قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء ، كما خلق العين يرى بها الأشياء ، والأذن يسمع بها الأشياء ،
وكما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور ، وعمل من الأعمال ،
فاليد للبطش ، والرجل للسعي ، واللسان للنطق ، والفم للذوق ، والأنف للشم ، والجلد للمس ،
وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة ،
فإذا استعمل العضو فيما خلق له وأعد من أجله ، فذلك هو الحق القائم ، والعدل الذي قامت به السموات والأرض ،
وكان ذلك خيرا وصلاحا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استعمل فيه ،
وذلك الإنسان هو الصالح الذي استقام حاله وأولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
وإذا لم يستعمل العضو في حقه ،
بل ترك بطالا ، فذلك خسران ، وصاحبه مغبون ،
وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك ، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرا
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب كما سمي قلبا ،
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
{ إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } .
وقال صلى الله عليه وسلم :
{ الإسلام علانية ، والإيمان في القلب ثم أشار بيده إلى صدره ، وقال : ألا إن التقوى هاهنا ، ألا إن التقوى هاهنا }
وإذ قد خلق ليعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر ،
كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع ،
وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبا لرؤيتها هو النظر ،
فالفكر للقلب كالإصغاء للأذن إذا سمعت ما أصغت إليه ، ومثله نظر العينين في شيء ،
وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه ، كما أن الأذن إذا سمعت ما أصغت إليه ، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه .
وكم من ناظر مفكر لم يحب العلم ولم ينله ،
كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره ،
ومستمع إلى صوت لا يسمعه ،
وعكسه من يؤتى علما بشيء لم ينظر فيه ، ولم تسبق منه سابقة فكر
كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه ، أو سمع قولا من غير أن يصغي إليه .
وذلك كله لأن القلب بنفسه يقبل العلم ؛
وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلا من الإنسان فيكون مطلوبا .
وقد يأتي فضلا من الله فيكون موهوبا فصلاح القلب وحقه .
والذي خلق من أجله ، هو أن يعقل الأشياء ، لا أقول أن يعلمها ، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلا له .
بل غافلا عنه ، ملغيا له ،
والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه ،
فيكون وقت الحاجة إليه غنيا ، فيطابق عمله قوله ، وباطنه ظاهره .
وذلك هو الذي أوتي الحكمة :
{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } .
وقال أبو الدرداء :
إن من الناس من يؤتى علما ، ولا يؤتى حكما ، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علما وحكما .
هذا مع أن الناس متباينون في نفس أن يعقلوا الأشياء من بين كامل وناقص
، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير ، وجليل ودقيق ، وغير ذلك .
ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم .
يدرك ، أعني العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات ، دون ما يشاركه فيه ، من الشم والذوق واللمس ، وهنا يدرك به ما يحب ويكره ، وما يميز به من يحسن إليها ويسيء ، إلى غير ذلك .
قال الله تعالى :
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون }
وقال : { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }
وقال : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } .
وقال : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } .
وقال : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } .
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة :
{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } .
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن وتفارقهما في شيء ،
وهو أنها إنما ترى بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص ،
فأما القلب والأذن فيعلم بهما ما غاب عن الإنسان ، وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية والمعالم المعنوية .
ثم بعد ذلك يفترقان ،
فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم بها هو غذاؤه وخاصيته :
أما الأذن فإنها
تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب ، فهي بنفسها إنما تنال القول والكلام ،
فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم ،
فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب .
وإنما سائر الأعضاء حجبته توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه ،
حتى إن من فقد شيئا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه .
فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم .
والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة .
وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب ، أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب .
فإنه لا يعقل شيئا .
فمدار الأمر على القلب .
وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى :
{ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } .
حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق .
فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة .
وحكمة معقولة من عواقب الأمور .
لا مجال لنظر العين فيها .
ومثله قوله : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون }
، وتتبين حقيقة الأمر في قوله :
{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين .
إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله واتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه .
فذلك صاحب القلب .
أو رجل لم يعقله بنفسه بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبين له ويعظه ويؤدبه .
فهذا أصغى فألقى السمع وهو شهيد .
أي حاضر القلب ليس بغائبه كما قال مجاهد أوتى العلم وكان له ذكرى .
ويتبين قوله :
{ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } .
وقوله : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } .
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق
، فإن الله هو الحق المبين : { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } .
إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر ويحول في لفتة خاطر
فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه ؛ لا يحيط علما إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه .
