(كانوا يدعون الله سبحانه) وتعالى (ليلاً ونهارًا)
قلنا هذه يعبدون الله مع الإقرار يعني: جمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية وأنكروا توحيد العبادة ويدعون الله، يعني: مع دعائهم لله عز وجل
(ثم منهم) مع الدعاء دعاء لله عز وجل ليلاً ونهارًا
(منهم من يدعو الملائكة) و (منهم من يدعو) .. إلى آخره
فهي معادة لأنه قال في الأول:
(يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله)،
(ويدعون الله) فهي معادة لماذا؟ لأنه أراد أن يعيد بعض المسائل وهو سيعي
، يعيد بعض المسائل من باب التأكيد والإيضاح
لأن هذه المعاني لن يجيدها طالب العلم ويعرفها حق المعرفة إلا إذا كررها،
أما مجرد قراءة مرة واحدة وسماع مرة واحدة هذه لا تكفي في أن تُجْعَل هذه المسائل يقينية،
لأن اليقين زيادة العلم في القلب،
هذا لا يمكن أن يكون يقينًا كأنك تراه رؤية العين إلا بكثرة التكرار،
وأما مجرد القراءة المرة الواحدة العابرة هذه لا تكفي،
ولذلك إذا أردت أن تكون هذه عندك قطعية بمعنى أنها لا تحتمل الجدال ولا النقاش
لا بد أن تقرأها صباح مساء،
وتتأمل فيها، وتتأمل في الآيات التي ورد فيها ذكر أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية،
لأن هذه مسألة مهمة جدًا في فهم توحيد الرسل
أن أولئك الأقوام اعترفوا وآمنوا، نقول: آمنو
ا هكذا كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ... [يوسف: 106]
جمع بين الإيمان والشرك واضحة بينة قاطعة لكل مجادل
، وما يؤمن بالله
يعني: أثبت لهم الإيمان {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}
إذًا هذه المسألة تعتبر معادة. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}
يعني: في الدنيا. {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} يعني: في الدنيا.
قال قتادة: هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى:
{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].
يعني: الله عز وجل عالم يعلم ما العباد فاعلون ويعلم أنه أن المشركين أشركوا بالله عز وجل في دعوى الرسل، تعبدوا الرسل عبدوا الرسل، وكذلك عبدوا الملائكة،
إذًا لماذا يسألهم؟
هل الاستفهام هنا من أجل العلم تحصيل العلم لم يكن؟ لا،
إنما من أجل التقرير فإذا أقروا حينئذٍ لزمت الحجة، فتبرأت منهم الملائكة
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لك {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم} أي: نحن نتولاك ولا نتولاهم، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين. فإن قيل لهم كانوا يعبدون الجن فكيف وجه
قوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}؟
قيل: أراد الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة يعني: كيف يعبدون الجن؟ هل هو بالتزين أو أن دعوى المشركين أنهم يعبدون الملائكة هو منصرف إلى حقيقة الجن؟ فإذا عبد الصنم اعتقدوا أن روح الصالح قد حلت في هذا الصنم، وفي الحقيقة الذي حل فيه هو إبليس الشيطان، هو أو أحد أبنائه، فحينئذٍ توجه العبادة للصنم هل هو لروح الصالح أو في الحقيقة والأمر نفس الأمر والواقع أنه للشيطان؟
للشيطان، كذلك إذا عبدوا الملائكة ونادوا الملائكة فأجابهم مجيب لا يمكن الملائكة تجيب قطعًا، كما أن الميت لا يمكن أن يجيب،
فحينئذٍ من الذي أجابهم هم يعتقدون أنها الملائكة فصرفوا نوع من العبادة لهذه الملائكة،
نقول: لا،
الصرف هنا ليس للملائكة، بل للذي أجابهم وأغاثهم وأجاب ندائهم وهو الشيطان.
ويحتمل كما ذكر البغوي وهذا أوضح وأظهر وأجود يحتمل كما ذكر البغوي هنا رحمه الله قيل: أراد الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة.
فقوله: {يَعْبُدُونَ}. أي: يطيعون الجن. {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} يعني: مصدقون للشياطين. والمعنى الذي ذكرناه أولى، أن العبادة إنما انصرفت إلى الجن وليس للملائكة وليس لعيسى وليس للأصنام أنفسها لماذا؟
لأن اعتقادهم بحلول الأرواح فيها إنما اعتقاد ذهني ليس له حقيقة في الوجود، وإنما هو فساد تصور عندهم، فحينئذٍ إذا توجهوا بالعبادة لهؤلاء الصالحين إنما توجهوا في الحقيقة وفي نفس الأمر إلى الجن والشياطين.
قال: (منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) عز وجل ... (ليشفعوا له)، يعني: بيان وقوعهم في الشرك بسببين ونتيجة، يعني لماذا شَرَّكُوا وأَشْرَكُوا الملائكة مع الله عز وجل؟
قال: (لأجل صلاحهم)
وأنها أرواح طاهرة،
وهذا لا شك في أنهم أرواح طاهرة {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} فهي أرفع من البشر، (لأجل صلاحهم) فهم صالحون في أنفسهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ... [التحريم: 6] (وقربهم من الله) عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] {عِنْدَ رَبِّكَ}،
{عِنْدَ} هنا ظرف زمان إذًا هم قريبون من الله عز وجل،
إذًا (صلاحهم وقربهم) لله عز وجل من عند الله سبحانه صرفوا لهم العبادة.
