سقوط الخلافة الإسلامية
فريال بنت عبد الرحمن
مقدمة
هلمَّ نبْكِ العُلا والمجدَ والشَّرفا *** مجدَ الخلافة والإسلامِ وآسـفا
هلمَّ نبكِ التي كانت صنائعُها *** كأنَّ نور الهدى من نورها اتّصفا
نبكي لتاريخها حُزناً ونحن نرى ***بدر المعاليَ أَعلـى دارها انخسفا
كادتْ بأنحاءِها الأعداءُ حانقةً *** لما رأوْا صرْحها قد علا، وَصَفا
حتىّ رمَوْا عن قِسيِّ الحقدِأسهَمها... على الخلافة حتَّى أثْخنوا الهدفا
كانوا يُعدُّون مكرَ السوء مخْتفياً *** فيما يكيدون حتّى أظهروا التّلفا
فأوْقعوا بين أهل الدّين فتنتهم *** كالنَّار تأتي على البنيان فانقصفـا
وقاتل التركَ من أبناءِ إخوتهم *** من صدَّق الروم والصُّلبان فاعْتسفا
وأقبلَ الكفرُ بالأحقاد يحشدُها *** واسقط الحكمَ بالإسلام واجترفا
أرضٌ ترى (أحمر الانكليز) بها *** يمشـي بدين النصرانية الخَطَفـى
أعدَّ للدين والإسلام خطَّتـه *** ليعلنَ الدين والإسلام قد نُسـفا
لكنْ يمزِّقُهـا حَتْما بلا رِيَـبٍ *** أبناء جيلٍ بحبِّ الحرب قد شُغفـا
هيهات يقضى على الإسلام ساعيهم ***وبالجهاد عَلا بالعزِّ ملتحفـا
سيَرجـعُ الحكمُ للإسلامِ مُنتظماً *** مدارج المجـدِ للعليـاء مُقتطفا[1]
السابع والعشرين من شهر رجب عام ألف وثلاث مائة واثنين وأربعين من الهجرة
ذكرى سقوط الخلافة الإسلاميّة ذلك الحدث الأخطر في الإسلام وحياة المسلمين، بعد أن اتصلت حلقاتها ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن، وكانت الخلافة هي الحضْن الذي يلمّ شمـل المسلمين، ويجمعهم في أقدس رابطة تحُيط بهم من وراءهم، وهي رابطة الإسلام والإيمان، وكانت هـي القلعة التي تحميهم وتحمي شريعتهم، كما كانـت هـي اللواء الذي يلتفّون حوله إذا دهمتهم الأخطار.
أحقاً كانت الدولة العثمانية تمثل الحكم الإسلامي، فماذا كانت الدولة العثمانية تقدم للمسلمين:
وأعظم وأهـم ما كانت ظلالها الوافرة تلقيه على أمّتنا أمران:
أحدهما: الإبقاء على الهويّـة التي تميّـز أمّتنـا، بمكوّناتها الثلاث:
الجامع والانتماء الملِّييْن لا الوطنييْن، والشريعة الإسلامية الحاكمة والدولة القائمة على الشريعة المستمدة سلطتها منها، والنظام السياسي المنبثق من الإسلام،
الإبقاء على هذه الهويّة حيّة وقّادة في نفوس المسلمين.
الثاني: أنها كانت رمز القوّة الضاربة المستعلية بالإسلام، ومظهـر الشوكة الغالبة المعزّة للدين، فكانت الأمّة تعتـزّ بأساطيل الجهاد التي تحمي الملّة الإسلامية، والشعوب المحمّدية، وتبقي حدودها مهابة الجانب.
ما الذي يمثله الخليفة في الدولة الإسلامية، أكان منصب يشغل فقط؟
أم قيادة فعلية للأمة؟
وكان الخليفة رمزاً شرعياً يربط بين الهوية، والنظام السياسي، ربطاً وثيقاً، بكلّ ما يعطيه هذا الربط من آثار عظيمة على الأمّة.