وأصدق كلمة قالها لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه وجدته إلى العدم ما هو فقير إلى الحي القيوم .
فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
رأيته حينئذ موجودا مكسوا حلل الفضل والإحسان .
فقد استبان القلب إنما خلق لذكر الله سبحانه .
ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام :
أظنه سليمان الخواص رحمه الله الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد ، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم ،
فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا ، أو كما قال :
فإذا كان القلب مشغولا بالله عاقلا للحق ، مفكرا في العلم ، فقد وضع موضعه ،
كما أن العين إذا صرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها .
أما إذا لم يصرف إلى العلم ، ولم يرع فيه الحق ، فنسي ربه ، فلم يوضع في موضع ، بل هو ضائع
، ولا يحتاج أن يقال :
قد وضع في موضع غير موضعه ، بل لم يوضع أصلا ،
فإن موضعه هو الحق ، وما سوى الحق باطل .
فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل ، والباطل ليس بشيء أصلا ،
وما ليس بشيء أحرى إلا أن يكون موضعا .
والقلب هو بنفسه لا يقبل إلا الحق ،
فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خلق له :
{ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا }
وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلى ،
فإن من لا يزال من أودية الأفكار وأقطار الأماني ، لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي ،
فقد وضع في غير موضع ، لا مطلق ولا معلق ، موضوع لا موضع له ،
وهذا من العجب ،
فسبحان العزيز الحكيم .
وإنما تنكشف له هذه الحال عند رجوعه إلى الحق :
إما في الدنيا عند الإنابة أو عند المنقلب إلى الآخرة ،
فيرى سوء الحال التي كان عليها ،
وكيف كان قلبه ضالا عن الحق ، هذا إذا صرف إلي الباطل .
فأما لو ترك وحالته التي فطر عليها فارغا عن كل ذكر .
وخاليا من كل فكر ،
لقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه ،
ويرى الحق الذي لا ريب فيه .
فيؤمن بربه وينيب إليه .
فإن كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .
كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء لا تحس فيها من جدعاء :
{ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } .
وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال ، شغله بغيره من فتن الدنيا ، ومطالب الجسد ، وشهوات النفس
، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال ،
أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء ..
ثم الهوى قد يعرض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه .
فلا يتبين له الحق كما قيل : { حبك الشيء يعمي ويصم } فيبقى في ظلمة الأفكار .
وكثيرا ما يكون ذلك كبرا يمنعه عن أن يطلب الحق :
{ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } .
وقد يعرض الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه ،
كما قال سبحانه فيهم : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } .
ثم القلب للعلم كالإناء للماء ، والوعاء للغسل والوادي للسيل ،
كما قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الآية .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
{ إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء ،
فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت فيها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ، وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء .
ولا تنبت كلأ .
فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به ،
ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } .
وفي حديث كميل بن زياد عن علي رضي الله عنه ، قال : " القلوب أوعية فخيرها أوعاها " .
وبلغنا
عن بعض السلف قال :
القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها .
وهذا مثل حسن فإن القلب إذا كان رقيقا لينا كان قبوله للعلم سهلا يسيرا ، ورسخ فيه وأثر ، وإن يكن قاسيا غليظا يكن قبوله للعلم صعبا عسيرا
ولا بد مع ذلك أن يكون زكيا صافيا سليما حتى يزكو فيه العلم ، ويثمر ثمرا طيبا وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم ،
وكان كالدغل في المزدرع ، إن لم يمنع الحب من أن ينبت ، منعه من أن يزكو ويطيب ،
وهذا بين لأولي الأبصار .
وتلخيص هذه الجملة أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان :
وجه مقبل على الحق ، ومن هذا الوجه يقال له وعاء وإناء ،
لأن ذلك يستوجب ما يوعى فيه ويوضع فيه ، وهذه الصبغة وجود ثبوت ،
ووجه معرض عن الباطل ، ومن هذا الوجه يقال له زكي وسليم وطاهر ،
لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر والخبث والدغل وهذه الصبغة عدم ونفي ،
وبهذا يتبين أنه إذا صرف إلى الباطل فله وجهان :
وجه الوجود أنه منصرف إلى الباطل مشغول به ،
ووجه العدم أنه معرض عن الحق غير قابل له .
وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله :
إذا ما وضعت القلب في غير موضع بغير إناء فهو قلب مضيع
فإنه لما أراد أن يبين حال من ضيع قلبه فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل ، وملأ به قلبه ، حتى لم يبق فيه متسع للحق ، ولا سبيل له إلى الولوج فيه ، ذكر ذلك منه فوصف حال هذا القلب بوجهيه ، ونعته بمذهبيه ،
فذكر أولا وصف الوجود منه ،
فقال :
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ، يقول إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه .
ثم الباطل على منزلتين :
إحداهما :
تشغل عن الحق ولا تعانده ، مثل الأفكار والهموم التي من علائق الدنيا وشهوات النفس .
والثانية :
تعاند الحق وتصد عنه ، مثل الآراء الباطلة والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع ، وشبه ذلك ،
بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله
فما سوى ذلك فليس موضعا له .
ثم ذكر ثانيا ووصف العدم منه
فقال : " بغير إناء " ، يقول : إذا وضعته بغير إناء فوضعته ولا إناء معك ،
كما تقول حضرت المجلس بلا محبرة .
فالكلمة حال من الواضع ، لا من الموضوع .
والله أعلم .
وبيان هذه الجملة والله أعلم
أنه يقول
إذا ما وضعت قلبك في غير موضع فاشتغل بالباطل ولم يكن معك إناء يوضع فيه الحق ،
ويتنزل إليه الذكر والعلم الذي هو حق القلب ، فقلبك إذا مضيع ،
ضيعته من وجهي التضييع ،
وإن كانا متحدين من جهة أنك وضعته في غير موضع ، ومن جهة أنه لا إناء معك يكون وعاء لحقه الذي يجب أن يعطاه ،
كما لو قيل ،
لملك قد أقبل على اللهو :
إذا اشتغلت بغير المماسكة وليس في الملك من يدبره فهو ملك ضائع ،
لكن هنا الإناء هو القلب بعينه ، وإنما كان ذلك لأن القلب لا ينوب عنه غيره فيما يجب أن يصنعه :
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } .
وإنما خرج الكلام في صورة اثنين بذكر نعتين لشيء واحد كما جاء نحوه في قوله تعالى :
{ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل .من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } .
قال قتادة والربيع :
هو القرآن ، فرق فيه بين الحلال والحرام ، والحق والباطل ،
وهذا لأن الشيء الواحد إذا كان له وصفان كبيران فهو مع وصف كالشيء الواحد ،
وهو مع الوصفين بمنزلة الاثنين ، حتى لو كثرت صفاته لتنزل منزلة أشخاص .
ألا ترى أن الرجل الذي يحسن الحساب والطب بمنزلة حاسب وطبيب ،
والرجل الذي يحسن النجارة والبناء بمنزلة نجار وبناء ،
والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم فهو بمنزلة الإناء الذي يوضع فيه الماء ،
وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب ؛
لأنه هو الذي يكون رقيقا وصافيا ، وهو الذي يأتي به المستطعم المستعطي في منزلة البائس الفقير ،
ولما كان ينصرف عن الباطل فهو زكي وسليم ،
فكأنه اثنان وليتبين في الصورة أن الإناء غير القلب
فهو يقول : " إذا ما وضعت قلبك في غير موضع " ، وهو الذي يوضع فيه الذكر والعلم ، ولم يكن معك إناء يوضع فيه المطلوب
فمثلك مثل رجل بلغه أنه يفرق على الناس طعاما ، وكان له زبدية أو سكرجة ، فتركها ثم أقبل يطلب طعاما ،
فقيل له هات إناء نعطك طعاما ، فأما إذا أتيت وقد وضعت زبديتك مثلا في البيت ،
وليس معك إناء نعطيك فيه شيئا ، رجعت بخفي حنين .
وإذا تأمل من له بصر بأساليب البيان وتصاريف اللسان ،
وجد موقع هذا الكلام من العربية والحكمة كليهما موقعا حسنا بليغا ،
فإن نقيض هذه الحال المذكورة أن يكون القلب
مقبلا على الحق والعلم والذكر
معرضا عن ذكر غير ذلك
، وتلك هي الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ،
فإن الحنف هو الميل عن الشيء بالإقبال على آخر ،
فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه ،
وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق ، والكلمة الطيبة لا إله إلا هو .
اللهم ثبتنا عليها في الدنيا وفي الآخرة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هذا آخر ما حضر في هذا الوقت والله أعلم بالمراد والله أعلم ،
وفوق كل ذي علم عليم ،
والحمد لله العزيز الوهاب الكريم التواب ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل .
[الفتاوى الكبرى لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله - (7/102)