-تميز جامع الترمذي بجمعه مميزات في موطن واحد لم تجتمع لغيره وأعلاها منزلة تعليله الأبواب وهو أول من صنف في ذلك :
قال أبو بكر ابن العربي (ت٥٤٣) في مقدمة عارضة الأحوذي :
"اعلموا أنار الله أفئدتكم أن كتاب الجُعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب و( الموطأ ) هو الأول واللباب وعليهما بناء الجميع كالقشيري والترمذي وليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع ونفاسة منزع وعذوبة مشرع وفيه أربعة عشر علما وذلك أقرب على العمل وأسلم " اهـ ثم ذكرها وفيها تداخل
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن عمر بن رُشَيْد :
" والأجرى على واضح الطريق أن يقال : إنه تضمن الحديث مصنفًا على الأبواب وهو علم برأسه ، والفقه وهو علم ثان ، وعلل الحديث ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب وهو علم ثالث ، والأسماء والكنى وهو علم رابع ، والتعديل والتجريح وهو علم خامس ، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه وهو علم سادس ، وتعديد من روى ذلك وهو علم سابع ، هذه علومه المجملة ، وأما التفصيلية فمتعددة ، وبالجملة فمنفعته كثيرة ، وفوائده غزيرة "اهـ
وقال العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للجامع :
" كتاب الترمذي يمتاز بأمور ثلاثة لا تجدها في شيء من كتب السنة الأصول الستة أو غيرها "اهـ
أولها : أنه يختصر طرق الحديث اختصارًا لطيفـًا ، فيذكر واحدًا ويومئ إلى ما عداه ... بعد أن يروي الترمذي حديث الباب يذكر أسماء الصحابة الذين رويت عنهم أحاديث في هذا الباب ،*سواءً أكانت بمعنى الحديث الذي رواه ، أم*بمعنى آخر ، أم بما يخالفه ، أم بإشارة إليه ولو من بعيد " ،*ولا شك أن هذا يدل على إطلاع واسع وحفظ عظيم.
ثانيـها : أنه في أغلب أحيانه يذكر اختلاف الفقهاء وأقوالهم في المسائل الفقهية ، وكثيرًا ما يشير إلى دلائلهم ، ويذكر الأحاديث المتعارضة في المسألة ، وهذا المقصد من أعلى المقاصد وأهمها ، فإن الغاية من علوم الحديث ، تمييز الصحيح من الضعيف ، للاستدلال والاحتجاج ، ثمَّ الاتباع والعمل .
ثالثـها : أنه يُعْنَي كل العناية في كتابه بتعليل الحديث ، فيذكر درجته من*الصحة أو الضعف ، ويفصل القول في التعليل والرجال تفصيلاً جيدًا ، وبذلك صار كتابه هذا كأنه تطبيق عملي لقواعد علوم الحديث ، خصوصـًا علم العلل وصار أنفع كتاب للعالم والمتعلم ، وللمستفيد والباحث في علوم الحديث " اهـ باختصار
فائدة :
الترمذي لا يستعمل لفظ كتاب وإنما يستعمل لفظ أبواب
٤-"أبو عيسى أول من تكلم على الصحيح والضعيف في جامعه، وأول من علل الأبواب" اهـ
قال ابن رجب في شرح العلل :
" وأول من علمناه بين ذلك عيسى الترمذي - رحمه الله - وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذي سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه، فإذا زيد في التصنيف ببيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة، وأما الأبواب المعللة، فلا نعلم أحدا سبق الترمذي إليها. وزاد الترمذي ذكر كلام الفقهاء، وهذا كان قد سبق إليه مالك في الموطأ، وسفيان في الجامع" اهـ
وهذا من بواعث تأليفه للجامع
٥-منزلة جامع الترمذي العلمية :
أجمع أهل الحديث أن أصول السنة خمسة واختلفوا في الأصل السادس هل هو سنن ابن ماجة أم سنن الدارمي أم موطأ الإمام مالك ؟ ومن قدم ابن ماجة إنما قدمه لكثرة زياداته على الكتب الخمسة ، ولأن الخمسة قد اشتملت على ما في الموطأ وسنن الدارمي وأول من أدخله في الستة أبو الفضل ابن طاهر
والمقدم من الكتب الستة صحيح البخاري على الراجح ثم مسلم ثم الترمذي على بقية السنن لما امتاز به عن غيره من كثرة علومه وسهولة مأخذه وحسن ترتيبه وقلة تكراره وقرب فائدته وكثرتها وأما من حيث الصحة فمجتبى النسائي بعد الصحيحين مرتبة وهو أصح من الجامع ومن سنن أبي داود وهما متقاربان ثم ابن ماجة قال ابن حجر في النكت (ص٤٨٦) :
وفي الجملة فكتاب النسائي أقل الكتب بعد الصحيحين (حديثا) ضعيفا ورجلا مجروحا، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي ويقابله في الطرف الآخر كتاب ابن ماجه ؛ فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم " اهـ
الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا النزر اليسير وبهذا قال ابن الصلاح والنووي .

٦-لم ينتقد على الترمذي في أحاديث الجامع إلا القليل وأكثرها في الفضائل منها ما انتقده ابن الجوزي في كتابه الموضوعات وجملة ما انتقده ٢٣ حديثا حكم عليها بالوضع ونازعه في ذلك السيوطي في كتابه (النكت البديعات على الموضوعات)
وقد حكم العلماء بتساهل ابن الجوزي في كتابه هذا حتى قال عنه السيوطي : " فأكثر فيه من إخراج الضعيف الذي لم ينحط إلى رتبة الوضع بل ومن الحسن ومن الصحيح كما نبه على ذلك الأئمة الحفاظ " اهـ
بل قال ابن حجر : "فإن تساهلهما أعدم الانتفاع بهما إلا لعالم بالفن "اهـ
وسبب تساهله أمور :
منها : قال ابن رجب في ذيل الطبقات: ( فيصنف الكتاب ولا يعتبره بل يشتغل بغيره ) اهـ أي بسبب ترك المراجعة
ومنها : اعتماده على قول إمام في الحكم على الحديث بتفرد ساقط به فيحكم بوضعه وإنما قصد الإمام تفرد الراوي بهذا الوجه وأما المتن فقد روي من وجه آخر وبهذا قال ابن حجر رحمه الله تعالى
مسألة :
قال الذهبي عن تصحيح الترمذي في ترجمة كثير بن عبدالله المزني : " فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي " اهـ
قال العراقي في شرح الترمذي بعد أن أجاب على اعتراضات الذهبي قال : "لا يقبل هذا الطعن منه في حق الترمذي" اهـ ثم ذكر اعتماد الترمذي على ما رآه البخاري في تحسين حديث كثير بن عبدالله في تكبير العيدين وإنما حكم عليه باعتبار الشواهد .
جملة ما ترجع إليه الانتقادات الموجهة إلى الإمام الترمذي ثلاثة أمور :
اختلاف نسخ الجامع ، والغفلة عن اصطلاح الترمذي ، واختلاف الاجتهاد في رواة الحديث ومرتبته .

٧-منهج الترمذي جامع لطريقة الشيخين وأبي داود فقد ذكر الصحيح واستنبط له كالبخاري وجرد الأبواب صحة وضعفا كتجريد مسلم للصحيح إلا أنه اختصر طرقه فذكر واحدا وأومأ إلى البقية ، ورتب الجامع على طريقة فقهية وذكر ما استدل به الفقهاء كأبي داود وزاد عليهم بما ذكرنا من علوم الجامع
فرع :
حكى الترمذي جواز الرواية بالمعنى عن أهل العلم بشرط إقامة الإسناد وحفظه والإتيان بالمعنى دون تغيير فيه ثم ذكر أن خير الرواة من يأتي باللفظ أو بما يقاربه ثم من يروي بالمعنى
فرع :
ذكر الترمذي جواز التحمل بالعرض وآدائه بصيغة( حدثنا ) و ( أخبرنا ) ونسبه إلى أكثر أهل العلم ثم ذكر عن أهل العلم من يمنع أداء التحمل بالعرض بحدثنا ويخصها بالسماع من الشيخ

٨- جامع الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن فهو المرجع في هذا الباب وخاصة الحسن لغيره وهو داخل في معنى الحسن عنده
يطلق الترمذي الحسن على الحديث :
وفيه سيء الحفظ
ويطلقه وفيه مدلس روى بالعنعنة
ويطلقه على حديث فيه راو ضعيف موصوف بالخطأ والغلط
ويطلقه على حديث سمعه روايه من مختلط بعد اختلاطه
ويطلقه على المنقطع .
فرع :
ما ذكر الترمذي فيه التصحيح باختلاف ألفاظه فهو في الغالب صحيح وأعلاها ما قال فيه (حسن صحيح ) ويليها ( صحيح ) و(جيد ) وما قال فيه ( حسن غريب صحيح ) فهو صحيح ونادرا ما يطلقه وأما إطلاق ( صحيح حسن غريب ) أو (غريب حسن صحيح) فقد ورد ذكره فيما فيه ضعف ومثله (صحيح غريب ) وهي أدنى ألفاظ التصحيح ولم يذكرها إلا في الشطر الثاني من الجامع وأكثرها في غير أحاديث الأحكام .
هذا في مراتب الصحيح عنده
وفي المرتبة الثانية :
إطلاق لفظ ( حسن ) فإنه يطلقه على ما فيه ضعف ولم يرد من ذلك الحسن في اصطلاح المتأخرين وقد بين ذلك في مقدمته
وقد يريد من ذلك حسن متنه واستقامته مع أنه مردود سندا كقوله بعد حديث الأذنان من الرأس : ( هذا حديث حسن ليس إسناده بذاك القائم ) وبنحوه قاله بعد حديث (من قرأ القرآن فليسأل به ) وهذا الإطلاق هو الأغلب من مراد الترمذي
وربما يطلق الحسن فيما تردد فيه وربما يريد به بيان علة غير قادحة فقد أطلقه على حديث أخرجه الشيخان في فضل صلاة النافلة في البيت
والمرتبة الثالثة :
ما جمع فيه بين الحسن والغرابة كقوله ( حسن غريب ) أو ذكر الغرابة فقط بقوله ( غريب ) أو ذكر بعدم الاتصال أو الضعف غير مقرون بذكر الحسن ونحو ذلك فهذا يطلقه في الأغلب على ما قوي في الضعف
وأشدها قوله ( حديث منكر ) ويليها ( غريب ) ويليها ( حسن غريب ) ويطلقها في الغالب على ما سلم متنه من الغرابة والنكارة والشذوذ لكن سنده فيه غرابة ونكارة وإشكال .
تنبيه : قد يطلق الترمذي (حسن غريب ) على غير شديد الضعف ويريد منها ما يقبل المتابعة كحديث (كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر ) فقد أعقبه الترمذي بحسن غريب ثم جوده بمتابعة بعدما ضعفه في موضعه
والمرتبة الرابعة والأخيرة : ما يطلقه على المناكير جدا وعلى البواطيل وهو قوله ( حديث منكر ) وفي بعض الأحيان يقول : ( حديث لا يصح ).

فرع :
ذكر الشيخ محمد بن تركي التركي أن الأحاديث التي حكم عليها الترمذي بالنكارة في سننه ثمانية أحاديث فقط وذكر أنه لم يقف على حديث حكم عليه الترمذي بالنكارة في شيء من كتبه الأخرى ثم ذكر أن الترمذي لا يشترط المخالفة في الحديث المنكر وأن حده عنده: هو كل حديث يتفرد به المتروك أو شديد الضعف اهـ
وقال : تبين أن المنكر عند الترمذي من قبيل الأحاديث الضعيفة جدا أو الموضوعة اهـ
قلت ولو قال أو التي فيها احتمال الوضع كان أدق .
وقال : تبين أن الترمذي لا يعتبر تفرد الضعيف منكرا . اهـ
وقال : تبين أن الترمذي لم يتفرد بالحكم على هذه الأحاديث بالنكارة اهـ

٩-المنكر والشاذ عند الترمذي بمعنى واحد وهو كذلك عند ابن الصلاح فإذا قال الترمذي في سننه على الحديث: ( غير محفوظ ) فقد يريد به الشاذ وقد يريد به المنكر على اصطلاح المتأخرين

١٠- منهج الترمذي بيان الزيادة ولا يغفلها وهل زيادة الثقة مقبولة عنده؟
نعم إذا لم تكن مخالفة وتفرد بها من يُعتمد على حفظه في التثبت والإتقان وهذا قول مسلم في التمميز نقله عنه ابن رجب في شرح العلل والمسألة مشهورة
فرع :
يبين الترمذي ما كان في سنده اضطراب وما كان معلولا بين علته ووصفه بها

١١- الترمذي يستعمل مصطلح المرسل في مرسل التابعي وفي المنقطع وأحيانا يذكر المنقطع باسمه أو يقول : ( غير متصل )
ومذهب الترمذي في مرسل التابعي أنه لا يحتج به كالجمهور علما أن ابن رجب نفى وجود الخلاف بين الحفاظ والفقهاء في الحجة بالحديث المرسل وذكر أن الحفاظ يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلا فهو غير صحيح عندهم لانقطاعه وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلا قَوِي الظن بصحة ما دل عليه فاحتجوا به مع ما احتف به من القرائن ثم قال : "وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما " اهـ ولهم في الاحتجاج بالمرسل قيود ليس هذا بابها


١٢- كثرا ما يخرج الترمذي في الباب الصحيح المشهور مستدلا به وأحيانا يُعرض عنه إما اعتمادا على شهرته أو لأنه أخرجه فيما قبل فترك إخراجه فيه اكتفاء بالإشاره إليه بعد قوله : وفي الباب عن فلان وفلان . لزيادة الفائدة
وأحيانا لا يخرج في الباب إلا الحديث الضعيف مع أن فيه حديث صحيح لكنه يعرض عنه ويكتفي بالإشارة إليه ومقصده من ذلك زيادة الفائدة وهي تأييد الحديث بالمتابعات والشواهد وجمع الطرق .

١٣- قول الترمذي : أصح شيء في الباب ليست تصحيحا وإنما هي نسبية فقد يراد منها أصح الضعيف .

١٤- مراد الترمذي بقول : (أهل الرأي) من كان الغالب عليه تقدم الدليل العقلي والنظري ومنهم الحنفية فقد قال : لا تنظروا في قول أهل الرأي في هذا فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة "اهـ ويريد بذلك أبا حنيفة ومن قال بقوله فقد ذكر ابن أبي شيبة عن أبي حنيفة أنه قال : الإشعار مُثلة " اهـ
وإذا قال الترمذي ( أهل الكوفة ) فمراده من كان فيها من الفقهاء كالسفيانين وأبو حنيفة وغيرهم
وإذا قال : ( قال أصحابنا ) فمراده أهل الحديث مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وقيل : الشافعية واستظهر ابن حجر الأول وجزم به المباركفوري وعليه نص الترمذي فقد قال في الجامع : " قال أصحابنا الشافعي وأحمد وإسحاق " اهـ
وإذا قال ( الفقهاء ) فيريد فقهاء المحدثين كالسفيانين ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق
فرع:
إذا قال الترمذي( باب منه ) فإنه يريد أنه متعلق بالباب قبله

١٥- قول الترمذي ( كراهة )أو (كراهية كذا) يشمل كراهة التنزيه وكراهة التحريم كما هو عادة المتقدمين فيزاستعمال الكراهة فيما يحرم .

١٦-إذا لم يتعرض الترمذي إلى أقوال الفقهاء فالغالب أن المسألة محل إجماع وقد يغفل ذكر أقوالهم اكتفاء بترجيحه في التبويب وقد يترك ذلك لورود الحديث في فضائل الأعمال

١٧- ذكر الدكتور نور الدين عتر أن الترمذي سلك في الترجيح ثلاثة مسالك
مسلك الترجيح بظاهر الحديث كما في حديث لا وتران في ليلة
ومسلك الترجيح بالتفقه في الحديث كما في حديث فأبردوا بالصلاة وهو أقل من المسلك الأول
ومسلك الأخذ بعمل الجمهور أو الأكثر وهو كثير في كتابه كما في ( باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم )

١٨-ذكر المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي : أن الترمذي كان من أصحاب الحديث متبعا للسنة عاملا بها مجتهدا غير مقلد لأحد من الرجال وهذا ظاهر لمن قرأ جامعه وأمعن النظر فيه وتدبر فيه " اهـ

١٩- ما نقله الترمذي من أقوال الفقهاء فقد رواه بالإسناد الموثوق عنهم وقد ذكر الأسانيد إليهم في العلل في آخر الجامع وقد ينقل القول عنهم عمن ليس معتمد في تدوين المذهب وهذا لا يضر في الرواية .
نقول الترمذي رحمه الله تعالى كالرواية عن الإمام فقد تكون غير المعتمدة في مذهبه .
وينبغي التنبيه على أن الإمام الترمذي ينقل الأقوال مجردة عن القيود وما يستثنى من المسألة ، وأحيانا يذكرها وصورتها تختلف بحسب حد الإمام لها .
٢٠-الترمذي يستعمل ألفاظ المحدثين الواسعة في الحكم على المسائل وقليلا ما يذكر مصطلحات الفقهاء ولهذا يحصل الإجمال في نقل أقوال الإمام .

٢١- للترمذي اجتهادات في الجرح والتعديل وله ألفاظ فينبغي معرفة منهجه و مقاصده في ألفاظه.
قيل : هو من المتساهلين في الجرح والتعديل قال بهذا الذهبي رحمه الله تعالى واعترض قوله هذا بعض أهل العلم فأثبتوا اعتداله بمقارنة أقواله بأقوال الأئمة المعتدلين في باب الجرح والتعدلين .

١- كتاب الصيام*
حد الصيام : قال في الروض المربع للبهوتي :*
" لغة مجرد الإمساك يقال للساكت : صائم لإمساكه عن الكلام ومنه " إني نذرت للرحمن صوما " وفي الشرع : إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة قال ابن حجر في شرح الأربعين : "في شعبان" . فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعا "هـ
( باب
ما جاء في فضل شهر رمضان )

١- أصل الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه أن رسول الله ﷺ قال :
" إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار (وصفِّدت) الشياطين"
ولفظ (صفدت) إنفرد به مسلم وأخرج البخاري حديثها بنفس سند مسلم مختصرا من دونها واللفظ الذي اتفقا عليه سلسلت وهما بمعنى واحد وكل روايات الصحيحين أو أحدهما من دون شهر إلا رواية البخاري من طريق يحيى بن بكير به وجاء عند البخاري من نفس الطريق من دونها ولذا استدل البخاري به على جواز قول رمضان من دون شهر ولو لم تكن ثمة قرينة تدل على إرادة الشهر.
تنبيه :
ذكر ابن المنير أن ذكر أبواب الرحمة وأبواب السماء من تصرف الرواة وقال ابن حجر: (وفي ذلك نظر )اهـ والذي تتبعته أن الروايات جاءت عن الزهري باللفظين وبذكر الجنة والنار وهذا هو الموافق للروايات عن غيره وفيها لفظ صفدت

٣- قال الترمذي عن حديث الباب الذي رواه :
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ. وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ : " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ". فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ مُحَمَّدٌ : وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ " اهـ زد على ذلك أن رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش فيها لين
ومن هنا يتبين لنا أمرين :
الأول :
لا يصح ذكر في تقييد التصفيد بـ (مردة الجن) والأحاديث الصحيحة فيها الإطلاق وهو على ظاهره كما اختار ذلك جمع منهم القرطبي وأما حصول الشر في رمضان وصرع المصروع فيه لا يوجب القول بالمجاز لأنه قد يقع الشر بسبب النفس أو ما تعودته أو بسبب شياطين الإنس
وأما الصرع فقد يقع الصرع بسبب المرض والأدوية وبسبب الجن المسلم ولا يقال عنه شيطان وهذا لا إشكال فيه لأن شيطان اسم للكفار من الجن ، وقد يقال أن الصرع يقع بسبب الشيطان وأن المراد بالتصفيد تقييدهم عما كانوا يخلصون إليه من الضرر الديني لا الجسدي وليس في هذا تجوز وهو ظاهر الحديث لأن سياقه في فتح أبواب الجنة وغلق أبواب الشياطين وكل ذلك محتمل ولهذا قال الإمام أحمد حين سأله ابنه عبدالله: إن المجنون يصرع فيه، فَقَالَ: هَكَذَا الْحَدِيثُ وَلَا تَكَلُّمَ فِي ذَا اهـ
ومعنى كلامه أن الواجب فيما يحار به العقل التسليم ولا نظر في قول من جعل المحير مستحيلا والشرع يأتي بما تحار به العقول لا بما تستحيله فاحفظ هذه القاعدة فبها تثبت قدم الإيمان .

والثاني:
ورد في حديث الباب ( ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة )
أحاديث الإعتاق كل ليلة من ليالي رمضان أو عند الفطر حسنها بعضهم بمجموعها وأمثل ما وقفت عليه في ذكر الإعتاق مارواه أحمد حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ حُسَيْنٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ ". حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : حُسَيْنٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ هَذَا هُوَ حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ اهـ قال ابن حجر : أبو غالب صدوق يخطئ اهـ
وقد اختلف أهل العلم في مراد ابن حجر بهذه العبارة فحملها البقاعي والألباني وشعيب الأرنؤوط على التحسين وقال الشيخ أحمد شاكر هي من المردود إلا إذا تعددت طرقه اهـ
قلت : وعند النظر في ترجمة أبي غالب يترجح في حكم هذا الحديث بعينه قول البقاعي
ويبقى النظر في اتصال السند وهل هو محفوظ فإنه من طريق الأعمش وهو راوي حديث الباب وقد اختلف عليه فيه فقد جاء عن جابر أو أبي سعيد وجاء عن جابر كلاهما من طريق الأعمش وصوب الدارقطني في العلل أن المحفوظ حديث الباب
قال الدارقطني في العلل ١٥٢٠: وخالفه قُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، ومحمد بن كناسة، رووه، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، وهو الأشبه بالصواب.اهـ وقال في ١٩٥٦: فَقَالَ: يَرْوِيهِ الْأَعْمَشُ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. اهـ
٤-ذكر الترمذي حديث من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
قال ابن مفلح في الفروع : زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "وَمَا تَأَخَّرَ". وَحَمَّادٌ لَهُ أَوْهَامٌ، وَمُحَمَّدٌ تُكُلِّمَ فِيهِ." اهـ
قلت : وهذا الحديث ظاهر في فضل صيام رمضان فإنه سبب في مغفرة الذنوب وسبب في دخول الجنة
روى الترمذي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رِبْعِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ، فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ ". قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : وَأَظُنُّهُ قَالَ : أَوْ أَحَدُهُمَا.
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرِبْعِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ أَخُو إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً فِي الْمَجْلِسِ أَجْزَأَ عَنْهُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ.اهـ
وأخرجه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده والحاكم في مستدركه وقال صحيح
وجاء في المصنف لابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا ( بعدا لمن أدرك رمضان ولم يغفر له فيه إذا لم يغفر له فيه فمتى ؟ ) وسنده فيه عنعنة ابن إسحاق عن الفضل الرقاشي عن عمه
والفضل هو ابن عيسى ضعيف منكر الحديث وعمه يزيد بن إبان ضعيف
وروى الطبراني في الكبير بلفظ "مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فدخل النار فأبعده الله، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ،" وفي إسناده إسحاق بن عبدالله بن كيسان فيه ضعف لينه الحاكم وجاء بألفاظ نحو هذه وفيها ضعف
ويشهد له حديث الباب و ما في مسلم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، ورمضان إلى رمضان مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ "
وأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن العلاء بن المسيب عن أبيه وخيثمة قالا كان يقال : من صام رمضان ثم مات من عامه ذلك دخل الجنة " اهـ
وخيثمة هو ابن عبدالرحمن بن أبي سبدة روى عن عدد من الصحابة ( تهذيب الكمال (٨/٣٧٠)
وهذا معنى ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا :
"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"اهـ وفيهما عنه " من قام رمضان الحديث وفيهما عنه" من قام ليلة القدر" الحديث
ورى ابن أبي الدنيا بسند ضعيف أن أبا هريرة سأل كعب الأحبار كيف تجد شهر رمضان في كتاب الله فقال لا أخبرك حتى تخبرني ما قال فيه رسول الله ﷺ فذكر له نحو الحديث السابق فقال كعب والذي نفسي بيده إنه في كتاب الله عزوجل لحطة .
وروي عن أبي هريرة
"أَوْضَعَ مَا يُصِيبُ صَاحِبُ شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا أَحْسَنَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" اهـ رواه عبدالغني المقدسي في فضائل رمضان وفيه ضعف
وروى عن قتادة "وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي رَمَضَانَ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ" اهـ

ومن فضائل رمضان ما رواه الشيخان عن أبي معقل قَالَ : " فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ ؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ ". أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ" اهـ واللفظ للبخاري
ومن فضائله نزول الكتب السماوية فيه روى الإمام أحمد عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ "

٥- مسألة : يجوز قول رمضان والأفضل قول شهر رمضان لقوله تعالى : { شهر رمضان } هذا معتمد مذهب الحنابلة والحنفية وبعض الشافعية كما في المجموع للنووي وهو قو أكثر العلماء
وقيل : مكروه قول رمضان بإسقاط شهر وهو وجه عندنا وفاقا للمالكية وروي عن مجاهد والحسن ولا يصح عنهما
وقال قوم : يجوز إسقاط شهر مع قرينة تدل على إرادة الشهر وبه قال ابن قدامة وفاقا لأكثر الشافعية
وفي المنتخب : لا يجوز قول رمضان

"بَابٌ : مَا جَاءَ لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمٍ"
١- احتياطا لرمضان لأن في ذلك تعدي على الحد الذي حكم به الشرع في دخول الشهر وهو رؤية الهلال أو إتمام الشهر
وقيل : الحكمة في النهي أن لا يختلط صوم الفرض بصوم نفل قبله ولا بعده حذرا مما صنعت النصارى في الزيادة على ما افترض عليهم برأيهم الفاسد
وكلا المعنيين صحيح والاعتراض على المعنى الثاني بأنه منقوض بجواز ما كان عادة يجاب عنه ببعد احتمال الاختلاط بصيام المعتاد أو الواجب لعدم الاتفاق على الصيام أو لعدم تعلقه برمضان
٢- قال السيوطي في قوت المغتذي : إنما نهي عن فعل ذلك لئلا يصوم احتياطا لاحتمال أن يكون من رمضان وهو معنى قول المصنف ( لمعنى رمضان ) وإنما ذكر اليومين لأنه قد يحصل الشك في يومين بحصول الغيم أو الظلمة في شهرين ، أو ثلاثة فلذا عقب ذكر اليوم باليومين اهـ

٣- النهي عن التقدم للكراهة ويصح الصيام وهو معتمد مذهب الحنابلة والنهي عندهم محمول على صوم التطوع والصوم احتياطا لرمضان وأجازوه في المعتاد أو تطوعا وصله بما قبل اليومين أو صياما واجبا .
وبالكراهة قالت الحنفية وقالوا بكراهة التقدم في كل صوم إلا التطوع
وقالت المالكية بقول الحنابلة إلا أنهم أجازوه في كل صوم إلا ما كان احتياطا لرمضان
وأما الشافعية فحملوا النهي على التحريم وهو عندهم محمول على صوم التطوع والصوم احتياطا لرمضان وأجازوه في التطوع الذي اعتاد صيامه والتطوع الذي وصله بما قبل النصف وما كان عن قضاء أو نذر أو كفارة

٤-قال الترمذي : ( وفي الباب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ هَذَا ) اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح :
وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعي عن حذيفة مرفوعا : " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " . وقيل الصواب فيه عن ربعي عن رجل من الصحابة مبهم ولا يقدح ذلك في صحته " اهـ

٥-مفهوم الحديث جواز تقدم شهر رمضان بصيام التطوع بثلاثة أيام وبه قالت الحنابلة وقالوا : بجواز الصوم بعد النصف من شعبان وما ورد في النهي إذا انتصف شعبان فلا تصوموا فقد ضعفه أحمد وأنكره ابن معين وضعفه البيهقي وقبله الطحاوي بحديث الباب وصححه الموفق وحمله على نفي الفضيلة وحمله غيره على من يضعفه الصوم
وأما الشافعية فكرهوا الصيام بعد النصف
وأما الحنفية والمالكية فيجيزون التطوع قبل رمضان بيوم ويومين
(بابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ)
١- حديث الباب علقه البخاري بصيغة الجزم وأخرجه مالك في الموطأ والدارمي والأربعة وابن حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني والبيهقي وقال :(إنه إسناد صحيح) اهـ وقال الترمذي : (حديث عمار حديث حسن صحيح ) وقال ابن حجر في فتح الباري : (استدل به على تحريم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع . قال ابن عبد البر : هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك ، وخالفهم الجوهري المالكي فقال : هو موقوف ، والجواب ، أنه موقوف لفظا مرفوع حكما) اهـ
قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن أبو هريرة )
أخرجه البزار بلفظ : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه وفي إسناده عبد الله بن سعيد المقبري عن جده وهو ضعيف ، وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الواقدي ، وأخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده عباد وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن حنبل ، كذا في النيل( وأنس ) لم أقف على من أخرجه " اهـ
٢- قال الترمذي :
(حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ كَرِهُوا أَنْ يَصُومَ الرَّجُلُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ)
مسألة :
الكراهة عند السلف تشمل كراهة التحريم وكراهة التنزيه
وقد اختلف أهل العلم في حكم صوم يوم الشك واختلفوا كذلك في حقيقته .
والجمهور على كراهة صيامه بنية رمضان ولو صامه بنية رمضان صح عند الحنابلة ولا يقع عنه وبه قالت المالكية ولم يجيزوا صيامه إلا في الفرض والتطوع المعتاد وأما التطوع المطلق فكرهه الحنابلة وأجازته المالكية .
وقال الأحناف : يحرم صيامه عن رمضان ويقع عنه إن وافق رمضان ويكره صيامه عن واجب آخر وأجازوا صيامه تطوعا .
وقالت الشافعية يحرم أن يصومه بنية رمضان ولا يقع عنه إن وافق رمضان وقالوا : ويحرم أن يصوم فيه تطوعا لا سبب له فإن صامه لم يصح على الأصح.

وحقيقة يوم الشك عند الشافعية مبينة على أصلهم وهو أن الهلال اسم لما اشتهر على الألسنة لا على الطالع في السماء ولهذا قالوا إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك سواء كانت السماء مُصْحِية أو طبق الغيم
ويوم الشك عندهم :
هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في الألسن أنه رئي ولم يقل عدل أنا رأيته أو قاله ولم يقبل الواحد أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق وظن صدقهم .
وأما قول الجمهور فظاهر قولهم أن الهلال اسم لما يطلع في السماء ولذا علقوا يوم الشك على هذا الأصل فقالت الحنابلة :
هو يوم الثلاثين إذا لم ير الهلال مع صحو السماء أو أخبر به من ردت شهادته لفسق ونحوه مع صحو السماء
وقال النسفي الحنفي:
"وهو يوم الثلاثين من شعبان لاستواء طرفيه في الآخرية والأولية قال الشارح : ووقوعه بأحد أمرين إما أن يغم عليهم هلال رمضان أو هلال شعبان فيقع الشك أنه أول يوم من رمضان أو آخر يوم من شعبان "اهـ
وفي شرح الدردير المالكي :
"إن غيمت السماء ليلة ثلاثين ولم ير الهلال فصبيحته أي الغيم يوم الشك "اهـ


٣- قال الترمذي :
(وَرَأَى أَكْثَرُهُمْ : إِنْ صَامَهُ فَكَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَهُ)اهـ
مسألة :
لو صام يوم الشك بنية رمضان هل يصح عن رمضان إن وافق صيامه الشهر :
عند المالكية والشافعية والحنابلة لا يصح عن رمضان لوجوب الجزم بتعيين نية صوم رمضان وتبييتها وهذا متعذر في يوم الشك لتردد النية والجزم لا يحصل إلا بالعلم والعلم برمضان منتف لعدم المستند الشرعية من رؤية الهلال أو إتمام الشهر
وقال الأحناف يحرم صيامه بنية رمضان وصححوا وقوعه عن رمضان
وسبب الخلاف والله أعلم هو حكم تعيين نية صيام رمضان وحكم تبييت نية صوم أداء رمضان والذين قالوا بصحة صوم يوم الشك عن رمضان وهم الأحناف يقولون : رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل ونية واجب آخر ويقولون : لا يجب تبييت النية في الصوم الواجب المتعلق بوقت معين كرمضان والنذر المعين والواجب في ذلك نيته قبل الزوال وبهذا قالوا بصحة صوم يوم الشك عن رمضان خلافا للجمهور


٤-فرع :
مسألة :
اختلف أهل العلم في حكم صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر أو دخان ؟
قول المالكية ظاهر لأن هذه الصورة عندهم هي يوم الشك، فيكره عندهم صيامه احتياطا لمعنى رمضان لا تطوعا ولا فرضا غير نذر معين
ولا يقع عن رمضان إن وافق صيامه
وهذا اليوم عندهم داخل في الأمر بالإتمام في قوله ﷺ : "فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما" رواه البخاري وعنده من رواية آدم " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " وهذا هو الصواب وعليه الأدلة والمخالف لا يمنع كونه يوم شك وإنما يمنع دخوله في النهي عن صيامه وفي الأمر بإتمامه
والقول الثاني معتمد الحنابلة :
وهو الحكم على هذا اليوم أنه من رمضان حكما ظنيا فيجب صيامه بنية رمضان وهو اختيار أبي يعلى والخرقي من أصحاب أحمد قال تقي الدين ابن تيمية : "وأما إيجاب صومه فلا أصل له في قول أحمد " وبمثل قول ابن تيمية قال ابن مفلح في الفروع
والقول الثالث :
يجوز صيامه ويجوز فطره حكاه تقي الدين ابن تيمية عن مذهب أبي حنيفة وقال : هو منصوص أحمد الصريح عنه اهـ وهو محتمل لفعل الصحابة فقد صح صيامه عن ابن عمر وعائشة في اليوم المختلف فيه وعن أسماء في اليوم الذي يشك فيه من رمضان. وكلاهما عند البيهقي في السنن الكبرى(٤/٢١١) قال ابن تيمية: وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم اهـ
والرابع *:
مستحب لفعل ابن عمر ونقله ابن تيمية عن أحمد وظاهر النصوص يمنعه
والخامس:
يحرم لحديث عمار وهو رواية عن أحمد نقلها حنبل وهذا القول محتمل لاحتمال أنه فهمه عمار من النهي فحمل النهي على التحريم وقد خالفه من هو مثله لكن قول عمار محمول على الرفع كما ذكر ابن عبدالبر وابن حجر
والسادس :
العمل بالعادة الغالبة فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص وإن كانا ناقصين فالثالث كامل وهذا مردود لأنه وقع النقص متتابعا في ثلاثة أشهر وأكثر وعمدة هذا القول العمل بالظن وهو حاصل بالعادة الغلبة وهي معنى التقدير وعليه يصح صيام رمضان بالنية المترددة لجود المستند الشرعية قال ابن مفلح وعمل به ابن عقيل في مواضع في الفنون
والسابع :
الناس تبع للإمام لحديث ( صومكم يوم تصومون ) رواه الترمذي وهو محتمل ولفعل أنس عند البيهقي (٤/٢١١)

تنبيه:
لو صام هذا اليوم فوافق رمضان وقع عند الحنابلة عن رمضان قال في كشاف القناع :
"(وَيُجْزِئُهُ ) صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ حِينَئِذٍ (إنْ بَانَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ بِأَنْ ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ بِمَكَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ صِيَامَهُ وَقَعَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ قِيلَ لِلْقَاضِي: لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ وَمَعَ الشَّكِّ فِيهَا لَا يَجْزِمُ بِهَا فَقَالَ: لَا يُمْنَعُ التَّرَدُّدُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ كَالْأَسِيرِ وَصَلَاةٍ مِنْ خَمْسٍ " اهـ
قلت : ودليل الحاجة عندهم حديث ابن عمر ولهذا لا يعفى عن التردد إلا بمستند شرعي كهذه المسألة ومسألة آخرى وهي : لو قال " إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَفَرْضِي وَإِلَّا فَأَنَا مُفْطِرٌ (لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَحَّ) صَوْمُهُ إنْ بَانَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ زَوَالُهُ وَلَا يَقْدَحُ تَرَدُّدُهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ صَوْمَهُ مَعَ الْجَزْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَهُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ مَعَهُ يُبْنَى عَلَيْهِ، بَلْ الْأَصْلُ بَقَاءُ شَعْبَانَ."اهـ




( بَابٌ : مَا جَاءَ فِي إِحْصَاءِ هِلَالِ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ)

١- قال الترمذي : ( قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ ". حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ غَرِيبٌ. لَا نَعْرِفُهُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ ". وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيِّ) اهـ
صحح أبو حاتم ما صححه الترمذي وقال في العلل (ح ٦٧٠): ( أخطأ أبو معاوية في هذا الحديث ) اهـ وفي العلل متابعة لأبي معاوية من يحيى بن راشد لكن قال أبو حاتم (ح٧١٨): ( ليس هذا الحديث بمحفوظ ) اهـ
قال عبدالله بن أحمد : سمعت أبي يقول : أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب ، لا يحفظها حفظا جيدا
قال السيوطي في قوت المغتذي :
"هذا الحديث مختصر من حديث قد رواه الدارقطني بتمامه فزاد : " ولا تخلطوا برمضان إلا أن يوافق ذلك صياما ما كان يصومه أحدكم ، وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فإنها ليست تغمى عليكم العدة " اهـ
فائدة :
قال العراقي : (لم يرو المصنف في كتابه شيئا عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما ) اهـ


٢- قوله : ( أحصوا )بقطع الهمزة أمر من الإحصاء وهو في الأصل العد بالحصى أي عدوا( هلال شعبان )أي أيامه( لرمضان )أي لأجل رمضان أو للمحافظة على صوم رمضان . وقال ابن الملك : أي لتعلموا دخول رمضان . قال الطيبي : الإحصاء المبالغة في العد بأنواع الجهد ، ولذلك كني به عن الطاقة في قوله عليه الصلاة والسلام . " استقيموا ولن تحصوا " انتهى . وقال ابن حجر : أي اجتهدوا في إحصائه وضبطه بأن تتحروا مطالعه وتتراءوا منازله لأجل أن تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان على حقيقة حتى لا يفوتكم منه شيء ، كذا في المرقاة قال العراقي : (يحتمل أن المراد أحصوا استهلاله حتى تكملوا العدة إن غم عليكم ويدل عليه الزيادة التي عند الدارقطني والمراد تراءوا هلال شعبان وأحصوه ليرتب عليه بالاستكمال أو الرؤية ) اهـ
مسألة :
حكم ترائي هلال شعبان وهلال رمضان
لو ثبت الحديث لقلنا بأنه فرض كفاية للأمر بإحصائه وهو في هلال رمضان من باب أولى بل لم يؤمر بإحصاء شعبان إلا لأجله وأقل ما يقال في ترائي الهلالين أنه سنة لقوله ﷺ : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ) وإكمالها لا يمكن من دون إحصاء
قال في "مجمع الأنهار" الحنفي عن ترائي هلال رمضان :
" ويجب على الناس وجوب كفاية التماس الهلال في التاسع والعشرين من شعبان ومن رمضان ، وكذا ذو القعدة ; ويجب على الحاكم أن يأمر الناس بذلك " باختصار.
وقال في "كشاف القناع" الحنبلي :
( ويستحب للناس ليلة الثلاثين من شعبان أن يتراءوا هلال رمضان )
قال في الفروع : "وَعَنْهُ: لَا يَجِبُ صَوْمُهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ إكْمَالِ شَعْبَانَ، اخْتَارَهُ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ وشيخنا. وقال: هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، "وهـ" وَأَوْجَبَ طَلَبَ الْهِلَالِ لَيْلَتئِذٍ" اهـ
قلت : ولا أدري ما وجه قولهم بالاستحباب ومخالفتهم لقول الحنفية إلا أن يقال أن الهلال اسم لما يشتهر وليس للطالع في السماء فلا يجب طلبه لأن حقيقته الاشتهار وهو حاصل عادة بدون طلب فإن لم يشتهر في الألسن وجب الإتمام وأما ذات الترائي فزائد على حده فيستحب طلبه
والقولان أعني في اسم الهلال وجهان عند الحنابلة
وهذا يحتاج إلى نظر .
وأقرب منه أن يقال أن هذا من واجبات الإمام كالحج لينتظم أمر الناس ولذا نص علماء الحنابلة على أنه يجب على الإمام أن ينصب أميرا للحج ، وقالوا في حق من حج حجة الإسلام يسن له تكرار الحج ، ولا شك أنه لا يجوز أن يخلو البيت من الحج فلو قدر أن الناس جميعا قد أسقطوا الفرض لكان حكمه في حقهم فرض كفاية وكذلك لو تقاعدوا عنه جميعا.
ولعل مسألتنا من هذا الباب والله أعلم


(بَابٌ : مَا جَاءَ أَنَّ الصَّوْمَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالْإِفْطَارَ لَهُ)

١- ذكر الترمذي هذا الباب بعد سابقيه لبين المستند الشرعي في دخول الشهر ولينفي العمل بالاحتياط في يوم الشك وغيره ونص على الصوم في التبويب لكي يبين أن الأمر في قوله ﷺ (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ) يعم هلال رمضان وهلال شوال خلافا للحنابلة ، فيحصل من ذلك أن المستند الشرعي في معرفة دخول الشهر هو : رؤية الهلال فإن لم ير فالإتمام ثلاثين يوما وهو حده الأكثر وأما حده الأقل فسيذكره في الباب التالي ( باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين ) ليبين وقت طلب الهلال وطلبه في ليلة ثلاثين وهو لا يثبت إلا برؤية فنحتاج لمعرفة من تعتبر رؤيته ولذا بوب بعده (باب ما جاء في الصوم بالشهادة)
تنبيه :
ليس في لفظ حديث الباب نص يحتج على أنه لا يصام الثلاثين إلا برؤية لاحتمال عود الضمير إلى أقرب مذكور فهل ورد في بعض طرق حديث الباب نص على إكمال شعبان عند عدم رؤية الهلال ؟
الجواب نعم وهذا ما جعل الترمذي يقول (وقد روي عنه من غير وجه ) لأن النص في بعض طرقه
قال ابن عبدالهادي الحنبلي في التنقيح :
قال الترمذي : حديث حسن صحيح . ورواه ابن خزيمة ، وابن حبان في " صحيحيهما " ، ورواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة ، فأكملوا شهر شعبان ثلاثين ، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان }.

