حكم تقديم الأكابر في السن




أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة
السؤال:

♦ الملخص:

سائلٌ يسأل عن الأمر الوارد في أحاديث تقديم الأكابر في السن، هل هو للوجوب أو الاستحباب؟

♦ تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سؤالي: أحاديث تقديم الأكابر في السن تُحمل على الاستحباب، أم الوجوب؟

القاعدة أن الأمر للوجوب إلا أن تأتيَ قرينة تصرفه عن ذلك، فهل توجد قرينة صارفة في تلك الأحاديثأ؟ أفتونا مأجورين.



الجواب:
سؤالي: أحاديث تقديم الأكابر في السن تُحمل على الاستحباب، أم الوجوب؟
القاعدة أن الأمر للوجوب إلا أن تأتيَ قرينة تصرفه عن ذلك، فهل توجد قرينة صارفة في تلك الأحاديثأ؟ أفتونا مأجورين.

الإجابة:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:

أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: من تكريم الإسلام للكبير تقديمه وحفظ حقه في الكلام ونحوه، وقد تضافرت الأحاديثُ الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا؛ فعن أنس رضي الله عنهما، قال: ((جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف ويَنْهَ عن المنكر))؛ [الترمذي: (1919)، وحسنه الألباني].
ثالثًا: الأصل تقديم الكبير في كل شيء إلا لعلة كاختلاف في ترتيب الجلوس؛ قال ابن بطال: "وهذا من باب أدب الإسلام، وقال المهلب: تقديم ذي السن أولى في كل شيء ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا، فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء في حديث شرب اللبن"؛ [شرح البخاري: (1/ 364)].

فالأمر في تقديم الكبير في الكلام ونحوه للاستحباب، والقرينة الصارفة أن هذا في الآداب، والآداب مندوب إليها، وأن الكبير لا يقدم مطلقًا كتقديم الأيمن، وإن كان الأيمن أصغر القوم؛ ففي حديث عن ابن عباس، قال: ((دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على يمينه وخالد على شماله، فقال لي: الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالدًا، فقلت: ما كنت أوثر على سؤرك أحدًا))؛ [الترمذي: (3455)، وأحمد: (1904)، وحسنه الألباني].
قال المهلب: "واستئذانه صاحب اليمين من باب التأدب لفضل السن، فلو أذن الشاب الذي على اليمين لكان من المؤثرين على أنفسهم، وإذ لم يأذن وتشاح في نصيبه من النبي، فله ما شح عليه من شريف المكان، وفي هذا دليل أنه من يسبق إلى مجالسة الإمام والعالم أنه لا يقام لمن هو أسن منه، لأن النبي عليه السلام لما لم يقم ذلك الأعرابي لأبي بكر، ولا الغلام للشيخ، علم أن من سبق إلى المواضع عند العالم أو المسجد أو غيره مما حقوق الناس فيه متساوية أنه أحق به، قال غيره: وقوله: ((كبر كبر)) في غير هذا الحديث، إنما ذلك إذا استوت حال القوم في شيء واحد، فحينئذٍ يُبتدأ بالأكبر، وأما إذا كان لبعضهم على بعض فضل في شيء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة"؛ [شرح البخاري لابن بطال: (6/ 75 – 67)].

