السؤال:
هل يجوز استعمالُ الماءِ أو الزيت أو العسلِ ونحوِها في الرقية الشرعية؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإذا كانَتِ الرقيةُ الخاليةُ مِنَ الشِّركِ جائزةً بقراءةِ سُوَرٍ مِنَ القرآن والأدعية والأذكار الثابتة؛ فإنه لا يُمْنَعُ التداوي بها مع ماءٍ قُرِئَ فيه القرآنُ أو عَسَلٍ أو زيتٍ، وأشباهِ ذلك مِنَ الأدوية المُباحةِ والأعشاب الطبِّيَّةِ المشروعةِ لِمَنْ له معرفةٌ بأمورِ الطِّبِّ فيما يخصُّ التداويَ بها؛ ذلك لأنَّ الله تعالى أَوْدَعَ في ذاتها نَفْعًا لتكونَ بمُفْرَدِها أو باختلاطها مع غيرِها مِنَ الأدوية والرُّقَى علاجًا لمُخْتَلَفِ الأمراض البدنية.

وقد قال تعالى في شأنِ الماء: ﴿وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء مُّبَٰرَكا﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء طَهُورا ا﴾ وقال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّ﴾

وفي شأنِ العسل قال تعالى ـ عن النحل ـ: ﴿يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَاب مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآء لِّلنَّاسِ﴾

وفي «صحيح البخاريِّ» عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ». وفي حديثِ الرَّجلِ الذي استطلق بطنُ أخيه فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا»، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَقَالَ: «لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.
وفي الزيت قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ».
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه موقوفًا: «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْن ِ: العَسَلِ وَالقُرْآنِ».
قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في معنى الحديث: «فجَمَعَ بين الطبِّ البشريِّ والإلهيِّ، وبين طِبِّ الأبدان وطِبِّ الأرواح، وبين الدواء الأرضيِّ والدواءِ السمائيِّ».