٢- قال الترمذي وفي قوله : ( وفي الباب :عن أبي هريرة وأبي بكرة وابن عمر حديث ابن عباس حديث حسن صحيح وقد روي عنه من غير وجه )
وأخرجه أحمد والنسائي وأبو داود
قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة )أخرجه الشيخان( وأبي بكرة )أخرجه الشيخان( وابن عمر )
أخرجه الشيخان .
(باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين )
١- في هذا الباب حصر الشهر من جهة أحد طرفيه وبيان أقله لربط الحكم فيه بالرؤية لا بالاحتياط ولا بالتخفيف
وفيه دفع لقول من قال أن الأصل في الشهر أنه تسعة وعشرون يوما لفعل ابن عمر ولحديث أنس مرفوعا ( الشهر تسع وعشرون ) متفق عليه والصواب أن ال في هذا الحديث للعهد أي للشهر الذي آلى فيه ﷺ من نسائه ولذا ذكر الترمذي حديث أنس هذا في الباب لبيان المقصود من ال ويجوز أن يكون المقصود أكثر ما يكون الشهر تسعة وعشرين يوما ولهذا ذكر الترمذي في الباب قول ابن مسعود ما صمت مع النبي ﷺ تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين
وفيه : أن العبرة بالرؤية لا بالحساب والتنجيم ولا يستند عليهما شرعا ولذا فحصول الظن الغالب بهما أو يقينه عند أهله غير مؤثر وعليه فمن صام مستندا عليه فوافق رمضان لم يصح عن رمضان عند الجمهور للتردد في النية ، وتعينها لرمضان شرط عند الثلاثة إلا أبا حنيفة وتجويز أبو جنيفة لا لأجل جواز الحساب وإنما لعدم وجوب تبييت النية

٢- وفيه أن رؤية الهلال لا تكون إلا ليلة الثلاثين لا قبلها لأن أقل الشهر تسعة وعشرون يوما فإن رؤي قبلها فلخطأ في دخوله فيجب استدراك ما فات حكمه وعليها مسائل:
الأولى: قال في كشاف القناع :
"(إِذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ، ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَفْطَرُوا) فِي الْغَيْمِ وَالصَّحْوِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْفِطْرُ ابْتِدَاءً، فَتَبَعًا لِثُبُوتِ الصَّوْمِ أَوْلَى..."وَلِحَ دِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ" اهـ لأنه أكثر الشهر وثبت خروجه بمستند شرعي
الثانية :
وقال : "وَ (لَا) يُفْطِرُوا (إنْ صَامُوا) الثَّلَاثِينَ يَوْمًا (بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ) ؛ لِأَنَّهُ فِطْرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى وَاحِدٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِلَالِ شَوَّالٍ." اهـ عُلم منه أنهم يفطرون لو صاموا ثلاثين يوما بشهادة رجلين عدلين والفرق بينهما أن مستند دخول رمضان بخبر العدل الواحد لا يثبت به دخول غيره من الشهور فلا يحكم به في دخول شوال إلا برؤية هلاله أو تقدير النقص فيما قبله غم هلاله فيزاد حينئذ يوما أو يومين أو أكثر بحسب الأشهر المتصلة قبله حتى نصل إلى ما ثبت دخوله بشهادة عدلين
الثالثة :
قال :"وَإِنْ صَامُوا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ قَضَوْا يَوْمًا فَقَطْ نَصًّا) نَقَلَهُ حَنْبَلٌ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ الْغَلَطُ بِيَوْمَيْنِ " اهـ
والرابعة :
وقال : "(وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي صَامَهُ) يَظُنُّهُ رَمَضَانَ (نَاقِصٌ، وَرَمَضَانَ) الَّذِي فَاتَهُ (تَمَامٌ لَزِمَهُ قَضَاءُ النَّقْصِ) ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ الْمَتْرُوكِ بِخِلَافِ مَنْ نَذَرَ شَهْرًا وَأَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ"اهـ

٣-قوله : ( وفي الباب عن عمر وأبي هريرة إلخ )
قال في تحفة الأحوذي :
(أما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه الشيخان ، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضا الشيخان ، وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد ، وأما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه مسلم ، وأما حديث ابن عمر وأنس وجابر وأم سلمة فأخرجه مسلم وغيره ، وأما حديث ابن عباس وأبي بكرة فلينظر من أخرجه )

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الصَّوْمِ بِالشَّهَادَةِ)
١-روى الترمذي حديث ابن عباس مرفوعا وهو نص في قبول شهادة الواحد في هلال رمضان لكن فيه الوليد بن أبي ثور يرويه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس والوليد ضعيف
ولذا روى الترمذي له متابعة من زائدة بن قدامة عن سماك وزائدة ثقة ثبت لكن قال الترمذي: (حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ سِمَاكٍ رَوَوْا عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) اهـ ورجح النسائي المرسل وقال : (إنه أولى بالصواب ، وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة) اهـ
والحجة في الباب عند القائل بشهادة الواحد حديث ابن عمر صححه أبو داود ويأتي ذكره .

٢- قال الترمذي :
(وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا : تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الصِّيَامِ. وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ. قَالَ إِسْحَاقُ : لَا يُصَامُ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ)اهـ
قولان فيما تثبت به رؤية هلال رمضان :
معتمد مذهب الحنابلة أنه يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ خَبَرُ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ نَصًّا، لَا مَسْتُورٍ وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِهِ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى كَالرِّوَايَةِ أَوْ كَانَ إخْبَارُهُ بِدُونِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَخْتَصُّ ثُبُوتُهُ بِحَاكِمٍ وتثبت بها بقية الأحكام المعلقة بدخول الشهر .
واستدلوا بحديث الباب وحديث ابن عمر وقالوا : وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّهُورِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، كَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ: الِاحْتِيَاطُ لِلْعِبَادَةِ فيما لا تهمة فيه
وقال في عون المعبود شرح أبي داود:
وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يجيزان على هلال رمضان شهادة الرجل الواحد العدل ، وإن كان عبدا وكذلك المرأة الواحدة وإن كانت أمة ، ولا يجيزان في هلال الفطر إلا رجلين أو رجلا وامرأتين"اهـ قلت : والحنفية يعتبرون الإشتهار والاستفاضة فيما كانت فيه الليلة مُصْحِيَة . وعند المالكية : لا تثبت الرؤية إلا برجلين عدلين ولا يختص بحاكم *وعند الشافعية : تثبت الرؤية بعدل وهي شهادة لا خبر وفي العبد والمرأة وجهان قال النووي : أصحهما لا.

٣- قال الترمذي :
(وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) اهـ عدلين على معتمد الحنابلة وكان أبو حنيفة لا يجيز في هلال الفطر إلا رجلين أو رجلا وامرأتين
ودليل المسألة حديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب رواه أحمد والنسائي وحديث أمير مكة الحارث بن حاطب رواه أبو داود

تنبيه : على قول الترمذي : (لم يختلف )
قال النووي في شرح مسلم : (لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل) اهـ

(بَابٌ : مَا جَاءَ شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ)
١-ذكر الترمذي هذا الباب بعد باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين ليبين المراد بالنقص وأن المقبول من الأقوال قولان :
قول الإمام أحمد : لَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ شَهْرُ رَمَضَانَ وَذُو الْحِجَّةِ، إِنْ نَقَصَ أَحَدُهُمَا تَمَّ الْآخَرُ اهـ لكن قال قال الطحاوي رحمه الله تعالى : "قد وجدناهما ينقصان معًا في أعوام" اهـ
والقول الثاني قول إسحاق : مَعْنَاهُ : " لَا يَنْقُصَانِ ". يَقُولُ : وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَهُوَ تَمَامٌ غَيْرُ نُقْصَانٍ. وَعَلَى مَذْهَبِ إِسْحَاقَ يَكُونُ يَنْقُصُ الشَّهْرَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
والمراد لا ينقصان في الأجر وإن نقصا في العدد وهذا الذي رجحه جمع من المحققين كالنووي وابن حجر قال في الفتح: والمعنى أن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال " اهـ*
قلت : ورمضان كذلك لو أخطأوا في الرؤية من دون تقصير حصل لهم تمام الأجر ووجب عليه تدارك الفائت وليس التدارك واجب في الحج لفوات محله وإلا وجب
وفائدة الخبر : رفع الحرج عن الأمة ورفع ما يقع في النفس من عدم صحة العبادة أو نقص الأجر بسبب الخطأ الحاصل بسبب حيلولة الغيم والقتر دون رؤية الهلال سواء كان ذلك في دخول رمضان أو دخول شهر ذي الحجة وهذا من تيسير الشريعة على العباد والحمدلله رب العالمين.
*
٢- قال البيهقي في المعرفة:
"إنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما" *اهـ
وسمي شهر رمضان عيدا لقربه من العيد

٣-استدل مالك على أن رمضان تكفيه نية واحدة من أول الشهر وفيما يجب تتابعه ولا يلزم تبييتها كل ليلة من رمضان ووجه الدلالة منه أنه ﷺ جعل الشهر بجملته عبادة واحدة فاكتفى له بالنية وهذا الحديث يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعا وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين إنما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقا بالشهر من حيث الجملة لا من حيث تفضيل الأيام
ومعتمد مذهب الحنابلة في نية رمضان:
" أن لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ مُفْرَدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَيْ: أَيَّامَ رَمَضَانَ عِبَادَاتٌ فَكُلُّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، و الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ: أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُ يَوْمٍ بِفَسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ كَالْقَضَاءِ أَيْ: قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَعَنْهُ يُجْزِئُ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِكُلِّهِ"اهـ كشاف القناع وبه قالت الحنفية والشافعية

٤-قال الترمذي عن الحديث حسن لأجل شيخه يحيى بن خلف الباهلى ، أبو سلمة البصري المعروف بالجوباري قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب : صدوق
والحديث مخرج في صحيحين من حديث أبي بكرة
تنبيه :
كل ما ورد مفسرا لعدم النقص بالأيام فضعيف كحديث زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب مرفوعا" شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يوما" أخرجه البزار وغيره من وجه آخر قال ابن حجر : إسناده ضعيف .


(بَابٌ : مَا جَاءَ لِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ)

١- بعد أن ذكر الترمذي رحمه الله تعالى ما يثبت به دخول الشهر وما تثبت به الرؤية وأزال توهم نقص الأجر بنقص عدد أيام الشهر أو توهم عدم سقوط الطلب بنقصانه
ذكر هذا الباب ليبين من يلزمه العمل إذا ثبتت رؤية الهلال فقال :
( باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم) ثم ذكر قصة كريب مع ابن عباس وفيه أن ابن عباس لم يكتفي برؤية معاوية بالشام ولا بصيامه وإنما عمل برؤيتهم بالمدينة وقال : هكذا أمرنا رسول الله ﷺ
قال الترمذي : والعمل عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم اهـ قلت : وما حكاه هو رواية عن أحمد وأحد الوجهين عند الشافعية والرواية الثانية عن أحمد يجب على جميع الناس صيامه وهي الرواية المعتمدة في المذهب عند المتأخرين
ومحل الخلاف : إذا لم يتقارب البلدان فإذا تقاربا لزمتهم الرؤية قال النووي في المجموع :بلا خلاف وقال ابن عبدالبر أن ومحله فيما يتفق فيه المطالع وحكاه إجماعا .
قلت : بمجموع النقلين يُحصر محل النزاع فيما اتفقت فيه المطالع
واختلاف المطلع مضبوط في عصرنا هذا وأما محل البعد المعتبر فيه خلاف ففيه أقوال :
فمنهم: من حده باختلاف المطلع ، صححه النووي في المجموع والروضة
ومنهم : من حده باتحاد الإقليم واختلافه فما اتحد فمتقاربان
ومنهم : من حده بمسافة القصر صححه النووي في شرح مسلم وقطع به الإمام البغوي وصححه الرافعي في الصغير
ومنهم : من حده بأنه بحسب كل بلد لا يتصور خفاؤهم عنهم بلا عارض دون غيرهم حتى ولو كان فوق مسافة القصر حكاه السرخسي .
ومنهم : من قال : لا تلزم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع قاله ابن الماجشون
قال تقي الدين ابن تيمية :
فالصواب في هذا - والله أعلم ما دل عليه قوله : { صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون } فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم . وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب فعليهم إمساك ما بقي سواء كان من إقليم أو إقليمين .
والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس فالمستقبل يجب صومه بكل حال لكن اليوم الماضي : هل يجب قضاؤه ؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رئي بإقليم آخر ولم ير قريبا منهم الأشبه أنه إن رئي بمكان قريب وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول فهو كما لو رئي في بلدهم ولم يبلغهم . .. فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله { صوموا لرؤيته } فمن بلغه أنه رئي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلا وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر فلا فائدة فيه بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار"اهـ
قلت: ومحل ذلك فيما لا تختلف فيه المطالع فقد ثبت أنها تختلف بعد ٢٢٢٦ كيلا وهذه المسافة لا يمكن قطعها على الإبل المحملة في شهر وهذا ما يجعلنا نقول أن ما بعد هذه المسافة خارج من صورة المسألة وأن اعتبار العلم بالرؤية هو في مسافة دون مسافة ما تختلف فيه المطالع وهذه المسافة نقل ابن تيمية عن ابن عبدالبر الإجماع على أن الخلاف فيما يمكن أن تتفق فيه المطالع ولم يتعقبه لأنها هي المسافة التي يمكن أن يبلغ فيها العلم في وقت يفيد كما قيد ابن تيمية العلم بهذا الوقت
وعليه فحمل هذه المسألة في عصرنا على عرف الصحابة ومن هنا لا يمكن تصور قول الحنابلة إلا على هذا وأما حمله على وسائل التواصل اليوم فبعيد والله أعلم .

٢- مسائل الحديث :
الأولى:
وجوب الصوم على من رآه وردت شهادته وإن كان فاسقا لقوله ﷺ ( صوموا لرؤيته ) وقد رآه وهذا معتمد المذهب
الثانية :
ويلْزَمُ الصَّوْمُ مَنْ سَمِعَ عَدْلًا يُخْبِرُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ، وَلَوْ رَدَّهُ حَاكِمٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رده لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُخْبِرِ، وَقَدْ يَجْهَلُ الْحَاكِمُ مَنْ يَعْلَمُ غَيْرُهُ عَدَالَتَهُ" وهذا معتمد الحنابلة
والقول الثاني : لا يلزمه لأن الهلال يطلق على ما يستهل ويظهر لا على ما يطلع في السماء وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
الثالثة :
وأما هلال شوال وبقية الشهور غير رمضان فلابد من شهادة رجلين عدلين بلفظ الشهادة، ومتى تحققت وجب فطره عند المجد ابن تيمية وعلى من علم عدالتهما ولو ردت شهادتهما أو شهادة أحدهما ولكن يخفي فطره وحكي إجماعا في وجوب إخفائه وقدم هذا القول في المبدع وقال أنه قياس المذهب
وقال ابن قدامة وتبعه صاحب الإقناع : يجوز له الفطر بشهادة عدلين
وقال ابن عقيل : يجب الفطر حتى ولو رآه وحده قال في الإقناع وهو حسن ورده الشارح بأنه لا يثبت به اليقين في نفس الأمر .
وقال تقي الدين ابن تيمية :
لا يجب الصيام ولا الفطر في الخروج إلا مع الناس لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب حسن اهـ وهذا القول مبني على أصله هو أن الهلال لا يسمى هلالا إلا بالظهور والاشتهار
تنبيه:
"(وَالْمُنْفَرِد ُ بِرُؤْيَتِهِ) أَيْ: هِلَالِ شَوَّالٍ (بِمَفَازَةٍ لَيْسَ بِقُرْبَةِ بَلَدٍ، يَبْنِي عَلَى يَقِينِ رُؤْيَتِهِ) فَيُفْطِرُ؛ (لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ قَالَهُ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ) عَلَى الْهِدَايَةِ."اه ـ كشاف القناع*
الرابعة :
عدم اعتبار الحساب والتنجيم وإن كانوا عدولا وعليه المذاهب الأربعة وحكاه ابن المنذر إجماعا وخالف ابن سريج والإجماع قبله
وبالإجماع يُرد قول من فسر : (فاقدروا له) : أي قدروه بحساب المنازل ويرده أيضا روايات الحديث المفسرة والتي فيها بإكمال العدة ثلاثين يوما ونحوها .
تنبيه :
قد غلط من استدل بجواز التنجيم والحساب بالمنازل في دخول رمضان بقوله تعالى {وبالنجم هم يهتدون} لأن المعنى الاهتداء في أدلة القبلة والطريق لا بمعرفة الدخول ونحوه، والشرع لا يعلق الأحكام إلا بالظاهر البين لجميع الخلق وليس ذلك في التنجيم ومنازل الحساب
وأقوى ما يرد به على هذا التفسير الإجماع على عدم اعتبار التنجيم والحساب مستندا شرعيا في دخول رمضان .

٣- حديث كريب أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة

*(بَابٌ : مَا جَاءَ مَا يُسْتَحَبُّ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ)

١- روى الترمذي في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
حديث أنس وفيه الأمر بالفطر على تمر وأعله الترمذي بقوله : (وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ أَصْلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَس) اهـ
والحديث الثاني:
حديث سلمان بن عامر الضبي قال الترمذي : (حديث حسن صحيح )اهـ
قلت : وليس فيه ما ينتقد إلا الرباب أم الرائح بنت صُليع ، قال عنها ابن حجر في تقريب التهذيب : مقبولة اهـ وقال بعض أهل العلم: والرباب لا بأس بحديثها ؛ فلم تأت بشيء يُنكر ؛ وقد روت عنها حفصة ابنة سيرين وهي ثقة ؛ وصحح لها الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وهذا ظاهر كلام أبي حاتم، وهذا يرفع جهالتها ويقوي أمرها، فإن الخبر إذا لم يرو إلا من طريق واحد وصحح أحد الأئمة الحديث فإن هذا توثيق لكل الرواة، فحين صحح الإمام أبو عيسى رحمه الله تعالى حديث الرباب عن سلمان فهذا توثيق للرباب لأن الخبر لم يثبت من وجه آخر عن غير الرباب . اهـ
قلت : وهذا عمدة الباب

وأما الحديث الثالث :
فحديث أنس وفيه فعل النبي ﷺ قال أنس :
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ"
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب اهـ ولعله يقصد غريب من حديث عبدالرزاق فقد أعله
أبو حاتم وأبو زرعة قال في العلل :
( لا نعلم روى هذا الحديث غير عبدالرزاق ولا ندري من أين جاء عبدالرزاق ؟ ... قال أبو زرعة : لا أدري ما هذا الحديث لم يرفعه إلا من حديث عبدالرزاق ) اهـ

٢- في حديث سلمان بن عامر ( فليفطر على تمر ) والأمر للاستحباب والصارف فعل النبي ﷺ فقد ثبت من حديث ابن أبي أوفى في الصحيحين أن النبي ﷺ أفطر على شربة سويق وعليه بوب البخاري بقوله (بَابٌ : يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ)
ويريد أنه لا يجب الفطر على تمر خلافا لمن أوجبه من الظاهرية كابن حزم ويحتمل تضعيفه الوارد في الاستحباب
ومعتمد مذهب الحنابلة أنه يُسَنُّ فِطْرٌ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عَدِمَ فَتَمْرٌ فَإِنْ عَدِمَ فَمَاءٌ واستدلوا بحديث أنس السابق من فعل النبي ﷺ
قال البهوتي في شرح المنتهى :
"وَفِي مَعْنَى الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ: كُلُّ حُلْوٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ."اهـ ، وتمسك بعضهم بالنص فقصر الاستحباب على الوارد .
تنبيه :
النص الوارد في الأمر جاء في التمر ، والرطب منه لكن تقديمه بالاستحباب على بقية أنواع التمر يحتاج إلى مخصص .


٣-والحكمة من استحباب التمر ؛ لأن الصائم يفقد كمية من السكر المخزون في جسمه أثناء الصيام، وأكل الرطب أو التمر يعيد إليه ما فقده من السكر والنشاط بقترة قليلة ؛ وذلك لأن امتصاص المواد الموجودة في التمر يحصل في دقائق بخلاف غيره من الدسم ونحوه فيحتاج إلى ساعات ليزول عنه ما يحصل بسبب هبوط نسبة السكر
وأما الحكمة من الماء فالكبد يحصل لها بالصوم نوع يُبس، فإذا رُطِّبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده .

٤- لا أعلم نصا خاصا في الباب في استحباب الوتر في أكل التمر حين الإفطار واستدل أهل العلم بالعمومات وما هو في معنى الفطر من الصيام كفطره ﷺ قبل خروجه إلى صلاة عيد الفطر
قال ابن قدامة :
"والمستحب أن يفطر على التمر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفطر عليه، ويأكلهن وتراً لقول أنس: ويأكلهن وتراً؛ لأن الله - تعالى - وتر يحب الوتر، ولأن الصائم يستحب له الفطر كذلك" اهـ
قلت : حديث أنس رواه البخاري وهو في فطره ﷺ قبل خروجه إلى صلاة عيد الفطر
وعليه بوب البخاري (بَابُ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ.)
قال ابن حجر في الفتح :
(وأما جعلهن وترا فقال المهلب: فللإشارة إلى وحدانية الله تعالى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعله في جميع أموره تبركا بذلك) اهـ



(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ)

١- مناسبة هذا الحديث هنا أن الترمذي لما ذكر حكم دخول الشهر أعقبه بهذا الباب لأن فيه حكم الخروج وما يترتب على الخطأ في الرؤية وبهذا تتم المسألة
قال الترمذي : ( هذا حديث غريب حسن ) اهـ قلت : هو أصح ما ورد في الباب سكت عنه أبو داود والمنذري
وما أخرجه أبو داود وابن ماجة ليس فيه (الصوم يوم تصومون )
والحديث عند أبي داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن المنكدر عن أبي هريرة وابن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة نص عليه البزار ونقل صاحب البدر المنير عن ابن معين وأبي زرعة أنه لم يسمع منه ولم يدركه .
وأخرجه ابن ماجة من نفس الطريق عن حماد بن زيد عن أيوب لكن قال محمد بن سيرين عن أبي هريرة وشيخ ابن ماجة محمد بن عمر المقرئ لا يعرف قاله ابن حجر
وأخرج الحديث أيضا الترمذي من طريق يحيى بن اليمان عن معمر عن ابن المنكدر عن عائشة ولعل الصواب ما رواه يزيد بن زريع عن معمر عن ابن المنكدر عن أبي هريرة لأن يحيى بن اليمان كثير الغلط وإن لم يكن غلط فيه فقد حكم الدارقطني أنه موقوف عليها

٢- ذكر الترمذي في التبويب الفطر والأضحى ولم يذكر الصوم لأن الحكم بدخوله يختلف عن بقية الشهور
فيكفي في دخوله حصول الرؤية من العدل الواحد ولا يلزم في وجوبه إثباته بحاكم عند الحنابلة بخلاف الخروج فإن حكمه منوط بتحقيق المناط في الشهود والإعلام بخروجه بها وهم في ذلك تبع للإمام فما حصل بثبوت ذلك من تقصير بعد اجتهاد فمعفو عنه للحكم بحصوله مع الجماعة وإن لم يتحقق تحقيق حقيقة العبادة في نفس الأمر وهذا من رحمة الله بعبادة .
أما قوله ﷺ ( صومكم يوم تصومون ) فمحمول على أمرين :
أحدهما : أن صيام الجماعة على خطأ في الرؤية لا يوجب نقصا ولا إثما ويجب تدارك ما يمكن تداركه .
والثاني : أنه لا يجوز الصيام في يوم لم تتحقق فيه الرؤية أو تمام العدة فلو فرضنا أن الناس جميعا صاموا يوم الشك لم يجب اتباعهم حملا للأمر في الحديث على مجموع الوارد من النصوص فيكون نهيا عن صيام الشك احتياطا
ولو فرضنا أن الرؤية ثبتت بمستند شرعي وصام الناس وجب الصوم على من هو في حكمهم وإن لم يره .
ولو فرضنا أنه رآه وحده فهل يجب عليه الصوم ؟ المذهب نعم ويصوم سرا ودليلهم ظاهر النصوص الموجبة وأكثر ما في دلالة حديث الباب على المنع من الصيام أنه مفهوم والظاهر مقدم وبما ذكرنا إعمال للأحاديث وقد سبق ذكر هذه المسألة والله أعلم


٣-قال الترمذي : (وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ : إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ) اهـ
قال في تحفة الأحوذي : ( بكسر العين وفتح الظاء أي كثرة الناس وقال الخطابي في معنى الحديث : إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد ، فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عيب ، وكذلك هذا في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته) اهـ

مسائل هذا الحديث سبق ذكرها سابقا
(بَابٌ : مَا جَاءَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)
١- حديث الباب متفق عليه وكذلك ما ذكره بقوله في الباب وله سبب ورد ذكره في حديث ابن أبي أوفى وكان في سفر وجاء من رواية هشيم وحده أنه في رمضان وحُمل على غزوة الفتح لانحصار سفره ﷺ في رمضان في غزوة بدر والفتح وابن أبي أوفى لم يشهد بدرا فتعين أن يكون في غزوة الفتح لكن سيأتي أن سفره ﷺ في رمضان غير منحصر في الغزوتين .

٢- قوله : (إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم ) أي : دخل في وقت الإفطار كقول أنجد لمن دخل نجد ، فإذا أقبل الليل وغربت الشمس فليفطر ولا يجب عليه الإمساك جزءا من الليل
هذا إذا قلنا أنه خبر يراد به الأمر لأجل تحقيق سنية التعجيل بالفطر وبه قال ابن خزيمة
وأما إذا حملناه على الخبر فالمعنى ما فسره الخطابي : (بأن الصائم صار في حكم المفطر ولو لم يأكل ) اهـ وبه قال ابن حجر
قلت : ويدخل فيه المعنى الأول وهو استحباب تعجيل الفطر لفعل النبي ﷺ عليه وسلم وحمله على الخبر معتمد مذهب الحنابلة قالوا : إذا أقبل الليل أفطر حكما ولا يُثاب على الوصال إلى السحر
فحصل بهذا التبويب والحديث وسببه مسائل :
الأولى: حصول الفطر حكما بإقبال الليل وعليه لا يثاب على الوصال
والثانية : استحباب الاستعجال بالفطر
والثالثة : لا يجب الإمساك جزءا من الليل وهو ظاهر تبويب البخاري
والرابعة : قال بعض أهل العلم يكره تأخير الفطر لمن تعمد تأخيره استنانا ؛ لمخالفته السنة وهو الصحيح ولولا جواز الوصال إلى السحر لقلنا بحرمة التأخير تدينا للابتداع أو لمشابهة الكفار في دينهم .
والخامسة : معرفة انقضاء النهار بأحد هذه العلامات الثلاث لتلازمها وإنما ذكرها ﷺ جميعا لبيان أن حصول أحدها كاف إذا كان دالا على غروب الشمس لا بسببٍ غيره كغيم ونحوه ومما يدل على ذلك أنه جاء في حديث ابن أبي أوفى الاقتصار على إقبال الليل
ولعل هذا ما جعل الترمذي يكتفي في التبويب بعلامتين ولم يذكر غابت الشمس مع أن الحديث المبوب عليه فيه ذكر الثلاث
السادسة : أن الفطر قبل الصلاة أفضل وعليه معتمد الحنابلة لفعل النبي ﷺ
والسابعة : جواز الصيام في السفر وأنه أفضل في حق من لم يشق عليه
والثامنة : أن الفطر على التمر ليس للوجب وإنما هو للاستحباب لأن النبي ﷺ أفطر في الحديث على شربة سويق جدحها له بلال رضي الله عنه

فرع : هل يجوز بغلبة الظن أم يجب التيقن بغروب الشمس؟
معتمد المذهب أن لَهُ الْفِطْرُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ أَمَارَةٌ يَدْخُلهُ الِاجْتِهَادُ، وَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ كَالْقِبْلَةِ ، وليس في النصوص الأمر بالتبين كما في الإمساك لكن إن تبين خطأ ظنه قضى اليوم ولا إثم عليه بفطره
وقيل : من أفطر بغلبة ظنه في غروب الشمس فهو عاص لله تعالى وهو قول ابن حزم والأول أصح
تنبيه : لا يجوز الفطر بالشك في غروب الشمس عملا بالأصل وهو بقاء النهار ، ويجوز له الأكل مع الشك في طلوع الفجر للأمر بالأكل حتى التبين والشاك لم يتبين له طلوعه .

٣- قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن ابن أبي أوفى وأبي سعيد )
أما حديث ابن أبي أوفى فأخرجه البخاري ومسلم ، وأما حديث أبي سعيد فلم أقف عليه ، وذكر البخاري في صحيحه تعليقا من فعله بلفظ : أفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس . قال الحافظ في الفتح : وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال : دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب .قوله : ( حديث عمر حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري ومسلم " اهـ

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ)

١- قال ابن حجر في الفتح : (قال ابن عبد البر : أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير السحور صحاح متواترة،وعند عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال : " كان أصحاب محمد ﷺ أسرع الناس ، إفطارا وأبطأهم سحورا )اهـ
وسبق ذكر تعجيل النبي ﷺ الإفطار حتى أن الصحابي ظن أن الشمس لم تغرب
وسبق ذكر أن الأفضل الفطر قبل الصلاة لفعله ﷺ كما في حديث ابن أبي أوفى السابق وحديث أنس عند أبي داود والترمذي حسنه ابن قدامة وقال الدارقطني : (إسناده صحيح )اهـ وهو كما قال ، لكن أنكره أبو حاتم وأبو زرعة على عبدالرزاق ، وقال الترمذي : حسن غريب اهـ ، ولعله يريد غريب من حديث عبدالرزاق وسبق ذكره

مسألة : سبب استحباب تعجيل الفطر
ما روى أبو داود والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: ( لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون )
وعند الحاكم وابن حبان وابن خزيمة بإسناد صحيح عن سهل مرفوعا :
( لا تزال أمتي على سنتي مالم تنتظر بفطرها النجوم وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا كان صائمًا أمر رجلًا فأوفى على نَشَزٍ فإذا قال قد غابتِ الشمسُ أفطرَ)
وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الدرداء *: "ثلاثٌ من أخلاقِ النُّبوةِ : تَعجيلُ الإفطارِ ، وتأخيرُ السُّحورَ ، ووضْعُ اليمينِ على الشِّمالِ في الصلاةِ" ورواه الطبراني مرفوعا وصححه الألباني

مسألة : في حكم تأخير الفطر
قال ابن حجر في الفتح : "قال الشافعي في " الأم " : تعجيل الفطر مستحب ، ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده ، ورأى الفضل فيه ، ومقتضاه أن التأخير لا يكره مطلقا ، وهو كذلك إذ لا يلزم من كون الشيء مستحبا أن يكون نقيضه مكروها مطلقا ، واستدل به بعض المالكية على عدم استحباب ستة شوال ؛ لئلا يظن الجاهل أنها ملتحقة برمضان ، وهو ضعيف ولا يخفى الفرق " وفي التاج والإكليل للمواق المالكي: ابن حبيب: إنما يكره تأخير الفطر استنانا وتديناً، فأما لغير ذلك فلا، كذا قال لي أصحاب مالك. اهـ
قلت : لم يذكرا في مظان الإقناع والمنتهى في التأخير حكما ولا في شرحهما

٢- روى الترمذي في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
حديث سهل متفق عليه
وحديث أبي هريرة وهو ضعيف فيه قرة بن عبدالرحمن المعافري
والحديث الثالث حديث عائشة رواه مسلم

٣- قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة )أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا بلفظ : " لا يزال هذا الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون "
( وابن عباس ) أخرجه الطيالسي بلفظ : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " ، كذا في سراج السرهندي
( وعائشة رضي الله عنها )
أخرجه الترمذي
( وأنس بن مالك )
أخرجه الحاكم وابن عساكر بلفظ : من فقه الرجل في دينه تعجيل فطره ، وتأخير سحوره ، وتسحروا فإنه الغذاء المبارك .
قوله : ( حديث سهل بن سعد حديث حسن صحيح )
وأخرجه البخاري ومسلم ) اهـ

٤-قال الترمذي : (وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمُ اسْتَحَبُّوا تَعْجِيلَ الْفِطْرِ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ) اهـ
قال ابن قدامة في المغني : ( وهو قول أكثر أهل العلم)اهـ
في موطأ مالك وَحَدَّثَنِي، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ : كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى الليل الأسود قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار : ورواية معمر لهذا الحديث ، عن ابن شهاب بخلاف هذا اللفظ، ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان قبل أن يفطرا
وقد روي عن ابن عباس وطائفة أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة ... قال أبو عمر : أجمع العلماء على أنه إذا حلت صلاة المغرب فقد حل الفطر للصائم - فرضا وتطوعا - وأجمعوا أن صلاة المغرب من صلاة الليل ، والله - عز وجل - يقول : ( أتموا الصيام إلى الليل ) اهـ

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي تَأْخِيرِ السُّحُورِ)
١-السحور مستحب حكاه ابن المنذر إجماعا وقال ابن قدامة في المغني : "ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا " اهـ
لحديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ( تسحروا فإن في السحور بركة ) متفق عليه وصارف الأمر وصال النبي ﷺ بأصحابه وقوله ﷺ في الحديث ( بركة ) وطلبها ليس بواجب

٢- قوله ( باب ما جاء في تأخير السحور ) أي ما جاء في حكمه ووقته :
أما حكمه : فقال ابن مفلح في الفروع : ( يسن تأخير سحور إجماعا إن لم يخش طلوع فجر ثان وفاقا )
قلت : فإن خشي طلوع فجر ثان جاز له الأكل على معتمد المذهب ، وعنه يستحب وهو اختيار ابن الجوزي وتقي الدين ابن تيمية وهو ظاهر الآية . وشاهد الاستحباب من الحديث فعل النبي ﷺ وأصحابه
وأما وقته :
فسحور مصدر من التسحر ، والتسحر تفعل من السحر ، والسحر قبيل الصبح ، ومنه وقت سحور النبي ﷺ الوارد في الحديث فمن أوقع السحور قبيل الفجر فقد حقق سنية السحور وسنية تأخير السحور قطعا وقد اختلف أهل العلم في وقت السحور :
فقيل : يدخل وقت السحور بالسدس الأخير من الليل
وقيل : يدخل بالثلث الأخير من الليل
وقيل : يدخل بنصف الليل وعزاه السفاريني لعلماء الحنابلة والشافعية وقال : وفيه نظر اهـ وعزاه بعض المعاصرين إلى الصحيح من مذهب الحنابلة .
تنبيه: أقل السدس في بلادنا ساعة وثلُث .

٣-(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ :
قُلْتُ : كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً)
قوله ( تسحرنا مع رسول الله ﷺ ) المراد أنا ورسول الله ﷺ ففي رواية البخاري عَنْ أنس بن مالك (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا) بالتثنية وعند النسائي : (تَسَحَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ)
وكان سحوره ﷺ ماء وتمرا
وقوله : ( ثم قمنا إلى الصلاة ) أي: أول الشروع في صلاة الفجر كما قال ابن المنيِّر وعليه أكثر الروايات
والمراد من الحديث تقدير الزمن بين الانتهاء من السحور والشروع في الصلاة وهو قريب من ثمان دقائق
وقوله ( كم كان قدر ما بينهما ) السائل أنس بن مالك والمجيب زيد بن ثابت بن الضحاك بن لَوذَان الأنصاري النجاري أحد كتاب الوحي والمراسلات كان عمره لما دخل النبي ﷺ المدينة إحدى عشرة سنة.
وقوله : " قدر خمسين آية " أي : متوسطة لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة كآي سورة البقرة
تنبيه:
في رواية عند البخاري من طريق همام عن قتادة به وفيها " قدر خمسين أو ستين .يعني آية "بالشك وفي رواية هشام وسعيد " خمسين آية " وهما أثبت الناس في قتادة .