ولهذا فقد نزل سقوط الخلافة على الأمة الإسلامية نزول الصاعقة، فلا جـرم عبَّر شوقي عمّا في نفسه، من هوْل هذه الحدث الجلل، بهذه الأبيات التي سارت بها الركبان:
ضَجَّتْ عليكِ مـآذنٌ ومنابرٌ *** وبَكتْ عليـكِ ممالـكٌ ونـَواحِ
الهـندُ والهــةٌ ومصرُ حـزينة ٌ *** تَبْكي عليكِ بمَدمَـعٍ سَحّاحِ
والشّامُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ *** أَمَحَـا من الأرضِ الخلافـةَ ماحِ؟ [2]
سقوط الدولة الخلافة الإسلامية كان نتاج عِدة أمور تجمعت مع بعضها البعض:
منها ما كان نتاج أيدي المسلمين، ومنها ما كان نتاج أيادي خفية عملت في الخفاء؛ لتبني لها كيان على أنقاض دولة الإسلام وعلى أشلاء تعاليم الإسلام التي كانت تطبق في مقر الخلافة الإسلامية المتمثل في الدولة العثمانية على أرض تركيا.
فكانت المؤامرات،،
1-المؤامرات لتفكيك الأمة-الدولة الإسلامية-.
ومن المؤامرات التي يمكن أن نعددها هنا وكان لها السبب الأكبر في سقوط الخلافة الإسلامية:
أ- المعاهدات الغادرة التي دخلت فيها الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية المجاورة لها.
فقد خلت الدولة العثمانية تحت معاهدات مثل:
1-معاهدة كوجوك فينارجي (1774 م). التي وضعت الدولة العثمانية تحت رحمة روسيا فجعلت تعمل على إخراجها من الخارج والداخل وهو أسوء صلح عرفته الدولة في ذلك الوقت.
2- اتفاق الدولة العثمانية مع النمسا سنة 1772 م -وكان هذا الاتفاق ناتج عن الاتفاق الأول مع الروس - على جعل الآستانة عاصمة إمبراطورية يونانية جديدة تحت سلطتها وأخذت تحث العناصر البلقانية على إعلان الثورة وخلع العنصر التركي من أعناقها.
3- اضطرت الدولة العثمانية بعد اتفاقها مع النمسا إلى أن تفدي نفسها بمقاطعة في معاهدة 1783 م.
4- توقيع معاهدة قارلوفجه عام 1110هـ، إذ بمقتضاها خرجت دولة المجر من قبضتها ثم توالت الهزائم وتوالت التنازلات.
ب- شغل بعض الخونة لمواقع مهمة في الدولة العثمانية.
حزب الاتحاد والترقي، هذا الحزب المكون من فريقين عسكري ومدني، فكان احمد علي رضا ممثل الجناح المدني للحزب، وكان مؤسس الفريق العسكري إبراهيم تيمو الروماني المتأثر بالماسونية.
فاستطاع هذا الحزب السيطرة على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية سنة 1908م، فكان يغرس أفكار التطور في المجتمع التركي وغرس أفكار جنكيرز خان وتيمورلك ويتغنيان بفتوحاتهما ولا يكرون أعمالهما الخرابية في الدولة الإسلامية، وكان من الداعمين لهم مفكر يهودي -موئيز كوهين - الذي كتب ثلاث كتب اعتمدت عند جمعية (الاتحاد والترقي) وهي:
-ماذا يمكن أن يكسب الأتراك من هذه الحرب.
-والطوران-.
- وسياسة التتريك.
كما أسهم هذا الكاتب اليهودي في الكتابة للفكر الكمالي بكتابة (الكمالية) وكتابة (الروح التركية) الذي أرخ فيه التطور العنصر التركي. [3]
ت- خروج كثير من جيوش الدولة العثمانية في الدفاع عن حدود الدولة مترامية الأطراف.
فكانت الأوضاع في الدولة العثمانية تزداد سوء يوماً بعد الآخر، فقد كانت تواجه المتحالفين عليها عند الدردنيل، ومحاولة توريطها في أطماع في نفط العراق، والتغلغل في بلاد فارس سياسيا، ومواجهة البريطانيين لدخولهم مصر والسيطرة على طرق التجارة للهند.
وكانت الدول الغريبة تثير الأقليات على حكم الدولة العثمانية ليكون لهم سند في ساعة الصفر، فقد قام الأرمن واليونان بأعمال بربرية ضد المسلمين عند سقوط الدولة العثمانية، ومن الأمور التي كانت تعد في الخفاء ضد الدولة العثمانية المعاهدات بين بد الغرب لتقسيم الدولة العثمانية إلى أقسام وأخطرها معاهدة سايكس يبكو التي كانت بين بريطانيا وفرنسا.