وقال ابن عبدالبر: "لأن السن إنما يراعى عند استواء المعاني والحقوق، وكل ذي حق أولى بحقه أبدًا، والمناولة على اليمين من الحقوق الواجبة في آداب المجالسة، وفي هذا الحديث دليل على أن الجلساء شركاء في الهدية، وذلك على جهة الأدب والمروءة والفضل والأخوة، لا على الوجوب لإجماعهم على أن المطالبة بذلك غير واجبة لأحد" [التمهيد: (21/ 124)].
وأما كون الأوامر في أبواب الآداب للاستحباب، فهو محل خلاف بين العلماء.
قال ابن عبدالبر في التمهيد: (1/ 141): "وأما ما جاء من النهي على جهة الأدب وحسن المعاملة، والإرشاد إلى المرء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يمشي المرء في نعل واحدة، وأن يقرن بين تمرتين في الأكل، وأن يأكل من رأس الصحفة، وأن يشرب من فيِّ السقاء، وغير ذلك مثله كثير قد علم بمخرجه المراد منه، وقد قال جماعة من أهل العلم: إن كل نهي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، ففعله الإنسان منتهكًا لحرمته، وهو عالم بالنهي غير مضطر إليه أنه عاصٍ آثم، واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم)).
فأطلق النهي ولم يقيده بصفة، وكذلك الأمر لم يقيده إلا بعدم الاستطاعة، فقالوا: إن من شرب من في السقاء، أو مشى في نعل واحدة، أو قرن بين تمرتين في الأكل، أو أكل من رأس الصحفة ونحو هذا، وهو عالم بالنهي، كان عاصيًا، وقال آخرون: إنما نهى عن الأكل من رأس الصحفة؛ لأن البركة تنزل منها، ونهى عن القران بين تمرتين؛ لِما فيه من سوء الأدب أن يأكل المرء مع جليسه وأكيله تمرتين في واحد، ويأخذ جليسه تمرة، فمن فعل فلا حرج، وكذلك النهي عن الشرب من في السقاء، خوف الهوام؛ لأن أفواه الأسقية تقصدها الهوام، وربما كان في السقاء ما يؤذيه، فإذا جعل منه في إناء رآه وسلم منه، وقالوا في سائر ما ذكرنا نحو هذا مما يطول ذكره".

وقال ابن عثيمين في شرح الورقات: "وفرَّق بعضُ العلماء فقالوا: أما ما شأنه التعبد، فالأمر به على سبيل الوجوب؛ لأن هذا هو الذي خلقنا له؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وما كان سبيله الأخلاق والآداب، فهو للاستحباب؛ لأن الأخلاق والآداب ليست على سبيل التعبد، لكن قد يفعلها الإنسانُ امتثالًا لأمر الله، فيكون بذلك عابدًا لله تعالى، وهذا القول لا بأس به، وقد يكون أقرب الأقوال؛ لأن كثيرًا من الأوامر الشرعية نجد العلماءَ رحمهم الله كلهم أو جمهورهم، يقولون: إنها للاستحباب، وهذا أقرب ما نتخلص به، وهو أن نقول: ما كان من شأن العبادة، فهو للوجوب، وما كان من شأن الأخلاق، فالأمر للاستحباب، وهذا ما لم توجد قرينة تعيِّن الوجوب، أو قرينة تعين عدم الوجوب؛ لأن الكلام السابق في الأمر المطلق".


رابعًا: الذي عليه جمهور أهل العلم هو أن الأمر من الشارع يكون للوجوب إلا أن تصرفه عنه قرينة إلى الاستحباب أو الإباحة؛ قال الشيخ الشنقيطي في الأضواء عند تفسير قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
قال: "وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب؛ لأنه جل وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذرهم من مخالفة الأمر، وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، ما لم يصرف عنه صارف؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴾ [المرسلات: 48]، فإن قوله: ﴿ ارْكَعُوا ﴾ أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله: ﴿ لَا يَرْكَعُونَ ﴾ يدل على أن امتثاله واجب.
وكقوله تعالى لإبليس: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [الأعراف: 12]، فإنكاره تعالى على إبليس موبخًا له بقوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [الأعراف: 12] يدل على أنه تارك واجبًا، وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق؛ وهو قوله تعالى: ﴿ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ [الأعراف: 11].
وكقوله تعالى عن موسى: ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 93]، فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142].
وكقوله تعالى: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاصٍ، ولا يكون عاصيًا إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرم، وكقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، فإنه يدل على أن أمر الله، وأمر رسوله مانع من الاختيار، موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب، كما ترى، وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]".
ويستوي في هذا الحكم أمر الله وأمر رسوله، ويدل لذلك أن الله تعالى فرض طاعة رسوله في غير آية من كتابه، وقرنها بطاعته عز وجل؛ وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
وقال بعض العلماء: إن الأمر يكون للاستحباب إلا لقرينة، وقيل: للطلب الذي هو أعم من الوجوب والاستحباب والإباحة، وفصل آخرون بين أمر الرب وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الراجح هو القول الأول للأدلة التي ذكرنا سابقًا، قال الشيخ سيدي عبدالله في مراقي السعود:
وافعل لدى الأكثر للوجوب
وقيل للندب أو المطلوب
وقيل للوجوب أمر الرب
وأمر من أرسله للندب
ثم إنه إن وجدت قرينة تصرف الأمر عن الوجوب حمل على ما دلت عليه القرينة من ندب أو إباحة أو غير ذلك.
هذا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.