امتحانات المصير









كتبه/ عبد المعطي عبد الغني


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فعندما يقترب موسم الامتحانات تعلن حالة التأهب، وترفع درجة الاستعداد، ويسيطر القلق والاضطراب على النفوس، ويشعر الآباء والأمهات بالخوف وخاصة إذا كان الامتحان من الامتحانات التي يسمونها امتحانات المصير.

ففي يوم معلوم ستعقد لجنة الامتحان ليسأل الطالب أمام اللجنة، وسيسطر بقلمه لا بقلم غيره إجابته، وترفع أوراق الإجابة لتقدير الدرجات، ثم تعلن النتيجة، والطلاب بين ناجح سعيد بنجاحه، وبين راسب ينعى حظه، ويقرع سنه، ويعض أصابع الندم.

من أجل ذلك يجتهد طلاب العلم في المذاكرة، ويبذلون الوسع في المراجعة، ويسعون في التحصيل نهاراً، ويسهرون في الاستذكار ليلاً، ومن قصرت به آلة الفهم استعان عليه بدروس خاصة، ومن وراء الأبناء آباء وأمهات يعلنون النفير، ويضجرون من التقصير، ويتابعون الكبير والصغير.

وهذا الاهتمام من الجميع بطلب العلم طاعة لله إذا خلصت النوايا واستقامت الطريقة، لكن ينبغي أن نتعلم من الامتحانات دروساً تنفع السالك إلى الله، عساه أن يوفق في مسيره، فيدرك بعد الخوف مأمناً.

فالدنيا لجنة امتحان كبيرة زمنها العمر، وكل يوم صفحة من كراسة الإجابة، والعبد مسئول عن النقير والقطمير، عليه شهود هم ملاحظو أعماله، ملكاه (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(ق:18)، وجوارحه (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النور:24)، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(فصلت:21)، والأرض التي يمشي عليها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)(الزلزلة:4)، وإذا سأل: متى ينتهي الامتحان؟ فلا يستطيع أحد أن يجيبه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.


وليس لذلك علامة، فقد يمد للشيخ الفاني، ويعجل للصغير الغالي، ويطال للسقيم، ويقصر للسليم، ومن جاءت ساعته انتهى وقت إجابته (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )(الأعراف:34)، ورفعت صحف أعماله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(فاطر:10)، فإذا طلب زيادة في الوقت لاستدراك ما فرط فيه فلا يجاب (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون:99-100)، وإنما يقال له: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(فاطر:37).

وأحياناً نسمي بعض الامتحانات امتحانات مصيرية، فامتحان المصير الحقيقي ساعة خروج روحك، والتوفيق الحقيقي يوم يختم لك بالشهادة أو بعمل صالح، يقال لك بعده: (أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) رواه أحمد، وصححه الألباني.

ليس امتحان المصير هو ذلك الامتحان الذي يحدد على أي مقعد في الجامعة ستجلس، وإنما الذي سيحدد في أي مقعد سيكون مآلك، (انظر إلىمقعدكفي النار قد أبدلك الله بهمقعداًمنالجنة) متفق عليه، أو "هذا مقعدك من الجنة لو أنك أطعت الله قد أبدلك الله به مقعداً في النار".

ليس امتحان المصير هو ذلك الامتحان الذي لا يكون في قاعة من قاعات الدرس، فتحت نوافذها بالنهار، أو أضيئت مصابيحها بالليل، وإنما هو ذلك الامتحان الذي يعقد في حفرة ضيقة مظلمة، فراشها التراب والحصباء، أبوابها مؤصدة، وهي: "إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".

ليس امتحان المصير هو ذلك الامتحان الذي يخلو فيه الطالب مع ورقة الإجابة، أو يتولى فيه توجيهَ الأسئلةِ معلمٌُ رحيمٌ، هيئته مألوفة، ولغته معروفة، وإنما هو ذلك الامتحان الذي يجلس فيه وحيداً بين ملكين لم يرهما من قبل، صورتهما ولغتهما منكرة.