ما الغاية المرجوة من عبادة الملائكة
قال: (ليشفعوا لهم) طلب القربى
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
هذه حجتهم حينئذٍ ثَمَّ أمران:
سبب،
وغاية.
ما السبب في توجه المشركين إلى عبادة الملائكة؟
لأجل صلاحهم،
تقول: لسببين لأجل صلاحهم. و [هذه أو]
هذا الوصف علة مطردة عند المشركين،
فكل من فيه صلاح ويعتقدون فيه أنه يرفع الحوائج وُجِدَ الشرك، فهي علة مطردة.
عُبِدَ عيسى عليه السلام لأجل صلاحه.
وَعُبِدَ البدوي لأجل صلاحه.
وَعُبِدَ الحسين لأجل صلاحه .. وهلم جرا.
فما من معبود من القبور والأوثان إلا وهم يعتقدون أنهم صالحون.
إذًا (لأجل صلاحهم)
هذا قدر مشترك وهي علة مطردة كل ما وجد الصلاح أو وصف الصلاح بشيء
وظنوا أنه يقربهم ويرفع إلى الله عز وجل ويرفع حوائجهم لتقضى من عنده سبحانه،
قالوا: هذا تصرف له العبادة. (ليشفعوا لهم) هذه غاية سؤال الملائكة،
فهو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه لا يَرُدُّ الله تعالى طلبه كما هو الشأن في المخلوقين.
(أو يدعوا رجلاً صالحًا مثل اللات)،
(أو) للتنويع أراد أن يبين نوعًا ثانيًا من أنواع المعبودات
وأن المشركين قد أشركوا به وحكم عليهم الشرع بالشرك،
وهذا أعظم دليل على ماذا؟
على بطلان الشرك عند المتأخرين،
فإذا قالوا:
نحن ما عبدنا الأصنام التي هُبَل ولا اللات ولا العزى ولا مناة.
تقول: عبدتم الصالحين.
وتلك الآيات كما أنها تشمل الأصنام كذلك تشمل الصالحين
(أو) للتنويع (يدعوا رجلاً صالحًا مثل اللات)
اسم فاعل من لَتَّ يَلِتُّ بتشديد [الياء]
رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيق قال في الحاشية: رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيق للحاج في الجاهلية على صخرة بالطائف ولما مات عُبِدَ من دون الله. يَلُتُّ السَّوِيق مات عُبِدَ من دون الله، سخافة صحيح سخافة عقول،
رجلٌ صالح كان يَلُتُّ السَّوِيق يتصدق على الناس مات تعبدونه؟ هذا غريب،
ولما مات عُبِدَ من دون الله، نحن نقول: -كما سيأتي إن شاء الله -
ولما مات عُبِدَ من دون الله، واللات بالتخفيف الصخرة التي كان يَلُتُّ عليها.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء عظيم عند أهل الطائف هو من ثقيف ومن تبعهم يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، يفتخرون بماذا؟ وقيل: إن اللات أخذه المشركون من لفظ الله، هذا من الإلحاد في أسماء الرب جل وعلا، قيل: اللات مأخوذ من اسم الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. وقد هدمها المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذًا (أو يدعوا رجلاً صالحًا مثل اللات)
هذا تمثيل لمعبود عند المشركين
وهو رجل صالح،
(أو نبيًّا مثل عيسى) هذا أيضًا رجل صالح لكن له مزية وخصيصة
وهو: أنه رسول من عند الله جل وعلا.
إذًا من الرسل من عُبِدَ، سواء كانوا ملائكة أو كانوا من البشر {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ... [المائدة: 116، 117] لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
هذه دعوة الرسل،
فإذا اتخذ معبودًا من دون الله حينئذٍ هو مبرأ من أن يكون راضيًا بهذه العبادة،
بل ما أرسل إلا من أجل إبطالها،
فكونه اتُّخِذَ هذا بغير اختياره، تبرأ منهم عيسى عليه السلام، واتخاذ عيسى إلهًا وكذلك اللات إلهًا من جنس اتخاذ الأصنام آلهة، فلا فرق بينهما،
اتخاذ الرجل الصالح إلهًا من دون الله وكذلك عيسى
نقول: من جنس اتخاذ الأصنام آلهة من دون الله، ومن جنس اتخاذ الصالحين آلهة؛
لأنه تعلقٌ بالأرواح، تعلقوا بها بحجة أنها صالحة،
واعتقدوا أن هؤلاء لهم مكانةً عظيمة عند الله،
فتوجهوا إليها بالعبادة مع حصول شيءٍ من الاستجابة عن طريق الجن - كما سبق - بل كانوا يعبدون الجن، ولهذا فتنتهم عن الدين.
إذًا هذه ثلاث معبودات
أراد المصنف أن يبين لنا أن وقوع المشركين السابقين الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقعوا في الشرك
باتخاذ الملائكة
وباتخاذ الرجل الصالح
وباتخاذ الرسول أو النبي معبودًا من دون الله عز وجل،
هل أراد الحصر في هذه الثلاثة؟
الجواب: لا،
لأنه يخاطب أهل شبهٍ احتجوا عليه بأن تلك الآيات إنما نزلت في عبادة الأصنام فحسب،
وهم لا يعبدون الأصنام حشا وكلا عقولهم أكبر من هذا وإنما عبدوا الجيلاني وهو رجلٌ صالح وروحه طاهرة،
نقول: عبادة الصالحين من جنس عبادة الأصنام،
ثم أسلافكم وأئمتكم كذلك وقعوا في عبادة الصالحين،
فلا فرق بين المتأخر والمتقدم.