فلسطين من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر









كتبه/ محمود عبد الحميد


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فإن الوجود الإسلامي في بيت المقدس وبلاد الشام بدأ مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وفي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية الشريفة، وفي خلافة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وتم الفتح بقوَّاد لم يعرف التاريخ مثلهم أمثال أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن أبي السرح، ويزيد بن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، وغيرهم من قواد المسلمين العظماء.

ففي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية انطلقت أربع فرق من جيش المسلمين، إحداها بقيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، والأخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والثالثة بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والرابعة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح ووجهته حمص.

ولقد استنفرت البدايات الأولى للانتصارات التي حققتها هذه الفرق القيادة البيزنطية التي أخذت تدرك أكثر فأكثر خطورة الدول الإسلامية الناشئة على وجودها في بلاد الشام.

فحشد الإمبراطور هرقل جيشا كبيرا، ولَّى قيادته أخاه فردريك الذي تحرك صوب أواسط الشام، فكان على قادة الفرق الأربع أن يستشيروا القيادة المركزية في المدينة، فكان جواب أبي بكر -رضي الله عنه-: أن اجتمعوا عسكرًا واحدًا، والْقوا زحف المشركين بزحفكم فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره.

وعند اليرموك، في أواسط سوريا تم اللقاء الحاسم بين الطرفين؛ وإذ طال اللقاء دون ظهور نتيجة نهايته أصدر أبو بكر -رضي الله عنه- أمره المعروف إلى خالد أن يغادر جبهة العراق، ويهرع لنجدة إخوانه في الشام، فقرر خالد اختزال الزمن ذي الأهمية الكبيرة في الحروب واجتياز الصحراء عبر خط مستقيم إلى هدفه بدلا من الطريق التقليدي الطويل.

وبعد أيام قلائل لقيت فيها قوات خالد المصاعب والمتاعب وصل معسكر إخوانه في اليرموك، وتولى قيادة المعركة الحاسمة التي انتهت بسحق القوات البيزنطية وفتح الطريق أمام المسلمين لاجتياح المواقع والمدن الشامية الواحدة تلو الأخرى.

وفي فلسطين تمكن عمرو بن العاص عند "أجنادين" من تحقيق انتصار لا يقل أهمية عن اليرموك، فقد فتح طريق لفتح المدن الفلسطينية وحصار القدس، ثم استسلامها أخيرا وتوقيعها شروط الصلح بحضور الخليفة عمر بن الخطاب نفسه الذي ما لبث أن عقد مع كبار قادته مؤتمرا في الجابية؛ لتحديد إستراتيجيات الفتوحات في المرحلة التالية، فانطلق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ففتح مصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس، وفتح أبو عبيدة -رضي الله عنه- دمشق واستخلف عليها يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وكانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وتم فتح المدائن، وفتحت همذان ثم الري ثم أذربيجان.

وتم أول قتال بحري في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقد سمح لابن أبي سرح ومعاوية أن يبنيا أسطولا إسلاميا تمكن خلال سنوات قلائل من تحقيق عددا من الانتصارات كان أبرزها فتح قبرص ورودس، ومعركة "ذات الصواري" التي تم فيها سحق الأسطول البيزنطي المكون من خمسمائة قطعة بحرية، ولقد عاش المسلمون حياة العز في القرون الخيرية وملكوا أعظم دولة في التاريخ امتدت من الصين شرقا إلى فرنسا غربا وذلك في زمن وجيز فبعد ثلاث وثمانين سنة من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قتيبة بن مسلم قد دخل أرض الصين.

ثم ما لبث أن دب الضعف في الدولة الإسلامية لانشغال الناس بالدنيا عن الآخرة، وانتشار الترف والمعاصي وظهور المناهج الفلسفية والفرق النارية، مما أدى إلى طمع الدول الكافرة في بلاد المسلمين ففي القرن الخامس الهجري كان حال الدولة الإسلامية سيء للغاية...

فالخلافة في بغداد ضعيفة وليس للخليفة إلا الاسم، والعبيديون يحكمون مصر، وهم ليس عندهم أي حماس للدفاع عن الإسلام، والشام يحكمه عدد من الأمراء الضعفاء والحرب قائمة بينهم، وانتشرت البدع، فطمعت الدول المجاورة لبلاد الإسلام في دولة الإسلام فبدأت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وكانت الحملة الأولى سنة 1097م، إلى سنة 1099م، والتي انتهت بالاستيلاء على الرها وأنطاكية وبيت المقدس، وقتل آلاف المسلمين وعمل مذبحة عظيمة بالقدس قتل فيها 70 ألف مسلم.