ث- المؤامرات الصفوية مع الغرب النصراني، كتحالف قديم جديد على مر العصور
كانت الدولة العثمانية الممثلة لدولة الإسلام تقاتل أعدائها من الصليبيين الحاقدين على عده محاور، فالروس من الشمال والنمسا من الغرب والإمارات الإيطالية، فرنسا، وانكلترا، والبرتغاليون في البحار والمحيطات، فهذا القتال أوقف غالب طرق التجارة الأوروبية وجعل الغرب يبحث عن طرق لتجارته فسعى البرتغاليين على الطرق البحرية التي لم تكن أقل خطورة من الطرق البرية، ولكن كان لها حليف ظهر في الجهة الشرقية من العالم الإسلامي وهو الدولة الصفوية التي كانت الخنجر في خاصرة الدولة الإسلامية-العثمانية- فدخلت أوروبا في تعاهدات مع الصفويين ومن أهمها:
أ- مع البرتغاليين:
المعاهدة بين الصفويين والبرتغاليين بين الشاه إسماعيل والبوكرك الحاكم البرتغالي في الهند نصت على أربع نقاط هي:
1. تصاحب قوة بحرية برتغالية حملة إيران على البحرين والقطيف.
2. تتعاون البرتغال مع إيران في إخماد حركات التمرد فيبلوجستان ومكران.
3. تتحد الدولتان في مواجهة الدولة العثمانية.
4. تصرف حكومة إيران النظر عن جزيرة هرمز، وتوافق على أن يبقى حاكمها تابعاً للبرتغال وأنلا تتدخل في أمورها الداخلية.
ب*- مع فينيسيا (البندقية):
المعاهدة مع جمهورية فينيسيا (البندقية) فكانت مخزية كذلك، فقد كانت فينيسيا من الدول المتأثرة تجارياً بسبب قضاء العثمانيين على الدولة البيزنطية، وإغلاقها الطريق الرئيس للتجارة بين أوروبا وآسيا، فأرسل الشاه إسماعيل السفراء إلى بلاط فينيسيا طالباً الهجوم على العثمانيين عن طريق البحر، وأن يقوم هو بالهجوم من ناحية البر، بشرط أن تسترد فينيسيا قواعدها التي فقدتها في البحر الأبيض المتوسط.
ت-معاهدات مع أسبانيا والمجر:
بعث الشاه إسماعيل برسائل إلى أسبانيا والمجر، لعقد معاهدة صداقة وتعاون لتقسيم الدولة الإسلامية المتمثلة في تركيا قاعدة لها- فقد قدم الشاه عروضا للأسبان عن طريق البنادقة لكي يتقاسما أراضي الدولة العثمانية فتحصل الأولى على الجزء الأوروبي وتستأثر الثانية بالآسيوي ولم يكن هذا العرض سوى واحد من عروض كثيرة حملها سفراء إيرانيون كانوا يقطعون المسافة بين أوروبا وإيران جيئة وذهابا.
كان هذا هو المنهج الذي نهجه الصفويون في تعاملهم مع دولة السُنة، منهج كيد وتآمر، ولقد أثر ذلك في كثير من مجريات الأمور، واستفادت الدول الأوروبية منه أعظم استفادة كما مر معنا سابقاً، [4].
كان لهذه المعاهدات التي دخلت فيها الدولة العثمانية، وتكالب من حولها ضدها الأثر الكبير في بدأ التدهور في أجزاء كثيرة منها، وإن كان القتال بالسلاح هو طريق من الطرق التي قاتل بها الغرب مع الصفويين الدولة الإسلامية إلا أنهم قاتلوا بزرع أفكارهم في عقول بعض أبناء الدولة الإسلامية ممن مال قلبه وعقله إلى تقليد الغرب في كل أموره والخروج على الحكم الإسلامي على أنه حكم لعهد مضى ولم يعد نافعاً لكل العصور، فكان سقوط الخلافة الإسلامية:
2-سقوط الخلافة الإسلامية والتي كانت تمثلها الدولة العثمانية، ومن كان ورائه وأعان عليه.
من أبرز تلاميذ الغرب المؤيدين لفكرهم وطريقتهم في الحكم وإبعاد الدين عن الدولة، لنبذ الدين ولكن بطريقة اللف والدوران والقول بالتقدم هو كمال أتاتورك الذي أتى ليمحو صلة تركيا -الممثلة لعاصمة الخلافة الإسلامية- بماضيها الإسلامي فمن أعماله في المجال الديني والسياسي:
أ- القضاء على الحكم الإسلامي في تركيا.