ليس امتحان المصير الذي يوقن الطالب أنه سيجيب على أسئلة تدرب عليها مراراً، وأجاب مثلها تكراراً، إنما امتحان المصير الذي توجه فيه أسئلة معلومة (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟) رواه أبو داود، وصححه الألباني، ثم لا يقطع بأنه سيجيب فالمثبت من ثبته الله، فكم من فصيح أخرس عند الجواب لسانه، وكم من عيي فصح عند السؤال خطابه (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(إبراهيم:27)، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ليس امتحان المصير الذي يحدد المعهد العلمي الذي سينتقل الطالب إليه، أو الدرجة العلمية التي سيحصل عليها، أو الوظيفة التي تنتظره، إنما امتحان المصير هو الذي يحدد أي الدارين ستكون مقره، فالعبد إما إلى جنة ونعم عقبى الدار، وإما إلى نار وبئس القرار.

ليس امتحان المصير الذي يتدارك الفشل فيه بامتحان آخر في الدور الثاني، وربما كان خيرها في غيرها، إنما امتحان المصير الذي لا يدخله المرء إلا مرة واحدة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ . خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(هود:105-108).

ليس امتحان المصير الذي قد يحصل فيه الطالب على درجاته بالغش والخداع، وإنما هو ذلك الامتحان الذي يقال للمرء فيه (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)(الإسراء:14).

ليس امتحان المصير الذي يخاف الطالب من تقدير خطأ لإجابته، فيدعي أنه ظلم، وأن حقه قد هضم، وإنما امتحان المصير هو ذلك الامتحان الذي لا يظلم فيه المرء مثقال ذرة أو أصغر منها (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء:47).

ليس امتحان المصير امتحاناً في اللياقة البدنية، يحدد قبول الطالب في كلية رياضية أو عسكرية، هل يجوز الحواجز أو يقفز في البحر أو غيره، وإنما امتحان المصير يوم ينصب الجسر على شفير جهنم، فينظر أيمر أو تتخطفه كلابيبها، فتهوي به في قعرها، وما من نبي إلا يقول: يا رب سلم، يا رب سلم.

وقبيل إعلان النتائج قلق وحيرة، أبالأيَمان تؤخذ الكتب، أم بالشمائل؟ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)(الحاقة:19-29).

فيا أحبتي:

إذا كنا نعد العدة لامتحانات المدارس والمعاهد والجامعات، فهل أعددنا العدة لامتحانات السكرات والزفرات والممات؟

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(المنافقون:9).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(الحشر:18).

وإذا كنا نخاف من الامتحان قبل وقوعه، فأين خوفنا من الموت قبل حلوله، ومن القبر قبل نزوله؟!

وإذا كنا نخاف من الرسوب والفشل، فأين خوفنا من الخسران والزلل؟!

وإذا كنا قد سهرنا الليل من أجل النجاح، فأين قيام الليل ليوم الفلاح؟!

وإذا كنا قد حرصنا على مواعيد الدروس، فهل حرصنا على مواقيت الصلاة بالخصوص؟!

وإذا كنا قد حرصنا على إيقاظ أبنائنا وبناتنا من أجل المذاكرة، فهل أيقظناهم من أجل صلاة الفجر والهاجرة؟!


وإذا كنا قد حفظنا القوانين والمواد والشعر والنثر من أجل الدرجات، فكم حفظنا من كتاب الله لمحو السيئات؟!

وإذا كنا قد أقبلنا على الله أيام الامتحانات، فهل سنُعرض عنه إذا ظهرت الشهادات؟!

فنصير كمن:

صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام
اللهم وفق طلاب العلم لما تحبه وترضاه، واستعملهم في طاعتك، ونسألك لأنفسنا ولأبنائنا ولجميع المسلمين النجاح في امتحانات الدنيا والآخرة.