من سنة الله الكونية الاختلاف
كما قال تعالى
{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}
والاختلاف نوعان: نوعٌ محرمٌ مذمومٌ، وهو اختلاف التفرق الذي وقع به أهل الملل والفرق المنحرفة،
كما قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وقال أيضا:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
والنوع الآخر اختلاف سائغٌ، وهو اختلاف أهل الحق فيما يسوغ فيه الخلاف من الأمور العلمية والعملية، وأصحابُه مأجورون على كلّ حالٍ بأجرين أو بواحد،
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أئمة الإصلاح في زمانه، وما زالت كتاباته إماماً لأهل الإصلاح في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
وقدخالفه عديدٌ من أهل عصره في المسائل العلمية والعملية، مما يسوغ فيه الخلاف ومما لا يسوغ، وقد تمادى بعضُ مخالفيه فتجاوز الحدَّ فيه بالتكفير والدعوة إلى قتله، وباشر بعضهم الضرب، وسعوا في سجنه، فسجن عدة مرات حتى مات في سجنه صابراً محتسباً.
ومع ذلك كان الشيخُ مثالاً يقتدي به كلُّ الدعاة على مرِّ الزمان.
ومنهج شيخ الاسلام مع المخالفين
يقوم على أصلين عظيمين:
بيان الحق ورحمة الخلق.
أولاً: بيان الحق
بيانُ الحق وردّ الباطل حقٌ واجب على جميع الأمة، وخاصةً من نصبهم الله لذلك وهم العلماء ورثة الأنبياء،
والباطلُ مردودٌ حتى لو قال به عالمٌ من الراسخين، أو وليٌّ من الصالحين،
فحقُّ الشريعة وجنابُها مقدَّمٌ على الخلق، مع الاعتذار والاحترام للمجتهدين.
أما أهل البدع فيجب ردُّ باطلهم مع بيان حالهم، وخاصةً إذا كانوا من الداعين لبدعهم.
وقد تجلَّى هذا المنهج في كتب شيخ الإسلام ورسائله وفتاويه.
قال في "منهاج السنة النبوية" (5/ 146):"
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمّد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ;
فهذا إذا تكَّلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة،
فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعة،
فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق".
وقال في "مجموع الفتاوى" (28/ 231):"
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛
فإنَّ بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجبٌ باتفاق المسلمين،
حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟
فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه،
وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل.
...
إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين،
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين،
وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛
فإنَّ هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً،
وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء".
ثانياً: العدلُ والإنصاف
قال ابن تيمية في" منهاج السنة" 5/157:" فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً".
ولما صنّف كتاباً في الاستغاثة ردَّ عليه أحدهم فكفَّره وضلله وشتمه، ومع ذلك لم يقابله بالمثل،
بل قال كما في "الرد على الإخنائي" (ص: 92):
" وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله، ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار،
فقال سبحانه وتعالى:{ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا [المائدة: 8]. فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين".
وقال في "مجموع الفتاوى" (3/245):
"هذا وأنا في سعة صَدْرٍ لمن يخالفني،
فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية ،
فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه..."انتهى.
قال شيخ الاسلام رحمه الله في
" مجموع الفتاوى" (3/ 232):" ما ذكرتم من لين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن،
فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالاً لهذا،
لكن كل شيء في موضعه حسن،
وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة،
فنحن مأمورون بمقابلته،
لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن". قال شيخ الاسلام فى خصومه الذين كانوا السبب فى دخوله السجن أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته الجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات"."مجموع الفتاوى" (28/41) وقال أيضا في" مجموع الفتاوى" (28 /55):
" وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي".
وقال ابن القيم عن ابن تيمية في "مدارج السالكين" (2/329)
: " كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه،
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم".
بل حبه للخير لم يختص بالمسلمين بل تعداه الى جميع الناس ولو كانوا من الكافرين ، فقد قال في رسالة وجهها للملك النصراني (سرجون) حاكم قبرص: "نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة"، "مجموع الفتاوى" (28/615).
ومن كلام شيخ الاسلام رحمه الله فيمن آذوه،
فلا أحبُّ أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم". "مجموع الفتاوى" (28/ 55):"
وقال
" وأنا والله من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين. ولو كنتُ خارجاً لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن هذه مسألة قد فعلوها زورا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم، ولن ينقطع الدور وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة وصدق الالتجاء، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله". ى مجموع الفتاوى" (3/ 271)
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/345)
" وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئتُ يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال : إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي عنه".
فلذلك قال القاضي ابن مخلوف وقد كان خصما له :"ما رأينا مثل ابن تيمية , حرضنا عليه فلم نقدر عليه , وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا".
وفي اللحظات الأخيرة من حياته –رحمه الله- مرض أياماً في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره. فأجابه ابن تيمية
بقوله: إني قد أحللتُك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق .