الكسل انسلاخٌ من الإنسانية!!









كتبه/ ماهر السيد


إن الكسلَ آفة عظيمة تعود على الأفراد والمجتمعات بالعواقب الوخيمة؛ فهو يهدم الشخصية، ويَذهب بنضارة العمر، ويؤدي بصاحبه إلى الإهمال والتأخر في ميادين الحياة الفسيحة.

من أجل هذا كان المؤمنون الصادقون يكرهون الكسل ويحتقرونه، ويستعيذون بالله منه، ويدعون بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال) رواه البخاري.

الكسل انسلاخ من الإنسانية:

قال الإمام الراغب -رحمه الله-: من تعطّل وتبطّل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى. ومن تعود الكسل ومال إلى الراحة فـَقـَد الراحة.

وقد قيل: إن أردت ألا تتعبَ فاتعبْ حتى لا تتعبَ.

وقيل أيضاً: إياك والكسلَ والضجرَ، فإنك إن كسلتَ لم تؤدِّ حقاً، وإن ضجرتَ فلن تصبر على الحق.

ولأن الفراغ يبطل الهيئات الإنسانية، فكل هيئة، بل كل عضو تُرك استعماله يبطـُل، كالعين إذا غمضت، واليد إذا تعطلت، ولذلك وضعت الرياضات في كل شيء.

ولما جعل الله للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقاً إلا بسعي منه؛ لئلا تتعطل فائدة ما جعل له من قوة التحرك.

ولما جعل للإنسان قوة الفكر، ترك من كل نعمة أنعمها عليه جانباً يصلحه هو بفكرته؛ لئلا تتعطل فائدة الفكرة، فيكون وجودها عَبَثاً.

وكما أن البدن يتعود على الرفاهية بالكسل، كذلك النفس تتعود بترك النظر والتفكر، مما يجعلها تتبلد، وترجع إلى رتبة البهائم.

وإذا تأملت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَافِرُوا تَصِحُّوا)رواه أحمد، وصححه الألباني. ونظرتَ إليه نظراً عالياً، علمت أنه حثـَّك على التحرك الذي يثمر لك جنة المأوى، ومصاحبة الملأ الأعلى، بل مجاورة الله -تعالى-.

القرآن يشنع على الكسالى:

لقد ذم الله -تعالى- الكسلَ والتباطؤَ، وجعلهما من صفات المنافقين.

قال -تعالى-:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا، وإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا،وَلَئِ نْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)(النساء:71-73).

فقد دعا الله المؤمنين في هذا النص إلى أن ينفروا مجاهدين في سبيل الله (ثـُبَاتٍ) أي جماعاتٍ متفرقة، أو (جَمِيعًا) أي: عصبة واحدة في نفير عام، وذلك حسب مقتضيات المصلحة.

وأَنْحَى باللائمة على المبطئين، وهم من المنافقين الموجودين في صفوف المؤمنين، فهم فريق طلابُ مغانم، ولكنهم غير مستعدين أن يبذلوا أيَ جَهد في سبيل الله، فإذا دعا الداعي إلى الجهاد تباطئوا ولم يخرجوا، فإذا نالَ المجاهدين مكروهٌ فرحوا هم بالسلامة، وإذا ظفر المجاهدون وغنموا ندموا هم وتحسروا على أنفسهم، وقال قائلهم : (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا).

ويعتبر الغنيمة هي الفوز العظيم؛ لأنه منافق لا يؤمن باليوم الآخر، ولا يسعى للفوز فيه، ولو كان مؤمناً حقاً لتوقـَّدَ إيمانـُه حرارة فنفى عنه التباطؤ والتكاسل، وخرج إلى القتال في سبيل الله ورجا الشهادة والأجر عند الله.

وقال الله -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا)(النساء:142)

وقال الله -تعالى-: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ . وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ)(التوبة:53-54)

فقد ذمَّ الله المنافقين بأنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، فمن كان فيه هذا الوصف من المؤمنين كانت فيه صفة من صفات أهل النفاق.

وعلة المنافقين أنهم غير مؤمنين بفائدة الصلاة وجدواها؛ لذلك فهم إذا اضطرهم نفاقهم أن يقوموا إليها مسايرة للمؤمنين، وحتى لا ينكشف نفاقهم، قاموا إليها متباطئين كسالى.

بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم يقومون إلى الصلاة بهمة ونشاط، ورغبةٍ صادقةٍ، ولذلك وصف المؤمنين بأنهم يقومون إلي التهجد في الليل، أو إلي صلاة الفجر تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وهذا عنوان مصارعة همتهم لحاجة أجسادهم إلى الراحة والنوم، فقال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون)(السجدة:61-17)

التكاسل عن العبادات من وساوس الشيطان:

ولما كان الشيطان عدوا للإنسان، وكان يكره منه الإيمان وعبادة الله والأعمال الصالحة، كان من وسائله تثبيط الهمم عن العبادة، والوسوسة بما يميل بالنفس إلى الكسل.

ومن أعماله أنه يعقد على قافية رأس الإنسان إذا هو نام، ليمنعه من اليقظة والنهوض إلى عبادة الله في جوف الليل. وقافية الرأس قفا الرأس ومؤخره. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ)

فهي عقد كسل مضروب عليها بوساوس شيطانية، ومتى تراكمت على الإنسان صارت خبلاً، وقد عبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الخبل المقعد عن النشاط والهمة إلى طاعة الله وعبادته بأنه أثرٌ خبيث من آثار وساوس الشيطان.

فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فقيل له: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة قال: (ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنَيْهِ - أَوْ قَالَ - فِى أُذُنِهِ).

فمن لطائف التوجيه الإسلامي ربط الكسل وظواهره بالشيطان، وتربية المسلمين على مدافعة كل ظواهر الكسل.

الكسل دليل هوان النفس:

إن الإنسان في هذه الحياة إذا ركن إلى الراحة والدعة والخمول، هان على نفسه وعلى الآخرين، فالكسل حلقات متتالية، فمن كسل عن شيء جره ذلك إلى الكسل عن آخرَ وثالثٍ ورابعٍ حتى يلتحق بالأموات وهو يمشي على الأرض، ولربما تكاسَل عن أسباب المعاش فلجأ إلى سؤال الناس فكان دنيئاً.


وهذه الشريعة الغرَّاء تربي أبناءها على العزة والاستغناء والعفة، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِىَ بِهِ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) رواه مسلم.