٤-الحكمة من تأخير السحور التقوي على الصيام وزيادة النشاط والإرفاق بالناس فلو كان السحور في جوف الليل لأفضى إلى السهر وربما إلى ترك الفجر وفيه التسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام إلى آخر ما في ذلك من الخير .

٥- مسائل حديث الباب :
الأولى :
معتمد الحنابلة أن فَضِيلَة السَّحُورِ تحصل بِشُرْبٍ لِحَدِيثِ «وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ» .
ويَحْصُلُ كَمَال فَضِيلَةِ السَّحُورِ بِأَكْلٍ لْخَبَرِ الباب ولِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ "إنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا ، والأفضل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمْرٍ لِحَدِيثِ «نِعْمَ سَحُورِ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ولفعله ﷺ كما في حديث الباب
تنبيه :
ضعف ابن مفلح في الفروع حديث "ولو جرعة من ماء" و قال :
" فَيَتَوَجه أَنْ يُخَرَّجَ الْقَوْلُ بِهَذَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِل اهـ
الثانية :
يكره الجماع مع الشك في طلوع الفجر الثاني لأنه ينافي التقوي .
الثالثة :
أنه لا يجب إمساك جزء من الليل من أوله وآخره وهو ظاهر كلام جماعة وذكر ابن الجوزي أنه أصح الوجهين
والوجه الثاني : يجب وهو قول مبني على الخلاف في مقدمة الواجب
الرابعة :
في رواية النسائي وابن حبان ولفظهما (عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أنس إني أريد الصيام، أطعمني شيئا ). فجئته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعدما أذن بلال. قال: يا أنس انظر رجلا يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة) زاد النسائي (فدعوت زيد بن ثابت فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي شَرِبْتُ شربة سويق )
فيها : تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة وجواز المشي بالليل للحاجة لأن زيد لم يكن يبيت مع رسول الله ﷺ
وفيها : الاجتماع على السحور وعليه ترجم النسائي : (دعوة السحور) وروى فيه حديث العرباض بن سارية سمعت رسول الله ﷺ وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان وقال : (هلموا إلى الغداء المبارك)
وفيها: حسن الأدب في العبارة لقوله : تسحرنا مع رسول الله ﷺ " ولم يقل ونحن ورسول الله ﷺ لما يشعر لفظ المعية بالتبعية .
وفيها : أن صيامه ﷺ كان نافلة لقوله ﷺ ( إني أريد الصيام ) والفرض لا يحتاج إلى تعليل
وفيها : أن حكم الأذانين ليس خاصا في رمضان كما ادعى ابن القطان
وفيها : بيان مقدار الزمن بين الأذانين وهو مجموع أول الأكل إلى قبل الدخول في الصلاة


٦- قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن حذيفة )
أخرجه الطحاوي في شرح الآثار من رواية زر بن حبيش قال : تسحرت ثم انطلقت إلى المسجد فمررت بمنزل حذيفة فدخلت عليه فأمر بلقحة فحلبت بقدر فسخنت ، ثم قال : كل ، قلت إني أريد الصوم ، قال وأنا أريد الصوم قال : فأكلنا ثم شربنا ثم أتينا المسجد فأقيمت الصلاة قال : هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت بعد الصبح قال بعد الصبح غير أن الشمس لم تطلع ، وأخرجه النسائي وأحمد " اهـ
قلت :وظاهر هذا يقتضي التعارض مع حديث زيد ففيه أنه ﷺ فرغ من سحوره قبل الدخول في الصلاة بقدر قراءة خمسين آية
والجمع :
قال ابن حجر في الفتح:
"وادعى الطحاوي والداودي أنه من باب النسخ ، وأن الحكم كان أولا على ظاهره المفهوم من الخيطين ، واستدل على ذلك بما نقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار ، قال : ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى : من الفجر . قلت : ويؤيده ما رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات : أن بلالا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتسحر فقال : الصلاة يا رسول الله ، قد والله أصبحت . فقال : يرحم الله بلالا ، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس " اهـ
وقيل : لا معارضة بل يحمل على اختلاف الحال ، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة
وعلى هذا تكون حال حديث حذيفة قبل النسخ ، وقيل : بل حديثه محكم وهو دليل على جواز الأكل بعد الفجر حتى ينتشر البياض في السكك والبيوت والطرقات وأنه هو المراد بالتبين وفي ذلك خلاف يأتي في الباب التالي بإذن الله تعالى .

٧- قوله : ( حديث زيد بن ثابت حديث حسن صحيح وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ : اسْتَحَبُّوا تَأْخِيرَ السُّحُورِ.)
أخرجه الشيخان واستحباب تأخير السحور محل إجماع .

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الْفَجْرِ)
١- بعد أن ذكر الترمذي سنية تأخير السحور أتى بهذا الباب ليبين الوقت الذي يجب الإمساك بدخوله فروى تحته حديثين وأشار بقوله وفي الباب إلى ثلاثة أحاديث واستدل بها على وجوب الإمساك بطلوع الفجر الثاني وهذا مذهب الجمهور والأئمة الأربعة وعليه المعتمد
وقال الأعمش وصاحبه أبو بكر بن عياش يجب الإمساك باتضاح الفجر ويكون ذلك بانتشار البياض في السكك والطرقات والبيوت وهو مروي عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة رضي الله عنهم رواه ابن المنذر وغيره وحكاه ابن حزم عن أحد عشر من الصحابة ونفى وجود المخالف والراجح الأول والله أعلم ودليله أحاديث الباب وهي مفسرة لقول الله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
فقوله تعالى : ( من الفجر ) للتبيين كأنه قيل : الخيط الأبيض الذي هو الفجر الثاني فيكون المراد بالخيط الأبيض النهار وأوله طلوع الفجر قال سهل بن سعد : (فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ : { مِنَ الْفَجْرِ } ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) متفق عليه
وقيل : ( من الفجر )تبعيضية فيكون المراد بالخيط الأبيض بياض النهار وهو أول الفجر وسمي خيطا، لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط والخيط في كلامهم عبارة عن اللون والخيط الأسود سواد الليل قال ﷺ في معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود: ( إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ ) متفق عليه والقولان متوافقان ومعناهما هنا واحد وبالأول حكم بأن الفجر من النهار
والثالث : ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس، وجاء نحوه عن علي وابن مسعود . روى زر بن حبيش عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل، قال: قلت بعد الصبح؟ قال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس) وسبق ذكره في الباب السابق ودليله هنا حديث طلق بن علي على أحد تفسيريه ومراد قال ابن العربي : وهو مذهبه ومذهب ابنه اهـ ومذهب أبي بكر وحذيفة رضي الله عنهم ، وهذا القول مرجوح مردود بأحاديث الباب ومعارض بقول حفصة وعائشة: " من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له "

٢-استدل الترمذي بحديث طلق بن علي وقال : (حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ)
قلت : فيه عبدالله بن النعمان مقبول ، وفيه قيس بن طلق مختلف فيه وثقه العجلي وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : صدق وقال القرطبي في التفسير : (قال الدّارقطنيّ: (قيس بن طلق) ليس بالقوِيّ. وقال أبو داود: هذا مما تفرّد به أهل اليمامة) اهـ ومعنى حديثه ظهور الحمرة بعد طلوع البياض المعترض فيكون الإمساك بعد طلوع البياض المعترض المنتشر حتى يراه أحمر هذا قول في معنى الحمرة ، والقول الثاني أن معنى الفجر الأحمر كمعنى حديث عدي وأبي ذر وسمرة وهذا ظاهر استعماله وإشارته إلى هذه الأحاديث بقوله وفي الباب
قال في تحفة الأحوذي :
أما حديث عدي بن حاتم فأخرجه الشيخان وأخرجه أيضا الترمذي في كتاب التفسير
وأما حديث أبي ذر فأخرجه الطحاوي في شرح الآثار بلفظ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال : " إنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعا وليس ذلك الصبح إنما الصبح هكذا معترضا " كذا في نصب الراية .
وأما حديث سمرة فأخرجه مسلم مرفوعا بلفظ : " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " يعني معترضا وفي رواية : " ولا هذا البياض حتى يستطير " ، وأخرجه الترمذي في هذا الباب ) اهـ
وروى البخاري عن ابن عمر قال رسول الله ﷺ : (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)
ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعا " الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولكن المستطير " أي: هو الذي يحرم الطعام ويحل الصلاة، وهذا موافق للآية

٣-قوله : ( ولا يَهِيدَنكم ) بفتح أوله وبالدال وكسر الهاء ، من هاده يهيده هيدا وهو الزجر ، والمعنى: ( لا يزعجنكم )
( الساطع المصعد ) بصيغة المفعول من الإصعاد أي المرتفع .
قال في تحفة الأحوذي :
( قال في المجمع : أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور فإنه الصبح الكاذب ، وأصل الهيد الحركة اهـ... قال الخطابي : سطوعه ارتفاعه مصعدا قبل أن يعترض ، قال ومعنى الأحمر هاهنا أن يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة . انتهى ما في العمدة ) اهـ قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: وظاهره أن يأكل المرء وإن ظهر الأبيض المستطير المنتشر عرضا حتى يراه أحمر
والجمع بين الأحاديث أن حديث طلق بن علي موافق للأحاديث معنًى ولا تعارض
وعلى المعنى الثاني قالوا هو منسوخ وبه قال الطحاوي والداودي وابن العربي في عارضة الأحوذي
وقال آخرون بالترجيح فقدم الأصح وعند قوم لا تعارض لعدم صحة المعارض

٤- قال الترمذي : (وَفِي الْبَابِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَمُرَةَ. حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ حَتَّى يَكُونَ الْفَجْرُ الْأَحْمَرُ الْمُعْتَرِضُ. وَبِهِ يَقُولُ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ)
قوله هذا يدل على أنه يفسر الفجر الأحمر المعترض بالصبح الصادق .


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْغِيبَةِ لِلصَّائِمِ)

١- الغيبة محرمة ، وهي في حق الصائم أشد تحريما ؛ لما يترتب عليها من نقص الثواب ؛ لمخالفتها الحكمة من تشريع الصيام ، ولهذا المعنى ذكر الترمذي لفظ التشديد ولم يقل ( باب ما جاء في تحريم الغيبة للصائم ) لأنها حرام في حقه وحق غيره وهي في حقه أشد ويدل على هذين المعنيين الحديث الذي رواه تحت هذا الباب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " أخرجه الجماعة إلا مسلما والنسائي زاد البخاري (والجهل) قال الحافظ في الفتح :
(قال شيخنا يعني العراقي في شرح الترمذي : لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم وهو مشكل لأن الغيبة ليست قول الزور ولا العمل به لأنها أن يذكر غيره بما يكره ، وقول الزور هو الكذب ، وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة وذكروا هذا الحديث ، وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق ، ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل ، فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي . وأما قوله " والعمل به " فيعود على الزور ، ويحتمل أن يعود أيضا على الجهل أي والعمل بكل منهما ) اهـ

٢-ليس في التبويب والحديث ما يدل على أن الغيبة تفطر وغاية ما فيه نقصان الثواب بها ومعناه : الزجر والتحذير ، لم يأمر مَنْ اغْتَابَ بِتَرْكِ صِيَامِهِ، فهو كقوله ﷺ ( من باع خمرا فليشقِّص الخنازير ) ، وَالنَّهْيُ عنه لِيَسْلَمَ مِنْ نَقْصِ الْأَجْرِ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدْ يُكْثِرُ فَيَزِيدُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ وَقَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَتَسَاوَيَانِ ، قَالَ تقي الدين ابن تيمية : هَذَا مما لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ.
وَأَسْقَطَ أَبُو الْفَرَجِ ثوابه بالغيبة ونحوها، ومراده ما سَبَقَ، وَإِلَّا فَضَعِيفٌ .
وقيل : هي من المفطرات روي عن أنس وذكره تقي الدين وجها ، وما استدلوا به فضعيف أو ظن لا يرفع اليقين وفي رواية: يفطر بسماع الغيبة ، وروي عن النخعي يفطر بالكذب .
وقيل : من شاتم فسد صومه لظاهر النهي ، ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ أَنَّ صَاحِبَ الْحِلْيَةِ ذَكَرَه عن الْأَوْزَاعِيِّ وعنه يفطر بالغيبة
وقيل : يفطر بكل معصية وقد ذكره ابن مفلح احتمالا وهو قول ابن حزم سواء كانت قولا أو فعلا
والصواب الأول وهو قول الجمهور
وعمدة الباب : أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، وَظَاهِرُهُ صِحَّتُهُ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ
فرع:
قال ابن مفلح في الفروع:
( قَالَ الْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يُسَنُّ لَهُ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالصَّدَقَةِ, وَكَفُّ لِسَانِهِ عَمَّا يُكْرَهُ, وَيَجِبُ كَفُّهُ عَمَّا يَحْرُمُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ "ع" وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ قَوْلَ النَّخَعِيِّ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ فِي غَيْرِهِ, وَذَكَرَهُ الْآجُرِّيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ) اهـ
فرع :
قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيُسَنُّ لِمَنْ شُتِمَ أَنْ يَقُولَ إنِّي صَائِمٌ, قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: يَقُولُهُ مَعَ نَفْسِهِ، يَعْنِي يَزْجُرُ نَفْسَهُ وَلَا يُطْلِعُ النَّاسَ عَلَيْهِ لِلرِّيَاءِ. وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَإِلَّا جَهَرَ بِهِ، لِلْأَمْنِ مِنْ الرِّيَاءِ، وَفِيهِ زَجْرُ مَنْ يُشَاتِمُهُ بِتَنْبِيهِهِ عَلَى حُرْمَةِ الْوَقْتِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ شَيْخُنَا لَنَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: هَذَيْنِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ يَجْهَرُ بِهِ مُطْلَقًا "م لِأَنَّ الْقَوْلَ "الْمُطْلَقَ" بِاللِّسَانِ ، وَاَللَّهُ "سُبْحَانَهُ" أَعْلَمُ."اهـ وهو ظاهر المنتهى والروض المربع وقول المجد قال به في الإقناع .
تنبيه : رواية الأعرج وهمام عن أبي هريرة بتكرار إني صائم مرتين وعن أبي صالح الزيات عن أبي هريرة مرة

٣- قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن أنس )
أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ : " من لم يدع الخنا والكذب " ، ورجاله ثقات ، قاله الحافظ في الفتح اهـ

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي فَضْلِ السُّحُورِ)
١- السحور مستحب بالإجماع حكاه ابن المنذر وقال ابن قدامة في المغني : "ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا " اهـ
لحديث الباب وصارف الأمر عن الوجوب وصال النبي ﷺ بأصحابه وقوله ﷺ في الحديث ( فإن في السحور بركة ) وطلب البركة ليس بواجب
٢- أخرج الترمذي في هذا الباب حديثين : حديث أنس بن مالك وحديث عمرو بن العاص وشاهد حديث أنس
قوله ﷺ ( فإن في السحور بركة ) وقد جاء بيان البركة في الأحاديث الأخرى وهو دال على معناها بالتضمن ولذا صدره الترمذي وأشار إلى غيره بقوله ( وفي الباب) وفيها دلالة على معنى بركة السحور
قال ابن حجر في الفتح :
والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي : اتباع السنة ، ومخالفة أهل الكتاب ، والتقوي به على العبادة ، والزيادة في النشاط ، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع ، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك ، أو يجتمع معه الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة ، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام ) اهـ
اتباع السنة فظاهر قولا وعملا ، وأما مخالفة أهل الكتاب ففي حديث عمرو بن العاص وأما التقوي فبحديث العرباض فقد سماه ﷺ الغداء المبارك وأما النشاط ودفع سوء الخلق فبتسببه بالقيام في السحر والذكر والدعاء وحل عقد الشيطان
وأما التصدق فبدعوته ﷺ للسحور كما في حديث أنس السابق وحديث العرباض هنا إلى آخر ما في ذلك من الخير
وهذا يبين لنا حصول البركة به بالفعل أجرا وبما يؤكل تقوية وتنشيطا ولهذا قال ابن حجر( السحور ) هو بالفتح والضم

٣- قوله ﷺ : ( فإن في السحور ) الأكثر على فتح السين وقيل الصواب ضمها وقال ابن حجر هو بفتح السين وضمها
قال في الفتح:
" هو بفتح السين وبضمها ؛ لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم ؛ لأنه مصدر بمعنى التسحر ، أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح ؛ لأنه ما يتسحر به"اهـ

مسألة : معتمد الحنابلة أن فَضِيلَة السَّحُورِ تحصل بِشُرْبٍ لِحَدِيثِ «وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ» ، ويَحْصُلُ كَمَال فَضِيلَةِ السَّحُورِ بِأَكْلٍ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ "إنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا والأفضل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمْرٍ لِحَدِيثِ «نِعْمَ سَحُورِ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ولفعله ﷺ كما في حديث في حديث أنس السابق في وقت السحور
تنبيه : ضعف ابن مفلح في الفروع حديث "جرعة من ماء" و قال : "فَيَتَوَجَّه أَنْ يُخَرَّجَ الْقَوْلُ بِهَذَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ"اه
فإن قيل:كيف تحصل بركة التقوي بجرعة من ماء؟ قلنا: ذلك يكون بالخاصية كما بورك في الثريد والاجتماع على الطعام
مسألة : يكره الجماع مع الشك في طلوع الفجر الثاني لأنه ينافي التقوي المقصود من السحور

٤-قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس وعمرو بن العاص والعرباض بن سارية وعتبة بن عبد وأبي الدرداء )
أما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وابن حبان عنه مرفوعا : " نعم سحور المؤمن التمر " .
وأما حديث عبد الله بن مسعود وحديث جابر فلينظر من أخرجهما .
وأما حديث ابن عباس فأخرجه البزار والطبراني في الكبير عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله تعالى إذا كان حلالا : الصائم والمتسحر والمرابط في سبيل الله " .
وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه الترمذي في هذا الباب .
وأما حديث العرباض بن سارية فأخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما . قال المنذري : رووه كلهم عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض ، والحارث لم يرو عنه غير يونس بن سيف وقال أبو عمر النمري مجهول يروي عن أبي رهم حديثه منكر انتهى .
وأما حديث عتبة بن عبد فلينظر من أخرجه
وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه ابن حبان في صحيحه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الغداء المبارك " يعني السحور ) اهـ

٥-قال في تحفة الأحوذي :
قوله : ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب ) ما زائدة أضيف إليها الفصل بمعنى الفرق
( أكلة السحر ) قال النووي : بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة وإن كثر المأكول فيها . وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة الواحدة ، وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم ولعله أراد رواية بلادهم فيها بالضم قال والصواب الفتح لأنه المقصود هنا انتهى كلام النووي . قال التوربشتي : والمعنى أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحه لنا إلى الصبح بعدما كان حراما علينا أيضا في بدء الإسلام ، وحرمه عليهم بعد أن يناموا أو مطلقا ، ومخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة ، فقول ابن الهمام إنه من سنن المرسلين غير صحيح ، كذا في المرقاة .
قوله : ( وهذا حديث حسن صحيح ) أخرجه مسلم .

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ)
(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي السَّفَرِ)
١- في الباب الأول روى الترمذي حديث ( أولئك العصاة ) وذكر حديث ( ليس من البر الصيام في السفر ) وقال : وَفِي الْبَابِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" اهـ
وفي الباب الثاني روى حديث عائشة قول النبي ﷺ لحمزة بن عمرو الأسلمي : ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )
وقال : وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ. حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" اهـ
وروى حديث أبي سعيد في ترك العيب على الصائم في السفر وعلى المفطر ، وحديثه أنهم كانوا يصومون في السفر مع رسول الله ﷺ ويفطرون

٢-هذان البابان لمسألة واحدة وهي : حكم صوم رمضان في السفر ، وأيهما أفضل الصوم أم الفطر ؟ أقوال :
قال قوم : لا يجزئ صوم الفرض في السفر وهذا قول بعض أهل الظاهر ومحكي عن بعض الصحابة واستدلوا بأحاديث الباب الأول والآية { فعدة من أيام أخر}
وقال آخرون : الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو معتمد مذهب الحنابلة وقالوا: يكره الصوم وهو من مفردات المذهب واستدلوا بأحاديث الباب الأول وأحاديث الرخصة
وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة : إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه لأفضلية العبادة والوقت
وقيل : هو مخير مطلقا وهو مردود لأن التسوية ممتنعة لأن ذلك ليس من شأن العبادة لأنها إما أن تكون راجحة أو مرجوحة
وقيل : أفضلهما أيسرهما للآية { يريد الله بكم اليسر } وهو قول عمر بن عبدالعزيز واختياره ابن المنذر
قال ابن حجر في الفتح :
والذي يترجح قول الجمهور ، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به ، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما في المسح على الخفين " اهـ وذكر أيضا إذا خاف على نفسه العجب والريا أو كان ممن يُقتدى به فالأفضل الفطر لفضيلة البيان، وفي حديث أبي سعيد تفضيل الفطر عند الدنو من العدو والوجوب عند تأكد اللقاء، وفي حديث أنس فضيلة الفطر في الغزو إذا احتيج إلى خدمة الصوام بعمل لا يطيقه الصائم، فهذه سبع صور ست منها الفطر فيها أفضل وصورة الفطر فيها واجب .
حمل الجمهور حديث : ليس من البر إلخ ، على من تضرر بالصوم وشق عليه ، وليس هذا من تخصيص عموم اللفظ بسببه فالتخصيص هنا بدلالة القرآئن والسياق والأدلة الأخرى الدالة على إرادة التخصيص بالسبب
وحملوا أيضا على هذا المعنى حديث (أولئك العصاة) ، وحمله آخرون : على الإعراض عن قبول الرخصة وهو أظهر
وأما حديث ( هي رخصة من الله ) والأخذ بالرخصة أفضل لما روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ ) فلا يستقيم الاستدال به حتى يثبت استحباب الرخصة مطلقا وليست كذلك فالفطر في السفر رخصة
ويكون واجبا مع عدم إطاقة الصيام ويكون مستحبا مع المشقة الشديدة ويكون مباحا مع تساوي الأمرين والتفضيل حينئذ بحسب ذات الشيء والمرجح الخارجي
فإن قيل : هي مستحبة عندنا مطلقا والوجوب لأجل أمر خارج وأما الإباحة فلا نوافقكم بقولها
قلنا : الرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها وهي هنا كانت مع وجود المشقة الفادحة وهي التي ثبت لأجلها حكم الفطر في السفر ولكن علقت علة السفر بالسفر لا بها لعدم ظهورها وانضباطها ولذا نقول : إن لم تحصل المشقة الفادحة فالصيام أفضل اغتناما لفضيلة الشهر ومسارعة في الخير و إبراء الذمة ويدل عليه صيامه ﷺ في السفر فدل ذلك على مرادنا والله أعلم
وعليه نقول :
الصوم أفضل عند استواء الأمرين
فإن كان الفطر أرفق به فهو أفضل
وإن كان تركه شاق عليه وهو يطيق الصوم فالصوم مكروه في حقه لأن تركه يشعر بعدوله عن الرخصة
فإن كان لايطيق الصوم فقد وقع في المحرم
وبهذا تجتمع الأدلة والله أعلم
تنبيه :
روى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "وسنده ضعيف
وأخرجه الطبري عن عائشة وفيه ابن لهيعة، وأخرجه النسائي موقوفا عن أبي سلمة عن أبيه عبدالرحمن بن عوف وهو منقطع لم يسمع من أبيه قال ابن حجر في الفتح : ( وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولا ، حيث يكون الفطر أولى من الصوم والله أعلم ) اهـ
وروى أبو داود عن سلمة بن المحبق الهذلي قال قال رسول الله ﷺ ( من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه) وفيه : عبدالصمد بن حبيب بن عبدالله الأزدي، قال البخاري : (عبدالصمد بن حبيب منكر الحديث ذاهب الحديث ولم يعد هذا الحديث شيئا) اهـ وذكر العقيلي هذا الحديث وقال : (لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به ) اهـ

٣- حديث جابر في مسلم ( أولئك العصاة ) وحديثه فيهما (ليس من البر) وحديث ابن عباس في الصحيحين (سافر رسول الله ﷺ في رمضان حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء ) وحديث أبي سعيد المتفق عليه (فلم يعب الصائم ) كلها كانت في غزوة الفتح في رمضان وكذلك حديثه عند مسلم (ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله ﷺ بعد ذلك في السفر ) وهذا بيان للأحاديث كلها وفيه الجواب على قول الزهري : "وكان صحابة رسول الله ﷺ يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " اهـ إلا أن يحمل قوله على الاستحباب وحمله عليه مخالف للمحكي عنه من وجوب الفطر إن صح النقل
وفيه بيان سبب الاختلاف في أحاديث الصيام في السفر وأن ذلك بحسب اختلاف الحال والله أعلم .

٤- قوله : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ) : لليلتين خلتا من شهر رمضان
ودخل مكة في أول النصف الأوسط ( الثاني عشر أو قبله) ومكث في مكة تسعة عشر يوما
قال ابن حجر في فتح الباري :
"لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة، ثم سافر في أثنائه" اهـ
وفي هذا مسائل :
الأولى :
قال ابن قدامة في المغني :
"أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر ، فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له"اهـ
الثانية :
من استهل عليه رمضان وهو في الحضر ثم سافر في أثناء الشهر فله الفطر ولا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر عند أكثر أهل العلم قال ابن حجر في الفتح:
"واستدل به على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز" اهـ
وهذا معتمد مذهب الحنابلة
الثالثة :
قال ابن حجر في الفتح :
واستدل به على أن للمرء أن يفطر، ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما في السفر فله أن يفطر في أثناء النهار، وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية"اهـ من غير كراهة وهو معتمد الحنابلة خلافا لمالك
الرابعة :
وهي فرع الثالثة قال ابن حجر في الفتح :
" فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور " اهـ وعن الإمام أحمد روايتان والمذهب يجوز له الفطر والأفضل عدمه
ووجه الدلالة بهذا الحديث أن النبي ﷺ لم يتم الصوم بعد الشروع فيه لعذر السفر فكذلك من شرع فيه في الحضر ثم سافر فله الفطر ولا فرق بينهما فكلاهما قد استقر الوجوب في حقه ، فإن قالوا : أن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر ، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر ، كالصلاة ، قلنا : هذا يقال عند عدم الدليل المميز بينهما وقد وجد وجاء ما يؤيده من فعل الصحابة .
الخامسة :
سفر النبي ﷺ في هذا الحديث كان للجهاد وهكذا أسفاره ﷺ بعد بعثته لم تكن إلا لجهاد أو حج أو عمرة
فهل يجوز الترخص برخص السفر في سفر التنزه ونحوه ؟
قال ابن قدامة في المغني :
وفي سفر التنزه والتفرج روايتان: إحداهما: تبيح الترخيص، وهذا ظاهر كلام الخرقي، لأنه سفر مباح، فدخل في عموم النصوص المذكورة، وقياسا على سفر التجارة
والثانية: لا يترخص فيه. قال أحمد: إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة، فإنه لا يقصر الصلاة، لأنه إنما شرع إعانة على تحصيل المصلحة ولا مصلحة في هذا" اهـ
قلت : ومعتمد المذهب الرواية الأولى .
فرع :
هل يجوز الترخص برخص السفر في السفر المحرم ؟
قال ابن تيمية في الفتاوى :
وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لا يقصر فيه
وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا يقصر في جنس الأسفار وهو قول ابن حزم وغيره
وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما : يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرما كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم " اهـ
السادسة :
متى يجوز الفطر للمسافر ؟
قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها اهـ قال ابن عبدالبر في الاستذكار : " وقد أجمعوا أنه لو مشى في سفره حتى تغيب بيوت القرية والمصر ، فنزل ، فأكل ، ثم عاقه عائق عن النهوض في ذلك السفر - لم تلزمه كفارة اهـ
وقيل : النية الجازمة والتأهب للسفر يكفي في إباحة الفطر وهو ظاهر فعل أنس بن مالك وقال هذه السنة
وقال الحسن : يفطر في بيته يوم يريد أن يخرج
وقال ابن راهويه : يفطر إذا وضع رجله في الرحل
السابعة :
في المتفق عليه عن ابن عباس قال : ( ثم أفطر حتى دخل مكة )
وفي رواية البخاري عن الزهري عن عبيدالله عن ابن عباس :( فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر )
وروى البخاري في المغازي من طريق الزهري عن عبيدالله عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة تسعة عشر يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْن "
فيه أن الفطر والقصر جائزان للمسافر حتى وإن كان نازلا .

٥- عند مسلم من حديث جابر : ( ثم دعا بقدح من ماء فرفعه )
ومن طريق عبدالعزيز الدرواوردي به عن جابر ( فدعا بقدح من ماء بعد العصر )
وكان ذلك في (عسفان) وفي رواية (كراع الغميم) وأخرى (الكَدِيد)
وعسفان: قرية جامعة ، والكديد: عين جارية تبعد عن المدينة سبع مراحل وعن مكة قريب المرحلتين وهي أقرب للمدينة من عسفان
وكراع الغميم : كراع جبل أسود والغَمِيم وادي على نحو ثمانية أميال عن عسفان
سميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها ، وإن كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع ، لكنها كلها مضافة إليها ، ومن عملها ، فاشتمل اسم عسفان عليها


٦-حديث عائشة : ) أأصوم في السفر؟... إلخ ) :
قال ابن حجر في الفتح :
"قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر
قلت: وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مُراوح التي ذكرتها عند مسلم أنه قال : يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب " اهـ
* قوله ( فقال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )
قال النووي : فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان اهـ
* سبب سؤال حمزة بن عمرو الأسلمي في هذا الحديث إما أن يكون بعد حديث ( ليس من البر أن تصوموا في السفر )
أو يكون بسبب فهمه عدم الإضمار في قوله تعالى { أو على سفر فعدة من أيام أخر }
وفي كل حصل البيان بسبب هذا السؤال ففي الأول : التخيير
وفي الآية : بيان الإضمار خلاف لمن قال إن سافر في رمضان قضاه صامه أو أفطره وقد نقل الموفق في المغني أنه قد روي عن أبي هريرة وقال : قال أحمد : كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وقد سبق عزو هذا القول إلى أهل الظاهر والراجح قول الجمهور والله أعلم
تنبيه :
قال ابن حجر في الفتح :
تنبيه ) : أوهم كلام صاحب " العمدة " أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : عليكم برخصة الله التي رخص لكم " مما أخرجه مسلم بشرطه ، وليس كذلك ، وإنما هي بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدم بيانه ، نعم ، وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده ، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصم الأشعري كما تقدم " اهـ
ورواها النسائي من طريق وكيع الكوفي عن علي بن المبارك عن يحيى عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن جابر
قال ابن حجر عن علي بن المبارك:
" ثقة ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان : أحدهما سماع والأخر إرسال ، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء " اهـ

٧- حديث أبي الدرداء
قال ابن حجر في الفتح :
قَوْلُهُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ الْحَدِيثَ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتِمُّ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَيَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِهَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا وَقَدْ كُنْتُ ظَنَنْتُ أَنَّ هَذِهِ السَّفْرَةَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ لَمَّا رَأَيْتُ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرَجِ فِي الْحَرِّ وَهُوَ يُصَبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءُ وَهُوَ صَائِمٌ مِنَ الْعَطَشِ وَمِنَ الْحَرِّ فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَزَاةَ الْفَتْحِ كَانَتْ فِي أَيَّامِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَقَدِ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ السّفْرَتَيْنِ كَانَ فِي رَمَضَانَ لَكِنَّنِي رَجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ اسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدِ اسْتَثْنَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي هَذِهِ السُّفْرَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ سَفْرَةً أُخْرَى وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سِيَاقِ أَحَادِيثِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَمَرُّوا مِنَ الصَّحَابَةِ صِيَامًا كَانُوا جَمَاعَةً وَفِي هَذَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَحْدَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ الْحَدِيثَ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى بَدْرٍ لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَسْلَمَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهِيَةَ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ مشقة شَدِيدَة " اهـ
* فيه صيام النبي ﷺ في السفر في رمضان وفيه إقراره ﷺ فطر من أفطر مما يدل على أن الرخصة للإباحة في حق من لا يشق عليه الصيام وسنة في حق من يشق عليه وواجبة في حق من لا يطيقه
* فيه ترك العيب على الصائم والمفطر حتى مع وجود الحر الشديد الذي هو مظنة العطش والتعب ولذا فليس لأحد تحقيق مناط الاستحباب في غيره وإنما كلٌ أعلم بنفسه وعليه فالسنة ترك الإرشاد والسؤال العيني كما هو ظاهر الحديث مالم يظهر أثر المشقة في غيره فيستحب له حينئذ الفطر والأمر به إن كان ممن يقتدى به ولو لم يشق عليه الصيام والله أعلم

٨-زاد مسلم في حديث أبي سعيد من طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد وفيه (فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً، فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا، فَأَفْطَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ) وهذا النقل منه عن الصحابة هو التفصيل المختار وهو سبب ترك العيب لأن الاستحباب في هذا الموطن متعلق بالحال فإن استويا فالفطر مباح ولا عيب فيه وإنما العيب على من ترك الفطر مع المشقة ، والإثم مع عدم الإطاقة . والله أعلم

٩- ذكر الترمذي حديث ترك العيب على الصائم والمفطر في السفر من حديث أبي سعيد وفي حديث أنس في الصحيحين بيان أن المفطرين قاموا بخدمة الصائمين وسبب إيراد ذلك لدفع الإيهام الذي قد يحصل في حق من يصوم والحال هذه وبه تعلم أن السنة ترك العيب على الصائم حتى ولو كان الصوم مانعا له عن العمل ومكارم الأخلاق كخدمته الأصحاب ونحو ذلك وأن صومه والحال هذه لا يستحق عتبا ولا عيبا وكلاهما مأجور لكن الفطر حينئذ أفضل لأنه أكثر أجرا لحديث ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) وحمل ابن أبي صفرة هذه الحال على الخدمة في الجهاد والحال يقتضيها

وفي حديث أبي سعيد عند مسلم تفضيل الفطر في السفر إذا دنا من لقاء العدو ووجوبه عند تأكد اللقاء وفي الحضر روايتان عن أحمد معتمد المذهب ليس له الفطر واختار شيخ الإسلام وابن القيم الفطر وهو اختيار ابن مفلح في الفروع

١٠- استدل جمع من أهل العلم بحديث ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) ونحوه على أن العمل المعتدي خير من العمل القاصر وجعلها قاعدة مطردة ، واعترض آخرون وجعل الحكم للنص والمصلحة الراجحة ولا تفضيل عند عدمهما
وقال آخرون : هي قاعدة أغلبية فجعلوا الأصل تقديم المتعدي إلا عند وجود مصلحة راجحة أو نص يقدم العمل القاصر

١١- حديث ( ليس من البر أن تصوموا في السفر ) رواه الشيخان عن جابر ورواه أحمد والنسائي عنه وعن كعب بن عاصم الأشعري ورواه ابن ماجة عن ابن عمر .
قال ابن حجر في الفتح :
قوله )كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ) تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أنها غزوة الفتح ، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير عن جابر " سافرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان " فذكر نحوه " اهـ وقيل : في تبوك كما رواه الشافعي
قال ابن حجر في الفتح : ( ولم أقف على اسم هذا الرجل ) اهـ ونفى أن يكون أبا إسرائيل وغلَّط من قال ذلك
وقال :
وقال ابن دقيق العيد : أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب ، فينزل قوله : ليس من البر الصوم في السفر على مثل هذه الحالة " اهـ

١٢- فرع : قال ابن قدامة في الكافي : " من لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة :
أحدهما : الحامل والمرض إذا خافتا على ولديهما ... أو على أنفسهما ...
الثاني : الحائض والنفساء لهما الفطر ولا يصح منهما الصيام ...
الثالث : المريض له الفطر وعليه القضاء ... والمبيح للفطر ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه فأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والأصبع ونحوه فلا يبيح الفطر ...
الرابع : السفر الطويل المباح يبيح الفطر للآية ... ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ... "اهـ
قلت : وقوله المباح سبق ذكر الخلاف فيه في باب الرخصة في الفطر في السفر والله الموفق


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ لِلْمُحَارِبِ فِي الإِفْطَارِ)

١- روى الترمذي حديث عمر وفيه ابن لهيعة وذكر حديث أبي سعيد وحديث أبي سعيد رواه مسلم ولفظه (سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام ، فنزلنا منزل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ، فكانت رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر ، فنزلنا منزلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا ، فكانت عزيمة فأفطرنا . ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر )
وهو عمدة الباب

٢-قوله( باب ما جاء في الرخصة للمحارب في الإفطار ) ظاهره حمل ما ورد على الرخصة للمحارب في الحضر والسفر قال الترمذي : (وَبِهِ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْم) اهـ وهي رواية عن أحمد اختارها تقي الدين ابن تيمية وابن القيم في الزاد وابن مفلح في الفروع فلو أحاط العدو ببلدهم والصوم يضعفهم عن قتاله جاز لهم الفطر للتقوي وصوبه في الإنصاف والرواية الثانية : لا يجوز لهم الفطر وهي معتمد المذهب والراجح الأول والله أعلم
قال في المنتقى شرح موطأ الإمام مالك :
قَوْلُهُ : (تَقْوَوْا لِعَدُوِّكُمْ) فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فِطْرِهِمْ . . . وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ السَّفَرَ لَمَا عَلَّلَ بِالتَّقَوِّي لِلْعَدُوِّ وَلَعَلَّلَ بِالسَّفَرِ اهـ
قال ابن القيم في زاد المعاد :
ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر ، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة ، فإنها أحق بجوازه ، لأن القوة هناك تختص بالمسافر ، والقوة هنا له وللمسلمين ، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر ، ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر ، ولأن الله تعالى قال: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة . . . ولأن النبي قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: )إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، وكانت رخصة . ثم نزلوا منزلا آخر ، فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزمة فأفطرنا ) فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو ، وهذا سبب آخر غير السفر ، والسفر مستقل بنفسه ، ولم يذكره في تعليله ولا أشار إليه ... ) اهـ

٣-قوله : ( حديث عمر لا نعرفه إلا من هذا الوجه )
وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف
والثابت عن النبي ﷺ أنه سافر في رمضان في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وجاء ما يدل على أنه ﷺ سافر في غير هاتين السفرتين كما في حديث أبي الدرداء السابق والله أعلم .