وذلك أنه في مارس سنة 1095م أرسل "ألكسيوس الأول" مرسليه إلى مجمع "بياشنزا" ليطلب من البابا "أوربانوس" المساعدة ضد الأتراك، تلقى البابا "أوربانوس" طلب الإمبراطور بكثير من الحفاوة، فكان يتمنى أن يلتئم الشرخ بين الكنيستين الذي كان عمره 40 عاما، وأراد إعادة توحيد الكنيسة تحت السلطة البابوية كرئيس أساقفة العالم، وذلك بمساعدة الكنائس الشرقية لدى استصراخها.

وفي مجمع "كليرمون"، الذي عقد في وسط فرنسا في نوفمبر 1095 م، ألقى "أوربانوس" خطبة مليئة بالعواطف لحشد كبير من النبلاء ورجال الدين الفرنسيين، فدعى الحضور إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين، وقال: إن فرنسا قد اكتظت بالبشر، وأن أرض كنعان تفيض حليبا وعسلا، وتحدث حول مشاكل العنف لدى النبلاء، وأن الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب، فقال: "دعوا اللصوص يصبحون فرسانا"، وتحدث عن العطايا في الأرض كما في السماء، بينما كان محو الخطايا مقدما لكل من قد يموت أثناء محاولة السيطرة.

ونشر "أوربان" الرسالة في أنحاء فرنسا، وحث أساقفته وكهنته بأن يعظوا في أسقفياتهم في بقية مناطق فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفي النهاية انضم أعداد كبيرة من الفقراء والفارين من اضطهاد حياتهم اليومية، فتحركت هذه الجموع في أغسطس 1096م، من "اللورين" بقيادة "جودفري" وانضم إليها أتباعه (أخوه الأكبر "الكونت يفتسافي" من "بولون" وأخوه الأصغر "بلدوين" من "بولون" أيضا، كما انضم إليه ابن عمه "جودفري"، و"الكونت بودوان" من "اينو" و"الكونت رينو" من "تول") على أثر الدعوة التي انطلقت لها حملة الفقراء.

فمشت هذه الفصائل على طريق الراين -الدانوب التي سارت عليها قبلهم فصائل الفلاحين الفقراء- حتى وصلت القسطنطينية نهاية عام 1096.

وفي مايو اجتمعت القوات الصليبية بعد عبورها مضيق "البسفور" لحصار مدينة "نيقية"، وقدم إمبراطور القسطنطينية "ألكسيوس كومينن" الإمدادات للصليبيين من المؤنة إلى آلات الحصار الذي استمر حتى 26 يونيو حيث استسلمت المدينة لقوات "ألكسيوس"، ومنع "ألكسيوس" قوات الصليبيين من دخول المدينة ونهبها، وامتصاصا لغضبهم قدم لهم الهبات والمنح للأمراء وطبقات الفرسان، وأمر بتوزيع قطع نحاسية على المشاة.

بعد تسليم المدينة للقوات البيزنطية تقدمت قوات الصليبيين إلى القدس، وخلال المسير تقرر تقسيم الجيش إلى قسمين نظرا لكثرته، على أن تكون المسافة الفاصلة بينهما مسيرة يومين.

وفي هذه الأثناء حشد "قلج أرسلان" حاكم "قونية" جموعه لصد الصليبيين بعدما اخذوا منه "نيقية" إلا أنه تعرض لهزيمة شديدة في معركة "ضورليوم"، ومهد هذا النصر للصليبيين الاستيلاء على مدن وحصون عديدة في الأناضول بسبب إخلاء السلاجقة لها ومعاونة الأرمن لهم.

وقبل مسير الصليبيين إلى أنطاكية لحصارها انفصل "بلدوين" عن الجيش الرئيسي مصطحبا معه ثمانون فارسا بعدما طلب منه أهالي الرها القدوم إليهم لنجدتهم.