واللهُ عزَّ وجلَّ جَعَلَ لهذه الأدويةِ خصائصَ ذاتيَّةً ربَّانيةً بآحادِهَا أو مع اختلاطها بغيرها مِنَ الأعشاب الأخرى في مُكافَحةِ المرض والشفاءِ منه ثابتةً شرعًا وطِبًّا؛ فلا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يكون مِنْ تمامِ النفع أَنْ يَجْمَعَ بين أعيانها المُبارَكةِ ما هو مُبارَكٌ بِرِيقٍ يُجْمَعُ فيه الآياتُ والأذكارُ الصحيحةُ الثابتةُ، ثمَّ يُنْفَثَ في هذه الأعيان؛ فإنَّ في الكُلِّ شفاءً لأسقامِ المؤمنين البدنية، وفي القرآن شفاءٌ لها وللأمراض الدينية والنفسية، قال تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدى وَشِفَآء﴾ ، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآء وَرَحۡمَة لِّلۡمُؤۡمِنِين َ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارا ﴾
وإذا عُلِمَ أنَّ النفع حاصلٌ باختلاطها مع غيرِها مِنَ الأدوية بتقديرِ الله تعالى لِمَنْ له درايةٌ بها؛ فلا تَمْتَنِعُ الرقيةُ بمثلِ هذه الكيفيَّاتِ المبنيَّةِ على التجربة العملية الخالية مِنْ أيِّ محذورٍ شركيٍّ، وقد وَرَدَتْ جُملةٌ مِنَ الأحاديث تدلُّ على الجواز منها: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» ، ويُؤكِّدُ ذلك حديثُ عليٍّ رضي الله عنه قال: «بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ؛ فَتَنَاوَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَعْلِهِ فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ؛ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ، أَوْ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ، إِلَّا لَدَغَتْهُمْ»، ثُمَّ دَعَا بِمِلْحٍ وَمَاءٍ فَجَعَلَهُ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى إِصْبَعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالمُعَوِّذَتَ يْنِ»، والحديث تَضمَّنَ فائدتين:
الأولى: جوازُ مُعالَجةِ سُمِّ العقرب بالرقية الشرعية، وهو العلاج الإلهيُّ.
والثانية: الاستعانة بالماء والملح وصَبُّه على الموضع الجريح، وهو العلاج الطبيعيُّ.
وخصوصُ الفائدةِ الأولى بالعقرب لا ينفي جوازَ الاستعانةِ بالفائدة الثانية في قَرْحةٍ أو جُرْحٍ ونحوِهما؛ لِعِلْمِنا أنَّ فاتحة الكتابِ لوَحْدِها كافيةٌ في رقية العقرب على ما ثَبَتَ في قصَّة اللديغ، ولأنَّ استعمالَ الملحِ ممزوجًا بالماء له فوائدُ منها: تبرئةُ الجُرْح، والْتِئامُ اللحم، وتَنْقِيةُ الدم، على ما هو معروفٌ في الطبِّ الحديث.
فاستعمالُه صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك على سبيل التداوي دليلٌ على استحبابِ استعمالِ الأعيان الطبِّيَّةِ مقرونةً بالذِّكْرِ حالَ المُعالَجة، ويزيده تأكيدًا ما ثَبَتَ في الصحيحين مِنْ حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا ـ وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا ـ: «بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا؛ لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا»». قال النوويُّ ـ رحمه الله : «ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِنْ رِيقِ نَفْسِه على إصبعه السبَّابة، ثمَّ يَضَعُها على التراب فيَعْلَقُ بها منه شيءٌ، فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل، ويقول هذا الكلامَ في حالِ المسح».
ووَضْعُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سبَّابتَه بالأرض ووَضْعُها عليه يدلُّ على استحبابِ ذلك عند الرقية على ما ذَكَرَهُ القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ . ويُقوِّي هذا ما أخرجه الحاكمُ وابنُ منده وأبو نُعَيْمٍ في قصَّةِ الشفاءِ بنتِ عبد الله رضي الله عنها: «أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقِي بِرُقًى فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرْقِي بِرُقًى فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَعْرِضَهَا عَلَيْكَ»، فَقَالَ: «اعْرِضِيهَا»، فَعَرَضَتْهَا عَلَيْهِ وَكَانَتْ مِنْهَا رُقْيَةُ النَّمْلَةِ، فَقَالَ: «ارْقِي بِهَا وَعَلِّمِيهَا حَفْصَةَ»، «بِاسْمِ اللهِ صَلُوبٌ حِينَ يَعُودُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَلَا تَضُرُّ أَحَدًا، اللَّهُمَّ اكْشِفِ البَأْسَ رَبَّ النَّاسِ»، قَالَ: تَرْقِي بِهَا عَلَى عُودِ كُرْكُمَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَتَضَعُهُ مَكَانًا نَظِيفًا ثُمَّ تُدَلِّكُهُ عَلَى حَجَرٍ بِخَلِّ خَمْرٍ مُصَفًّى وَتَطْلِيهِ عَلَى النَّوْرَةِ».
وفي القِصَّةِ ترخيصٌ مِنَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للمرأة وهي: الشِّفاءُ بنتُ عبد الله رضي الله عنها في مُداواةِ النملة؛ فقَدْ سَمَّتِ اللهَ تعالى ورَجَتْهُ بأَنْ يُزيلَ البأسَ ويكشف المرضَ، وبعد ذلك استخدمَتِ الدواءَ المُعالِج للقروح والمتمثِّلَ في عود الكُرْكُمِ ، ثمَّ دَلَكَتْ عودَ الكُرْكُم على حَجَرٍ بخَلِّ خمرٍ مصفًّى، فعَلِقَ على العودِ الدواءُ، وطَلَتْه على القَرْحة؛ وعليه فلا يَمْتَنِعُ إلحاقُ غيرِه به إذا أَظْهَرَ نُجوعًا ونَفْعًا وخَلَا مِنْ مَفَاسِدَ. وهذا الطريقُ ـ وإِنْ كان ضعيفًا ـ فيصلحُ في المُتابَعات على ما قرَّره الشيخُ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
المصدر :
https://ferkous.com/home/?q=fatwa-1142