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْإِفْطَارِ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ)
١-روى الترمذي في هذا الباب حديث أنس بن مالك الكعبي وفيه وَضْعُ الصيام عن الحامل والمرضع كما وضع الله عن المسافر الصيام وركعتين من الأربع
والحديث دليل على جواز فطر الحامل إذا خافت على الجنين والمرضع على الرضيع ولا خلاف في ذلك قال الشوكاني في النيل : ( يجوز للحبلى والمرضع الإفطار ، وقد ذهب إلى ذلك العترة والفقهاء إذا حافت المرضعة على الرضيع والحامل على الجنين ، وقالوا إنها تفطر حتما. قال أبو طالب : ولا خلاف في الجواز ) اهـ

٢- الفطر للحامل والمرضع جائز بلا خلاف إن خافت ضررا على نفسها أو ولدها فإن تحقق حصول الضرر حرم الصوم وأجزأ إن صام وإن لم يتحقق حصوله كره الصوم على معتمد مذهب الحنابلة ، وأما حكم القضاء فقد اختُلف فيه على أقوال :
الأول :
عليهما القضاء فقط وهو مذهب أبي حنيفة وقول مالك في رواية وعزاه الجصاص لعلي رضي الله عنه قال البخاري في صحيحه : (قال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان ) اهـ وهما عندهم كالمريض
والثاني :
عليهما الإطعام فقط روى الدارقطني عن ابن عباس أنه أمر مرضعا له جهدت أن تفطر وتطعم ولا قضاء عليها وسنده صحيح وروى البيهقي في السنن الكبر (٧٨٨٤) عن ابن عمر نحوه ووجهه أنهما كالشيخ والشيخة اللذين لا يستطيعان الصيام وهذا الوجه لا يستقيم حتى نحمل عدم الإطاقة في الآية على حين وقت الفرض لا عدمها حتى الموت إلا قيل له وجه من حيث سبب الفطر فسببه نفس عاجزة من طريق الخلقة كالشيخ الهرم فلم يجب فيه إلا الإطعام
والثالث :
التخيير وهو قول إسحاق ووجه أنهما لا يجتمعان
والرابع :
تطعمان وتقضيان عزاه الجصاص إلى ابن عمر ، قال مجاهد: تفطر وتطعم وتقضي.
والخامس :
التفصيل فإن أفطرت خوفا على نفسها أو على نفسها وجنينها فعليها القضاء فقط وإن أفطرت خوفا على الجنين أو الرضيع فقط فعليها القضاء والإطعام وهو مذهب الشافعي ومعتمد مذهب الحنابلة وقال ابن قدامة في المغني ويروى عن ابن عمر
ووجه القضاء فيمن خافت على نفسها أنها كالمريض ووجه الإطعام فيمن خافت على ولدها فقط أنها ممن يستطيع الصيام فتدخل في وجوب الإطعام لقوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} وَلِأَنَّهُ فِطْرٌ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ فَوَجَبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالشَّيْخِ الْهَرِم ووجه القضاء عموم قوله تعالى { فعدة من آيام أخر } أي فأفطر فعدة من أيام أخر والجواب عمن احتج بالآية الأولى بالإطعام فقط، أن غايتها وجوب الإطعام دون التعرض للقضاء وقد ثبت وجوبه فلزماها
والسادس :
التفريق بين الحامل والمرضع لأن الجنين بعض الحامل فلا يلزمها إلا القضاء كالمريض بخلاف المرضع إذا خافت على ولدها فقط فعليها القضاء والطعام وهو قول الليث ومالك في إحدى الروايتين عنه
والسابع :
لا شيء عليهما وجهه أنهما كالشيخ الهرم وأصلهم فيه أنه لا يجب على الشيخ الهرم القضاء ولا الإطعام وهذا قول ابن حزم

تنبيهات :
الأول :
الإئمة الأربعة يقولون بالقضاء لا خلاف بينهم فيه وهو الصواب وخلافهم في الإطعام إذا كان سببه الخوف على ولدهما فقط والقول بالإطعام مع القضاء أحوط وأرجح ودليلا
الثاني :
"(إِنْ قَبِلَ وَلَدُ الْمُرْضِعَةِ ثَدْيَ غَيْرِهَا وَقَدِرَتْ تَسْتَأْجِرُ لَهُ أَوْ لَهَا) مِنْ الْمَالِ (مَا يُسْتَأْجَرُ مِنْهُ فَعَلَتْ) أَيْ: اسْتَأْجَرَتْ لَهُ (وَلَمْ تُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ." اهـ وظئر كأم قاله في الروض المربع
الثالث:
قدر الإطعام في معتمد المذهب: عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ والمجزئ فيها مد من بر ونصف صاع من غيره وتجزئ هذه الكفارة إلى مسكين واحد جملة وتجب على من يمون الولد أن يطعم عنهما لِأَنَّ الْإِرْفَاقَ لِلْوَلَدِ وَيَجِبُ الْإِطْعَامُ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَالدَّيْنِ، وقدرها عند الشافعي مد مطلقا
الرابع :
بنى الحنابلة عليها مسألة :
"لَوْ وَجَدَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فِي هَلَكَةٍ كَغَرِيقٍ لَزِمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إنْقَاذُهُ) مِنْ الْهَلَكَةِ (وَإِنْ دَخَلَ الْمَاءُ) فِي (حَلْقِهِ لَمْ يُفْطِرْ) كَمَنْ طَارَ إلَى حَلْقِهِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارٌ بِلَا قَصْدٍ.
(وَإِنْ حَصَلَ لَهُ) أَيْ: لِلْمُنْقِذِ (بِسَبَبِ إنْقَاذِهِ ضَعْفٌ فِي نَفْسِهِ، فَأَفْطَرَ فَلَا فِدْيَةَ) عَلَى الْمُنْقِذِ، وَلَا عَلَى الْمُنْقَذِ (كَالْمَرِيضِ) ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي إنْقَاذِهِ إلَى الْفِطْرِ وَجَبَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ."اهـ


٣-قوله : ( وفي الباب عن أبي أمية ) عمرو بن أمية الضَمْري الحجازي الكناني رضي الله عنه
أخرج الحديث النسائي وليس فيه ذكر المرضع والحبلى وتبويب النسائي عليه في وضع الصلاة عن المسافر وذكر

٤-قوله : (حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ) اهـ في سنده أبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي عَدَلَ عنه يحي بن سعيد، وقال عنه النسائي ليس بالقوي، وأدخله الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب ( الضعفاء) ، وقال أبو داود ثقة، وقال ابن طهمان ليس به بأس، وقد سئل الإمام أبو زرعة عن أبي هلال فقال: لين وليس بالقوي، قال الحافظ ابن حبان رحمه الله تعالى: والذي أميل إليه في أبي هلال ترك ما انفرد به من الأخبار التي خالف فيها الثقات والاحتجاج بما وافق الثقات وقبول ما انفرد من الروايات التي لم يخالف بها الإثبات التي ليس فيها مناكير، وأبو هلال يروي هذا الخبر عن عبد الله بن سواده عن أنس وقد غلط في الخبر، ورواه وهيب بن خالد عن عبد الله بن سواده عن أبيه عن أنس، وهذا هو المحفوظ.
والخبر قد رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي هلال عن عبد الله بن سواده عن أنس، ورواه النسائي من طريق وهيب بن خالد عن عبد الله بن سواده عن أبيه عن انس وهذا أصح، ورواه أحمد والنسائي من طريق أبي قلابة عن انس وفي سنده اختلاف.

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ)

١-أي النصوص الواردة في هذا الباب
وهل هي في الصوم عنه مطلقا في الفرض والنفل

قضاء الصيام عن الميت

٥٨٦-(١١٤٧)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :*
" مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صام عنه وَلِيُّهُ "*

الشرح :
١- قوله ( باب قضاء الصيام عن الميت ) أي : ما حكمه ؟*
قال ابن حجر في الفتح (٤/١٩٣)* :
*قوله : ( باب من مات وعليه صوم ) أي : هل يشرع قضاؤه عنه أم لا؟*
وإذا شرع هل يختص بصيام دون صيام أو يعم كل صيام؟*
وهل يتعين الصوم أو يجزئ الإطعام؟*
وهل يختص الولي بذلك أو يصح منه ومن غيره؟*
والخلاف في ذلك مشهور للعلماء كما سنبينه " اهـ
ويحتمل أن يكون المراد بالتبويب : هذا باب في ذكر الأدلة على مشروعية قضاء الصيام عن الميت*
فيدخل في عمومه مشروعية صيام رمضان وصيام النذر عن الميت وإجزاء الصيام عنه من غير وليه وهذا الحكم الأخير دليله تشبيه القضاء بالدين وهو يسقط بقضاء غير الولي فكان الصيام كذلك وهذا الاستدلال يدل على عدم تعين الصيام لأن مستندهما واحد وهو أن الدين*
يجب في تركته لا على الولي وإنما يستحب عليه قضاؤه إذا لم يخلف تركه وفي كل خلاف يأتي ذكره في موطنه بإذن الله تعالى*
تنبيه :*
ليس في التبويب بيان حكم القضاء عمن أخر الصيام لعذر فمات قبل إمكان القضاء ولعل الشيخ استغنى عن ذكره للاتفاق الذي حكاه الخطابي في معالم السنن على عدم وجوب القضاء والحال هذه وهذه عادة التبويب وهو الإشارة إلى الخلاف وقد حكي خلافٌ في ذلك ويأتي ذكره إن شاء الله تعالى*

٢- قوله ( وعن عائشة رضي الله عنها)
هذا الحديث اتفق الشيخان على إخراجه بلفظه ولم يصب من قال لم يتفق الشيخان على إخراجه كابن دقيق العيد في إحكام الأحكام*
ومثله من قال فيه اضطراب كالقرطبي في المفهم*

٣-قوله ( من مات وعليه صيام)*
اللفظ هنا عام في كل صوم وهو كذلك حكما عند الظاهرية والشافعي في القديم وصوبه النووي والبيهقي وحكاه عن أهل الحديث كلهم ، فمن مات وعليه صيام رمضان أو نذر أو كفارة صام عنه وليه وجوبا عند الظاهرية واستحبابا عند النووي ويجزئ الإطعام عنه خلافا للظاهرية ويكون من رأس المال وجوبا وإن لم يوص ، فإن لم يخلف تركة استحب للولي الإطعام عنه*
وعند الحنابلة : هو خاص بصوم النذر فقط فمن مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه استحبابا ويجزئ من غيره ولو عدلوا إلى الإطعام وجب إخراجه من تركته فإن لم يخلف شيئا استحب لوليه*
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد : لا يصام عنه مطلقا إنما هو الإطعام من رأس المال عند الشافعي وإن لم يوص و عند مالك وأبي حنيفة من ثلث المال إن أوص واحتجوا بحجج يأتي ذكرها*
قال الخطابي في معالم السنن (٢/٣٢٨) في قوله ﷺ وعليه صوم :*
"هذا فيمن لزمه فرض الصوم ، إما نذرا وإما قضاء عن فائت مثل أن يكون مسافرا ويقدم وأمكنه القضاء ففرط فيه حتى مات ، أو يكون مريضا فيبرأ ولا يقضي "اهـ
قلت : أو كان عليه صوم كفارة كصوم متعة والمراد وجوب القضاء لا تعيينه*
ويستقر وجوب قضاء صوم رمضان والنذر والكفارة في ذمة الميت عند الحنابلة إذا أمكنه القضاء ولم يقض*
فلو أخر القضاء وقت الإمكان في زمن الاختيار فأصابه عذر واستمر حتى الموت لم يسقط من ذمته إلا بالصيام عنه في النذر و بالإطعام في غيره خلافا للبغداديين من المالكية نقله عنهم القرطبي في تفسيره والباجي في المنتقى
وأما من لم يفرط في القضاء حتى مات فإنه لا شيء عليه*
قال الخطابي في معالم السنن (٢/٣٢٨):
" واتفق أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض والسفر ثم لم يفرط في القضاء حتى مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه ، غير قتادة فإنه قال يطعم عنه ، وحكي ذلك أيضا عن طاوس " اهـ
قال ابن قدامة في المغني :
"وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا : يجب الإطعام عنه ; لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه ، فوجب الإطعام عنه ، كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام ، لعجزه عنه*
ولنا : أنه حق لله تعالى وجب بالشرع ، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله ، فسقط إلى غير بدل ، كالحج . ويفارق الشيخ الهرم ; فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه ، بخلاف الميت " اهـ
قال ابن حجر في الفتح (٤/١٩٣) :*
قوله : ( من مات ) عام في المكلفين لقرينة " وعليه صيام "اهـ

٤- قوله : (صام عنه وليه )*
قال ابن حجر في الفتح (٤/١٩٣) :*
وقوله : " صام عنه وليه " خبر بمعنى الأمر ، تقديره : " فليصم عنه وليه " اهـ
قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام :*
وَفِي هَذَا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ خَبَرٍ، أَعْنِي " صَامَ " وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَمْرِ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنَةِ وَفِي " افْعَلْ " مَثَلًا، أَوْ يَعُمُّهَا مَعَ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا " اهـ

مسألة :
ظاهر قوله ﷺ : ( من مات وعليه صيام ) عام في كل صوم ( صام عنه وليه ) أمر بصيغة الخبر* والأمر للوجوب وبه قالت الظاهرية قال ابن حزم في المحلى :*
" ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان ، أو نذر أو كفارة واجبة ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه هم أو بعضهم ، ولا إطعام في ذلك أصلا - أوصى به أو لم يوص به - فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه ولا بد - أوصى بكل ذلك أو لم يوص - وهو مقدم على ديون الناس . وهو قول أبي ثور ، وأبي سليمان ، وغيرهما " اهـ

والقول الثاني :*
حمل الأمر على الاستحباب وهو قول أهل الحديث وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث* والصارف عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين ، ولا يجب على الولي قضاء دين الميت ، وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة ، فإن لم يكن له تركة ، فلا شيء على وارثه ، لكن يستحب أن يقضى عنه ، لتفريغ ذمته ، وفك رهانه ، كذلك هاهنا*
وعليه قالوا أن القضاء لا يختص بالولي ، بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه ، وأجزأ ; لأنه تبرع ، فأشبه قضاء الدين عنه وخالف بعضهم فأوجبه على الولي وسبب تخصيص الحكم بالولي ما قاله ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام :*
وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يَصُومُ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ، إمَّا لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ الْوِلَايَةِ لِذَلِكَ
وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ: عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَلَا تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ النِّيَابَةِ: وَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَيَجْرِي فِي الْبَاقِي عَلَى الْقِيَاسِ..." اهـ*


والقول الثالث في المسألة : *
قول أحمد وإسحاق وأبو عبيد وهو معتمد الحنابلة وهو حمل الأمر على الاستحباب لتشبيه القضاء بالدين ،* وأنه خاص بصوم النذر لا صوم رمضان ولا الكفارات لوجوبهما بأصل الشرع ولقول الصحابة وقالوا : بهذا تُعمل جميع الأدلة*
قال ابن القيم في تهذيب السنن :
"وَهَذَا مَذْهَب أَحْمَد الْمَنْصُوص عَنْهُ وَقَوْل أَبِي عُبَيْد والليث بن سعد وهو المنصوص عن ابن عَبَّاس رَوَى الْأَثْرَم عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْر صَوْم شَهْر وَعَلَيْهِ صَوْم رَمَضَان قَالَ أَمَّا رَمَضَان فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ وَأَمَّا النَّذْر فَيُصَام وَهَذَا أَعْدَل الْأَقْوَال وَعَلَيْهِ يَدُلّ كَلَام الصَّحَابَة وَبِهَذَا يَزُول الْإِشْكَال " اهـ
قال أبو داود في "سننه"(٣/١٦٧): حدَّثنا محمَّد بن كثير أنا سفيان عن أبي حَصِين عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس قال:
( إذا مرض الرَّجل في رمضان، ثمَّ مات ولم يصح، أُطعِم عنه، ولم يكن عليه قضاء؛ وإن نذر نذرًا، قضى عنه وليه) اهـ
وعن عائشة أثران:
الأول : أنها* " سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم من رمضان ، قالت : يطعم عنها"
والثاني : أنها قالت : " لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم " أخرجه البيهقي*
الأول : أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار وصحح إسناده ابن التركماني
وفيه : ( أيصلح أن أقضي عنها فقالت : لا )
وأما الثاني : فقال ابن حجر في الفتح (٤/١٩٣): (فضعيف جدا )
وروى الترمذي (٢/٨٨) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا ". حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ قَوْلُهُ اهـ*
ورواه البيهقي في سننه وفيه : ( صوم من رمضان أو نذر ) وفي لفظ (من أفطر في رمضان أياما وهو مريض ) هذا الاختلاف يضعف الاحتجاج بقول ابن عمر خاصة وقد ذكر البخاري في صحيحة تعليقا قوله :
" بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ : صَلِّي عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ" اهـ
لكن إن ثبت هذا عن ابن عمر فهذه مخالفة من صحابي والاحتجاج بقول الصحابي يكون عند عدم المخالف من مثله ووجه احتجاج الحنابلة بقول عائشة وابن عباس لأن قوليهما وأقرب إلى الدليل ولم يأخذوا بعموم حديث الباب لأن راويته خصصته بقولها وهي أعلم بما روت وكذلك القول في الحديث الثاني فقد أفتى ابن عباس بذلك*

والقول الرابع :*
ترك العمل به إما بتضعيفه وإما لأجل قول ابن عمر الموافق لعمل أهل المدينة*
وإما لأجل قول بعض الصحابة الموافق للأصل وهو أن الصيام عبادة بدنية لا يدخلها النيابة وإما بتأويل الحديث (أطعم عنه وليه)
وبهذا القول أعني لا يصوم أحد عن أحد قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد*
وحجة أبي حنيفة قول عائشة السابق تضعيفه وقالوا به لأنها راوية حديث الباب وهي أعلم بما روت*
ويقوي قولها موافقته للأصل*
وقال مالك بقول ابن عمر واحتج بعمل أهل المدينة وأن الصوم عبادة بدنية لا يدخلها النيابة وبهذا قال الشافعي ورد الحديث في الجديد* قال ابن القيم في تهذيب السنن (٧/٢٥:٢٦) : قال البيهقي : وقال الشافعي في القديم وقَدْ وَرَدَ فِي الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت شَيْء فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا صِيمَ عَنْهُ كَمَا يُحَجّ عَنْهُ
وَقَالَ فِي الْجَدِيد : فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أَحَدًا أَنْ يَصُوم عَنْ أَحَد قِيلَ نَعَمْ روي عن بن عَبَّاس
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا تَأْخُذ بِهِ قِيلَ:
حَدِيث الزُّهْرِيّ عن عبيد الله عن بن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ مَعَ حِفْظ الزُّهْرِيّ وَطُول مُجَالَسَة عُبَيْد اللَّه لِابْنِ عَبَّاس فَلَمًّا جاء غيره عن رجل عن بن عَبَّاس بِغَيْرِ مَا فِي حَدِيث عُبَيْد اللَّه أَشْبَهَ أَنْ لَا يَكُون مَحْفُوظًا
وَأَرَادَ الشَّافِعِيّ ما روى مالك عن ابن شِهَاب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَنَّ سَعْد بْن عُبَادَة اِسْتَفْتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْر فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِقْضِهِ عَنْهَا وَهَذَا حَدِيث مُتَّفَق عَلَيْهِ مِنْ حَدِيث مَالِك وَغَيْره عَنْ الزُّهْرِيّ إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر عن بن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة سَأَلَتْ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَكَمُ بْن عُتَيْبَة وَسَلَمَة بْن كُهَيْل عَنْ مُجَاهِد عن بن عَبَّاس وَفِي رِوَايَة عَنْ مُجَاهِد وَعَطَاء وَسَعِيد بن جبير عن بن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة سَأَلَتْ وَرَوَاهُ عِكْرِمَة عَنْ بن عَبَّاس*
ثُمَّ رَوَاهُ بُرَيْدَةَ بْن حَصِيب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَالْأَشْبَه أَنْ تكون هذه القصة التي وقع فِيهَا السُّؤَال نَصًّا غَيْر قِصَّة سَعْد بْن عُبَادَة الَّتِي وَقَعَ السُّؤَال فِيهَا عَنْ النَّذْر مُطْلَقًا كَيْف وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح النَّصّ عَلَى جَوَاز الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت قَالَ وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث بن عَبَّاس لِمَا رُوِيَ عَنْ يَزِيد بْن زُرَيْع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن بن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لَا يَصُوم أَحَد عن أَحَد وَيُطْعِم عَنْهُ وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْإِطْعَام عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام شَهْر رَمَضَان وَصِيَام شَهْر النَّذْر
وَضُعِّفَ حَدِيث عَائِشَة بِمَا رُوِيَ عَنْهَا فِي اِمْرَأَة مَاتَتْ وَعَلَيْهَا الصَّوْم قَالَتْ يُطْعِم عَنْهَا وَفِي رِوَايَة عَنْهَا لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ قَالَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوا مَا يُوجِد لِلْحَدِيثِ ضَعْفًا فَمَنْ يُجَوِّز الصِّيَام عَنْ الْمَيِّت يُجَوِّز الْإِطْعَام عَنْهُ
وَفِيمَا رُوِيَ عَنْهَا فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت نَظَرٌ وَالْأَحَادِيث الْمَرْفُوعَة أَصَحّ إِسْنَادًا وَأَشْهَر رِجَالًا وَقَدْ أَوْدَعَهَا صَاحِبَا الصَّحِيح كِتَابَيْهِمَا وَلَوْ وَقَفَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَمِيع طُرُقهَا وَتَظَاهُرِهَا لَمْ يُخَالِفْهَا إِنْ شَاءَ اللَّه وَمِمَّنْ رأى جواز الصيام عن الميت طاووس وَالْحَسَن الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة
آخِر كَلَام الْبَيْهَقِيّ"ا ـ
قلت :
لا أعلم قائلا من الصحابة بجواز صيام قضاء رمضان عن الميت مما يجعل النفس تطمئن إلى قول الحنابلة وبه يحصل العمل بالنصوص وذلك لأن الراويين للجواز خصصا العموم بالنذر مما يدل على أن العموم مخصص به وهما أعلم بما رويا وقولهما هو الموافق للأصل في الصيام الواجب من أصل الشرع وليس في هذا انتقاء لأقوال الصحابة كما ذكر ابن حزم وإنما هو كما علمت وعليه يحمل قول ابن عمر وابن عباس وعائشة في إطلاق النهي فأما عائشة وابن عباس فظاهر عنهما وأما ابن عمر فقد ذكر البخاري عنه تعليقا (بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ : صَلِّي عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ)اهـ وهذا يقوي أن مراده بالصيام صيام رمضان أو يقال : أن من قال بجواز الصيام لا يمنع من الإطعام فلا تحصل المخالفة من قوله*
تنبيه :*
قال في المبدع شرح المقنع :
" الإطعام من رأس المال أوصى به أو لا ، وفي القضاء عن كل يوم يوم ،*
وقال الشيخ تقي الدين لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ، ولا صلاة ، وليس في الأدلة ما يخالفه، وفيه نظر* . اهـ وبه قال ابن القيم وابن حزم

٥- قوله ﷺ : ( صام عنه وليه ) معتمد الحنابلة أن التخصيص أغلبي لا حكم له وهو ظاهر صنيع البخاري كما قال ابن حجر ومن خصص* الأمر على الولي اختلفوا في المراد بقوله : ( وليه ) :
*فقيل : الوارث خاصة وقال الرافعي : والأشبه اعتبار الإرث
وقيل : عصبته*
وقيل : كل قريب وصححه النووي في المجموع ورجحه ابن حجر في الفتح*
واستدلوا بحديث الباب التالي وذلك لأن قول النبي ﷺ للمرأة : صومي عن أمك يبطل احتمال ولاية المال والعصوبة .*
تنبيه :
قوله : ( صام عنه وليه ) لفظ البزار " فليصم عنه وليه إن شاء " قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن اهـ قال ابن الملقن في البدر المنير (٧٣٢/٥) :*في إسنادها ابن لهيعة وهو معروف الحال ، ودونه يحيى بن كثير الزيادي وهو ضعيف عندهم" اهـ وضعفها ابن حجر في تلخيص الحبير (٨١١/٢)

مسألة :*
أخذ أهل العلم من هذا الحديث جواز الوفاء بنذر الميت في العبادات البدنية كنذر الصلاة والاعتكاف قياسا على الصوم والحج وهذا ظاهر تبويب البخاري في صحيحه قال رحمه الله تعالى :
(بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ : صَلِّي عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ)اهـ ثم ذكر حديث ابن عباس في نذر أم سعد بن عبادة رضي الله عنه*
وعن أحمد في المسألة روايتان والمعتمد منهما عند المتأخرين : يستحب لوليه قضاؤه .
قال ابن قدامة في الكافي (٤/٤٣٠): ( كل موضع قلنا يقضي عنه الولي فإنه على سبيل الندب لا الوجوب لأن قضاء دينه لا يجب على وليه فكذلك النذر المشبه به ) اهـ
قال النووي في شرح مسلم في حديث نذر أم سعد (فاقضه عنها ):
"دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت ، فأما الحقوق المالية فمجمع عليها . وأما البدنية ففيها خلاف قدمناه في مواضع من هذا الكتاب "
تنبيه :
قال النووي في المنهاج :
" واعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي ، ولا إذا كان ماليا ولم يخلف تركة ، لكن يستحب له ذلك ، وقال أهل الظاهر : يلزمه ذلك لحديث سعد هذا .
ودليلنا أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم ، وحديث سعد يحتمل أنه قضاه من تركتها ، أو تبرع به ، وليس في الحديث تصريح بإلزامه ذلك . والله أعلم . " اهـ
والاستحباب قول الحنابلة*
مسألة :
قال ابن حجر في الفتح :
" قال المهلب: فيه حجة على أن الزكاة لا تسقط بالحيلة ولا بالموت؛ لأن النذر لما لم يسقط بالموت - والزكاة أوكد منه - كانت لازمة لا تسقط بالموت أولى؛ لأنه لما ألزم الولي بقضاء النذر عن أمه كان قضاء الزكاة التي فرضها الله أشد لزوما"اهـ







٥٨٦-(١١٤٨)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : " لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا ؟ ". قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ".

الشرح :
١-اتفق الشيخان على إخراج هذه الرواية من طريق زائدة عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي ﷺ* الحديث*
وقدم مسلم في صحيحه رواية عيسى بن يونس حدثنا الأعمش به وفيه أن امرأة أتت رسول الله ﷺ فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر* الحديث
وكذلك رواه الإمام أحمد عن يحيى القطان وأبو معاوية الضرير عن الأعمش كرواية عيسى بن يونس بذكر المرأة وصوم شهر وأن الميت أمها وهذا ما جعل مسلم يقدم روايته فإن أبا معاوية هو المقدم في الأعمش بعد شعبة وسفيان كيف وقد وافقه القطان وأكثر الرواة وفي الترجيح هنا فائدة وهي أن المراد بالولاية كل قريب*
قال ابن حجر في الفتح (٤/١٩٥) :
" واتفق من عدا زائدة وعبثر بن القاسم على أن السائل امرأة ، وزاد أبو حريز في روايته أنها خثعمية .
قَوْلُهُ : (إِنَّ أُمِّي) خَالَفَ أَبُو حَامِدٍ جَمِيعَ مَنْ رَوَاهُ فَقَالَ إِنَّ أُخْتِي*
وَاخْتُلِفَ عَلَى أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْهُ ذَاتُ قَرَابَةٍ لَهَا*
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْهُ إِنَّ أُخْتَهَا أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ*
وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْهُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا إِمَّا أُخْتُهَا وَإِمَّا ابْنَتُهَا*
وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيهِ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ*
قَوْلُهُ : (وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ ..." اهـ
وقال : "وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ اضْطَرَبَ فِيهِ الرُّوَاةُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ
*فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ*
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ رَجُلٌ*
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ نَذْرٍ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالصَّوْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْحَجِّ لِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ*
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السَّائِلَةَ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ خَثْعَمِيَّةٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ الْمُعَلَّقَةِ وَالسَّائِلَةَ عَنْ نذر الْحَج جُهَيْنَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَنِ الْحَجِّ وَعَنِ الصَّوْمِ مَعًا*
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ السَّائِلِ رجلا أَو امْرَأَة والمسؤل عَنْهُ أُخْتًا أَوْ أَمَّا فَلَا يَقْدَحُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَا اضْطِرَابَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " اهـ
قلت : ولهذا ذكر شيخنا رواية الجهنية في الحج وفيها (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ﷺ) وذكر حديث بريدة عند مسلم مشيرا به إلى اختلاف القصة وهو ظاهر صنيع البخاري وبهذا يرتفع ادعاء الاضطراب والله أعلم*
قال ابن حجر في الفتح :*
" وزعم بعض المخالفين أنه اضطراب يعل به الحديث، وليس كما قال، فإنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة: " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، قال: وجب أجرك وردها عليك الميراث. قالت: إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال : صومي عنها. قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها " وللسؤال عن قصة الحج من حديث ابن عباس أصل آخر أخرجه النسائي من طريق سليمان بن يسار عنه، وله شاهد من حديث أنس عند البزار والطبراني والدارقطني"اهـ*
تنبيه :
حديث الباب رواه الأكثر*عن الأعمش عن أبي بشير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس على أن السائل امرأة*
وأما حديث ابن عباس في نذر الحج رواه الأكثر عن شعبة على أن السائل أخوها
فقد رواه البخاري من طريق آدم عن شعبة عن أبي بشير عن سعيد بن جبير* عن ابن عباس*
ورواه أحمد عن غندر عن شعبة به ورواه عن وكيع عن شعبة به*
ورواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة به*
وهذا يجعلنا نقطع بتغاير القصتين أو يقال هذا أيضا قصتان قصة رواها البخاري من طريق أبي عوانه عن شعبة به وأن السائلة امرأة وما رواه الأكثر عن شعبة قصة أخرى السائل فيها أخوها والمقصود تباين القصص وبهذا يدفع دعوى الاضطراب والله أعلم*
قال النووي في شرح مسلم :
وأما قول ابن عباس : ( إن السائل رجل ) ، وفي رواية :* " امرأة " ، وفي رواية : " صوم شهر " ، وفي رواية : " صوم شهرين " فلا تعارض بينهما ، فسأل تارة رجل ، وتارة امرأة ، وتارة عن شهر ، وتارة عن شهرين " اهـ*
وهذا القول معتبر لولا اتحاد سند حديث الباب وتقارب ألفاظه مما يمنع تعدد القصص*

تنبيه آخر:
هناك حديث ثالث عن ابن عباس فيه إطلاق النذر أخرجه الشيخان قال البخاري : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ" اهـ
أعل الشافعي في الجديدحديث الباب بهذا الحديث لأن عبيدالله على طول ملازمته لابن عباس* لم يرو نذر الصوم مما يجعل الشافعي يقول عن حديث الباب : "أشبه أن لا يكون محفوظ" اهـ
وأجاب عن قوله البيهقي وابن حجر باختلاف القصتين وهو كما قالا والله علم
قال ابن حجر عن هذا الحديث :
" فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه فيقال لمن قلده قد بلغ ذلك غيره؛ وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا الحديث " اهـ

٢- قوله : ( جاء رجل ) أكثر الرواة ومنهم القطان وأبو معاوية الضرير قد رووه عن الأعمش أن السائل امرأة

٣- قوله : ( وعليها صوم شهر ) يحتمل أن المقصود رمضان ويرفع هذا الاحتمال ما ذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم قال عبيدالله عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قالت امرأة للنبي ﷺ : ( إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ) ووصلها مسلم قال
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ عَدِيٍّ ، قَالَ عَبْدٌ : حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الحديث *
وهذا يجيب عن قول ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام قال رحمه الله تعالى :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحكم غير مقيد ، بعد سؤال السائل مطلقا عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر . ويحتمل أن يكون عن غيره . فخرج ذلك على القاعدة المعروفة في أصول الفقه . وهو أن الرسول عليه السلام إذا أجاب بلفظ غير مقيد عن سؤال وقع عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفا : أنه يكون الحكم شاملا للصور كلها . وهو الذي يقال فيه " ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال ، مع قيام الاحتمال : منزل منزلة العموم في المقال " وقد استدل الشافعي بمثل هذا وجعلها كالعموم " اهـ
ومما يؤيد هذا التقييد ما رواه أبو داود وفيه بيان سبب النذر ( 3 : 392) قال :
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ امْرَأَةً ركبت البحر فَنَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَنَجَّاهَا اللَّهُ، فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ، فَجَاءَتِ ابْنَتُهَا - أَوْ أُخْتُهَا - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا" اهـ
ويؤيد ذلك أيضا ما رواه أبو داود في "سننه"(٣/١٦٧): حدَّثنا محمَّد بن كثير أنا سفيان عن أبي حَصِين عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس قال: "إذا مرض الرَّجل في رمضان، ثمَّ مات ولم يصح، أُطعِم عنه، ولم يكن عليه قضاء؛ وإن نذر نذرًا، قضى عنه وليه"اهـ
وبهذه الزيادة( صوم نذر)أسقط ابن دقيق العيد الاحتمال الذي ذكره سابقا لكن استبعدها لأن حديث الباب جاء رجل وفي رواية صيام النذر جاءت امرأة وقال : وقد قررنا في علم الحديث : أنه يعرف كون الحديث واحدا باتحاد سنده ومخرجه ، وتقارب ألفاظه . اهـ
والجواب : أننا قدمنا القول على أن أكثر الرواة على أن السائل امرأة ومخرج الحديث واحد وهو ابن جبير عن ابن عباس ويؤيده ما سبق ذكره من فتوى ابن عباس وسبب النذر والله أعلم*
فإن قيل : قال ابن دقيق العيد في أحكام الأحكام :
" أن التنصيص على بعض صور العام لا يقتضي التخصيص . وهو المختار في علم الأصول . وقد تشبث بعض الشافعية بأن يقيس الاعتكاف والصلاة على الصوم في النيابة ، وربما حكاه بعضهم وجها في الصلاة . فإن صح ذلك فقد يستدل بعموم هذا التعليل "اهـ
قلت : هذا استدلال صحيح لولا أن الصحابة منعوا القضاء عن الميت في رمضان مما يدل على إرادة التخصيص وقد صح المنع عن ابن عمر عند الترمذي وصححه ابن التركماني عن عائشة ورواه أبو جعفر الطحاوي عنها وصح عن ابن عباس عند أبي داود
وصح عن ابن عباس في السنن الكبرى للنسائي وابن عمر عند عبدالرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا : (لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ) والمراد في غير النذر لأن البخارى ذكر تعليقا بصيغة الجزم فتوى ابن عمر في قضاء نذر الصلاة عن الميت وعن ابن عباس نحوه ووصله ابن حجر وفيه قضاء نذر الاعتكاف عن الميت وهو عبادة بدنية وقضاء نذر المشي إلى قباء
قال ابن حجر في الفتح :
ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي ثم وجدت عنه ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال يصام عنه النذر " اهـ
قلت : وتخصيص الجواز في نذر الميت أصح لأنه ثبت عن ابن عباس أنه لا يصام عن الميت في قضاء رمضان وتقدم وكذلك يقال عن ابن عمر فإنه قال : (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) وبهذا تجتمع الأدلة ويرتفع الاعتراض بدعوى الاضطراب والله أعلم
فائدة :
قال ابن حجر في الفتح :
"وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت" اهـ




تنبيه:
ذكر البخاري معلقا بصيغة الجزم قال قال أبو حريز حدثنا عكرمة عن ابن عباس قالت امرأة للنبي ﷺ : ( ماتت أمي وعليها خمسة عشر يوما )
قال ابن حجر في الفتح : " قوله : ( وقال أبو حريز ) بالمهملة والراء والزاي ، وهو عبد الله بن الحسين قاضي سجستان ، وطريقه هذه وصلها ابن خزيمة والحسن بن سفيان ومن جهته البيهقي " اهـ أبو حريز اسمه عبدالله بن حسين ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن حجر : صدوق يخطئ ولعله قال هذا لأجل أنه قد وثق وثقه ابن معين ولم يخرج له البخاري إلا في المتابعات في هذا وموطن آخر والله أعلم

٤-قوله ﷺ :*
( "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها " قال:* نعم قال : "فدين الله أحق أن يقضى" )
قوله : (فدين الله أحق أن يقضى ) ، أي فدين الله أحق بالأداء من غيره ويحتمل أن يكون المراد بالأحقية الإجزاء
قال تقي الدين ابن تيمية في شرح العمدة :
(وإما أن يكون معناه إذا كان قضاء دين الآدمي يجزيء عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزىء لأن الله تعالى كريم جواد ومن يكون أحرى بقبول القضاء فحقه أولى أن يقضي لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة ويرجح هذا المعنى أن القوم إنما سألوه عن جواز القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم فعلى هذا إذا وجب فعل الدين عنه لبقائه وكونه يجزيء عنه بعد الموت وجب قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه وكونه يجزيء بعد الموت لأن معناهما واحد )اهـ
وفيه دليل على أن من مات وفي ذمته حق لله تعالى من حج أو كفارة أو نذر فإنه يجب قضاءه
وفيه مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه
وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه تشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل على أن قضاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا
وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه
وفيه استفتاء الأعلم
وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم
وفيه دليل لجواز القياس في الشريعة*