ب-أغفل الدستور التركي 1928م، الذي أسَّسه أتاتورك، أنَّ تركيا دولة إسلامية، حتى جعل القسم الرسمي بالشرف، وألغى القسم بالله - تعالى -.
ت-حارب التعليم الديني وأغلق المدارس الدينية عام 1933م.
ث- تحويل الإجازة الاسبوعية إلى السبت والأحد تشبه بأوروبا، بدل أن كانت يوم الجمعة.
ج- ألغى الطربوش التركي، وأستبدله بالقبعة الأوروبية.
ح- حوّل الأذان إلى اللغة التركية، وترجم القرآن إليها، حول التاريخ الهجري إلى الميلادي.
خ- ألغى اللغة العربية تماما، بل عاقب من يكتب بها.
د- حارب الحجاب الشرعي، وحرض النساء على التبرج تحت شعار الحرية.
ذ- حول مسجد إسلام بول- إسطنبول - أيا صوفيا إلى متحف، ومنع إقامة الصلاة فيه، وحول مسجد الفاتح إلى مستودع.
هذا كان في تركيا، وفي الوقت الذي كان فيه أتاتورك يشوه الإسلام في عاصمته كانت معاول هدم تشاركه في غالب البلاد الإسلامية الأخرى، فكانت الدعوة للعصرية والتحرير وعزل الدين عن الدولة قائمة في برد الشام، مصر، العراق، وكانت هذه أكبر أقاليم الدولة العثمانية وأقواها، وكان هذا من أبرز آثار الاستعمار الفرنسي والبريطاني الذي كان في تلك البلاد. [5].
3-ما نتج عن سقوط الخلافة الإسلامية من خروج الدويلات المتناثرة.
عمل الغرب مع المسلمين بقانون: فرِّق تسُد، فنشروا الخلاف والتنازع بين أبناء الأمة الإسلامية فقسمت الأمة إلى دويلات صغيرة، وأتى التنادي بالوطنيات والتنعر ورفع الشعارات التي فرقت بين الأب وابنه من دون أسباب، ولنقرأ سوياً هذه القصة لنخرج منها لأهم أسباب الفرقة:
يحكي الإمام ابن قتيبة الدينوري - رحمه الله - في كتابه "تأويل مختلف الحديث":
" حدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور العباسي سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله - عز وجل - ومساخطه، جهلاً منهم باستدراج الله - تعالى -، وأمناً من مكره - تعالى -، فسلبهم الله - تعالى -الملك والعز، ونقل عنهم النعمـة، فقـال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبيد الله بن مروان دخل أرض النوبة هارباً فيمن اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبيد الله، فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة، ويسأله عن ذلك؛ فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة.
فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها، وأقمت ثلاثاً، فأتاني ملك النوبة، وقد خبر أمرنا، فدخل عليَّ رجل طوال، أقنى، حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟!
فقال: إني مَلِك، وحق على كل مَلِك أن يتواضع لعظمة الله - عز وجل - إذ رفعه الله؛ ثم أقبل عليَّ فقال لي: لِمَ تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا؛ قال: فلِمَ تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك جهالنا؛ قال: فلم تلبسون الديباج والحرير، وتستعملون الذهب والفضة، وهو محرم عليكم؟ فقلت: زال عنا الملك، وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا؛ فاطرق ملياً، وجعل يقلب يده وينكت في الأرض، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله - تعالى -العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله - تعالى -فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاث، فتزودوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي؛ ففعلتُ ذلك".
فالأسباب:
أ-التفرق والاختلاف:
فقد قال الله- تبارك وتعالى -: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، سورة آل عمران: 103، وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)، سورة الأنعام: 159.
على المسلمين أن يوحدوا صفوفهم ويبتعدوا عن الفرقة والاختلاف التي غرس العدو بذورها في الأمة تحت قانون: فرق تسد.
وأن ينبذوا أسباب الفرقة والخلاف ليكونوا عباد الله إخواناً، فالفرقة شر، والخلاف شر، ولولا اختلاف المسلمين وتفرقهم لما استطاع الكفار أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه، ولله در القائل:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ***وإذا افترقن تكسرت آحاداً
وطريقهم إلى هذه الوحدة هو:
ب-نبذ الهوى:
لم يعد يرد الأمر إلى الله ورسوله في حال التنازع بل كان التناحر واتباع الهوى وحب الدنيا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، اسقط التأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتناسوا قول الله- تبارك وتعالى -: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، سورة النساء: 59.