وكانت الرها تحكم من قبل أمير أرمني يسمى "طوروس" الذي كان يخضع للسلاجقة الذي أراد أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا له بعدما سمع بانتصارات الصليبيين، إلا أن فكرة أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا لـ"طوروس" لم يتقبلها "بلدوين" فتقرر أن يتبنى "طوروس" "بلدوين" كابنٍ له لاسيما كون "طوروس" رجلا عقيما ومسنا.

ولكن قامت بعدها ثورة في الرها أسفرت عن مقتل "طوروس" وتنصيب "بلدوين" حاكما على الرها كوريث لـ"طوروس".

أما الجيش الرئيسي للصليبيين فتابع مسيرته حتى أنطاكية حيث استمر في حصارها طوال ثمانية أشهر ابتداء من 20 أكتوبر حتى 3 يوليو، حيث دخل الصليبيون أنطاكية بعد خيانة أحد المستحفظين على الأبراج، ويدعى "فيروز"، الذي مهد لهم للصعود إلى أحد الأبراج وفتح الأبواب والدخول إلى المدينة.

وأسفرت الحملة الأولى عن احتلال القدس عام 1099 وقيام مملكة القدس اللاتينية بالإضافة إلى عدّة مناطق حكم صليبية أخرى ، كالرها (أديسا) وإمارة أنطاكية وطرابلس بالشام.

ولعبت الخلافات بين حكام المسلمين المحليين دورا كبيرا في الهزيمة التي تعرضوا لها، كالخلافات بين الفاطميين بالقاهرة، والسلاجقة الأتراك بنيقية بالأناضول وقتها.

وباءت المحاولات لطرد الصليبيين بالفشل، كمحاولة الوزير الأفضل الفاطمي الذي وصل عسقلان، ولكنه فر بعدها أمام جيوش الصليبيين التي استكملت السيطرة على غالبية الأراضي المقدسة.

ثم توالت الحملات على بلاد المسلمين للسيطرة على البلاد وتحويل المسلمين عن دينهم، فكانت الحملة الصليبية الثانية 1147 إلى 1149م قادها "لويس السابع" ملك فرنسا و"كنراد الثاني" إمبراطور ألمانيا، وتصدى لهم نور الدين زنكي، وقتل عددا كثيرا منهم في آسيا الصغرى، ثم ردت الحملة على أعقابها.

وفي عام 1187م وقعت موقعة حطين الشهيرة بقيادة البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، وانتهت بهزيمة الصليبيين وإعادة بيت المقدس والإمارات الأخرى التي احتلها الصليبيين في الحملة الأولى.

ثم كانت الحملة الثالثة 1189 إلى 1192م التي قادها "فردريك برباروسا" إمبراطور ألمانيا و"ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا و"فيليب أغسطس" ملك فرنسا، وتصدى لها المسلمون وأفشلوا هذه الحملة وانتهت بعقد صلح "الرملة" 1192م.

ثم كانت الحملة الصليبية الرابعة 1202 إلى 1204م والتي قادها أمير فرنسا، وكان من نتائجها أنها عادت أدراجها بعد الفشل الذريع التي منيت به هذه الحملة.

ثم كانت الحملة الصليبية الخامسة 1218 إلى 1221م والتي قادها الملك "يوحنا دي برين" ملك الجزء المتبقي من بيت المقدس، تساعده أوروبا، وفشلت هذه الحملة، وعجزت عن الاستيلاء على مصر، ثم عقد صلح انسحبت على أثره الحملة الصليبية.

ثم كانت الحملة الصليبية السادسة 1228 إلى 1229م قادها "فردريك الثاني"، وانتهت بعقد صلح بين الملك الكامل والصليبيين، سلم على أثره بيت المقدس وبيت لحم والناصرة للصليبيين عشر سنوات.

وفي سنة 1244م تمكن المسلمون من إعادة بيت المقدس بقيادة الملك الصالح نجم الدين، ثم كانت الحملة الصليبية السابقة 1248 إلى 1250م والتي قادها "لويس التاسع" ملك فرنسا وانتهت بهزيمة الصليبيين وأسر لويس التاسع.
وتوالت بعدها حملات صليبية أدت بعدها إلى تقسيم البلاد الإسلامية وخضوعها للبلاد الصليبية وكانت هناك جهود مخلصة من بعض قواد المسلمين وصالحيهم وبطولات وقف عندها التاريخ طويلا، كجهود عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود بن زنكي، وأسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم. نتحدث عنهم في حلقات قادمة.