مسألة :
*قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام مستدلا بهذا على جواز صيام رمضان عن الميت :
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم علل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره
وهو كونه عليها وقاسه على الدين وهذه العلة لا تختص بالنذر - أعني كونها حقا واجبا - والحكم يعم بعموم علته "اهـ فيعم الصيام عن الميت في قضاء صيام رمضان وغيره*
والجواب: الدين الذي شُبه القضاء به لا يجب أصالة وإنما يوجبه الإنسان على نفسه فكذلك النذر قال ابن القيم في تهذيب السنن (٧/٢٨) :
"النَّذْر لَيْسَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْع وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْد عَلَى نَفْسه فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْن الَّذِي اِسْتَدَانَهُ وَلِهَذَا شَبَّهَهُ النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم بالدين في حديث ابن عباس
والمسؤول عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ صَوْم نَذْر وَالدَّيْن تَدْخُلهُ النِّيَابَة
وَأَمَّا الصَّوْم الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه عَلَيْهِ اِبْتِدَاء فَهُوَ أَحَد أَرْكَان الْإِسْلَام
فَلَا يَدْخُلهُ النِّيَابَة بِحَالٍ كَمَا لَا يَدْخُل الصَّلَاة وَالشَّهَادَتَي ْنِ
فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا طَاعَة الْعَبْد بِنَفْسِهِ وَقِيَامه بِحَقِّ الْعُبُودِيَّة الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَأُمِرَ بِهَا
وَهَذَا أَمْر لَا يُؤَدِّيه عَنْهُ غَيْره كَمَا لَا يُسْلِم عَنْهُ غَيْره وَلَا يُصَلِّي عَنْهُ غَيْره
وَهَكَذَا مَنْ تَرَك الْحَجّ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ تَرَك الزَّكَاة فَلَمْ يُخْرِجهَا حَتَّى مَاتَ
فَإِنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيل وَقَوَاعِد الشَّرْع أَنَّ فِعْلَهُمَا عَنْهُ بَعْد الموت لا يبرىء ذِمَّتَهُ
وَلَا يُقْبَل مِنْهُ وَالْحَقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَع
وَسِرّ الْفَرْق أَنَّ النَّذْر اِلْتِزَام الْمُكَلَّف لِمَا شَغَلَ بِهِ ذِمَّته لَا أَنَّ الشَّارِع أَلْزَمهُ بِهِ اِبْتِدَاء فَهُوَ أَخَفّ حُكْمًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّارِع حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَالذِّمَّة تَسَعُ الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَالْمَعْجُوز عَنْهُ وَلِهَذَا تَقْبَل أَنْ يَشْغَلهَا الْمُكَلَّف بِمَا لَا قُدْرَة لَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ وَاجِبَات الشَّرْع فَإِنَّهَا عَلَى قَدْر طَاقَة الْبَدَن لَا تَجِبُ عَلَى عاجز فواجب الذمة أَوْسَعَ مِنْ وَاجِب الشَّرْع الْأَصْلِيّ لِأَنَّ الْمُكَلَّف مُتِمّكُنَّ مِنْ إِيجَاب وَاجِبَات وَاسِعَة وَطَرِيق أَدَاء وَاجِبهَا أَوْسَعَ مِنْ طَرِيق أَدَاء وَاجِب الشَّرْع
فَلَا يَلْزَم مِنْ دُخُول النِّيَابَة فِي وَاجِبهَا بَعْد الْمَوْت دُخُولهَا فِي وَاجِب الشَّرْع
وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ الصَّحَابَة أَفْقَهُ الْخَلْق وَأَعْمَقهمْ عِلْمًا وَأُعْرَفُهُمْ بِأَسْرَارِ الشَّرْع وَمَقَاصِده وَحِكَمِهِ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق"اهـ


مسألة :*
وفيه دليل على جواز الصوم عن الميت في النذر وإن لم يوص لإلحاقه وتشبيهه بالدين
وقال مالك: إنما يطعم عنه إذا أوصى، وإذا أوصى أطعم عنه من الثلث *
قال ابن حجر في الفتح* :*
في هذا الحديث أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك" اهـ

مسألة :
قال ابن حجر في الفتح :
وفي قوله: ((فالله أحق بالوفاء)) دليل على أنه مقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء اهـ*
قال النووي في شرح مسلم :
" وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي : أصحها : تقديم دين الله تعالى لما ذكرناه . والثاني : تقديم دين الآدمي لأنه مبني على الشح والمضايقة . والثالث : هما سواء ، فيقسم بينهما " اهـ
قلت : ومذهب الحنابلة التسوية بين ديون الله تعالى والزكاة والنذر غير المعين ودين حج . انظر كشاف القناع ( ٢/١٨٢)
قال ابن حزم في المحلى (٤/٤٢٨) :
" من الكبائر أن يقول قائل : بل دين الناس أحق أن يقضى من دين الله تعالى عز وجل وقد سمع هذا القول "اهـ وهذا صحيح بالتفسير الأول وأما إن كان المراد بالتشبيه الإجزاء فلا
وفائدة الخلاف :
تظهر عند تزاحم حق الله تعالى وحق العباد ، كما إذا مات وعليه دين آدمي ودين الزكاة*


مسألة :
*اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا ؟
فرجح الرازي أنه مثله والراجح عند غيره أنه للإباحة كما رجح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب
ومحلها أصول الفقه


٥- ذكر شيخنا في الروايات ما رواه مسلم عن بريدة قال*
وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَبُو الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ : إِنِّي تصدقت على أمي بجارية، وَإِنَّهَا مَاتَت
*قَالَ : فَقَالَ :*
" وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ ".
*قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟*
قَالَ :* " صُومِي عَنْهَا ".
*قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟*
قَالَ : " حُجِّي عَنْهَا ".*
ورواه عن أبي بكر بن شيبة عن عبدالله بن نمير عن عبدالله بن عطاء به قال : كنت جالسا عند النبي ﷺ بمثل حديث ابن مسهر غير أنه قال :
(صوم شهرين)
ثم ذكر الرواية عن سفيان عن عبدالله بن عطاء به واختلف عليه:
فرواه عبدالرزاق عنه (صوم شهر )
ورواه عبيدالله بن موسى عنه (صوم شهرين)
ثم روى من طريق عبدالملك بن أبي سليمان عن عبدالله بن عطاء وفيه (صوم شهر)
ومراد مسلم من ذلك ترجيح لفظ صوم شهر ولذلك قدمها ثم ذكر الخلاف وعلي بن مسهر مقدم*عند يحيى ابن معين على عبدالله بن نمير وقد جاءت عنه عند أحمد في المسند قال حدثنا ابن نمير عن عبدالله بن عطاء به وفيها : ( صوم شهر )
وأما متابعة سفيان فقد اختلف فيها عليه فقد رواها عنه عبدالرزاق وعبيدالله بن موسى وهما في سفيان قريبان من بعض كما قال ابن أبي خيثمة وقد تكلم بعضهم على رواية عبدالرزاق عن سفيان ومراده ما كان سماعه بمكة كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد وقال عنها ابن رجب في شرح العلل مضطربة جدا*والله أعلم*


* يبقى السؤال :
لم ذكر مسلم هذا الحديث* ؟
هل لإثبات الخلاف في قضاء صوم رمضام وهذا محتمل من ترجيحه (صوم شهر ) وهي تحتمل أن المراد بالصوم قضاء شهر رمضان ، خاصة والروايات لم تذكر النذر فيما وقفت عليه والله أعلم وقد أخرجها أبو داود في : (باب في قضاء النذر عن الميت )
ويحتمل أن مراد مسلم بحديث بريدة الاحتجاج به على أن عموم حديث عائشة محفوظ لم يخصص ولذا أورد بعد حديث عائشة حديث ابن عباس في النذر ثم أورد حديث بريدة المطلق
ويحتمل أن مراده بيان أنهما قصتان مختلفتان
وكل ذلك وارد والله أعلم
وعمدتنا في بيان هذه الاحتمالات فتوى ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما في التخصيص وهما أعلم بما ذكرناه من الاحتمالات *

* قوله ﷺ : ( وجب أجرك وردها عليك الميراث )
قال في تحفة الأحوذي :
"قوله : ( قال وجب أجرك )أي بالصلة
(وردها عليك الميراث)
النسبة مجازية أي رد الله الجارية عليك بالميراث وصارت الجارية ملكا لك بالإرث وعادت إليك بالوجه الحلال ، والمعنى أنه ليس هذا من باب العود في الصدقة لأنه ليس أمرا اختياريا . قال ابن الملك : أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبه ثم ورثها حلت له ، وقيل يجب صرفها إلى فقير لأنها صارت حقا لله تعالى انتهى . وهذا تعليل في معرض النص فلا يعقل كذا في المرقاة " اهـ
قال النووي في شرح مسلم :
"وفيه : أن من تصدق بشيء ثم ورثه لم يكره له أخذه والتصرف فيه ، بخلاف ما إذا أراد شراءه فإنه يكره لحديث فرس عمر رضي الله عنه " اهـ

* قوله : (قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟*
قَالَ :* " صُومِي عَنْهَا ".
قال النووي في شرح مسلم :
" وفي رواية : ( صوم شهرين ) . اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان ، أو قضاء أو نذر أو غيره ، هل يقضى عنه ؟*
وللشافعي في المسألة قولان مشهوران : أشهرهما : لا يصام عنه ، ولا يصح عن ميت صوم أصلا .*
والثاني : يستحب لوليه أن يصوم عنه ، ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت ، ولا يحتاج إلى إطعام عنه ، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده ، وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة*
وأما الحديث الوارد :
" من مات وعليه صيام أطعم عنه "
*فليس بثابت ، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين ، فإن من يقول بالصيام يجوز عنده الإطعام ، فثبت أن الصواب المتعين تجويز الصيام ، وتجويز الإطعام ، والولي مخير بينهما ، والمراد بالولي القريب ، سواء كان عصبة أو وارثا أو غيرهما*
وقيل : المراد الوارث ، وقيل : العصبة ، والصحيح الأول ، ولو صام عنه أجنبي إن كان بإذن الولي صح وإلا فلا في الأصح ، ولا يجب على الولي الصوم عنه ، لكن يستحب .*
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة ، وممن قال به من السلف : طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور ، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد في صوم النذر دون رمضان وغيره ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت لا نذر ولا غيره ، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة، ورواية عن الحسن والزهري ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، قال القاضي عياض وغيره : هو قول جمهور العلماء ، وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه ، وهذا تأويل ضعيف ، بل باطل ، وأي ضرورة إليه وأي مانع يمنع من العمل بظاهره مع تظاهر الأحاديث ، مع عدم المعارض لها " اهـ*
وسبق ذكر الخلاف ووجه كل قول وذكر أدلة المسألة في الحديث السابق*
تنبيه :*
قال القاضي وأصحابنا : وأجمعوا على أنه لا يصلى عنه صلاة فائتة ، وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته ، وإنما الخلاف في الميت . والله أعلم اهـ*


* قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟*
قَالَ : " حُجِّي عَنْهَا ")*
قال النووي في شرح مسلم:
"فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجمهور ، أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز الميؤوس من برئه ، واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميت والحج عنه ، بأنه مضطرب ، وهذا عذر باطل ، وليس في الحديث اضطراب ، وإنما فيه اختلاف جمعنا بينه كما سبق ، ويكفي في صحته احتجاج مسلم به في صحيحه . والله أعلم " اهـ

* قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي بعض طرق مسلم عن سليمان بن بريدة، وفي بعض طرق النسائي عن ابن بريدة ولم يسمه، وقال النسائي: والصواب حديث عبد الله بن بريدة" اهـ وأحمد وأبو داود






(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ)

١-هل هي خاصة فيمن أفطر بجماع في رمضان ؟ وما قدرها ؟ وهل تجب على التخيير أم لا ؟ وهل تجب في حق الناسي والجاهل ؟ وهل تسقط عند العجز عنها ؟ وهل قيد (بامرأته) مراد أو على الغالب فيشمل الأمة والزنا واللواط ومواقع البهيمة والسحاق ؟
في كل ذلك أقوال :
و معتمد مذهب الحنابلة لا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة خلافا للأحناف والمالكية
فمن جامع نهار رمضان في قبل أو دبر ولو لميت أو بهيمة في حالة يلزمه فيها الإمساك مكرها كان أو ناسيا أو جاهلا لزمه القضاء والكفارة وكذا من جومع إن طاوع غير جاهل وناس.
والكفارة على الترتيب : عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الضارة بالعمل، (فإن لم يجد) رقبة (فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع) الصوم (فإطعام ستين مسكينا) لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أقط، فإن لم يجد وقت وجوبها سقطت عنه بخلاف غيرها من الكفارات.
وحجة الحنابلة حديث الباب (فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ : " وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ ". قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ) ففيه النص بتعمد الفطر بالجماع في نهار رمضان وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبو عوانة في مستخرجه متنها أنه قال : " أفطرت في رمضان " والمراد أفطرت في رمضان بجماع لأن القصة واحدة ومخرجها متحدوعليه فليس للمالكية وممن احتج بوجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بغير جماع نص
وأما قياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة رمضان فمردود بعدم موافقته بالعلة وذلك لأن الموجب عندنا هو انتهاك حرمة صوم رمضان بإفساده بخصوص الجماع وعند الشافعية عمدا
ففي قوله : " هلكت " وفي بعض رواياته : " وأنا صائم " وفي أخرى "في رمضان " دليل على ذلك
ولأن الأصل براءة الذمة من وجوب الكفارة حتى يثبت الموجب بدليل واضح .
وأما قياسهم بأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما فمردود بعدم الموافقة بفطر من أكره على الجماع بدلالة حديث "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة"



٢- مسألة : هل يجب قضاء اليوم الذي أفطره متعمدا بجماع في رمضان ؟
الجمهور : نعم ، وقيل : لا
قال ابن حجر في الفتح:
"وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد ، كلهم عن الزهري ، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري ، وحديث إبراهيم بن سعد في " الصحيح " عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة ، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها ، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب ، وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا ، ويؤخذ من قوله : " صم يوما " عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله : " يوما " اهـ
قلت : والعمدة في ذلك النظر فالأصل القضاء لأجل إفساد العبادة والكفارة لأجل الإثم . والله أعلم


٣- حديث الباب من طريق الزهري عن حميد بن عبدالرحمن أن أبا هريرة به
قال ابن حجر في الفتح : " هكذا توارد عليه أصحاب الزهري وقد جمعت منهم في جزء مفرد لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفسا " اهـ قلت وجاء عند مسلم تصريح حميد بالتحديث
* قوله : ( إذ جاءه رجل )
قال ابن حجر : "لم أقف على تسميته" اهـ
قال بعضهم هو سلمة بن صخر ووهمه ابن عبدالبر ووافقه ابن حجر وقال بعضهم هو أبو بردة بن يسار ووهمه ابن حجر أيضا
* قوله : ( فقال : يا رسول الله )
زاد عبد الجبار بن عمر عن الزهري : " جاء رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول : "هلك الأبعد "
ولمحمد بن أبي حفصة : " يلطم وجهه " ولحجاج بن أرطاة : " يدعو ويله "
وفي مرسل ابن المسيب عند الدارقطني : " ويحثي على رأسه التراب "
واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول من وقعت له معصية ، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم وصحة الإقلاع ، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة" اهـ الفتح
قوله : ( هلكت ) ، وفي حديث عائشة " احترقت " ، وفي رواية ابن أبي حفصة : " ما أراني إلا قد هلكت "، واستدل به على أنه كان عامدا ؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك ، فكأنه جعل المتوقع كالواقع ، وبالغ فعبر عنه بلفظ : الماضي ، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي" اهـ فتح الباري لابن حجر
زيادة " وأهلكت" أبطلها الحاكم في ثلاثة أجزاء قال ابن حجر في الفتح : وقد ذكر البيهقي أن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء" اهـ ولو ثبتت فالمراد بها أهلكت بكوني سببا في وقعها في الإثم .
قال ابن حجر في الفتح : قوله : ( وقعت على امرأتي ) وفي رواية ابن إسحاق : " أصبت أهلي " وفي حديث عائشة : " وطئت امرأتي " وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبو عوانة في مستخرجه متنها أنه قال : " أفطرت في رمضان " (واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء كان وهو قول المالكية ، وقد تقدم نقل الخلاف فيه ، والجمهور حملوا قوله : " أفطر " هنا على المقيد في الرواية الأخرى ، وهو قوله : " وقعت على أهلي " وكأنه قال : أفطر بجماع ، وهو أولى من دعوى القرطبي وغيره تعدد القصة)اهـ وهو بعيد ؛ لأن القصة واحدة ، والمخرج متحد والأصل عدم التعدد
وجاء أنه واقعها ظهرا ففي مرسل ابن المسيب عند سعيد بن منصور *: " أصبت امرأتي ظهرا في رمضان "
ليس في الروايات تقييد الرقبة بمؤمنة والمذهب تقييدها ، وإنما قيدها أهل العلم هنا بحمل المطلق على المقيد ؛ لأجل اتحاد الحكم دون السبب ، خلافا للأحناف الذين أجازوا إعتاق الرقبة الكافرة ، قال ابن حجر في الفتح : " والأقرب أنه بالقياس ، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى "اهـ
في رواية ابن إسحاق : ( وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام؟ ) ففيها أن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع وهذا يرد ما رواه الدارقطني من طريق شريك عن إبراهيم بن عامر عن سعيد بن المسيب في هذه القصة مرسلا ، أنه قال في جواب قوله : هل تستطيع أن تصوم؟ " إني لأدع الطعام ساعة فما أطيق ذلك " ففي إسناده مقال ، وعلى تقدير صحته فلعله اعتل بالأمرين" واستدل بهذه الرواية على أن عدم استطاعته الصيام لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع عذر له في الفطر . قلت : والمذهب أن هذا فيمن لم يخش الضرر كتشقق أنثييه ونحو ذلك ، فإن كان كذلك فهو كالمريض له الفطر بقدر ما يدفع الضرر ثم يمسك ، وعليه القضاء دون الكفارة للآية في الرخصة للمريض
فرع : من يجد رقبة لا غنى له عنها ، فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد*
قوله : ( فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم ) كذا هنا بالميم والكاف المفتوحة - ويجوز ضمها - والثاء المثلثة ، وفي رواية أبي نعيم في " المستخرج " من وجهين عن أبي اليمان " فسكت " بالمهملة والكاف المفتوحة والمثناة ، وكذا ابن مسافر وابن أبي الأخضر ، وفي رواية ابن عيينة " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اجلس . فجلس "اهـ الفتح "قال بعضهم : يحتمل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحى إليه في حقه ، ويحتمل أنه كان عرف أنه سيؤتى بشيء يعينه به ، ويحتمل أن يكون أسقط عنه الكفارة بالعجز . وهذا الثالث ليس بقوي ؛ لأنها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إياه المكتل "اهـ الفتح قلت: ومعتمد مذهب الحنابلة سقوطها بالعجز كزكاة الفطر لأنها طهرة
قوله : ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم ) كذا للأكثر بضم أوله على البناء للمجهول وهو جواب " بينا " في هذه الرواية ... والآتي المذكور لم يسم لكن وقع في رواية معمر كما سيأتي في الكفارات " فجاء رجل من الأنصار " وعند الدارقطني من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب مرسلا " فأتى رجل من ثقيف " فإن لم يحمل على أنه كان حليفا للأنصار أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعم ، وإلا فرواية الصحيح أصح ، ووقع في رواية ابن إسحاق " فجاء رجل بصدقته يحملها " وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور " بتمر من تمر الصدقة " اهـ الفتح
"قوله : ( بعرق ) بفتح المهملة والراء بعدها قاف ، وقيل: بإسكان الراء وأنكره عياض قال ابن حجر : الراجح من حيث الرواية الفتح ، ومن حيث اللغة أيضا ، إلا أن الإسكان ليس بمنكر ، بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز "اهـ الفتح
قوله : ( والعرق المكتل ) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام ، زاد ابن عيينة عند الإسماعيلي وابن خزيمة : المكتل الضخم . قال الأخفش : سمي المكتل عرقا ؛ لأنه يضفر عرقة عرقة جمع فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقة ، والعرقة الضفيرة من الخوص... ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلم : " فجاءه عرقان " والمشهور في غيرها عرق ورجحه البيهقي ، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة ، وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث ، والأصل عدم التعدد ، والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق ، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل ، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر ، فمن قال : عرقان أراد ابتداء الحال ، ومن قال : عرق ، أراد ما آل إليه ، والله أعلم " "وفي رواية ابن أبي حفصة " فأتي بزبيل وهو المكتل " والزبيل بفتح الزاي وتخفيف الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام بوزن " رغيف " هو المكتل " قال ابن دريد : سمي ( زبيلا ) ؛ لأنه يحمل فيه الزبل ، والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعا ، وهي ستون مدا لستين مسكينا ، لكل مسكين مد " المنهاج ومعتمد مذهب الحنابلة : لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أقط فإن لم يجد شيئا يطعمه للمساكين سقطت عنه الكفارة
قوله : ( فقال الرجل على أفقر مني ) أي : أتصدق به على شخص أفقر مني؟ وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من يتصف بالفقر
قوله : ( فوالله ما بين لابتيها ) تثنية لابة والضمير للمدينة ، وقوله : " يريد الحرتين " من كلام بعض رواته في رواية " والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة " تثنية طنب - وهو بضم الطاء المهملة بعدها نون - والطنب أحد أطناب الخيمة ، فاستعاره للطرف .
قوله : ( فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه )
في رواية ابن إسحاق : " حتى بدت نواجذه "
ولأبي قرة في " السنن " عن ابن جريج : " حتى بدت ثناياه " ولعلها تصحيف من أنيابه ؛ فإن الثنايا تبين بالتبسم غالبا وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم ، ويحمل ما ورد في صفته - صلى الله عليه وسلم - أن ضحكه كان تبسما على غالب أحواله
قوله في رواية ابن إسحاق ولفظه : " خذها وكلها وأنفقها على عيالك " استدل به قوم على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها ؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال وهو معتمد مذهب الحنابلة وأحد قولي الشافعية. وقال الجمهور : لا تسقط الكفارة بالإعسار ... قال الشيخ تقي الدين : وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم ، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذا من هذا الحديث . وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه ؛ لأن العلم بالوجوب قد تقدم ، ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط ؛ لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز ، ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة اهـ فتح الباري لابن حجر
تنبيه : ما ورد مما يدل على إسقاط الكفارة أو على إجزائها عنه بإنفاقه إياها على عياله وهو قوله في حديث علي : " وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك " فهو حديث ضعيف لا يحتج به
* لم يرد من طريق صحيح أمره بقضاء اليوم مع الكفارة ولذا اختلف أهل العلم في وجوب القضاء والجمهور على وجوبه وجاء الأمر بالقضاء من طرق ضعيفة وطرق مرسلة مما يدل على أنه له أصلا
*
٤- قال ابن حجر في الفتح :
وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفا للشرع ، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه لقوله : واقعت أو أصبت ، على أنه قد ورد في بعض طرقه - كما تقدم - " وطئت " ، والذي يظهر أنه من تصرف الرواة .
وفيه الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم والتألف على الدين ، والندم على المعصية ، واستشعار الخوف .
وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم
وفيه جواز الضحك عند وجود سببه ، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة .
وفيه الحلف لتأكيد الكلام ، وقبول قول المكلف مما لا يطلع عليه إلا من قِبَله لقوله في جواب قوله : " أفقر منا " : " أطعمه أهلك " ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه .
وفيه التعاون على العبادة ، والسعي في إخلاص المسلم ، وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة ، وإعطاء الكفارة أهل بيت واحد إن قلنا أنه كفارة ، وأن المضطر إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطر آخر .
*
انتهى مختصرا من الفتح مع زيادات

*



بَابٌ : مَا جَاءَ فِي السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ

١- أي : باب ماجاء في حكم السواك للصائم
قال الحنابلة :
"يسن السواك بالعود كل وقت إلا لصائم بعد الزوال فيكره وأما قبل الزوال للصائم فالمذهب أن السواك مسنون له بيابس ومباح برطب" اهـ واستدلوا بقول النبي ﷺ " لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " قالوا : يستحب ترك أثر العبادة كدم الشهيد، ولم يقولوا بكراهة السواك قبل الزوال لأن أثر الصيام إنما يظهر غالبا بعد الزوال ، فوجب اختصاص الحكم به والصواب والله أعلم: أن السواك مسنون كل وقت وما استدلوا به معارض بمصلحة تطهير الفم بالسواك عند كل صلاة وفي كل حال وتقديم الأمر أولى من اعتبار أثر العبادة وبهذا قال معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد روى الطبراني بإسناد جيد عن عبدالرحمن بن غنم قال : سألت معاذ بن جبل : أتسوك وأنا صائم ؟ قال : نعم ، قلت : أي النهار ؟ قال : غدوة أو عشية . قلت : إن الناس يكرهونه عشية ويقولون : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ؟ قال : سبحان الله لقد أمرهم بالسواك ، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً ، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر " . وقال ابن عمر : لا بأس أن يستاك الصائم بالسواك الرطب واليابس رواه ابن أبي شيبة
وأما قولهم بكراهة رطوبة السواك فقد رده ابن سيرين وقاسه على المضمضة في الوضوء وهذا هو مراد البخاري عند ذكره لحديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي ﷺ في باب السواك بالرطب واليابس للصائم وللبخاري في ذلك ترتيب بديع قال ابن المنير في الحاشية :
"أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من أعم الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستاك به ، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب "
تنبيه : استدل الحنابلة بما رواه البيهقي وغيره عن علي رضي الله عنه قال قال رسول ﷺ : "إذا صمتم فاستاكوا بالغداةِ ولا تستاكوا بالعشيِّ" وهو حديث ضعيف لأن مدار المرفوع والموقوف على أبي عمر كيسان القصار وهو ضعيف لا يحتج به وقد ضعف الحديث الدارقطني والبيهقي والعراقي وقال: ضعيف جدا .
٢-روى الترمذي في هذا الباب حديث عامر بن ربيعة وفيه عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ضعيف من الرابعة
وقوله : ( وفي الباب عن عائشة ) أخرجه ابن ماجه والدارقطني بلفظ : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير خصال الصائم السواك "
وقوله : (وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا) وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار البخاري كما في صحيحه ، وقوله ( إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرِهُوا السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ بِالْعُودِ الرّطْبِ، وَكَرِهُوا لَهُ السِّوَاكَ آخِرَ النَّهَارِ)كالم لكية والشعبي فإنهم كرهوا للصائم الاستياك بالسواك الرطب لما فيه من الطعم، وقوله (وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ بِالسِّوَاكِ بَأْسًا أَوَّلَ النَّهَارِ وَلَا آخِرَهُ) والمشهور عنه كراهته بعد الزوال (وَكَرِهَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ السِّوَاكَ آخِرَ النَّهَارِ)
٣- الحديث أخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه
بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ

١-قوله ( باب ما جاء في الكُحل للصائم ) أي: ماجاء عن النبي ﷺ وقوله : (وَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ) اهـ قال النووي : واحتج أصحابنا بأحاديث ضعيفة نذكرها لئلا يغتر بها . منها : حديث عائشة قالت : { اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي شيخ بقية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . قال البيهقي : وسعيد الزبيدي هذا من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه ( قلت ) وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة . واختلفوا في روايته عن المعروفين فلا يحتج بحديثه هذا بلا خلاف .
وعن أنس قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : نعم } رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بالقوي . قال : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء .
وعن نافع عن ابن عمر قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الكحل وذلك في رمضان وهو صائم } في إسناده من اختلف في توثيقه .
وعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يكتحل بالإثمد وهو صائم } رواه البيهقي وضعفه ; لأن راويه محمد هذا ضعيف
قال البيهقي : وروي عن أنس مرفوعا بإسناد ضعيف جدا أنه لا بأس به . واحتجوا بالأثر المذكور عن أنس وقد بينا إسناده . وفي سنن أبي داود عن الأعمش قال : ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم اهـ

٢- قوله : ( وفي الباب عن أبي رافع )أخرجه البيهقي من طريق محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتحل وهو صائم . قال ابن أبي حاتم عن أبيه هذا حديث منكر ، وقال في محمد إنه منكر وكذا قال البخاري ، ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر وسنده مقارب ، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضا ولفظه : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد وذلك في رمضان وهو صائم ، ذكره الحافظ في التلخيص ، قال : ورواه أبو داود من فعل أنس ولا بأس بإسناده اهـ

٣-قوله : (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ : فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ ) قال قوم : يكره ولا يُفطِّر، وقال آخرون : إن اكتحل الصائم أفطر ، وقال آخرون منهم الإمام أحمد: يكره بجميع الأكحال ويفطر إن تحقق وصوله إليه وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وعنه : لا يفطر بيسير الإثمد غير المطيب كالميل ونحوه وظاهره ولو وجد طعمه ، وفرق ابن عقيل بين الحاد وغيره ، وعلة ذلك عند الحنابلة : أن العين منفذ غير معتاد وهذا المعتمد ، وقد اعتُضِد بورد أحاديث قولية ضعيفة تدل على النهي عن الكحل للصائم ولهذا قدموا هذا القول على قول الصحابي
وما ورد في الجواز فهو فيمن احتاج لذلك ولهذا حملوا الحديث على الكراهة ولأنه طريق إلى التحريم وهو الفطر من غير عذر ووقوعه على ما ذكرنا من تفصيل لأن العين منفذ للجوف غير معتاد (وَرَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.) سواء وجد طعمه في حلقه أم لا ; لأن العين ليست بجوف ولا منفذ منها إلى الحلق وهو قول أبي حنيفة واختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية : أنه لا يفطر بذلك كله روى أبو داود عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ
قال الماوردي : وروي عن ابن عمر أنه سئل عن الكحل للصائم فقال الإثمد غبار فما يضر الصائم إذا نزل الغبار وليس في الصحابة له مخالف اهـ

بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ.

١- قوله ( باب ما جاء في القُبلة للصائم ) أي في حكمها والمراد القبلة بشهوة وهي أخص من المباشرة لها ثم ذكر حديث عائشة الدال على جواز القُبلة للشيخ والشاب في الفرض والنفل والدال أيضا على عدم خصوصيته للنبي ﷺ وأردفه بقوله : (وفي الباب) فذكر حديث عمر رضي الله عنه ليبين أن الجواز لمن لم تحرك شهوته
فدلالة الحديث على الجواز ظاهرة ودلالته على من لم تحرك شهوته زيادة " كان أملككم لأربه" وأصرح منه حديث عمر رضي الله عنه الآتي في قوله وفي الباب وفيه ضعف والعمدة في ذلك حديث "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"
وأما دلالته على جوازه للشاب فإن عائشة كانت شابة ، وقد جاءت زيادة في حديث الباب الثاني عند النسائي وأبي داود أنه ﷺ كان يقبلها وهي صائمة
وأما دلالته على جوازه في الفرض التنصيص على شهر رمضان وفي النفل أولى
وأما دلالته على عدم الخصوصية رواية عائشة رضي الله عنها له في وقت التعليم دون التنصيص على الخصوصية فإن قيل قولها في حديث الباب الثاني " وكان أملككم لأربه " يدل على الخصوصية ويقيد إطلاقها هنا قلنا : قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك ، ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في " الموطأ " عن أبي النضر " أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت له عائشة : ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال : أقبلها وأنا صائم؟ قالت : نعم "
وهذا يرد ما حكى الخطابي وغيره عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب : أن من قبَّل قضى يوما مكان يوم القبلة "
ويرد قول من فرق بين الشاب والشيخ وذلك لأن عائشة كانت شابة، ويرد كذلك قول من قال أن القبلة تُنقص الأجر .
لكن الأولى ترك القبلة والمباشرة للصائم وهذا يفهم من قول عائشة رضي الله عنها : "ولكنه أملككم لإربه" وقولها عند مالك بلاغا : "وأيكم أملك لنفسه من رسول الله ﷺ ؟!" ورى مالك عن عروة : " لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير "

٢-قوله : (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرِهِمْ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ) فأباح القبلة قوم مطلقا، وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها
وكرهها قوم مطلقا وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر: " أنه كان يكره القبلة والمباشرة ". ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} الآية. فمنع المباشرة في هذه الآية نهارا، والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها، والله أعلم وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم ، قوله : (فَرَخَّصَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُبْلَةِ لِلشَّيْخِ، وَلَمْ يُرَخِّصُوا لِلشَّابِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ، وَالْمُبَاشَرَة ُ عِنْدَهُمْ أَشَدُّ) وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف ( وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْقُبْلَةُ تُنْقِصُ الْأَجْرَ) أي كماله فالأولى تركها مطلقا ( وَلَا تُفْطِِّرُ الصَّائِمَ، وَرَأَوْا أَنَّ لِلصَّائِمِ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ أَنْ يُقَبِّلَ، وَإِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ تَرَكَ الْقُبْلَةَ لِيَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ ) وأبو حنيفة وأحمد وهو ما أشارت إليه عائشة في حديثها الآتي ، ولم يفرقوا بين الشيخ والشاب وجعلوا مناط الحكم تحرك الشهوة فنهوا عن القبلة لمن تحرك شهوته والنهي للكراهة عند قوم، وللتحريم عند آخرين، والصحيح من مذهب الحنابلة : كراهة القبلة في حق من تحرك شهوته وتحرم إن ظن إنزالا ويبطل بها إن أنزل المذي وكذلك كل مباشرة، وعللوا ذلك بقولهم : "وأما الإمذاء : فتحلل الشهوة له وخروجه بالمباشرة فيشبه المني ، وبهذا فارق البول" اهـ
تنبيه : لا يفسد الصوم إذا أمذى بسبب النظر ولو كرره؛ لأنه دون المباشرة فلا يصح قياسه على الجماع ، ويفسد به إذا كرره فأمنى لخروجه باختياره بخلاف ما لو خرج بالنظر دون تكراره
وقال النووي : وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا ، وقيل : مكروهة كراهة تنزيه " اهـ
وقال المازري : ينبغي أن يعتبر حال المقبل ، فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه ؛ لأن الإنزال يمنع منه الصائم ، فكذلك ما أدى إليه ، وإن كان عنها المذي فمن رأى القضاء منه، قال : يحرم في حقه . ومن رأى أن لا قضاء، قال : يكره ، وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة "اهـ
قال ابن حجر :
" وقال مالك وإسحاق : يقضي في كل ذلك ويكفر ، إلا في الإمذاء فيقضي فقط . واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب بالجماع من التذاذ في كل ذلك . وتعقب بأن الأحكام علقت بالجماع ، ولو لم يكن إنزال فافترقا " وعند ابن حزم لا يبطل صومه بالقبلة ولو أمنى اهـ

٣-قوله : (وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَحَفْصَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) أخرجه مسلم في صحيحه
قوله : (وفي الباب عن عمر بن الخطاب ) أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت صنعت اليوم أمرا عظيما ، قبلت وأنا صائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم ؟ " قلت : لا بأس بذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ففيم ؟ " كذا في المنتقى قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث . أخرجه أبو داود والنسائي ، قال النسائي منكر ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم انتهى
وقوله ( وحفصة ) أخرجه ابن ماجه بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم
وقوله ( وأم سلمة )أخرجه الشيخان بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم
وقوله ( وابن عباس ) أخرجه ابن ماجه بلفظ قال : رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشباب
وقوله ( وأنس ) لينظر من أخرجه
وقوله ( وأبي هريرة )أبو داود بلفظ : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له ، وأتاه آخر فسأله فنهاه ، فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب انتهى . وسكت عنه أبو داود والمنذري . وقال ابن الهمام : سنده جيد ، كذا في المرقاة . اهـ قال البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه " *اهـ وقال ابن قدامة : "إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث ، وقال : هذا ريح ، ليس من هذا شيء" اهـ








بَابٌ : مَا جَاءَ فِي مُبَاشَرَةِ الصَّائِمِ.

١- المباشرة: الملامسة والمراد الملامسة بشهوة، والحكم فيها كالذي قبلها وهي أعم من القبلة ، والمنع من المباشرة- سواء بقصد اللذة أو بغير قصدها- لمن تحرك شهوته، إما بهيجان النفس، أو نزول المذي، أو المني، فإن كانت تُهيِّج نفسه فمكروهة عند الحنابلة وتحرم إن ظن إنزال المذي ويبطل به صومه وكذلك عند المالكية إن كانت المباشرة بقصد اللذة فتكره إن حركت شهوته وعلم السلامة من المذي ولو حصل إنعاظ ( انتشار الذكر)
وأما عند الشافعية فتحرم إذا كانت تحرك شهوته وضابط تحريك الشهوة عندهم خوف إنزال المني أو الجماع وعليه فلا يضر انتصاب الذكر وإن خرج منه مذي وعند الحنفية كالشافعية ولكن قالوا يكره إذا لم يأمن إنزال المني أو الجماع ولم يقولوا بالتحريم كالشافعية لأن عين المباشرة والقبلة والمعانقة مباحة فاعتبروا عاقبتها والعاقبة مشكوك فيها فقالوا بالكراهة لأنها طريق التحريم .
وعلى هذا نعلم أن أصل الخلاف بين الأئمة في حكم القُبلة هو الخلاف في ضابط الشهوة الممنوعة وقت الصيام فمن قال أن المذي مفطر قال بكراهة القبلة والمباشرة والمعانقة لمن تحرك شهوته لأنها طريق التحريم وهو نزول المذي هذا إن لم يظن نزوله بسببها فإن ظن نزوله حرمت القبلة ونحوها .
ومن قال بأن المذي غير مفطر علق المنع بمن خشي نزول المني أو الجماع ولا يُمنع منه إن أمن ذلك ولو حصل مذي وانتشار
ولكن يستحب له ترك ذلك والاستحباب قول الجميع والله أعلم
ودليل ذلك ما رواه المصنف في الباب فعن عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُنِي وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ"
ففيه الجواز إن ملك أربه والخلاف السابق بحسب فهم الأئمة للمراد من قولها " وكان أملككم لإربه " فحدها عند الجميع تحريك الشهوة والخلاف في ضابطها
قال النووي : معنى كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس ونحو ذلك وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم الانكفاف عنها اهـ .شرح مسلم للنووي

٢-قال ابن حجر: قوله: (لأربه) بفتح الهمزة والراء وبالموحدة، أي: حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء أي: عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير. اهـ
قال النووي : هذه اللفظة رووها على وجهين : أشهرهما رواية الأكثرين : " إربه " بكسر الهمزة وإسكان الراء ، وكذا نقله الخطابي والقاضي عن رواية الأكثرين ، والثاني : بفتح الهمزة والراء ، ومعناه بالكسر الوطر والحاجة ، وكذا ، بالفتح ، ولكنه يطلق المفتوح أيضا على العضو ، قال الخطابي في معالم السنن : هذه اللفظة تروى على وجهين : الفتح والكسر ، قال : ومعناهما واحد ، وهو حاجة النفس ووطرها ، يقال : لفلان على فلان إرب وأرب وإربة ومأربة ، أي حاجة ، قال : والإرب - أيضا - العضو . اهـ






بَابٌ : مَا جَاءَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ مِنَ اللَّيْلِ

١- قال : (باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل ) واستدل بحديث حفصة وقال : حَدِيثُ حَفْصَةَ حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ وَهُوَ أَصَحُّ، وَهَكَذَا أَيْضًا رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ إِلَّا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ اهـ
"قال أبو عبد الرَّحمن النَّسائيُّ: والصَّواب عندنا موقوفٌ، ولم يصحَّ رفعه - والله أعلم-، لأنَّ يحيى بن أيُّوب ليس بذاك القويِّ، وحديث ابن جريجٍ عن الزُّهريِّ غير محفوظٍ، والله أعلم." اهـ
"وقال الميمونيُّ: قلت: لأبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل-: كيف "إسناد حديث النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صوم لمن لم يجمع الصِّيام ... "؟ قال: أخبرك، ما له عندي ذاك الإسناد، إلا أنَّه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيِّدان اهـ يريد من قولهما

٢-قوله : (وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي صِيَامِ نَذْرٍ إِذَا لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ. وَأَمَّا صِيَامُ التَّطَوُّعِ فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَنْوِيَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ) اهـ
النية شرط لصحة الصوم عند الجميع ، واختلفوا في حكم تبييت النية ، وتبيتها عند مالك شرط مطلقا في الفرض والنفل، ولا يقطعها إن بيت النية إلا إغماء أو جنون ، وتكفي نية واحدة لما يجب تتابعه لا إن قطع التتابع بنحو مرض أو سفر أو نقاء من حيض أو نفاس
وقالت الحنابلة يجب تبييت النية وتعيينها في الفرض وفي كل ليلة فيما يجب تتابعه ، وأما النفل فلم يوجبوا التبييت وقالوا يصح النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده وبقولهم قالت الشافعية لكن للشافعي في النفل بعد الزوال قولان أظهرهما لايصح
وأما الحنفية فلم يوجبوا التبييت في الفرض المتعلق بزمن معين كرمضان وصوم النذر المعين فجوزوها في النهار بشرط أن تكون قبل الزوال وقالوا صوم كل يوم من رمضان لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَ الزَّوَالِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، وأما ما يثبت في الذمة من غير تقييد بزمن كقضاء رمضان والنذر المطلق وصوم الكفارات فلا يجوز ذلك إلا بنية معينة من الليل لعدم تعين الوقت . وقالوا : رمضان يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وواجب آخر ، وأما النفل كله فيجوز بنية قبل الزوال لا بعده
وعمدتهم في ذلك حديثان : حديث ابن عباس وما استشهدوا به من الحديث غير معروف وعلى فرض صحته فهو خارج محل النزاع والحديث الثاني حديث سلمة بن الأكوع وفيه الأمر بالإمساك في صيام عاشوراء والجواب من أوجه :
الأول : أن الحديث منسوخ وشرط القياس على الأصل ألا يكون منسوخا والنسخ حاصل عندنا على حكمه وشرائطه والثاني : أن عدم الأمر بالقضاء لأجل جهلهم بالحكم لا جواز ذلك قال ابن تيمية : "وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود ، أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة ، فهؤلاء كانوا جهالا بالوجوب ، فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل ، كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته ؛ بخلاف من كان قد علم الوجوب وترك الواجب نسيانا ، فهذا أمره به إذا ذكره " . انتهى من" مجموع الفتاوى " (21 /429 - 431) .
والثالث: لأن وجوبه كان نهارا كمن صام تطوعا ثم نذره .
فرع :
ضابط النية : في كشاف القناع: "(وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى) ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ."اهـ
مسألة :
حديث الباب يدل على أنه إذا نوى الصيام في أي جزء من الليل أجزأه ، وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع ، أم لم يفعل، واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم .
واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل ، كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به .
والصواب ما ذكرناه ولايصح اعتبارهم الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة ; لأنهما يجوزان بعد الفجر ، فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما ، بخلاف نية الصوم ، ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه ، واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم ، وفوات الصوم بفواتها فيه ، وهذا فيه مشقة ومضرة ، بخلاف التجويز ، ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير ، لجوازهما بعد الفجر ، والنية بخلافه
تنبيه : إن فسخ النية ، مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام ، لم تجزئه تلك النية المفسوخة ، لأنها زالت حكما وحقيقة .
فرع :
إن نوى الصيام في التطوع من النهار حكم بصومه الشرعي المثاب عليه من وقت النية على الصحيح من المذهب وعند الشافعية يحكم بصومه من أول النهار صححه النووي في الروضة .

بَابٌ : مَا جَاءَ فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ الْمُتَطَوِّعِ

١- أي في جوازه وروى في الباب حديثين عن أم هانئ من طريق سماك بن حرب وقال : وحديث أم هانئ في إسناده مقال اهـ
ففي سنده سماك وقد اختلف عليه فيه . وقال النسائي : سماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد ، وفي إسناده أيضا هارون بن أم هانئ . قال ابن القطان : لا يعرف ، وقال الحافظ في التقريب : مجهول . اهـ
قال الترمذي : وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ.اهـ
حديث أبي سعيد أخرجه البيهقي قال : صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعاك أخوك وتكلف لك ، أفطر فصم مكانه إن شئت " . قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث : إسناده حسن
وأما حديث عائشة فقد أخرجه الجماعة إلا البخاري . قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " هل عندكم من شيء ؟ " فقلت : لا ، فقال : فإني إذن صائم " ، ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال " أرينيه فلقد أصبحت صائما " فأكل "

٢- قوله : (وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ إِذَا أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَقْضِيَهُ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ ) اهـ
أحاديث الباب تدل على أنه يجوز لمن صام تطوعا أن يفطر ولا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين .
هذا مذهب الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز له الفطر
قال ابن قدامة في المغني : من دخل في صيام تطوع ، استحب له إتمامه ، ولم يجب ، فإن خرج منه ، فلا قضاء عليه ، روي عن ابن عمر ، وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ، ثم أفطرا ، وقال ابن عمر : لا بأس به ، ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان
وقال ابن عباس : إذا صام الرجل تطوعا ، ثم شاء أن يقطعه قطعه ، وإذا دخل في صلاة تطوعا ، ثم شاء أن يقطعها قطعها
وقال ابن مسعود : متى أصبحت تريد الصوم ، فأنت على آخر النظرين ، إن شئت صمت ، وإن شئت أفطرت هذا مذهب أحمد ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وقد روى حنبل ، عن أحمد ، إذا أجمع على الصيام ، فأوجبه على نفسه ، فأفطر من غير عذر ، أعاد يوما مكان ذلك اليوم . وهذا محمول على أنه استحب ذلك ، أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه
وقال النخعي ، وأبو حنيفة ، ومالك : يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر ، فإن خرج قضى . وعن مالك : لا قضاء عليه " اهـ قال ابن رشد في بداية المجتهد: أجمعوا على عدم القضاء في فطر التطوع، لعذر أو نسيان اهـ ونقله ابن عبدالبر أيضا، ثم قال ابن قدامة عن حديث الباب :
"فأما خبرهم ، فقال أبو داود : لا يثبت . وقال الترمذي : فيه مقال . وضعفه الجوزجاني وغيره ، ثم هو محمول على الاستحباب . إذا ثبت هذا ، فإنه يستحب له إتمامه ، وإن خرج منه استحب قضاؤه ; للخروج من الخلاف ، وعملا بالخبر الذي رووه " اهـ
قلت : ودليل استحباب القضاء حديث أبي سعيد أخرجه البيهقي قال : صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعاك أخوك وتكلف لك ، أفطر فصم مكانه إن شئت " . قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث : إسناده حسن
وحديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ - أَوْ لِآخَرَ : " أَصُمْتَ من سرر شعبان ؟ ". قَالَ : لَا، قَالَ : " فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ " متفق عليه
قال ابن رجب في لطائف المعارف : "و فيه دليل: على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل.اهـ
وقال ابن حجر في الفتح : وفي الحديث مشروعية قضاء التطوع ، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى ، خلافا لمن منع ذلك " اهـ
فرع : قال في الكوكب المنير شرح مختصر التحرير (٣٧٨/١) : ( ويلزمان ) أي فرض العين وفرض الكفاية ( بشروع مطلقا ) أي سواء كان فرض الكفاية جهادا ، أو صلاة على جنازة ، أو غيرهما . قال في شرح التحرير : في الأظهر . ويؤخذ لزومه بالشروع من مسألة حفظ القرآن . فإنه فرض كفاية إجماعا ، فإذا حفظه إنسان وأخر تلاوته من غير عذر حتى نسيه ، فإنه يحرم على الصحيح من المذهب . قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه : ما أشد ما جاء فيمن حفظه ثم نسيه . وفيه وجه يكره " اهـ قلت : ووجه كونه لازما على ما زاد على ما يسقط به الفرض حين الأداء هو أن فرض الكفاية واجب على الجميع عندهم لا على بعض غير معين والفرق بينهما أن الزائد على ما سقط به فرض الكفاية يقع نفلا على القول الثاني ومثال ذلك : صلاة الجنازة في الصلاة الواحدة هل ما زاد فيها على فرض الكفاية يقع نفلا ؟ قولان أصلهما ما ذكرنا
وهل فعل البعض بعد البعض يعد فرضا ؟ وجهان في المذهب . انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام القاعدة ٤٩


بَابٌ : صِيَامِ الْمُتَطَوِّعِ بِغَيْرِ تَبْيِيتٍ.

١- أي ما جاء في جوازه وروى في الباب حديث عائشة رضي الله عنها وفيه جواز صيام التطوع بنية نهارية هذا الصحيح في مذهب الحنابلة وقالوا : يجوز قبل الزوال و بعده اهـ
وقيل : لا يصح إلا بنية قبل الزوال وهو قول الحنفية وأظهر القولين عند الشافعية صححه ابن حجر في الفتح والثاني كالحنابلة .
والقول الثالث قول مالك والليث، وابن أبي ذئب: لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل.
والصواب والله أعلم جوازه بنية نهارية لحديث الباب
قال البخاري في صحيحه : باب إذا نوى بالنهار صوما وقالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول عندكم طعام فإن قلنا لا قال فإني صائم يومي هذا وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم " اهـ
وصل ابن حجر الآثار عن الصحابة في الفتح وقال : وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال حذيفة : " من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم " وفي رواية ابن أبي شيبة : " أن حذيفة بدا له في الصوم بعدما زالت الشمس فصام " ... وقال ابن المنذر : وقال ابن عمر : " لا يصوم تطوعا حتى يجمع من الليل أو يتسحر " اهـ والأول أصح وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال : أحدكم بأخير النظرين ، ما لم يأكل أو يشرب . وقال رجل لسعيد بن المسيب : إني لم آكل إلى الظهر ، أو إلى العصر ، أفأصوم بقية يومي ؟ قال : نعم "

مسألة : قال الحنابلة : وأي وقت من النهار نوى الصيام أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده . نص عليه ، وهو قول حذيفة، وظاهر قول ابن مسعود ، اختاره أكثر الأصحاب ، منهم القاضي في أكثر تصانيفه ، لحديث الباب وقول الصحابة ولا يعارض بقول ابن عمر فهو في وجوب تبييت النية من الليل وقد أجاب عليه الحديث فسلم قولهما من المعارض، ولأن الصلاة خفف نفلها عن فرضها فكذا الصوم ، ولما فيه من تكثيره ; لكونه يعن له من النهار فعفي عنه .
وقال القاضي في " المجرد " وتبعه ابن عقيل : لا يصح بعد الزوال؛ لأن فعله - عليه السلام - إنما هو في الغداء ، وهو قبل الزوال ، ولأن النية لم تصحب العبادة في معظمها ، أشبه ما لو نوى مع الغروب ، وأجيب عليه بأنه نوى في جزء منه يصح كأوله ، وجميع الليل وقت لنية الفرض فكذا النهار
وهذا القول هو ظاهر صنيع الترمذي ففي الحديث الثاني تقييد الجواز بقبل زوال الشمس، قال النووي : وهاتان الروايتان هما حديث واحد ، والثانية مفسرة للأولى ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين لا في يوم واحد ، كذا قاله القاضي وغيره ، وهو ظاهر ، وفيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس ، ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم : ( هل عندكم شيء ).؟ لكونه ضعف عن الصوم ، وكان نواه من الليل ، فأراد الفطر للضعف ، وهذا تأويل فاسد ، وتكلف بعيد " اهـ
فرع : قال ابن قدامة :
إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية ، في المنصوص عن أحمد ، فإنه قال : من نوى في التطوع من النهار ، كتب له بقية يومه ، وإذا أجمع من الليل كان له يومه . وهذا قول بعض أصحاب الشافعي .
وقال أبو الخطاب ، في " الهداية " : يحكم له بذلك من أول النهار . وهو قول بعض أصحاب الشافعي ; لأن الصوم لا يتبعض في اليوم ، بدليل ما لو أكل في بعضه ، لم يجز له صيام باقيه ، فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ، ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقة ، كما لو نسي الصوم بعد نيته ، أو غفل عنه ، ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها .
ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه ، فلا يكون صائما فيه ; لقوله عليه السلام { : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى } . ولأن الصوم عبادة محضة ، فلا توجد بغير نية ، كسائر العبادات المحضة . ودعوى أن الصوم لا يتبعض ، دعوى محل النزاع ، وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عاشوراء { فليصم بقية يومه } . وأما إذا نسي النية بعد وجودها ، فإنه يكون مستصحبا لحكمها ، بخلاف ما قبلها ، فإنها لم توجد حكما ، ولا حقيقة ، ولهذا لو نوى الفرض من الليل ، ونسيه في النهار صح صومه ، ولو لم ينو من الليل ، لم يصح صومه . وأما إدراك الركعة والجماعة ، فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة ، وينوي أنه مأموم ، وليس هذا مستحيلا ، أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له ، بحيث يجزئه عن فعله فكلا ، ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة ، لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام . وأما الصوم فإن النية شرط أو ركن فيه ، فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه . إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ، ولا فعل ما يفطره ، فإن فعل شيئا من ذلك ، لم يجزئه الصيام ، بغير خلاف نعلمه اهـ

٣- قوله : ( أعندك غداء ) بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل قبل الزوال
( قلت حيس ) بفتح الحاء المهملة وسكون الياء تمر مخلوط بالسمن وأقط ، وقيل طعام يتخذ من الزبد والتمر والأقط ، وقد يبدل الأقط بالدقيق والزبد بالسمن ، وقد يبدل السمن بالزيت ، قاله القاري
( قالت : ثم أكل ) قال ميرك : يدل هذا على جواز إفطار النفل وبه قال الأكثرون . وقال أبو حنيفة : يجوز بعذر وأما بدونه فلا . قوله ( هذا حديث حسن ) وأخرجه مسلم .


بَابٌ : مَا جَاءَ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ

١- أي على الصائم المتطوع الذي أفطر وللعلماء قولان :
الأول : وهو الصحيح لا يجب عليه القضاء وهو قول أحمد والشافعي واستدلوا بحديث عائشة السابق وحديث أبي سعيد "أفطر فصم يوما مكانه إن شئت " وحديث أبي جحيفة قال : ( ... فجاء أبو الدرداء فصنع له - أي لسلمان - طعاما فقال : كلْ فإني صائم ، قال سلمان : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال فأكل ... فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان ) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
والقول الثاني : يجب عليه القضاء وهو قول أبي حنيفة ومالك واستدلوا بحديث أم هانئ السابق وقد سبق بيان ضعفه، وبما روى الترمذي في الباب من حديث عائشة وفيه " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ. قَالَ : " اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ ".
ورجح إرساله، قال ابن حجر في فتح الباري : وقال الخلال : اتفق الثقات على إرساله وشذ من وصله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا . اهـ
قال الشوكاني في النيل ص١٣١ :
" ويدل على جواز الإفطار وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة يعني الذي فيه قصة زيارة سلمان أبا الدرداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز . قال ابن المنير : ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى { لا تبطلوا أعمالكم } لأن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان . وقال ابن عبد البر : من احتج في هذا بقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } فهو جاهل بأقوال أهل العلم ، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء ، كأنه قال { لا تبطلوا أعمالكم } بالرياء بل أخلصوها لله . وقال آخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر ، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك انتهى . قال الشوكاني : ولا يخفى أن الآية عامة ، والاعتبار بعموم اللفظ . لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ، فالصواب ما قال ابن المنير انتهى .

٢-تنبيهات :
الأول : نقل النووي اتفاق العلماء على استحباب إتمام صيام التطوع
والثاني : قال ابن رشد في بداية المجتهد:
أجمعوا على عدم القضاء في فطر التطوع، لعذر أو نسيان اهـ ونقله ابن عبدالبر أيضا
والثالث: يستحب القضاء ودليل استحباب القضاء لحديث أبي سعيد قال : صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعاك أخوك وتكلف لك ، أفطر فصم مكانه إن شئت " . رواه الدارقطني وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث : إسناده حسن
ولحديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ - أَوْ لِآخَرَ : " أَصُمْتَ من سرر شعبان ؟ ". قَالَ : لَا، قَالَ : " فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ " متفق عليه
قال ابن رجب في لطائف المعارف : "و فيه دليل: على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام و أن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل.اهـ
وقال ابن حجر في الفتح : وفي الحديث مشروعية قضاء التطوع ، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى ، خلافا لمن منع ذلك " اهـ









بَابٌ : مَا جَاءَ فِي وِصَالِ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ.

١- أي صيامه كله ووصله برمضان، وروى في الباب حديثين حديث أبي سلمة عن أم سلمة وحديث أبي سلمة عن عائشة قَالَتْ أم سلمة : مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.
ولفظ أبي داود : "أنه لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان" وهو أوفق لما ترجم به الترمذي
وعن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ : كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ "
وهذه الرواية مفسرة للأولى وأن المراد بالكل الأكثر ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( وَاللَّهِ، إِنْ صَامَ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلَا أَفْطَرَهُ حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ ) وفي رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه : "ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان" وهذا مراد الترمذي والله أعلم قال الترمذي : ( كأن ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين يقول إنما معنى الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر ) المراد بكلا الحديثين الحديث الذي ورد فيه صوم أكثر شعبان والحديث الذي جاء فيه صوم شعبان كله . قال الحافظ في الفتح : حاصل ما قال ابن المبارك أن الرواية الأولى مفسرة للثانية وأن المراد بالكل الأكثر ، وهو مجاز قليل الاستعمال ... اهـ
مسألة :
واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان على أقوال :
أحدها :
أنه ﷺ لم يقصد شعبان بكثرة الصيام وإنما كان صيامه إدراكا لما فاته من الصيام الذي كان يداوم عليه في شهور السنة وإلى هذا أشار ابن بطال وورد فيه حديث رواه الطبراني عن عائشة وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف
وقيل : إنما كان يكثر صيامه تعظيما لرمضان لأنه حريمه، وفيه حديث عند الترمذي عن أنس وفيه صدقة بن موسى وهو ليس بذاك القوي
وقيل : الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض ، وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان
وقيل : لأن نساءه ﷺ كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان
وقيل : لأنه شهر ترفع فيه الأعمال وتكتب فيه الآجال، قال ابن حجر في الفتح (ح ١٨٦٨):
والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال : " قلت : يا رسول الله ، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ، قال : ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم "
ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه : " إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة ، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم "
ولا تعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني ، فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده " اهـ
قلت : الحديث الأول فيه ثابت بن قيس أبو الغصن مختلف فيه واختصر ابن حجر حاله فقال : صدوق يهم اهـ ووثقه الذهبي وهو أحسن ما في الباب وأصح من الحديث الثاني ففيه سويد بن سعيد وروي من وجه آخر عند الخطيب وفيه إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت مجمع على ضعفه قال أبو حاتم (٢٥٠/١) : هو حديث منكر اهـ
وعلى هذا فأقوى الاحتمالات الأول والأخير وعلى الأول لا تعارض مع ما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : ( أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم ) وعلى الاحتمال الثاني فالمقدم ما في مسلم لأنه نص صريح بأنه أفضل الشهور للصوم ، وأما إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم فالجواب عنه من وجهين: قال النووي في شرح مسلم: " أحدهما : لعله إنما علم فضله في آخر حياته ، والثاني : لعله كان يعرض فيه أعذار ، من سفر أو مرض أو غيرهما "اهـ
تنبيه : ومعنى "صيام شهر الله المحرم" قال في كشاف القناع (٣٣٨/٣) : وَالْمُرَادُ أَفْضَلُ شَهْرٍ تَطَّوَّعَ فِيهِ كَامِلًا بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ التَّطَوُّعِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ أَيَّامِهِ كَعَرَفَةَ وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"اهـ

٢- فائدة :
روى ابن عساكر أن شعبان يسمى المطهر وهو ضعيف جدا وجاء عن الحسن مرسلا أن النبي ﷺ قال (شعبان شهري) وهو ضعيف وجاء عن عائشة مرفوعا وهو موضوع، وومثله ما رواه الديلمي (أنه يشعب فيه خير كثير) أو (ينشعب لرمضان فيه خير كثر ) فموضوع وروى أيضا ( أن فضله على سائر الشهور كفضل النبي ﷺ على سائر الأنبياء) وآفته هبة الله السقطي وعن ثابت عن أنس مرفوعا . " أفضل الصيام بعد رمضان شعبان " . و إسناده ضعيف
وأصح ما ورد في فضل الصيام في شعبان حديث أسامة بن زيد السابق وفيه من اختلف فيه
وحديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ - أَوْ لِآخَرَ : " أَصُمْتَ من سرر شعبان ؟ ". قَالَ : لَا، قَالَ : " فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ ".
قال ابن حجر في الفتح : "وقال : وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره أخذا من قوله في الحديث " فصم يومين مكانه " يعني : مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان . قلت : وهذا لا يتم إلا إن كانت عادة المخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يوما واحدا ، وإلا فقوله : " هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا " أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه أو أكثر ، نعم وقع في سنن أبي مسلم الكجي " فصم مكان ذلك اليوم يومين " اهـ والله أعلم

٣- قال ابن رجب في لطائف المعارف :
وفيه دليل: على أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال : أحدها : أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه و قد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه و فرق ابن عمر بين يوم الغيم و الصحو في يوم الثلاثين من شعبان و تبعه الإمام أحمد.
والثاني : أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة و نحو ذلك فجوزه الجمهور و نهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقا و هم طائفة من السلف و حكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة و الشافعي و فيه نظر
و الثالث :
أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان و رمضان بالفطر منهم الحسن و إن وافق صوما كان يصومه و رخص فيه مالك و من وافقه و فرق الشافعي والأوزاعى و أحمد و غيرهم بين أن يوافق عادة أو لا و كذلك يفرق بين صيامه بأكثر من يومين وصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من كره الابتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدئ الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان.
وفي الجملة
فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء وأنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة و لا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره.اهـ
قلت :
ومذهب الحنابلة: يكره تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، مالم يوافق عادة ، أو يصله بما قبل اليومين ، لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه" أو يصومه عن فرض، أو نذر معين أو مطلق ، فهذه أربع صور لا يكره صيامها حتى في يوم الشك ، بقيت صورتان وهما اللتان يقع فيهما الكراهة عند الحنابلة وهي: أن يتقدمه بنية رمضانية احتياطا، أو يصومه تطوعا من غير سبب
وأما حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" فقد ضعفه أحمد وغيره وصححه الموفق وحمله على نفي الفضيلة، وهل يصح مع الكراهة ؟ يصح عندهم ومثل هذا يوم الشك
وبهذا القول قالت المالكية إلا أنهم استثنوا من الكراهة صيام التطوع أيضا وعليه فلا يكره عندهم من الصور الست إلا صيامه بنية رمضانية احتياطا
وقالت الحنفية يكره صيامه في جميع الصور إلا في صيام التطوع لحديث "هل صمت من سرر شعبان قال لا قال فإذا أفطرت فصم يومين مكانه"
وقالت الشافعية : يحرم استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبل النصف من شعبان لظاهر حديث الباب حديث أبي هريرة ولحديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" فإن صادف عادة أو وصله جاز . وقال : وسواء في النهي- عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله -يوم الشك وغيره فيوم الشك داخل في النهي . صححه النووي في شرح مسلم .
والذي يظهر والله أعلم القول بتحريم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وحمل النهي على إطلاقه إلا ما استثني من صيام عادة أو واجب أو وصله بما قبله، والله أعلم .
*










بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الصَّوْمِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ لِحَالِ رَمَضَانَ

١-قوله (لحال رمضان ) أي ليحتاط لرمضان، وقيل: لئلا يضعف عن حق القيام بصيام رمضان على وجه النشاط ، وعلى هذا فالكراهة لا تشمل إلا من هذه حاله.
ولهذا قال الترمذي(لحال رمضان) ليجمع بين حديث الباب والحديث السابق وحديث أبي هريرة وحديث عمران بن الحصين فالحديث السابق فيه صيام النبي ﷺ بعد النصف من شعبان وحديث الباب فيه النهي وحديث أبي هريرة فيه النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين وحديث عمران بن حصين فيه صيام سرر شعبان وسرره آخره على قول جمهور العلماء وسمي بذلك لاستسرار القمر فيها
هذا أحد القولين في الحديث .
والقول الثاني : تضعيف حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " قال أحمد وابن معين . إنه منكر اهـ وعزا ابن حجر في الفتح هذا القول إلى الجمهور، وعليه فصيام شعبان يبقى على الاستحباب لفعل النبي ﷺ وهذا مذهب الحنابلة وبهذا فلا تعارض.
وأما حديث أبي هريرة وحديث عمران فقد "أشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره - وهو آخر الشهر - الفرار من المعارضة؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع. قال: وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره أخذا من قوله في الحديث: " فصم يومين مكانه " يعني: مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان. اهـ

٢- على القول بصحة الحديث فهل النهي للكراهة أم للتحريم ؟
قال الحافظ في فتح الباري : قال كثير من الشافعية بمنع الصوم من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا : " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " ، أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره .
وقال الروياني من الشافعية : يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث : " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين " ، ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر .
وقال جمهور العلماء . يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه ، وقال أحمد وابن معين . إنه منكر ... اهـ




بَابٌ : مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.

١- أي ما جاء في فضلها .
روى الترمذي في الباب حديث عائشة وبيَّـن أنه منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى والآخر ما بين يحيى وعروة .وقال : (حَدِيثُ عَائِشَةَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ) هو ابن أرطأة
وقال : ( وفي الباب عن أبي بكر الصديق )وفيه "يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " وهو حديث ضعيف
وفي حديث عائشة مرفوعا : "أتاني جبريل عليه السلام فقال هذه ليلة النصف من شعبان , ولله فيها عتقاء من نار بعدد شعور غنم بني كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر " رواه البيهقي في شعب الإيمان وضعف إسناده
وله فيه عنها " فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم " وقال : مرسل جيد اهـ وقال المنذري في الترغيب : فيه العلاء بن الحارث لم يسمع من عائشة اهـ
وروي عنها أن الله تعالى ينسخ فيها الآجال والأرزاق وضعفه الدارقطني كما في الميزان لابن حجر
وروي عن أبي أمامة أن الدعوة فيها لا ترد وحكم عليه بالوضع
وروي عن عبدالله بن عمر مرفوعا أن من قرأ فيها الإخلاص ألف مرة في مائة ركعة لم يخرج من الدنيا حتى يبعث الله إليه في منامه مائة ملك الخ رواه ابن الجوزي في الموضوعات وحكم عليه بالوضع
والخلاصة :
قال ابن رجب : " وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث متعددة ، وقد اختُلف فيها ، فضعّفها الأكثرون ، وصحّح ابن حبان بعضها " اهـ وذكر ابن تيمية أن نص أحمد على تفضلها وقال : هو قول أكثر أهل العلم وعليه أكثر الأصحاب . هذا فيما ورد من مفغرة الذنوب فيها إلا لمشرك أو مشاحن أو حاقد
أما ما ورد في فضل قيامها أو صيام نهارها أو العتق من النار في ليلتها أو نسخ الآجال والأرزاق وتوسيعها أو إجابة الدعاء فيها أو فضل قراءة سورة الإخلاص فيها فكلها ضعيفة وقد حكي الاتفاق على ذلك

٢- هل يستحب قيام ليلة النصف من شعبان ؟
قولان :
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ( وهو من أتباع التابعين من أهل المدينة ) : " لم أدرك أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان ، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول ولا يرى لها فضلاً على سواها من الليالي " ، أخرجه ابن وضاح بإسناد صحيح في ما جاء في البدع ( رقم ١١٩)
قال ابن رجب في اللطائف: وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مُليكة ، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة ، وهو قول مالك وغيرهم ، وقالوا : ذلك كلّه بدعة " .اهـ
والقول الثاني :
قال ابن رجب في اللطائف : وليلةُ النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام ، كخالد بن معدان ، ومكحول ، ولقمان بن عامر وغيرهم يُعظّمونها ويجتهدون فيها في العبادة ... وقد قيل : إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية " اهـ
واستحباب قيامها فرادى قول الحنفية والشافعية وميل ابن رجب من الحنابلة قال في اللطائف : ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان و يتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و استحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود و هو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه و ثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام) اهـ

فرع :
على القول الثاني، هل يستحب صلاتها جماعة في المساجد ؟
قولان نقلهما ابن رجب في اللطائف :
أحدهما: الاستحباب ونقله عن إسحاق بن راهوية وأهل الشام
والقول الثاني : كراهة ذلك، لا أن يصلي فيها لخاصة نفسه ونقله عن الأوزاعي واستقربه وقال ابن رجب : فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى، ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدم على ذلك التوبة، فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب"اهـ
تنبيهات :
الأول :
صلاتها في جماعة خاصة من غير مداومة ، قال تقي الدين ابن تيمية : إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ النِّصْفِ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ [ من غير مداومة ]كَمَا كَانَ يَفْعَلُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ فَهُوَ أَحْسَنُ . وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى صَلَاةٍ مُقَدَّرَةٍ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ بِقِرَاءَةِ أَلْفٍ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } دَائِمًا . فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
الثاني :
لا إنكار على من رأى الاستحباب
وقال : وَأَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ فَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِيهَا وَحْدَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ فِيهِ سَلَفٌ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ فَلَا يُنْكَرُ مِثْلُ هَذَا . " اهـ
الثالث:
لا أصل في فضل صوم النصف من شعبان مفردا ولا في اتخاذه موسما تصنع فيه الأطعمة والحلوى وتظهر فيه الزينة
قال ابن تيمية: (ليلةُ نصف شعبان رويَ فيها من الأخبار والآثار ما يقتضي أنها مفضلة ومن السلف من خصَّها بالصلاة فيها وصوم شعبان جاءت فيه أخبار صحيحة أما الصوم يوم نصفه مفرداً فلا أصل له، بل يكره، قال: وكذا اتخاذه موسماً تصنع فيه الأطعمة والحلوى وتظهر فيه الزينة وهو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وما قيل من قَسْمِ الأرزاق فيها لم يثبت) اهـ
الرابع :
قال بن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص 263: (روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم و محمد بن قيس عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك و تعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم)اهـ
الخامس :
قال ابن جرير : وقوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم نحو اختلافهم في الليلة المباركة ، وذلك أن الهاء التي في قوله ( فيها ) عائدة على الليلة المباركة ، فقال بعضهم : هي ليلة القدر ، يقضى فيها أمر السنة كلها من يموت ، ومن يولد ، ومن يعز ، ومن يذل ، وسائر أمور السنة ... وقال آخرون : بل هي ليلة النصف من شعبان ... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك ليلة القدر لما قد تقدم من بياننا عن أن المعني بقوله ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) ليلة القدر ، والهاء في قوله ( فيها ) من ذكر الليلة المباركة .اهـ
قال ابن كثير : ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان - كما روي عن عكرمة - فقد أبعد النجعة فإن نص القرآن أنها في رمضان . والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن عقيل عن الزهري : أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان ، حتى إن الرجل لينكح ويولد له ، وقد أخرج اسمه في الموتى " فهو حديث مرسل ، ومثله لا يعارض به النصوص . اهـ
وقال البغوي : وروى أبو الضحى عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما : أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر .اهـ قلت : فلينظر في إسناده عن ابن عباس
قلت : وسبب الخلاف ما روي فيها من نسخ الآجال والأرزاق ونحو ذلك والوارد في ليلة القدر لا يُعارَض بما ورد في ليلة النصف من شعبان ولا يُطلب فيه الجمع لضعف ذلك والله أعلم .


بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ الْمُحَرَّمِ.

١-أي في فضل صيام شهر المحرم كله فإن العرب إذا ذكرت اسم الشهر غير مضاف إلى لفظ شهر كان العمل عاما لجميعه هذا مذهب سيبويه وتبعه غير واحد حتى قال الصفار لم يُخالف في ذلك إلا الزجاج وعليه فما رواه الترمذي من فضل فالمراد به صيام المحرم كله فروى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ". حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.اهـ رواه الستة إلا البخاري
ثم روى حديث علي رضي الله عنه وفيه ذكر صيام الشهر كله وذكر سبب تفضيله فروى عن علي قَالَ : سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ : أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ قَالَ لَهُ : مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَسْأَلُ عَنْ هَذَا إِلَّا رَجُلًا سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؟ قَالَ : " إِنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصُمِ الْمُحَرَّمَ ؛ فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ : فِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ، وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ ". قال : هذا حديث حسن غريب اهـ
قال في كشاف القناع (٣٣٨/٣) : وَالْمُرَادُ أَفْضَلُ شَهْرٍ تَطَّوَّعَ فِيهِ كَامِلًا بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ التَّطَوُّعِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ أَيَّامِهِ كَعَرَفَةَ وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"اهـ
وفيه أنه لا يكره إفراده بالصوم ومثله غيره من الشهور إلا رجب لنهي عمر رضي الله عنه عن إفراده بالصوم
قال في كشاف القناع (٢/٣٤١) :
( ويكره إفراد رجب بالصوم ) ; لما روى ابن ماجه عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامه } وفيه داود بن عطاء ، وقد ضعفه أحمد وغيره ; ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه ولهذا صح عن عمر أنه كان يضرب فيه ويقول : كلوا فإنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه" اهـ
وقال في الإنصاف (٣/٣٤٧) :
تنبيه : مفهوم كلام المصنف : أنه لا يكره إفراد غير رجب بالصوم . وهو صحيح لا نزاع فيه . قال المجد : لا نعلم فيه خلافا .
فائدتان :
إحداهما : تزول الكراهة بالفطر من رجب ، ولو يوما ، أو بصوم شهر آخر من السنة . قال في المجد : وإن لم يله " اهـ

٢- تنبيه :
أعقب المصنف هذا الباب بعد (باب ما جاء في وصال شعبان برمضان) وفيه فضل شهر شعبان بكثرة صيامه ﷺ فيه فكيف أكثر النبي صلى الله عليه وسلم منه في شعبان دون المحرم مع أن نصه ﷺ أن صيام المحرم أفضل أفضل الصيام بعد رمضان والجواب : أحد أمرين قال النووي في شرح مسلم:
" أحدهما : لعله إنما علم فضله في آخر حياته ، والثاني : لعله كان يعرض فيه أعذار ، من سفر أو مرض أو غيرهما "اهـ
قلت : وهذا الجواب صحيح إن قلنا أن النبي ﷺ كان يصوم شعبان كله والصواب أنه كان ﷺ يصوم أكثره وما في الصحيحين من حديث عائشة ( كان يصوم رمضان كله) مفسر بزيادة مسلم في نفس الحديث قالت رضي الله عنها : ( كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ) وله عنها نحوه وفيه أنها نفت استكماله ﷺ صياما شهر غير رمضان حتى مضى لوجهه ولهما عن ابن عباس نحوه وللبخاري عن أنس ما يستدل لذلك
ولهذا فالوارد في ترجيح هذا القول أكثر و أصح وأصرح
وعليه فلا تعارض بينه وبين حديث الباب فالمراد بحديث الباب صيام الشهر كله والله أعلم .



بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
بَابٌ : كَرَاهِيَةُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ.

١-روى الترمذي في الباب الأول دليل من استحب صيام الجمعة ثم أعقبه بما يدل على كراهة إفراد صيامه من غير وصل بيوم قبله أو بيوم بعده وبقي ذكر الجواز إن وافق صوما يصومه أحدكم كأن يصوم يوما ويفطر يوما أو وافق عادة له كأن يكون من عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو نصفه ونحو ذلك لأن المراد بالكراهة تعمد إفراد يوم الجمعة بصيام ففي مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تخصوا ليلة الجمعة بصيام من بين سائر الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) وهذا الثاني هو صحيح مذهب الحنابلة
ومذهب الشافعية قال النووي في المجموع ( ٦/٤٨٠) :قال أصحابنا : يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم فإن وصله بصوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن نذر صوم يوم شفاء مريضه ، أو قدوم زيد أبدا ، فوافق الجمعة لم يكره ؛ لحديث أبي هريرة وغيره مما سبق " اهـ وصححه الرافعي كذلك
وقال أبو حنيفة، ومالك : لا يكره إفراد الجمعة بصيام بل قال مالك في الموطأ : وصيامه حسن اهـ وقال أبو حنيفة: يندب ولو منفردا
واستدلوا بحديث الباب الأول عن ابن مسعود قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ، وقلما ما كان يفطر يوم الجمعة }. رواه الترمذي وقال : حسن غريب اهـ وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان وابن عبد البر وابن حزم كذا في عمدة القاري .
والصواب القول بكراهة إفراده بالصيام إلا ما استثني وحديث ابن مسعود ونحوه محمول على أنه ﷺ كان يصله بيوم الخميس
وبذلك تجتمع الأدلة وعليها حمل الأئمة الأحاديث قال العيني : "وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح فحينئذٍ يكون نسخا أو تخصيصاً وكل واحد منهما منتف-انتهى." اهـ

٢- في حكم صيام الجمعة خمسة أقوال : أحدها : الإباحة مطلقا من غير كراهة، والثاني : الكراهة مطلقا، والثالث : كراهة إفراده، والرابع : أن النهي مخصوص بمن يتحرى صيامه، والخامس: أنه يحرم إلا لمن صام قبله أو بعده أو وافق عادته وهو قول ابن حزم لظواهر الأحاديث ورجحه جمع منهم الآجري من الحنابلة وصاحب المرعاة ولا أعلم صارفا للتحريم إلا جواز صيامه مع غيره فلو كان محرما لما جاز صيامه كالعيد ولهذا استشكل بعضهم تعليل المنع بكونه عيدا وأجاب ابن القيم وغيره أن التشبيه لا يستلزم الاستواء من كل وجه ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم

٣- اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال :
أحدها : لكونه عيدا
والثاني : لئلا يضعف عن العبادة وهو اختيار النووي
والثالث: خوف المبالغة في تعظيمه لأنه عيد
والرابع : خوف اعتقاد وجوبه
والخامس : خشية أن يفرض عليهم
والسادس : مخالفة للنصارى لأنه فرض عليهم نقله القلموني وهو ضعيف
ولا يخلو تعليل من اعتراض صحيح
قال ابن حجر في الفتح : " وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها ، وورد فيه صريحا حديثان :
أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا : يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم ، إلا أن تصوموا قبله أو بعده .
والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال : " من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ، ولا يصم يوم الجمعة ؛ فإنه يوم طعام وشراب وذكر " اهـ
وذكر ابن القيم في الزاد ( ١/٤٠٦) ثلاثة مآخذ على الكراهة : أحدها للتقوي على الصلاة، والثاني لكونه عيدا
والثالث : سَدُّ الذَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ بِالدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيُوجِبَ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَيَّامِ بِالتَّجَرُّدِ عَنِ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّة ِ، وَيَنْضَمُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ ظَاهِرَ الْفَضْلِ عَلَى الْأَيَّامِ، كَانَ الدَّاعِي إِلَى صَوْمِهِ قَوِيًّا، فَهُوَ فِي مَظِنَّةِ تَتَابُعِ النَّاسِ فِي صَوْمِهِ ولهذا خص بالنهي دون غيره اهـ



(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ)

١- أي في حكم صيامه ؟ وروى حديث الصماء بنت بسر مرفوعا ثم قال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَعْنَى كَرَاهَتِهِ فِي هَذَا : أَنْ يَخُصَّ الرَّجُلُ يَوْمَ السَّبْتِ بِصِيَامٍ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ السَّبْتِ.اهـ
وهذا القول هو الصحيح في مذهب الحنابلة والشافعية فمذهبهم :
كراهة تعمد إفراد يوم السبت بالصوم إلا أن يوافق عادة واستدلوا بحديث عبد الله بن بسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا لِحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه } رواه الخمسة إلا النسائي وهو معارض بما في البخاري عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجمعة وهي صائمة، فَقَالَ : " أَصُمْتِ أَمْسِ ؟ ". قَالَتْ : لَا. قَالَ : " تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِينَ غَدًا ؟ ". قَالَتْ : لَا. قَالَ : " فَأَفْطِرِي ".
ولهذا حمل الحنابلة والشافعية النهي على إفراد صيامه
وقيل : لا يكره إفراده بالصيام وهو قول تقي الدين ابن تيمية
قال المرداوي في الإنصاف :
"واختار الشيخ تقي الدين : أنه لا يكره صيامه مفردا ، وأنه قول أكثر العلماء ، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته ، وأن الحديث شاذ ، أو منسوخ ، وقال : هذه طريقة قدماء أصحاب الإمام أحمد الذين صحبوه كالأثرم ، وأبي داود ، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام الإمام أحمد الأخذ بالحديث . انتهى . ولم يذكر الآجري كراهة غير صوم يوم الجمعة ، فظاهره لا يكره غيره" اهـ
قلت : وأصل الخلاف الخلاف في حكم الحديث فمن ضعفه قال: لا يكره إفراده، ومن أثبته قال : يكره
والذين ضعفوا الحديث أعلوه بالمعارضة والاضطراب وقيل : هو منسوخ .
والذي صححوه قالوا بكراهة الإفراد لحديث جويرية وصارف تحريم إفراده جواز صومه مع غيره ولو كان محرما ما جاز صيامه


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ )

١- أي ما جاء من الأحاديث في استحباب ذلك فروى ما يدل على تحري النبي ﷺ لذلك وروى ما يدل على سبب تحريه ﷺ لصيامهما وروى بين الحديثين ما فيه صيامه ﷺ ثلاثة أيام من الشهر وفي الشهر الآخر صيام الثلاثة الأخرى غير الجمعة
وأعله بالوقف قال ابن حجر وهو أشبه اهـ

٢- قال ابن رجب في لطائف المعارف:
( وأكثر العلماء على استحباب صيام الأثنين والخميس
وروي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه وكان مجاهد يفعله ثم تركه وكرهه
وكره أبو جعفر محمد بن علي صيام الاثنين
وكرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر بالإنسان روي عن عمران بن حصين وابن عباس والشعبي والنخعي ونقله ابن القاسم عن مالك
وقال الشافعي في القديم أكره ذلك قال: إنما اكرهه لئلا يتأسى جاهل فيظن إن ذلك واجب قال فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد الوجوب ) اهـ
الاستحباب قول المذاهب الأربعة والظاهرية
قال في الروض المربع (١/٢٣٨) :
"(ويسن ... ) ... صوم (الاثنين والخميس) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» رواه أحمد والنسائي" اهـ
قلت : دليل استحباب صيام الاثنين من كل أسبوع ما رواه مسلم من طريق عبدالله بن معبد الزماني عن أبي قتادة قال الإمام مسلم بعد روايته للحديث : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، قَالَ : وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ؟ فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ لَمَّا نُرَاهُ وَهْمًا. اهـ قلت لأن أكثر الروايات من غير ذكر الخميس
وأما استحباب صيام الخميس فدليله ما رواه الترمذي عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما
واختلف أهل العلم في ثبوتها فقال جمع من أهل العلم بصحتها بمجموع طرقها ومنهم من صححها لذاته
وقال بعض الحفاظ: لا أعلم حديثاً مرفوعاً يصح في صيام يوم الخميس من كل أسبوع كما جاء في الاثنين، وقد جاء هذا مروي من حديث جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبي قتادة وأبي هريرة وأسامة وحفصة وغيرهم اهـ
قلت : وفي الموقوف مارواه ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال : " من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ، ولا يصم يوم الجمعة ؛ فإنه يوم طعام وشراب وذكر " حسن إسناده ابن حجر





بَابٌ : صَوْمِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ

١- روى تحت هذا الباب من طريق عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَأَلْتُ - أَوْ سُئِلَ - رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، فَقَالَ : " إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، صُمْ رَمَضَانَ وَالَّذِي يَلِيهِ، وَكُلَّ أَرْبِعَاءَ وَخَمِيسٍ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرْتَ ". وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ. حَدِيثُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ هَارُونَ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ.اهـ
واختلف في اسم أبيه، قال ابن عبدالبر : اختلف فيه ، فقيل : مسلم بن عبيد الله ، وقيل : عبيد الله بن مسلم ، ومن قال : عبيد الله . عندي أحفظ .اهـ

٢-ليس في الحديث حجة على استحباب صيام يوم الأربعاء والخميس لضعفه واختلف في المراد بقوله ﷺ ( والذي يليه ) فقيل : شعبان وقيل : ست من شوال، وأخرجه أبو داود تحت ( باب : في صوم شوال ) .













(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي فَضْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)
(بَابٌ : كَرَاهِيَةُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ)

١-روى الترمذي في هذا الباب من طريق عبدالله بن معبد الزِّمَّاني عن أبي قتادة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ". وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقْدِ اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَّا بِعَرَفَةَ.اهـ
والحديث أخرجه مسلم مطولا وفيه فضل صيام عاشوراء وصيام يوم الاثنين ولم يخرجه البخاري لتفرد الزِّماني به وقال في التاريخ الكبير : ولا نعرف سماعه من أبي قتادة اهـ وصحح الحديث جمع منهم مسلم لإمكان السماع وصححه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وهو ممن يشترطون ثبوت السماع ورجح السماع المزي والذهبي وابن حجر

٢- استدل البخاري على صوم يوم عرفة بحديث : ( أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ ، أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فقد أخرجه تحت ( باب صوم يوم عرفة ) ووجه الدلالة ما قاله ابن حجر في الفتح (ح١٨٨٧) :
هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا لهم في الحضر ، وكأن من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة ، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافرا ، وقد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلا عن النفل " اهـ
قلت : وفيه دلالة على استحباب صيام يوم عرفة وهو الموافق لحديث الباب وبهذا فظاهر صنيع البخاري موافقته للجمهور في استحباب صيام يوم عرفة لغير الحاج
وأما الحاج الواقف في عرفة نهارا فالمستحب في حقه الفطر لفعل النبي ﷺ وإن صام فلا يكره لفعل الصحابة
فإن قيل : فعله ﷺ المجرد لا يدل على نفي الاستحباب إذ قد يترك الشيء المستحب لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ
قلنا : هذا وارد عند استواء الحال أما في حال الحج والوقوف بعرفة والدعاء فمنفي في حق النبي ﷺ ومما يدل على قصد النبي ﷺ ذلك طلبا للأكمل اتباع الخلفاء الراشدين له من بعده ﷺ فقد روى الترمذي عن ابن عمر فطرهم في الحج بعرفة
ومن هنا يتبين لنا صنيع الترمذي وفقهه في إيراد حديث
( ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِلَبَنٍ، فَشَرِبَ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأُمِّ الْفَضْلِ. حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ : حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَصُمْهُ - يَعْنِي : يَوْمَ عَرَفَةَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الْإِفْطَارَ بِعَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى بِهِ الرَّجُلُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ صَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ.) وروى بعده حديث ابن عمر وفيه ( وَأَنَا لَا أَصُومُهُ، وَلَا آمُرُ بِهِ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.)
تنبيهان :
الأول : ما ذكره الترمذي من تعليل استحباب الفطر هو مذهب الحنابلة وعلل تقي الدين ابن تيمية : لأنه عيد
الثاني :
استحب الحنابلة والشافعية الصيام يوم صلاة الاستسقاء وفيها البروز للشمس والدعاء فلم فرقوا بينه وبين يوم عرفة
قال النووي في المجموع (٣٨١/٦) :
" وَسَبَقَ هُنَاكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْوُقُوفَ يَكُونُ آخِرَ النَّهَارِ وَوَقْتَ تَأْثِيرِ الصَّوْمِ مَعَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ وَالِاسْتِسْقَا ءُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ ظُهُورِ أَثَرِ الصِّيَامِ مَعَ أَنَّهُ مُقِيمٌ" اهـ

٣-مسألة : حكم ترك صيام يوم عرفة للحاج الواقف بعرفة على أقوال :
أحدها : من استحب ترك صومه للواقف بعرفة مطلقا وهو قول الشافعية وهل يكره صيامه ؟ عندهم قولان الأكثر لا وعدم الكراهة معتمد الحنابلة
والثاني : من استحب تركه لمن يضعفه الصيام عن الدعاء لأن الصيام ليس يختص بعبادة الحج كالدعاء قاله الباجي وقال ابن قدامة : "ولأن الصوم يضعفه ، ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم" اهـ وهذا القول محكي عن أحمد وأبي حنيفة والشافعي في القديم اختاره الخطابي وجاء عن قتادة : لا بأس به إن لم يضعفه . وفرق عطاء بين الصيف والشتاء لأجل الإضعاف
والثالث : لايستحب صومه ، وتركه أفضل ، وهو معتمد مذهب الحنابلة وعللوا ذلك بالتقوي على الدعاء قاله الخرقي وعن تقي الدين ابن تيمية : لأنه عيد اهـ ويوم العيد يوم أكل وشرب وذكر لله تعالى
ويستثنى من ذلك إذا عدم المتمتع والقارن الهدي ، فإنه يصوم عشرة أيام ، ثلاثة في الحج ، ويستحب أن يكون آخرها يوم عرفة ، عند الأصحاب ، وهو المشهور عن أحمد
الرابع : وجوب فطره قال النووي بالمجموع ( ٣٨١/٦) :
"وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَجِبُ الْفِطْرُ بِعَرَفَةَ" اهـ
والخامس : استحباب صيامه قال النووي في المجموع ( ٣٨٠/٦) :
"وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي العاص الصحابي وعائشة واسحق بْنِ رَاهْوَيْهِ اسْتِحْبَابَ الصَّوْمِ" اهـ

٤- أخرج حديث أحمد وأبو داود وابن ماجة من طريق مهدي العبدي الهجري حدثنا عكرمة حدثنا أبو هريرة : { أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة }
قال ابن حجر في تلخيص الحبير (٤٠٨/٢):
" أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة ، وفيه مهدي الهجري مجهول ، ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال : لا يتابع عليه ، قال العقيلي ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد { أنه لم يصم يوم عرفة بها }. ولا يصح عنه النهي عن صيامه ، قلت : قد صححه ابن خزيمة ، ووثق مهديا المذكور : ابن حبان " اهـ
قلت : وممن حكم بجهالة مهدي بن حرب الهجري أحمد وابن معين وبنحوه أبو حاتم وقال النسائي في الكبرى وفي حديث أم الفضل كفاية أو نحو ذلك وقال ابن القيم في الزاد (٦١/١) في إسناده نظر اهـ وضعف الحديث الألباني
وعلى القول بصحة الحديث فالنهي نهي استحباب لا إيجاب خلافا للمنقول عن يحيى بن سعيد الأنصاري ولو كان للإيجاب لم تصمه عائشة رضي الله عنها أخرجه ابن حزم في المحلى وجاء كذلك عن ابن الزبير وجاء عن ابن عمر عدم النهي عن صيامه كما في الترمذي والله أعلم .























بَابٌ : الْحَثُّ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
بَابٌ : الرُّخْصَةُ فِي تَرْكِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
بَابٌ : مَا جَاءَ عَاشُورَاءُ : أَيُّ يَوْمٍ هُوَ ؟


١-في هذه الأبواب ثلاث مسائل :
الأولى : استحباب صيام عاشوراء
والثانية: بيان أن عاشوراء كان واجبا ثم نُسخ إلى الاستحباب ولم يذكر هذا الباب أولا ليكون ما قبله مقدمة له
والثالثة : في تحديد يوم عاشوراء

٢-المسألة الأولى : يستحب صيام يوم عاشوراء باتفاق المذاهب
قال ابنُ حجر: (ونقَل عياض أنَّ بعض السَّلف كان يرى بقاءَ فرضيَّة عاشوراء، لكن انقرَض القائلون بذلك، ونقل ابن عبد البَرِّ الإجماعَ على أنَّه الآن ليس بفرْض، والإجماعُ على أنَّه مستحَبٌّ، وكان ابنُ عمر يَكرَه قصْدَه بالصومِ، ثمَّ انقرض القولُ بذلك).اهـ ولا يكره إفراده بالصوم ولو وافق يوم الجمعة أو السبت
ويُستحبُّ مع صيامِ عاشوراءَ صَوْمُ يومٍ قَبلَه، وهو اليومُ التَّاسِعُ مِن شَهرِ اللهِ المحرَّمِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ أيضا
وقيل : أكمل المراتب صيام يوم قبله ويوم بعده ولم يثبت في هذا حديث وروي عن عطاء وطاووس وحمله بعض العلماء على من اشتبه عليه دخول أول الشهر
قال ابن قدامة في المغني:
قال أحمد : فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام . وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر . اهـ
وروى ابن أبي شيبة عن طاووس مثل هذا.
فائدتان :
الأولى :
ورد في حديث أبي قتادة أن صيام عرفة يكفر سنتين وصيام عاشوراء يكفر سنة وهذا دليل على أن صيام عرفة أفضل ولهذا قدمه الترمذي في التبويب
وأما روي عن ابن عباس مرفوعا " ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء " فمنكر قاله الألباني وقال الذهبي :غريب فيه نكارة .
الثانية :
الحكمة من صيام عاشوراء قول رسول الله ﷺ : ( إن يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء... ) الحديث قوله ﷺ : من أيام الله أي : نعمه وقيل : وقائعه وكلا المعنيين صحيح .
ففيه ذكر الحكمة من صيام هذا اليوم وهي تذكر أيام الله التي نصر فيها أولياءه وأهلك فيها أعداءه وأن النصر مع الصبر وأن العاقبة للمتقين فيتجدد في النفس مع تذكر هذه الأيام بالاجتماع على شكر هذه النعمة والثبات على الحق .

٣- المسألة الثانية : قال النووي في شرح مسلم :
(واختلفوا في حكمه في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان :
فقال أبو حنيفة : كان واجبا
واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين مشهورين : أشهرهما عندهم : أنه لم يزل سنة من حين شرع ، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ، ولكنه كان متأكد الاستحباب ، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب ) اهـ
وذكر في المجموع أنه نص الشافعي الصريح وخالفه ابن حجر وقال بالوجه الثاني عندهم وهو قول الأحناف
وعن أحمد روايتان قدم في كشاف القناع أنه لم يكن واجبا، واختار الموفق والشارح وابن تيمية وجوبه ثم النسخ إلى الاستحباب وهذا ظاهر ترجيح الترمذي والله أعلم.
فائدة :
فُرض صوم عاشوراء في السنة الثانية وفيها فرض صوم رمضان وهذا يدل على أنه لم يصم فرضا إلا سنة واحدة

٤- المسألة الثالثة : يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم هذا قول جمهور أهل العلم وقيل : هو اليوم التاسع منه
ونذكر اختلاف العلماء في تعيين يوم عاشوراء :
قال أبو داود : "باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع" وذكر عن ابن عباس ما يحتمل التأويل وذكر ماهو تفسير من بعض الرواة وما عند الترمذي صريح من قول ابن عباس أنه العاشر ولهذا كان تبوب الترمذي : "باب ما جاء عاشوراء أي يوم هو" وبمثله قال النووي : "باب أي يوم يصام في عاشوراء " مع أنه جزم أن قول ابن عباس التاسع
وهذا يشير إلى وجود اختلاف في نظر العلماء في قول ابن عباس ؟
قال الجمهور يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم وهذا الموافق للاشتقاق والتسمية وهو الحق
ونُقِل عن ابن عباس والضحاك أنه اليوم التاسع وعمدة من حكى هذا القول عن ابن عباس
ما رواه الإمام مسلم عن الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء أي يوم هو أصومه؟ قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد ثم أصبح من التاسع صائما قال فقلت أهكذا كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم "
وهذا الحديث وقع في مفهومه خلاف وظاهره أنه يقول أن عاشوراء اليوم التاسع كما قال النووي وخالفه ابن المُنَيِّر وقوى قوله ابن حجر على أن الحديث لا يدل على ذلك وكذلك هو ظاهر صنيع الترمذي فقد أشار إلى أن مراد ابن عباس صيام التاسع مع العاشر لا أن التاسع هو عاشوراء
فقد روى الترمذي بعد هذا الحديث حديث ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر"
وقال : ( حديث ابن عباس حديث حسن صحيح واختلف أهل العلم في يوم عاشوراء فقال بعضهم يوم التاسع وقال بعضهم يوم العاشر وروي عن ابن عباس أنه قال صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد وإسحق) اهـ
قلت : قوله حسن صحيح عن حديث ابن عباس يحتاج إلى تحرير لأنه من رواية الحسن عن ابن عباس والحسن لم يسمع من ابن عباس ولعل الترمذي يقصد الحديث الذي قبله لأن الكلام عليه .
فائدة:
ما ذكره الترمذي عن ابن عباس صوموا التاسع الخ رواه أحمد مرفوعا بسند ضعيف وصح عند عبدالرزاق من قول ابن عباس .

٥- تنبيهات :
١-لا يثبت في تخصيص عاشوراء بشيء من العبادات غير الصيام حديث ولا يثبت في فضل صيامه شيء غير تكفير سنة قبله .
٢- لا يثبت في صيام يوم بعده ويوم قبله حديث وإنما جاء موقوفا على ابن عباس وحمله بعضهم على الاحتياط فيمن اشتبه عليه أول الشهر وحمله بعضهم على الكمال كما جاء عن ابن القيم فجعل مراتب صيام عاشوراء ثلاث مراتب
٣-ما جاء في أنه عيد نبي قبلنا لا يصح وماجاء في فضل الاغتسال فيه والاختضاب والاكتحال فموضوع
وأما الصدقة فيه فقد روى أبو موسى المديني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « من صام عاشوراء فكأنما صام السنة, ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة » والغالب على أفراد أبي موسى المديني الضعف
٤-ما جاء أن سفينة نوح هبطت فيه على الجودي فلا يصح
وكذلك ما جاء أن الله تاب فيه على آدم وعلى مدينة يونس وأن إبراهيم ولد فيه .
٥- ماجاء فيه من أمر المرضعات ألا يرضعن أولادهن فضعيف
٦-ما جاء في التوسعة على العيال فضعيف بل حكم ابن تيمية أنه كذب ولذا حكم على أنها بدعة ولعل مراده اعتقاد سنية ذلك بخصوصه وأما استحباب التصدق بالتوسعة عليهم لشرف الزمان فلا أظنه يمنع منه إلا إن كان العمل ظاهرا واشتهر العمل به وداوموا على ذلك فتركه حينئذ مطلوب في الجملة سدا لذريعة البدعة وقد نص على هذا الأصل الشاطبي في الاعتصام(٣١/٢)
وقال بعض أهل العلم بحسن الحديث بمجموع طرقه كالبيهقي والسخاوي وأفرط العراقي فحسن بعض طرقه بذاتها
ولذا استحبوا التوسعة على العيال في يوم عاشوراء
والحق ما قاله حرب قال : سألت أحمد عن الحديث الذي جاء « من وسع على أهله يوم عاشوراء » فلم يره شيئا اهـ وقال العقيلي : هو غير محفوظ ، وقد روي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف اهـ
٧-ما جاء في الأمر بقضاء يوم عاشوراء فضعيف .
٨- اتخاذ يوم عاشوراء مأتما من البدع المنكرة التي أحدثها الرافضة ، وخالفوا بها أهل السنة والجماعة .

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صِيَامِ الْعَشْرِ)
(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ الْعَشْر)

١- يُستحَبُّ صَومُ الأيَّامِ العشر مِن شهرِ ذي الحِجَّة باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ
والمراد بالعشر هاهنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة
ودليل الاستحباب اندراجُ الصَّومِ في العَمَلِ الصالحِ الذي يُستحَبُّ في هذه الأيَّامِ العشر
وليس في حديث عائشة رضي الله عنها : ( مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ) دليل على كراهة صومها ولهذا رواه الترمذي بعد حديث ابن عباس عن النبي ﷺ (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ) ليبين أن قول عائشة ليس فيه كراهة صوم العشر
فإن قيل لم ترك النبي ﷺ صيامها ؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري :
" وَاسْتُدِلَّ بِهِ – أي بحديث ابن عباس - عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ ، وَلَا يَرد عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ " اهـ .
تنبيه:
ليس الصيام سنة للعشر وإنما يستحب لاندراجه في عموم استحباب العمل الصالح في العشر

٢- حديث عائشة معارض بما رواه أحمد والنسائي وأبو داود من طريق عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ امْرَأَتِهِ ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ؛ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ.
والجواب :
أن حديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم تسع من ذي الحجة ضعيف لا يحتج به ، اختُلف فيه على هنيدة : فروى عنه عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أُمَّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُخْتَصَرًا .
وعلى القول بصحته فالمثبت مقدم على النافي ويحمل حديث عائشة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صيام هذه الأيام لعارض من سفر أو مرض أو شغل ونحوه ، فحدثت عائشة رضي الله عنها بما رأته من ذلك .

٣- قال الترمذي : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ وَاصِلٍ ، عَنْ نَهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :
" مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ وَاصِلٍ، عَنِ النَّهَّاسِ.
وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مِثْلَ هَذَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي نَهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.اهـ
قلت : الخبر منكر : فرواية قتادة عن سعيد بن المسيب منكرة كما نص على ذلك الإمام أحمد وكذلك البرديجي وغيرهما . ومسعود بن واصل لين الحديث
بَابٌ : صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ.

١- أي ما ورد في استحباب صيام ذلك ولو متفرقا واستدل له بحديث أبي أيوب الأنصاري وقال حسن صحيح وذكر صفوان بن سليم متابعا لسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري
وحديث أبي أيوب رواه مسلم وقال أحمد هو من ثلاثة أوجه عنه ﷺ اهـ وذكره بعض الحفاظ عن ثمانية من الصحابة مما جعل بعضهم يذكره من المتواتر كالكتاني والسيوطي ومع ذلك فقد كره مالك صيام الست ولعله لم يبلغه الحديث كما قال ابن عبدالبر وقال بعضهم بضعف الحديث لضعف سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد الأنصاري وحكم بتفرده وممن ضعفه الحافظ أبو دحية ورد عليه العلائي في رسالة رفع الإشكال ومن هنا وقع الخلاف بين أهل العلم في حكم صيام الست من شوال على أقوال :
القول الأول:
الاستحباب. وهو قول ابن عباش ومذهب الحنابلة والشافعية وبعض فقهاء الحنفية والمالكية ودلالة الحديث عليه صريحة
والقول الثاني:
الكراهة. وهو قول في المذهب الحنفي والمالكي
والقول الثالث:
كراهة صيامها متتابعة فإذا فرقت الأيام فلا بأس في ذلك وبه قال بعض المالكية وأبو يوسف وغيره من الحنفية
والقول الرابع:
كراهة الاتباع؛ أي صيام يوم العيد وخمسة أيام بعده، واستحباب صومها بعد عيد الفطر سواء أكانت متتابعة أم متفرقة، وذهب إلى هذا بعض المالكية وبعض الحنفية

٢- استحب بعض أهل العلم كالشافعية والحنابلة صيام الست عقب العيد لما فيه من المسارعة بالطاعة ويحصل فضلها لو صامها متفرقة في شوال لا في غيره فمن صامها فيه كمن صام سنة فرضا
قال البهوتي الحنبلي في كشاف القناع : " (وَلَا تَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ بِصِيَامِهَا) أَيْ: السِّتَّةِ أَيَّامٍ (فِي غَيْرِ شَوَّالٍ) لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا إلَّا لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَالَهُ أَحْمَدُ وَالْأَصْحَابُ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْفُرُوعِ: أَنَّ فَضِيلَتَهَا تَحْصُلُ لِمَنْ صَامَهَا وَقَضَى رَمَضَانَ وَقَدْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الْأَصْحَابِ وَفِيهِ شَيْءٌ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ." اهـ
قلت : والمذهب كما في المنتهى يحرم التطوع بالصوم ولا يصح قبل قضاء رمضان ولا يحرم قبل صوم نذر أو كفارة
وصحح ابن رجب الجواز في قواعده واستظهره المرداوي في التنقيح وما ذكروا روايتان عن أحمد
والثاني أصح

والقول الثاني : أن فضيلة صيام الست من شوال تحصل بصيامها في غير شوال وبه قال بعض المالكية وذكره ابن مفلح احتمالا قال في الفروع: " ويتوجه احتمال : تحصل الفضيلة بصومها في غير شوال , وفاقا لبعض العلماء , ذكره القرطبي , لأن فضيلتها كون الحسنة بعشر أمثالها , كما في خبر ثوبان , ويكون تقييده بشوال لسهولة الصوم لاعتياده رخصة , والرخصة أولى" اهـ وضعفه المرداوي بقوله في الإنصاف: " قلت : وهذا ضعيف مخالف للحديث , وإنما ألحق بفضيلة رمضان لكونه حريمه , لا لكون الحسنة بعشر أمثالها ; ولأن الصوم فيه يساوي رمضان في فضيلة الواجب " اهـ
والقول الثالث : ذهب جماعة من الشافعية إلى أن من فاته صيام ست من شوال قضاها في ذي القعدة .
لكن ثوابها يكون دون ثواب من صامها في شوال ، فمن صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان له ثواب صيام سنةٍ فرضا ، بخلاف من صام رمضان وستة من غير شوال ، فهذا له ثواب رمضان وثواب ستة أيام نفلا .


٣- أقوى ما استدل من قال بعدم الاستحباب أو بكراهة صيام الست ضعف الحديث سندا ونكارته متنا لأنه شبه صيامها مع رمضان بصيام الست بصيام الدهر وهو مكروه وقالوا : اتباع رمضان بالصوم من جنس تقدم رمضان بالصوم
وجواب ذلك مافي كشاف القناع قال : ("وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» رَوَاهُ مسلم أَبُو داود وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَحَسَّنَهُ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقَدُّمِ لِرَمَضَانَ؛؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ فَاصِلٌ وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ فَذَلِكَ سَنَةٌ» يَعْنِي أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، الشَّهْرُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةُ بِسِتِّينَ فَذَلِكَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ: التَّشْبِيهُ بِهِ فِي حُصُولِ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ كَمَا يَأْتِي فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَلَا يُقَالُ: الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ صِيَامَهَا بِصِيَامِ الدَّهْرِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ فِي صَوْمِهَا دُونَ صَوْمِهِ"اهـ


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ)

١- روى حديث أبي هريرة وفيه استحباب صيام ثلاثة أيام من غير تحديد ثم روى حديث أبي ذر وفيه تحديدها بالبيض ثم روى عنه أيضا ما فيه فضل صيامها وأنه يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها ثم ختم الباب بحديث عائشة وفيه أنه ﷺ (كَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّهِ صَامَ) أي من أيام الشهر ليبين بهذا الترتيب حصول الفضل بصيام الثلاثة أيام من كل شهر وأفضلها صيام البيض وتفضيل صيام البيض ثبت عن جمع من الصحابة كعمر رضي الله عنه من فعله واستدل بفعله ابن عباس وكذلك جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه من فعله رواها ابن جرير في تهذيب الآثار
وأما المرفوع فظاهر صنيع البخاري في صحيحه العمل بها ولم يخرج حديثها وأما النسائي فظاهر صنيعه في السنن تعليلها
ومن هنا نشأ الخلاف في استحباب صيام الثلاثة أيام من كل شهر في الأيام البيض
فقال الجمهور : يستحب أن يكون صيام الثلاثة أيام من كل شهر في الأيام البيض وهو مذهب الحنابلة والحنفية والشافعية وجماعة من المالكية
قال في كشاف القناع : "(وَيُسَنُّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) قَالَ فِي الشَّرْحِ وَالْمُبْدِعِ: بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ (وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ أَيَّامَ) اللَّيَالِي (الْبِيضِ وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ) لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَالِثَ عَشَرِهِ وَرَابِعَ عَشَرِهِ وَخَامِسَ عَشَرِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
(وَهُوَ) أَيْ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (كَصَوْمِ الدَّهْرِ أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ) بِصِيَامِهَا (أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ) ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا (مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ) الَّتِي فِي صِيَامِ الدَّهْرِ (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَسُمِّيَتْ بِيضًا لِابْيِضَاضِهَا لَيْلًا بِالْقَمَرِ وَنَهَارًا بِالشَّمْسِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِهِ بَيَانِيَّةٌ، وَأَنَّ الْبِيضَ وَصْفٌ لِلْأَيَّامِ وَكَلَامُهُ فِي الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ يُخَالِفُهُ قَالَ: وَسُمِّيَتْ لَيَالِيهَا بِالْبِيضِ لِبَيَاضِ لَيْلِهَا كُلِّهِ بِالْقَمَرِ زَادَ فِي الشَّرْحِ: وَالتَّقْدِيرُ لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَابَ فِيهَا عَلَى آدَمَ وَبَيَّضَ صَحِيفَتَهُ." اهـ
والقول الثاني : كره جمع من المالكية كون هذه الثلاثة هي أيام الليالي البيض، وعليه درج خليل ابن إسحاق حيث قال : وكره كونها البيض . أي أيام الليالي البيض، ولكن الدليل قائم على خلاف قولهم كما تقدم.


(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ)

١- روى الترمذي ثلاثة أحديث في فضل الصوم وفيها ذِكْرُ فضله في ذاته وفضله في جزائه أما فضله في ذاته فلخلوصه من شائبة الرياء وكف صاحبه عن الإثم ووحر الصدر وتخصيص باب من أبواب الجنة لأهله لا يدخل منه إلا هم
وأما فضل جزائه فبمضاعفة ثوابه بغير حساب وعدم الأخذ منه حين الاقتصاص من المظالم وكونه وقاية له من النار وأن رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وفي هذا تفضل على رائحة دم الشهيد يوم القيامة فإن رائحته كالمسك وذلك لأن الصوم ركن من أركان الإسلام
٢- تنبيه :
هذا الفضل لا يتحقق إلا بشرطه وشرطه ما رواه أحمد والنسائي والبيهقي من حديث
أبي عبيدة بن الجراح : *"الصيام جنة ما لم يخرقها"*زاد الدارمي : قال أبو محمد "بالغيبة"*
وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظر فإنه يشهد لمعناه ما في البخاري (3/23)عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ* "من لم يَدَعْ قول الزول والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه "
وما روى ابن أبي شيبة في مصنفه(8684) عن أَبِي الْعَالِيَةِ ، قَالَ : " الصَّائِمُ فِي عِبَادَةٍ مَا لَمْ يَغْتَبْ"*اهـ وجاء نحوه عن الصحابة ويدل على ذلك الدلالة الإيمائية من سياق حديث الباب وهي ظاهرة
وعلى هذا فمن خرق الصيام فقد نقص أجره ولا يزال حتى يُحرم الفضل الوارد في الحديث والله المستعان*
*
٣-قال صفي الرحمن المباركفوري في تحفة الأحوذي (3/455) :
" ( فلم يرفث ) بضم الفاء قال الحافظ : فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح ، الفتح في الماضي والضم في المستقبل ، قال : والرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول ... ) اهـ

٤- قال القسطلاني في إرشاد الساري(3/354) : "(ولا يصخب)، بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحة، ويجوز إبدال الصاد سينًا أي لا يصح ولا يخاصم"اهـ
قال أبو الحسن المباركفوري في مرعاة المفاتيح(٨/٤١١):
*وفي رواية سعيد بن منصور (ولا يجادل) وهذا كله ممنوع على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم. ولذا قال القرطبي: لا يفهم من هذا إن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذكر وإنما المراد إن المنع من ذلك يتأكد بالصوم" اهـ

٥-قال القسطلاني في إرشاد الساري : (فإن سابه أحد ) وزاد سعيد بن منصور من طريق سهيل (أو ماراه ) يعني جادله (أو قاتله) يعني إن تهيأ أحد لمشاتمته أو مقاتلته ( فليقل ) له بلسانه إني صائم ليكف خصمه عنه أو بقلبه ليكف هو عن خصمه"اهـ
قلت: هما قولان والمذهب الأول قال البهوتي في الروض المربع: "وسن لمن شتم قوله جهرا : إني صائم" اهـ
في رمضان وغيره وهو ظاهر المنتهى واختاره تقي الدين ابن تيمية لأن القول المطلق باللسان
وقال المجد ابن تيمية في المحرر : "إن كان في غير رمضان أسره مخافة الرياء "اهـ وبه قال صاحب الإقناع.
*
٦-قوله ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) ولمسلم ( يوم القيامة )
قال القسطلاني :
"(و) الله (الذي نفس محمد بيده لخلوف) بضم الخاء على الصواب .. (أطيب عند الله) يوم القيامة كما في مسلم أو في الدنيا لحديث (فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك)"اهـ قال المنذري: إسناده مقارب وحسنه أبوبكر السمعاني في أمالية قال وذهب جمهور العلماء إلى ذلك كالخطابي وابن عبد البر والبغوي في شرح السنة ... وأبي بكر بن العربي اهـ
قلت: وعليه يندفع الإشكال في منع آكل الثوم ونحوه من المساجد دون الصائم بسبب تغير رائحة الفم والسبب لأن تغير رائحة فم الصائم محبوبة عندالله وما كان كذلك كان محبوبا عند ملائكته وبهذا تنتفي علة تأذي الملائكة وهذه العلة غير منتفية فيمن تغيرت رائحة فمه بغير اختياره . قلنا هذا حتى لا يعلل بها والله أعلم
تنبيه : أجاز بعضهم فتح الخاء " لخَلُوف"

٧- تخصيص باب لأهله لا يدخل منه إلا هم دليل على عظيم فضله فإن للجنة ثمانية أبواب خصصت لثمانية أعمال من بين جميع العبادات لعظيم فضلها .
ومناسبة ذكر هذا الحديث بعد الحديث السابق لبيان أن الفضل فيه لا يحصل إلا لمن قام بشرط الفضل السابق وهو كذلك فقد ذكر البخاري بعد هذا الحديث حديث من أنفق زوجين في سبيل الله ، وهو ترتيب مناسب إذا فسرنا الزوجين بإنفاق ما يقويه على فعله وإنفاق الإخلاص في القصد ، فكأن البخاري يبين أن فضل الصيام ومنه الدخول من باب الريان لا يحصل إلا بهذا الإنفاق .
قوله : ( باب الريان ) بفتح الراء وتشديد التحتانية وزن " فعلان " من الري : اسم علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه
مسألة : هل باب الريان خاص بصيام التطوع ؟
قال ابن حجر :
"وقوله : فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ) زاد في الصيام " فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها " وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها ، وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها ، بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات ، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له ، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد ، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه والله أعلم "اهـ
قال ابن عبدالبر :
" ومعنى الدعاء من تلك الأبواب إعطاؤه *ثواب العاملين ، ونيله ذلك والله أعلم " اهـ
قلت : لا أعلم نصا يدل على التخصيص وقوله ﷺ : "يدخل منه الصائمون" يدخل فيه من صام الفرض فقط ولم يخرم صيامه بغيبة ونحوها والله أعلم وهؤلاء قليل

٨- قوله : (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ) لزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح الطبيعي، أو من حيث إنه تمام صومه وخاتمة عبادته وفرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك (وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ) أي بجزائه وثوابه أو بلقاء ربه وعلى الاحتمالين فهو مسرور بقبوله
تنبيه : حصول الفرح إذا لقي ربه مشروط بخلوه من المفسدات وما يخرمه من الجهل وقول الزور والعمل به والمشاتمة والمسابة والمقاتلة والمجادلة لأن خلو الصوم من ذلك شرط القبول كما سبق تحريره
٩- مقصود الباب :
بيان فضل الصوم وأنه لا يحصل إلا بالكف عن المفطرات وكف الجوارح عن الآثام و القلب عن الوساوس .
وهذا الكف يحصل بتذكير النفس كقوله جهرا لنفسه ولغيره إني صائم يُذَكِّر بها نفسه ويكررها مرتين ليزجرها ومن يخاطبه بذلك ويقول ذلك في صيام التطوع والفرض والله أعلم بالصواب .