فنتج عن إتباع الهوى والتنازع والتناحر والإعجاب بالرأي التباغض والتحاسد والتدابر والتقاطع وهي الطريق إلى:
ت-الحالقة التي تحلق الدين:
الأعراض السابقة من تباغض وإتباع هوى وتناحر كانت سبب في إصابة الأمة بمرض الأمم السابقة الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشَعَر، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) [6]
ث-الحذر من الاختراق
وهو أقصر الطرق لدخول التي يسلكها الأعداء للدخول في الأمة عن طريق ضعاف النفوس، الذين باعوا آخرتهم بدنياهم كما حصل في سقوط عاصمة الخلافة العباسية بغداد في أيدي المغول بسبب الخونة.
واليوم كثر ضعاف النفوس ممن يغرون بالمال والتسلط على عباد الله، وإلا أين ذهب موقف الفاروق:
سأل عمر - رضي الله عنه - حذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين: "ناشدتك بالله هل سماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم؟ قال حذيفة: لا؛ ثم قال له: ناشدتك بالله، هل في عمالي أحد منهم؟ قال: نعم؛ ولكنه أبى أن يسميه له؛ فعزله عمر كأنما دلّ عليه، وذلك لأنه كان ذا فِرَاسة صادقة، وبصيرة نافذة، ورأي سديد.
ج-الحذر من العمل أو القتال تحت راية عُمِّـيَّـة
خرَّج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِّـيَّة، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برَّها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يتقي بذي عهدها، فليس مني)) [7].
ح-من تولى عن حكم الله ورسوله تولى الله عنه.
لعل هذا من أخطر الأسباب وهو التولي والبعد عن حكم الله ورسوله، وعدم نصرته، فالله - تعالى -يقول: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده)، سورة آل عمران: 160 0
لذا يجب على المسلمين أن يتعظوا ويفيقوا من سباتهم، ويراجعوا حالهم، ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، عليهم أن يتهموا أنفسهم في اعتقادهم، وفي عبادتهم، وفي سلوكهم، وفي معاملتهم لإخوانهم المسلمين، وفي تقصيرهم نحو الكفار أمة الدعوة في ترك جهادهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
5-كيف نعيد الأمجاد.
أ-توحيد مصدر التلقي وكيفية التلقي لهذا الدين.
بأن يكون من كتاب الله - تعالى -وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والقياس وإجماع الأمة
والبعد عن المصادر التي كانت سبب في البعد عن الحكم بشرع الله - تعالى -من فلسفة، وإحكام العقل البشري، والمصلحة الموهومة، و الخلاف المجرد من الدليل.
فعندما عرض من آمن بهذه المصادر النصوص الصريحة الصحيحة عليها فما وافقها قبل وما خالفها أوّل أو ردّ، فإن أردنا الوحدة فعلينا العودة إلى ما كان عليه سلف الأمة فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
ب-تصحيح العقيدة ونبذ الممارسات الشركية.
فانتشار البدع والشركيات في الأمة وخاصة في المجتمعات التي كثر فيها الجهل، فإن البدعة والجهل بالدين متلازمين.
فالطواف بالقبور والذبح عندها، والنذر لها شركيات وقعت في الأمة وأصبح لها مفتوها والمنافحين عنها بكل ما استطاعوا من سبل، فأين هم بفعلهم ولجوئهم للقبور ومن فيها من أموات من فعل عبد المطلب.
قال ابن هشام: ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهـمَّ إن العبـد يمـ*** نعُ رَحله فامنع رحالك
لا يغلبـن صليبُهــم و*** محالُهم غدواً محالك
إن كنتَ تاركهم وقبـ ***ـلتنا فـأمر ما بدا لك [8]
فهذا رجل جاهلي علم أن الأمر كله بيد الله - تعالى -فلم يقف أمام صنم ليسأله أن يبعد العدو عن مكة وعن الكعلة، بل سأل الله - تعالى -، فأين من سأل صاحب القبر حاجاته، ومن رفع حزبيات بعيدة عن الدين أخذها من أعداء الملة لتكون له شعار ودثار كما الشيوعية والبعثية والعلمانية ووليدتها البغيضة الليبرالية من فعل هذا الرجل الجاهلي.
