لا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم









كتبه/ عصام حسنين


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

"لا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم":

فهذه كلمة عظيمة قالها أبو بكر -رضي الله عنه- في يوم موته لعمر -رضي الله عنه-؛ روى ابن الأثير في تاريخه أن المثنى بن حارثة الشيباني -رضي الله عنه- قدم على أبي بكر -رضي الله عنه- في المدينة لما أبطأ عليه في الرد بخصوص حروبه مع الفرس في العراق؛ فوجده على فراش المرض وقد شارف الموت؛ فاستقبله أبو بكر-رضي الله عنه- واستمع إليه واقتنع برأيه ودعا عمر -رضي الله عنه- فجاءه فقال: "اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به -وكان قد أوصى له بالخلافة وجمع الناس عليه-، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا فإن أنا مت فلا تـُمْسِيَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة -وإن عظمت- عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني مـُتـَوَفـَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما صنعت، ولم يـُصب الخلق بمثله..." أ.هـ

إنها كلمة جليلة من كلمات أبى بكر الصديق -رضي الله عنه- الكثيرة التي أخذها من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- العملية، وتربى عليها وثبـَّت الله -سبحانه وتعالى- بها الأمة بعد مصابها الجلل في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

إنها كلمة عظيمة تـُعطينا درساً بليغاً أن الأمر الأعظم في حياة المؤمنين هو أمر الدين التزاماً به ودعوةً إليه، وأن المسيرة الدعوية لا ترتبط بأحد، لا تمرض بمرضه، ولا تقف بوقوفه، ولا تموت بموته، وأن المصائب مهما عظمت لا تـُشغِل أهل الأيمان عن أمر دينهم!

لقد بين الصديق -رضي الله عنه- ذلك بقوله وعمله كما قال لعمر: "وقد رأيتني مـُتوفَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما صنعتُ..."، فقد قال يوم موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يعبد محمداً فإن محمداُ قد مات ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

وفى اليوم نفسه قال للأنصار -رضي الله عنهم- في سقيفة بني ساعدة، -وقد اجتمعوا على سعد بن عبادة رضي الله عنه-: "لقد علمت يا سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قريش ولاة هذا الأمر فبَرُّ الناس تبع لبرهم وفاجر الناس تبع لفاجرهم). فقال سعد -رضي الله عنه-: صدقت؛ نحن الوزراء وأنتم الأمراء. رواه أحمد، وصححه الألباني.

وقد قال عمر -رضي الله عنه-: (فَقُلْتُ ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ)رواه البخاري.

فعصمهم الله من الفرقة، وجمعهم على خيرهم -رضي الله عنه-.

وفى اليوم الثالث صبيحة دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبو بكر -رضي الله عنه- مناديه ينادي لـِيـَتـِمَّ بعث أسامة، ألا لا يـَبــِيتـَنَّ في المدينة أحد من جند أسامة -رضي الله عنه- إلا خرج إلى عسكره بالجـُرْف.

ولما أشار عليه وجوه المهاجرين والأنصار بعدم إنفاذ الجيش؛ لأن الأرض كافرة ويـُخاف على المدينة والمسلمين أن يتخطفهم المشركون، أقسم الصديق فقال: "والذي نفس أبى بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يبق غيري في القرى لأنفذته".

وأقسم بالله أيضا أنه سيقاتل من فرق بين الزكاة والصلاة، ولما قال عمر -رضي الله عنه- له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). فقال: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلهم عليه" رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية أنه قال لعمر: "أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص الدين وأنا حي". مشكاة المصابيح.

وقد كان كل هذا خيراً عظيماً والحمد لله على نعمة الإسلام والمسلمين فقد رجعت شبه الجزيرة إلى الإسلام، وعـُبد الله وحده بعد أن عـُبدت الأصنام مرة أخرى.

يقول عمر -رضي الله عنه-: "والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان الأمة هذه جميعا في قتال أهل الردة".

وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "لولا أن أبا بكر اسـتـُخـْلـِف ما عـُبـِد الله ُ-تعالى-".

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل العبودية حتى الممات؛ فقد أصدر أبو بكر أمره إلى خالد -رضي الله عنه- وهو باليمامة أن يتوجه إلى العراق بمن معه من ناحية جنوبه الغربي، ووجه له يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وغيره من القواد لقتال الروم امتثالاً لقوله -تعالى- كما امتثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخروجه إلى الروم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(التوبة:123).

ولما مرض واشتد به المرض جمع المهاجرين السابقين فقال: "أمروا عليكم من أحببتم؛ فإنكم إن أمرتم في حياةٍ مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي. قالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، فقال: أمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، ثم دعاهم بعد ذلك واحداً واحداً، وكلٌ يقول له أخبرني عن عمر بن الخطاب، فأثنوا خيراً إلا طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- فقال: ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى من غلظته؟

فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "أبالله تخوفونني خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم استخلفت خير أهلك"، ثم بين لطلحة سبب شدة عمر أن أبا بكر ليناً، ولو أفضى إليه الأمر لترك كثيراً من ذلك.

ثم دعا أبو بكر عمر وأخبره بالأمر، فأبى عمر أن يقبل فتهدده أبو بكر بالسيف، فما كان أمامه إلا أن يقبل.

وكتب أبو بكر -رضي الله عنه- كتاباً، وأمر عثمان -رضي الله عنه- أن يقرأه على الناس، بل وخطب للناس بذلك فقالوا سمعنا وأطعنا. والحمد لله.

رضي الله عن أبي بكر فقد نصح للأمة أتم النصح، وقام بدين الله -تعالى- خير قيام وفتح الله على يديه وكل ذلك ببركة النهج الذي اتبعه واعتصم به ولم يحد عنه: "إنما أنا متبع ولستُ بمبتدع".


وها هو -رضي الله عنه- في يوم رحيله يـُوصي عمر -رضي الله عنه- بهذه الوصية الجليلة التي هي درس للأجيال في كل زمان ومكان: "لا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم".
فالله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.