*(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ)
(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ)
()بَابٌ : كَرَاهِيَةُ الصَّوْمِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ)
(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)


١- في الباب الأول ذكر حكم صوم الدهر وأنه مكروه لأنه لا يكون صوم الدهر إلا إذا لم يفطر العيدين وأيام التشريق فإذا أفطرها لم يكن صام الدهر كله واحتج لهذا بالأبواب بعده فذكر صوم داود وسرد النبي ﷺ للصيام ليبين أن سرد الصوم أو أكثر الدهر غير منهي عنه ومنه صورة الباب إذا خلا من صيام صيام العيدين والتشريق ولهذا ختم المسألة بذكر باب في النهي عن صيام العيدين والتشريق
وصنيعه هذا يوحي إلى أن النهي عن صيام الدهر لأنه يدخل فيه صيام المنهي عنه لا لأن صيامه قد يكون سببا في ضعفه عن شيء من أعمال البر مما هو أولى منه أو قد يضر بصاحبه هذا ما ظهر من صنيع المصنف
ولكن هل يجيز ذلك أم يستحبه في ذلك خلاف
والقول الأول في المسألة :
كراهة صيام الدهر إذا أفطر في العيدين والتشريق هذا مذهب الحنفية وأهل الظاهر ورواية عن أحمد وقول إسحاق وبها قال ابن قدامة وابن تيمية
والقول الثاني : جائز غير مكروه لمن لا يخاف ضررا ولا يفوت به حقا بشرط فطر يوم العيدين والتشريق وهذا معتمد الحنابلة واختلف المجيزون في أيهما أفضل الصيام أم الترك
والقول الثالث : استحبابه بالشروط الثلاثة السابقة وهو قول الشافعية والمالكية فإن أخل كره عند الشافعية ووجه السبكي التحريم إن كان الإخلال في حق واجب
والقول الرابع : حرمة صومه وهو قول ابن حزم وقد شذ بهذا القول عن الظاهرية
وأقربها الأول والثاني ودليل الكراهة ما قال ابن حجر في الفتح (ح ١٨٧٦) :
قوله : ( لا صام من صام الأبد مرتين ) في رواية مسلم : " قال عطاء : فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد " واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر ، قال ابن التين استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه : نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله : " لا أفضل من ذلك " ودعاؤه على من صام الأبد .
وقيل : معنى قوله : " لا صام " النفي ، أي : " ما صام " ... والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ، ولم يفطر ؛ لأنه أمسك . وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر ، وهي رواية عن أحمد" اهـ
ومما يبين أن صوم الدهر مكروه أو خلاف الأولى هو أن العبادة إذا كانت أكثر عملا كانت أفضل والأفضل لا يكون إلا راجحا فلما جاء أن أفضل الصيام صيام داود وهو أقل عملا دل ذلك على أن صيام الدهر مكروه أو خلاف الأولى فإن قيل هو متساوي الطرفين قلنا هذا ممتنع لأن العبادة إما أن تكون راجحة أو مرجوحة
فإن قيل فقد ورد عن الصحابة صيامه كأبي طلحة وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وقد ذكر أن الإمام أحمد لما سجن سرد صيام ثلاثين شهرا مع أن المشهور من مذهبه عدم الاستحباب
قلنا : قد ورد في مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري مرفوعا " من صام الدهر ضيِّقت عليه جهنم حتى تكون هكذا وقبض كفه " قال ابن خزيمة : لم يسند هذا الخبر عن قتادة غير ابن أبي عدي عن سعيد " اهـ
قال العقيلي في ترجمة الضحاك بن يسار : " وقد روي هذا عن أبي موسى موقوفا ولا يصح مرفوعا" اهـ
ورجح بعضهم المرفوع وحملوه على الترغيب كابن خزيمة فقالوا : ضيقت عنه حتى لا يبقى له فيها مكان
ورد هذا المعنى الأئمة كابن القيم وحكي رده عن أحمد وأورَدَه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي بَابِ مَنْ كَرِهَ صَوْمَ الدَّهْرِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إنَّمَا أَوْرَدَهُ رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالنَّهْيُ عَنْ صَوْمِهِ اهـ
وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح أن عمر بلغه أن رجلاً يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول كل يا دهري"
قال ابن حزم: قد صح عن عمر تحريم صيام الدهر كما رويناه فذكر هذا الأثر ثم قال، هذا في غاية الصحة عنه فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه ولو كان عنده مباحاً لما ضرب فيه ولا أمر بالفطر اهـ
وروى الطبراني عن عمرو بن سلمة قال سئل ابن مسعود عن صوم الدهر فكرهه. قال الهيثمي: إسناده حسن
وهذه الآثار تثبت وجود الخلاف بين الصحابة مما يدفع مظنة ترك العمل بالنصوص أو تأويلها بمن كان كحال ابن عمرو ونحو ذلك والله أعلم
وأخيرا : فهناك أدلة لكل قوم ومحصل الجواب عليها ما ذكره ابن دقيق العيد :
"بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد ، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق ، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور ، ومقدار الفائت من ذلك مع مقدار الحاصل غير متحقق ، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله : " لا أفضل من ذلك " وقوله : " إنه أحب الصيام إلى الله تعالى " اهـ

٢- حكم صيام العيدين
قال القاضي عياض في إكمال المعلم ( ٩٢/٤) :
"وقد أجمع العلماء على تحريم صيام هذين اليومين بأي وجه كان، من تطوع أو نذر، أو دخول فى صوم واجب متتابع .
ثم اختلفوا في من نذرهما قاصدًا لعينيهما هل عليه قضاؤهما؟ ...
واختُلف قول مالك وأصحابه إذا لم يقصد تعينهما، وإنما نذر نذرًا اشتمل عليهما، أو نذر يوم يقدم فلان فصادفهما... " اهـ
قلت: ومذهب الحنابلة في المسألتين : يحرم الوفاء وعليه القضاء والكفارة فإن وفى بنذر المعصية وهي هنا صام يوم العيد أثم ولا كفارة وبالإجزاء قال أبو حنيفة

٣- حكم صيام أيام التشريق
قيل : يحرم صيام أيام التشريق مطلقا
وقيل : يحرم صيام أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي هذا مذهب الحنابلة
وقيل : يجوز صيامها إلا لفرض كقضاء رمضان قياسا على من لم يجد الهدي
وقيل : يجوز مطلقا
والصواب الثاني لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ)
(بَابٌ : مَا جَاءَ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ)

١-روى الترمذي في الباب الأول وصححه ما يدل على أن الحجامة مفطرة للحاجم والمحجوم ونقل أن الحديث رواه مرفوع عن جمع من الصحابة فوق العشرة ولهذا حكاه السيوطي من المتواتر وقد صحح الحديث جمع من الحفاظ منهم الإمام أحمد وابن المديني والبخاري وابن خزيمة وغيرهم وبه استدل الحنابلة وجمهور فقهاء المحدثين كابن المبارك وابن مهدي وإسحاق بن منصور وإسحاق بن راهوية وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والحاكم على فطر الحاجم والمحجوم واشترط الحنابلة خروج الدم
ونقل ابن قدامة القول بفطر الحاجم والمحجوم عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأبي هريرة وعائشة مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، والحسن البصريِّ وابنِ سيرين، وبذلك قال الداوديُّ مِنَ المالكية
وعلة الفطر عند الحنابلة تعبدية لأن ذكر الفطر بالحجامة غير معقول المعنى ولو كان الفطر بوصف غير الحجامة لبينه الشرع ولهذا قالوا : لا فطر بفصد وشرط ولا بإخراج دمه برعاف ومثله الآن التبرع بالدم وونحوه كسحب الدم للتحليل
تنبيه : قصر ابنُ تيمية ـ*رحمه*الله*ـ لفظَ «الحاجم» في الحديث على الحاجم المعتاد الذي يمصُّ الدمَ دون الحاجم الذي يشرط ولا يمصُّ، أو يأخذ الدمَ بطريقٍ أخرى غيرِ المصِّ، أو يمصُّه مفطرٌ غيرُه، ويرى أنَّ كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خرج على الحاجم المعتاد، وأنَّ قَصْرَه عليه لا يُعَدُّ مخالفةً للنصِّ ولا تعطيلًا له
وقيل :
إنَّ الحكمة في إفطار الصائم ـ*عند القائلين بفسادِ صومِه*ـ أنَّ الحجامة تسحب الدمَ مِنْ بدن الصائم المحجوم، فتُسبِّب له مزيدَ ضعفٍ وإنهاكٍ إلى جانبِ ضعفِ صيامه؛ لذلك كان مِنْ شرع الله تعالى ورحمتِه بعباده أَنْ صارَتِ الحجامةُ تُفطِّر تفاديًا لإضرار المسلم؛ لئلَّا يجتمع عليه عامِلَا ضعفٍ في وقتٍ واحدٍ.
وأمَّا سبب إفطار الحاجم فلأنه يجتذب الهواءَ الذي في القارورة بامتصاصه، فيَصِلُ إلى جوفه شيءٌ مِنْ دم الحجامة بواسطةِ مَحاجِمِه وهو لا يشعر.
وهذه الحكمة إذا كانَتْ خفيَّةً أو مُستَتِرةً عُلِّق الحكمُ بمَظنَّتها، كالنائم لمَّا كان قد يخرج منه الريحُ وهو لا يشعر بها عُلِّق الحكمُ بالمظنَّة ـ*وهي النوم*ـ وإِنْ لم يخرج منه ريحٌ، فكذلك الحاجم
والقول الثاني في المسألة :
لا فطر بالحجامة وهو قول جمهور الفقهاء قال به أبو حنيفة ومالك والشافعي وهو معتمد مذاهبهم
وعمدتهم مارواه الترمذي في الباب الثاني وقالوا أنها ناسخة لحديث رافع وغيره لأن ابن عباس روى عن النبي ﷺ أنه احتجم وهو محرم صائم وإنما صحب ابن عباس النبي ﷺ وهو محرم في حجة الوداع فهو ناسخ لحديث رافع لتأخره
ومما احتجوا به حديث أنس في قصة جعفر بن أبي طالب عند الدارقطني وفيه فرخص النبي ﷺ بالحجامة بعد ذلك وبنحوه حديث أبي سعيد وفيه الترخيص من غير ذكر قصة رواه النسائي وابن خزيمة
وبحديث أنس عند البخاري عن ثَابِتً الْبُنَانِيَّ يَسْأَلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ ؟ قَالَ : لَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ
والجواب على ذلك:
أن لفظ وهو صائم في حديث ابن عباس منكرة ضعفها أحمد وغيره
وحديث أنس فيه خالد بن مخلد قال أحمد : له أحاديث مناكير اهـ وفي المتن ما يدل على نكارة روايته لأن فيه أن ذلك كان في الفتح وجعفر كان قتل قبل ذلك
وأما حديث أبي سعيد فرجَّح وَقْفَه الترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ خزيمة وأبو حاتمٍ وأبو زُرْعة الرازيَّان
وأما حديث أنس عند البخاري فهو قوله وقد عارضه جمع من الصحابة

(بَابٌ : مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْوِصَالِ لِلصَّائِمِ)


١-روى الترمذي حديث أنس وفيه نهي عن مواصلة الصيام وفيه ذكر ما يدل على أن النهي نهي إرشاد
ومعنى الوصال المنهي عنه قال ابن قدامة في المغني: "وهو أن لا يفطر الصائم بين اليومين بأكل ولا شرب"اهـ قصدا لمواصلة الصيام وأما مواصلته إلى السحر فجائز

٢- اختلف أهل العلم في حكم الوصال هل هو للتحريم أم للكراهة أم أن النهي عنه رحمة وتخفيف فمن قدر فلا حرج ؟ ثلاثة أقوال
فالمبيح لمن قوي على الوصال أخذ برواية البخاري
" فواصل الناس فشق عليهم فنهاهم"
وبحديث عائشة : *
"نهاهم النبي ﷺ عن الوصال رحمة لهم"
والذين قالوا بالنهي وهم الجمهور أخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تواصلوا ) *
وأجابوا على استدلالهم بقوله ﷺ: ( رحمة ) أنه لا يمنع النهي فإن من رحمته لهم أن نهاهم عنه ، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا ، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في أكيد زجرهم ؛ لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي ، وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك ، والجوع الشديد ينافي ذلك بخلاف حاله ﷺ ولهذا صرح بأن الوصال يختص به بقوله ﷺ :
" لست في ذلك مثلكم "
وقوله : " لست كهيئتكم "

٣- اختلف القائلون بالنهي هل هو للتحريم أم للكراهة ؟
القول الأول : " يكره الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين أو الأيام ولا يكره إلى السحر وتركه أولى." لما روى البخاري عن أبي سعيد مرفوعا : "لا تواصلوا فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر "
وهذا مذهب الحنابلة نسبه ابن قدامة إلى أكثر أهل العلم
وصارف التحريم مواصلته ﷺ بأصحابه ولو كان محرما لم يقرهم على ذلك
ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فالنهي نهي إرشاد .

وبالكراهة قال الجمهور من الحنفية والمالكية وبعض الشافعية

والقول الثاني : النهي للتحريم ونسبه بعضهم للأكثر
قول ابن حزم وصححه ابن العربي من المالكية وقال النووي : أن الوجه الأصح في المذهب الشافعي أن النهي عن الوصال نهي تحريم وحده النووي كحد ابن قدامة

والقول الثالث : *النهي للتحريم على من يشق عليه الوصال ويباح لمن لا يشق عليه
وهذا مذهب عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وجمع من التابعين وهو قوي في النظر

تنبيه :
"إن واصل لم يبطل صومه لأن النهي لا يرجع إلى الصوم فلا يوجب بطلانه "
قال النووي في المجموع: *
" اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرمناه أو كرهناه ، لما ذكره المصنف أن النهي لا يعود إلى الصوم ، والله أعلم"اهـ
قلت : وهذا الموافق لأصول مذهب أحمد لأن النهي لا يعود إلى ذات الصيام ولا إلى شرطه ولا إلى حق الله تعالى على الرواية الثانية في اقتضاء النهي الفساد


فوائد :
قال ابن حجر في الفتح :
"قال أبو شامة : ليس لأحد التشبه به في المباح كالزيادة على أربع نسوة ، ويستحب التنزه عن المحرم عليه والتشبه به في الواجب عليه كالضحى ، وأما المستحب فلم يتعرض له ، والوصال منه فيحتمل أن يقال : إن لم ينه عنه لم يمنع الائتساء به فيه ، والله أعلم ."اهـ
*
*
٤-في الصحيحين قال النبي ﷺ :
ما بال رجال يواصلون إنكم لستم مثلي أما والله لو تماد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"
قال البخاري :
"باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع لقوله تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} "اهـ
ووجه الترجمة من الحديث *: قولهم : إنك تواصل ، ومواصلتهم بعد النهي وفيه : أن الأصل الأخذ بالظاهر وترك تأويله إلا بموجب وإلا وقع في أحد محاذير ثلاث: تكذيب الخبر وهو قول على الله بغير علم أو غلو في الطلب فيبتدع أو تفريط في الطلب فيقصر .
وهذا داخل في النهي {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}
*فقوله ﷺ : "يدع المتعمقون تعمقهم"
فيه بيان للحكمة من النهي عن الوصال وهو ترك التعمق .
وفي حديث عائشة " رحمة لهم"وفي حديث أبي هريرة : اكْلُفوا من الأعمال ما تطيقون"
قال البخاري في صحيحه :
"ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمة لهم وإبقاء عليهم وما يكره من التعمق" اهـ
والحكمة من النهي لئلا يحصل الضرر بالبدن أو السآمة من العمل أو الضعف عن الطاعات

فوائد :
الأولى : لم يخش النبي صلى الله عليه وسلم فرضية الوصال كالقيام لأن الوصال من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لسبب لا يتحقق في أمته ولذا أمن من إيجابه لأنه لو شُرع الوصال مع عدم مماثلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكان فيه تكليف ما لا يطاق والشريعة منزهة عن ذلك .

الثانية : في مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل آخر فقام أيضا حتى كنا رهطا فلما حس النبي صلى الله عليه وسلم أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا قال قلنا له حين أصبحنا أفطنت لنا الليلة قال فقال نعم ذاك الذي حملني على الذي صنعت قال فأخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك في آخر الشهر فأخذ رجال من أصحابه يواصلون فقال النبي ﷺ ما بال رجال يواصلون إنكم لستم مثلي أما والله لو تماد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"
وفي هذا الحديث دلالة على أن الوصال وقيامه صلى الله عليه وسلم كان في عام واحد ولم أقف على تحديد العام وقد روى هذه القصة أبو داود وغيره عن أبي ذر وفيه( وقام بنا ) يريد رسول الله ﷺ وهجرة أبي ذر كانت بعد أحد وروى ابن أبي شيبة عن النعمان بن بشير يقول : "قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والنعمان ولد عام الهجرة على قول البخاري وقيل في السنة الثانية وعليه فالحادثة متأخرة
عن السنة السابعة والله أعلم




بَابٌ : الْجُنُبُ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّوْمَ.

١- أخرج الترمذي عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي ﷺ حديثا يدل على جواز ذلك وصحة صيامه ولفظ الصحيحين أدل على المقصود ففيهما :
كان رسول الله ﷺ ليصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم "
وفي رواية : يدركه الفجر ... وفيها : فيغتسل ويصوم.
ورواه مسلم عن أم سلمة وفيه : ثم لا يفطر ولا يقضي
وهذه الروايات تدل على الجواز مطلقا، وصحة صوم العامد في الفرض والتطوع وهذا القول قول جمهور أهل العلم ثم صار إجماعا أو كالإجماع
والقول الثاني : لا يصح صومه وبه كان يفتي أبو هريرة قبل علمه بهذا الحديث ثم تراجع عنه لكن بقي عليه بعض التابعين
والقول الثالث: القول بفطر من تعمد ذلك وهو قول عروة بن الزبير وطاووس ورُوي عن أبي هريرة ولا يصح
والقول الرابع : قول الحسن وسالم بن عبدالله بن عمر قالا : يتم صومه ويقضي وكذلك جاء عن
والقول الخامس : قول الحسن بن صالح ابن حي أنه يجب عليه القضاء ونقل عنه استحبابه وعنه يجب في الفرض ويجزئ في التطوع .
والقول السادس : قول النخعي وجوب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع .
قال ابن حجر :
"ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي . وأما ابن دقيق العيد فقال : صار ذلك إجماعا أو كالإجماع " اهـ
( تكميل )
قال ابن حجر : في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها ، قال النووي في شرح مسلم : مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أو لا ، وكأنه أشار بذلك إلى ما حكاه في " شرح المهذب " عن الأوزاعي ، لكن حكاه ابن عبد البر عن الحسن بن صالح أيضا ، وحكى ابن دقيق العيد أن في المسألة في مذهب مالك قولين ، وحكاه القرطبي عن محمد بن مسلمة من أصحابهم ووصف قوله بالشذوذ ، وحكى ابن عبد البر عن عبد الملك بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ؛ لأنها في بعضه غير طاهرة ، قال : وليس كالذي يصبح جنبا ؛ لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه "اهـ
قال النووي : "صح صومها ووجب عليها إتمامه سواء تركت الغسل عمدا أو سهوا بعذر أو بغيره كالجنب " اهـ



٢- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : " من أصبح جنبا فلا صوم له " فما الجواب على هذا الحديث ؟
لأهل العلم في الجواب طُرق فمنهم من قال بالترجيح كما فعل الشافعي والبخاري فقد قال في صحيحه في آخر حديث الباب : هو أسند اهـ
ومن أهل العلم من قال بالنسخ وهو أظهر وهذه طريقة ابن المنذر والخطابي قال ابن حجر: هو أولى اهـ ويؤيد القول بالنسخ ما قرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم ، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر ، فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه ، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء "اهـ
*
٣- فائدة: ترجم البخاري للحديث : " باب : اغتسال الصائم "
قال ابن حجر : "أي : بيان جوازه . قال الزين بن المنير : أطلق الاغتسال ليشمل الأغسال المسنونة والواجبة والمباحة ، وكأنه يشير إلى ضعف ما روي عن علي من النهي عن دخول الصائم الحمام . أخرجه عبد الرزاق وفي إسناده ضعف ، واعتمده الحنفية فكرهوا الاغتسال للصائم"اهـ
قلت : ومعتمد مذهب الحنابلة جواز الاغتسال للصائم ولو للتبرد وقالوا : "(لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَزِمَهُ الْغُسْلُ لَيْلًا مِنْ جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَنَحْوِهِمَا) كَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمُهَا وَكَافِرٍ أَسْلَمَ (أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي) خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ وَاحْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ (فَلَوْ أَخَّرَهُ) أَيْ: الْغُسْلَ (وَاغْتَسَلَ بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي (صَحَّ صَوْمُهُ)"اهـ
٣-قولهما :" إن كان رسول الله ﷺ * ليصبحُ جنبا من جماع غير احتلام "
ليدخل فيه المتعمد ومن دونه من باب أولى
وقولهما :"في رمضان"
لئلا يُظن التفريق بين الفرض والنفل كما جاء عن عروة بن الزبير وطاوس
وقولهما: "فيغتسل ويصوم"
فيه جواز الاغتسال للصائم
وقولهما: "ثم لا يفطر ولا يقضي "
لئلا يُظن أنه كان يصوم ويقضي كما قاله الحسن وسالم والنخعي



بَابٌ : إِجَابَةُ الصَّائِمِ الدَّعْوَةَ.

١- تجب إجابة الدعوة إلى وليمة العرس بالاتفاق حكاه القاضي عياض وتُستحب إلى غيره هذا مذهب الحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية وحكاه القاضي عن مالك والجمهور لما روى الشيخان فقد رواه مسلم من طريق خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ ؛ فَلْيُجِبْ ". قَالَ خَالِدٌ : فَإِذَا عُبَيْدُ اللَّهِ يُنَزِّلُهُ عَلَى الْعُرْسِ.
ورواه مسلم مرفوعا بلفظ العرس قال : حدثنا ابن نمير عن أبيه عن عبيدالله به ولفظه : " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ ".
وجاء من نفس مخرج الحديث إطلاق الدعوة وجاء أيضا فيه التنصيص على غير العرس وجاء عمل ابن عمر موافق لذلك كما في الصحيحين من طريق موسى بن عقبة به
فأما ما جاء من الإطلاق :
فمن طريق أيوب وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية عن نافع به ولفظه ( ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ ) ومن طريق عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ، عَنْ نَافِعٍ به : " إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى كُرَاعٍ فَأَجِيبُوا"
وأما ماجاء من التنصيص : فمن طريق معمر، والزبيدي عن نافع به ولفظ معمر ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ؛ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ )

فقوله ﷺ( فليُجب ) محمول على الوجوب في وليمة العرس خاصة لما روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ ؛ يُدْعَى إِلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
فالوليمة هي طعام العرس خاصة ووجوبها في قوله ﷺ : ( فقد عصى ) فإنه يدل على وجوب الإجابة إلى طعام الوليمة وأما غيرها كقوله ﷺ (فليجب عرسا كان أو نحوه) وقوله ﷺ (أجيبوا الدعوة إذا دعيتم )
فيبقى الأمر فيه أمر استحباب لأنه أمرٌ في باب الآداب أو قل هو محمول على العرس لاتفاق المخرج وأما عمل ابن عمر في إجابته كل دعوة حتى وإن كان صائما فلا يدل على الوجوب
والقول الثاني :
تجب إلى كل دعوة وهو وجه عند الشافعية وقول الظاهرية
واحجتهم أحاديث الإطلاق والتنصيص
كما أن الأمر في الآداب هل هو للوجوب أم الاستحباب ؟ حكي الاتفاق على أنه للاستحباب وفي ذلك خلاف عند الشافعية في تخريج قول الشافعي
تنبيه:
الواجب الإجابة إلى وليمة العرس لا الأكل على الصحيح من مذهب الحنابلة لما روى مسلم عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ ؛ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ، طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ ؛ تَرَكَ ".
وحكم وجوب الإجابة يشمل حتى الصائم ففي مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ ؛ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا ؛ فَلْيُصَلِّ ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا ؛ فَلْيَطْعَمْ " وفي الصحيحين من طريق موسى بن عقبة عن نافع به وآخره (قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ )
ويحرم عليه الأكل إن كان صومه واجبا، ويستحب أن يدعو لهم للحديث فقوله : (فليصل)أي فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك هذا قول الجمهور
ويخبرهم أنه صائم لفعل ابن عمر ولعموم حديث الباب وذلك لدفع تهمة ترك الأكل عنه
وإن كان صومه تطوعا فالأولى إتمام الصوم إلا إذا كان في ترك الأكل كسر لقلب الداعي فيستحب له أن يفطر
هذا ظاهر تعليل ابن قدامة وقال تقي الدين: وهو أعدل الأقوال .
فائدتان :
الأولى : قال في كشاف القناع :- وَقَالَ تقي الدين ابن تيمية -: وَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْإِلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ) أَيْ الْأَكْلِ (لِلْمَدْعُوِّ إذَا امْتَنَعَ) مِنْ الْفِطْرِ فِي التَّطَوُّعِ أَوْ الْأَكْلِ إنْ كَانَ مُفْطِرًا (فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ) إنْ كَانَ صَائِمًا لِيُفْطِرَ (وَلَا) يَحْلِفُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا (لِيَأْكُلَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ إذَا رَأَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِهِ) مِنْ الْأَكْلِ أَوْ الْفِطْرِ فِي النَّفْلِ (مَفَاسِدُ أَنْ يَمْتَنِعَ فَإِنَّ فِطْرَهُ جَائِزٌ انْتَهَى)
والثانية : قال النووي في شرح مسلم :
وفي هذا الحديث : أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت إليه حاجة ، والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن حاجة ، وفيه : الإشارة إلى حسن المعاشرة ، وإصلاح ذات البين ، وتأليف القلوب ، وحسن الاعتذار عند سببه اهـ

بَابٌ : كَرَاهِيَةُ صَوْمِ الْمَرْأَةِ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا.

١-استدل الترمذي بحديث أبي هريرة بلفظ الخبر وذِكْر شهر رمضان قال الترمذي حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَا : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ ".
وأخرجه البخاري من طريق شعيب عن أبي الزناد به وفيه ( لا يحل للمرأة أن تصوم )
وأخرجاه في الصحيحين من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة وفيه ( وبعلها شاهد )

٢- في الحديث النهي عن صيام المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه صراحة أو تلويحا وهو محمول على التحريم عند الجمهور
فإن صامته بغير إذنه أثمت لقوله ﷺ ( لا يحل للمرأة )، ولزوجها تحليلها منه ولو أذن لها لأن صومها تطوع لا يجب بالشروع وحقه واجب .
فإن لم يحللها منه أجزأها الصوم هذا مذهب الحنابلة
وقوله ﷺ: ( وزوجها شاهد )
يدل على جواز صيامها التطوع بغير إذنه إذا لم يتعارض مع واجب حق العشرة كأن يكون مسافرا أو مريضا لا يستطيع الجماع وهو بمعنى المفهوم من قوله ﷺ ( وزوجها شاهد ) وقلنا : (الجماع) لأن الاستمتاع حق واجب للزوج في كل وقت فلا يجوز معارضته بالتطوع إلا بإذنه وعليه فلو قدم من السفر وهي صائمة جاز له قطعه
قال النووي في شرح مسلم :
فإن قيل : فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه ، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها ، فالجواب : أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة ؛ لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد اهـ

٣- ( مسألة )
الأولى : الحديث مطلق في النهي عن كل تطوع وهو مذهب الحنابلة وقيده النووي في المندوب الذي ليس له زمن معين كعاشوراء وعرفة والحديث حجة عليهم
فرع :
هل يلتحق بالتطوع الواجب على التراخي ؟
ظاهر المذهب نعم ما لم يتعين وليس للزوج تحليلها إذا شرعت فيه للزومه بالشروع
وقلنا مالم يتعين لزيادة ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج به وفيه (غير رمضان إلا بإذنه )
وجاءت من حديث وكيع عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِيهِ به رواهما أحمد
فرع:
وهل يلتحق به صيام النذر ؟
إن كان النذر غير معين فيجب تأخيره حتى تستطيع، وإن كان معينا ولم يأذن لها فظاهر المذهب أن الواجب عليها القضاء وقت غيبته والكفارة لعجزها شرعا عن الصيام بسبب حق الزوج فالمسألة كمن وافق صوم نذره المعين العيد لا كالعاجز عن صيام النذر ولو حملناه على مسألة العاجر فيلزمها الكفارة والإطعام
تنبيه :
لزوجها تحليلها من صيام النذر المعين إذا لم يأذن لها ويفسد به وإن لم يحللها منه أجزأ وأثمت .
الثانية :
مذهب الحنابلة لا يجوز للزوجة التطوع بالصلاة والاعتكاف إلا بإذن الزوج
وقال قوم: يجوز لها التطوع بالصلاة لقصر زمنها
الثالثة :
قال ابن حجر في الفتح :
ويلتحق بالحديث السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطؤها، ووقع في رواية همام: " وبعلها " وهي أفيد؛ لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا ألحق السيد بالزوج للاشتراك في المعنى. اهـ



بَابٌ : مَا جَاءَ فِي تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ.

١- أي ما جاء في جواز تأخير قضاء صيام رمضان إلى شعبان والمراد لمن غلب على ظنه البقاء إليه فلو أخره مع ظن الموت قبله أثم اتفاقا وذلك لأن الظن مناط التعبد وهو مؤثر في حقيقة الأحكام التكليفية لا الوضعية
والقول الثاني : يجب المبادرة بالقضاء في أول يوم بعد العيد وهو قول داود خلافا للأئمة الأربعة

٢-الحديث اتفق الشيخان على إخراجه إلى قوله ( في شعبان ) وكلاهما قال: حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا زهير حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي سلمة قال سمعت عائشة الحديث ٓ
وللبخاري في آخره : (قال يحيى: الشغل من النبي ﷺ أو بالنبي ﷺ) ورواها مسلم من قول عائشة ثم روى ما يدل على إدراجها وصنيعه يقتضي ذلك فتبين أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد الأنصاري وسبب قوله هذا بينه مسلم في آخر الباب من قول عائشة : (فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله ﷺ حتى يأتي شعبان ) ولا يلزم منه ما قاله يحيى لأن المعية قد تكون تأدبا لا من أجل الشغل وبين الدلالتين اختلاف فدلالة قول يحيى يلزم منها أنه لا يجوز تأخير القضاء إلا لعذر بخلاف قول عائشة فإنه يحتمل المعية الزمانية تأدبا لا بسبب العذر وهو الصواب لرواية الترمذي هذه ففيها: " ما قضيت شيئا مما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم" ففيها أن سبب التأخير التأدب مع رسول الله ﷺ وليس الضرورة ويؤيد ذلك
قول ابن حجر قال رحمه الله تعالى :
" ومما يدل على ضعف الزيادة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنسائه فيعدل ، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع ، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم ، اللهم إلا أن يقال: إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ، ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها ، فإذا ضاق الوقت أذن لها ، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يكثر الصوم في شعبان كما سيأتي بعد أبواب ، فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان
وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأن الزيادة كما بيناه مدرجة ، فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيدا بالضرورة ؛ لأن للحديث حكم الرفع ؛ لأن الظاهر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع ، فلولا أن ذلك كان جائزا لم تواظب عائشة عليه ، ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر . وأما الإطعام فليس فيه ما يثبته ولا ينفيه وقد تقدم البحث فيه " اهـ

٣-تبين مما سبق من دلالة الحديث حكم التبويب :
فالأول : جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا
والثاني : يؤخذ من حرصها على قضاء رمضان في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر
والثالث : فيما رواه الشيخان من قولها ( فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ) ففيه عزمها على القضاء
والعزم على فعل الواجب الموسع شرط في جواز تأخيره عن أول وقته في أحد الوجهين عند الحنابلة وهو قول الأكثر واختيار ابن قدامة خلافا لأبي الخطاب وأبي البركات

( مسألة ) في حكم من أخر القضاء عن رمضان آخر
قال ابن قدامة في المغني :
فإن أخره عن رمضان آخر
نظرنا ; فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء ، وإن كان لغير عذر ، فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق .
وقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة : لا فدية عليه ; لأنه صوم واجب ، فلم يجب عليه في تأخيره كفارة ، كما لو أخر الأداء والنذر .
ولنا ما روي عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، أنهم قالوا : أطعم عن كل يوم مسكينا . ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم . وروي مسندا من طريق ضعيف ، ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء ، أوجب الفدية ، كالشيخ الهرم " اهـ والإطعام عند الحنابلة ما يجزئ في كفارة
فرع: قال ابن قدامة :
"فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر ، لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء ; لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب ، كما لو أخر الحج الواجب سنين ، لم يكن عليه أكثر من فعله. اهـ وعند الشافعية وجهان ، قال السفاريني أصحهما : يجب . أي الإطعام لكل تأخير

٤- في هذا الحديث زيادة بيان لقوله تعالى { فعدة من أيام أخر } ففيه دليل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ؛ لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض وهذا الحديث نص وزيادة بيان للآية ، وذلك يرد على داود قوله : إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال ، ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده " اهـ

٥- قال ابن حجر : " استدل به على أن عائشة كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك ، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان ، ومن أين لقائله ذلك؟ اهـ
قلت : في حكم التنفل بالصيام قبل قضاء رمضان عن أحمد روايتان والمذهب لا يصح وعنه يجوز له التطوع ; لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع، فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها ، كالصلاة يتطوع في أول وقتها ، وعليه يخرج الاعتراض بالمنع من التطوع بالحج قبل أداء الفرض
ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المتعين ، فأشبه صوم التطوع في رمضان ، بخلاف مسألتنا
وأما حديث ( من صام تطوعا وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يقبل منه حتى يصومه) فلا يصح ففيه ابن لهيعة وفيه متروك
قال ابن قدامة : ويُخرّج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرناه في الصوم اهـ
صحح هذا القول ابن رجب في قواعده، واستظهره المرداوي في التنقيح .
وهذا القول أظهر وأرجى بحديث الباب لأنه لا يمكن لمثل العابدة بنت الصديق أن تترك صيام عاشوراء وعرفة والعشر وثلاثة أيام من كل شهر
فإن قيل لم لم تصم الفرض في تلك الأوقات ؟
قلنا : لأن فضل التطوع بها يفوت بفوات فضيلة الزمن بخلاف القضاء فيمكن تداركه
فإن قيل : كيف لها أن تصوم النفل وهي لا تستطيع قضاء ما يكون عليها من رمضان؟
قلنا : لأن رسول الله ﷺ كان يصوم تلك الأيام مما يعينها ذلك على صيامه لعدم حاجة رسول الله ﷺ لها ومن هنا نقول لو صح الاستدلال فإن قول من قال بأن من صام الفرض في عرفة أو عاشوراء فقد أدرك الفضلين أو من قال بأن صيام الفرض فيه مقدم على التنفل قبل قضائه فقوله مرجوح وهذا بناء على المعهود من صنيع عائشة فإن كان كذلك فهو حجة لإقرار النبي ﷺ وقد يؤيد هذا أن عائشة حكت عدم الاستطاعة عن نساء النبي ﷺ وقد ثبت عن بعضهن التنفل كجويرية رضي الله عنها
وأخيرا فليس في الحديث ما يفصل النزاع إلا إن ثبت بالدليل الصحيح أن عائشة كانت تصوم النفل في حياة النبي ﷺ

( مسألة )
ليس في الحديث ولا في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء وقد اختلف السلف في ذلك
ومعتمد مذهب الحنابلة استحباب قضاء رمضان فورا متتابعا حتى ولو كان سبب فطره محرم والاستحباب مذهب الجمهور
مالك والشافعي وأحمد فلو فرقه أجزأه
قال ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا ، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق " اهـ
تنبيه :
إن لم يقض على الفور وجب الغرم عليه أي لو أمكنه القضاء ثم مرض إلى رمضان آخر قضى وأطعم خلاف لما حكاه القرطبي في تفسيره عن البغداديين من المالكية ويرونه عن ابن القاسم في المدونة


بَابٌ : مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الصَّائِمِ إِذَا أُكِلَ عِنْدَهُ.

١- روى حديثا عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " الصَّائِمُ إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ الْمَفَاطِيرُ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ ".
رواه من طريق شريك عن حبيب بن زيد عن ليلى عن مولاتها عن النبي ﷺ ومولاتها أم عمارة
ورواه من طريق شعبة عن حبيب بن زيد عن مولاته ليلى عن جدته أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصاري عن النبي ﷺ وفيه حَتَّى يَفْرُغُوا ". وَرُبَّمَا قَالَ : " حَتَّى يَشْبَعُوا ". هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ.
قال الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ.اهـ ورواه أيضا عن شيخه بندار عن غندر عن شعبة به من دون الزيادة
وكذلك رواها أحمد بدون الزيادة عن شيوخه وكيع ويحيى بن سعيد القطان عن شعبة
ورواها عن شيخه هاشم بن القاسم و غندر عن شعبة بالزيادة ورواها أيضا من طريق شريك عن حبيب بن زيد.

وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبدالله بن عمرو موقوفا بسند فيه مبهم بدون الزيادة وأخرجه عن مجاهد من قوله بلفظ ( سبحت مفاصله )

حديث آخر :
وروى ابن ماجة عن بريدة بن الحصيب ، عَنْ أَبِيهِ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ :
" الْغَدَاءُ يَا بِلَالُ ". فَقَالَ : إِنِّي صَائِمٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَأْكُلُ أَرْزَاقَنَا، وَفَضْلُ رِزْقِ بِلَالٍ فِي الْجَنَّةِ، أَشَعَرْتَ يَا بِلَالُ أَنَّ الصَّائِمَ تُسَبِّحُ عِظَامُهُ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، مَا أُكِلَ عِنْدَهُ ".
وفيه محمد بن عبدالرحمن القشيري الكوفي المقدسي
متفق على رد حديثه كذبه أبو حاتم وأبو الفتح الأزدي وقال الدارفطني متروك الحديث


بَابٌ :مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ الْحَائِضِ الصِّيَامَ دُونَ الصَّلَاةِ

١- روى حديث عائشة وقال : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ.اهـ
نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه فقال: اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره. كذا في الفتح.

٢- . قال الحافظ في الفتح: والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصيام والصلاة أن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام.

٣-الحروري منسوب إلى حروراء بفتح الحاء وضم الراء المهملتين وبعد الواو الساكنة راء أيضا، بلدة على ميلين من الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج: حروري قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها.
اشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقا .


بَابٌ : كَرَاهِيَةُ مُبَالَغَةِ الِاسْتِنْشَاقِ لِلصَّائِمِ.

١-روى حديث لَقِيط بن صَبِرة ثم قال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ كَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ السُّعُوطَ لِلصَّائِمِ. وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ. وَفِي الْبَابِ مَا يُقَوِّي قَوْلَهُمْ.

٢-معنى المبالغة
قال ابن قدامة في المغني : معنى المبالغة في الاستنشاق: اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطا، وذلك سنة مستحبة في الوضوء، إلا أن يكون صائما فلا يستحب، لا نعلم في ذلك خلافا. اهـ

٣- يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق على الصحيح من المذهب وهو قول الجمهور
ولو بالغ ووصل إلى حلقه لم يفطر في أصح الوجهين من مذهب الحنابلة حتى ولو زاد على الثلاث في المضمضة والاستنشاق
وقيل: يفطر فيهما وقيل : يفطر في المبالغة فقط وهو اختيار المجد

فائدة :
تكره المضمضة والاستنشاق إن كانت عبثا أو لحر أو عطش ولا يفطر إن وصلت إلى حلقه أو بلع ما بقي من أجزاء الماء ؛ لأنه واصل بغير قصد هذا الصحيح من المذهب
ومثل هذه المسألة من غاص في الماء في غسل غير مشروع أو عبثا ولا يكره له الاغتسال ولو للتبرد

٤- هذا الحديث أصل في الحكم بفطر من استعط وهو صائم فوصل إلى خياشيمه أو حلقه أو دماغه
قال الخطابي : في الحديث من الفقه إن وصل الماء إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان ذلك بفعله ، وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه انتهى .

بَابٌ : مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَلَا يَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ.

١-روى حديثا من طريقين هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وأنكره لأنه لم يروه أحد من الثقات عن هشام وإنما رواه عنه أيوب بن واقد الكوفي وهو متروك الحديث ورواه عن هشام من طريق أبي بكر المدني وقال : وَأَبُو بَكْرٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ اهـ
فالحديث الوترد في هذا الباب ضعيف

٢- ليس في هذا نص وإنما يحسن من باب الأدب لئلا يتحرجوا بصومه ولأن من آداب الضيف أن يطيع المضيف ، فإذا خالف فقد ترك الأدب كما أن الصوم بلا إذن يشبه رد ضيافتهم والإعراض عنها وهو يؤدي إلى التأذي إلى آخر ما في ذلك من حكم
وقريب من هذه المسألة حديث مالك بن الحويرث مرفوعا: من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم " قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَةَ : أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ الزَّائِرِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَنْزِلِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ إِذَا حَضَرَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ لِلصَّلَاةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَجَذَبَهُ فِي دَارِهِ وخالف إِسْحَاقُ وقال : لَا يُصَلِّي أَحَدٌ بِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لَا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا زَارَهُمْ ، يَقُولُ : لِيُصَلِّ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ
والأول أصح لقول النبي ﷺ وَلَا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَكَ، أَوْ بِإِذْنِهِ ".