ت-التحاكم إلى شرع الله ونبذ القوانين الوضعية.
القوانين الوضعية أتت لتحل مكان الشريعة الإسلامية، فبُدِل الكثير من الأحكام تحت مقولة: إنه لم يعد نافع لهذا الزمان، أو أنه منتهك لحقوق البشر.
عجباً أليس من خلق البشر هو من أنزل هذه الأحكام وعلِم بأنها هي الصالحة للبشر على مدى الزمان!، أم من ترك السارق ليعود ويسرق مرات أخرى، ومن سرّح القاتل ليفسد في الأرض، فمن ترك الحكم بما أنزل الله - تعالى -فقد انطبق عليه قول الله تبارك وتعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، سورة المائدة: 46.
ث- ترك الذنوب والآثام.
قدم وفد على عمر بن الخطاب بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار؛ قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار؛ فقال: إنا لله! أوقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره؟! والله إن كان هذا إلا عن ذنب استحدثتموه بعدي، أو أحدثته بعدكم، ولقد استعملت يعلى بن أمية على اليمن، أستنصر لكم بصلاحه.
فالحذر من الاستهانة بالذنوب والمعاصي، فإنها من المهلكات التي انتشرت وتهاون فيها المسلمين.
ج-احذروا الظلم.
ذكر الذهبي في الكبائر له: "لما حبس خالد بن برمك وولده، قال له ولده: بعد العز صرنا في القيد والحبس؟ فقال: أي بني، دعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها".
وقال أبو الفداء بن عقيل الحنبلي: "حكي أن بعض الوزراء ظلم رجلاً، فقال له الرجل: اتق الله، وكفَّ عني، وإلا دعوتُ الله - تعالى -عليك؛ فقال الوزير: ادع بما شئتَ؛ فما مضت أيام حتى قبض الوزير وعذب، فكتب إليه الرجل بهذين البيتين:
سهام الليل لا تهدأ ولكن *** لها أجـل وللأجل انتهاء
أتهزأ بالدعاء و تزدريه *** تأمل فيك ما فعل الدعاءُ؟!"
الخاتمة
هاهي الذكرى تعود بعد عقود من الزمان مرت بنا، وبعد ويلات عاشتها أمتنا الإسلامية في ظل الاستعمار من جانب، وفي ظل التغريب والتغيير للأسوأ من جانب آخر وأبناء الأمة الإسلامية تتلاطمهم أمواج التغير حتى بدأت المطالبات بالتغيير في الشريعة الإسلامية تحت مسمى الحداثة وغيرها من الأسماء، وليس المطالب اليوم هو المستعمر بل إنه ابن الإسلام الذي نظر للغرب بمنظار الإعجاب والتأييد وتغافل عن كل مساوئ الغرب وانحلالهم.
اليوم وبعد هذه العقود من الزمان تعود عاصمة الخلافة الإسلامية-تركيا- للنهوض من جديد متلفعة بحجاب الإسلام وثوبه، مطالبة بعودة الحكم بالإسلام وإبعاد الحكم العلماني، فهاهي تحاول النهوض فلنكن جسداً معها كما أخبر عنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، متفق عليه.
فنساندها ونساند أنفسنا في العودة بقوة لتعاليم الإسلام لنعيد الأمة لما كانت عليه، وندع دعاة التغريب والتغيير والتحرير عنا فإنهم ناعقون في خراب المسلمين.
فالإمام مالك - رحمه الله تعالى -يقول:
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي أصلح أولها.
أوجز الإمام مالك بالمنهج الذي يصلح الأمة وهو المنهج الذي سار عليه سلفها الصالح من الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم بما تعلموه من نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
المراجع
============================== ===
[1] في ذكرى سقوط الخلافة الإسلامية.
[2] من قصيدة الشاعر أحمد شوقي عند سقوط الدولة الإسلامية.
[3]عصر السلطان العثماني عبدالحميد الثاني - رحمه الله - الجزء الرابع.
[4] أبو الحسن علوي بن حسن عطرجي، الدولة الصفوية.
[5] من مقال: مدُّوا أيديكـم للإمبراطوريّة الإسلاميّة العائدة في تركيا، للشيخ /حامد بن عبدالله العلي.
[6]قال المناوي في فيض القدير ج3، ص516 سنده جيد.
[7]كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة الجماعة، رقم: 1848.
[8]الروض الآنف للسهيلي ج1، ص: