جهاد الأمراء المسلمين لدفع الصليبين









كتبه/ محمود عبد الحميد


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

1- جهاد "سقمان" و"جكرمن":

ذكر المؤرخ ابن الأثير في حوادث عام سبعة وتسعين وأربعمائة من الهجرة: ولما استطال الفرنج بما ملكوه من بلاد المسلمين، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وأمرائه بقتال بعضهم بعضا، وتفرقت كلمة المسلمين، زحف الصليبيون نحو "حران" ليأخذوها، وكان بين "معين الدولة سقمان الأرتقي" و"شمس الدولة جكرمن" نزاعٌ وكان كل واحد منهما يعد العدة لقتال الآخر، فلما علما بتحرك الصليبين شرقا أرسل كل واحد منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لقتال الصليبين وتلافي أمر "حران"، ويُعلمه بأنه قد بذل نفسه لله -تعالى-، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، فسارا فاجتمعا على "الخابور"، وتحالفا وسارا إلى لقاء الصليبين وكان مع "سقمان" سبعة آلاف فارس من "التركمان"، ومع "جكرمن" ثلاثة آلاف فارس من الترك والعرب والأكراد، فالتقوا على نهر "البليخ".


وكان المصاف بينهم هناك، فاقتتلوا فأظهر المسلمون الانهزام فتبعهم الصليبيون نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاءوا، وامتلأت أيدي "التركمان" من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة لأن مؤن الأعداء كانت قريبة منهم.

وكان "بيمند" صاحب أنطاكية و"طنكري" صاحب الساحل قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الصليبين منهزمين، فأقاما إلى الليل وهربا بجنودهما، فتبعهم المسلمون، وقتلوا في أصحابهما كثيرا، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان.

وكان "بردويل" صاحب "الرها" قد انهزم مع جماعة من رؤسائهم، وخاضوا نهر "البليخ"، فوصلت خيولهم فجاء "تركمان" من أصحاب "سقمان" فأخذهم، وحمل "بردويل" إلى مخيم صاحبه.

وكان "سقمان" قد سار فيمن معه لإتباع "بيمند"، وسار "سقمان" إلى حصون الفرنج فاستولى عليها، أما "جكرمن" فقد سار إلى "حران" فاستولى عليها، وبلغ عدد القتلى من الصليبين ما يقارب اثنى عشر ألف قتيل.

وكذا انتصر المسلمون على الصليبين انتصارا كبيرا لما اجتمع أميران منهم وصدقا في جهادهما، ولقد كان موقفا عاليا يذكر لهذين الأميرين "سقمان" و"جركرمن" حينما تناسيا ما كان بينهما من خلاف وتوجها معا للخطر المشترك عليهما.

ولو أن أمراء المسلمين آنذاك فعلوا فعلهما لم يبق في أرض المسلمين أحد من الأعداء، ولاستطاعوا أن يخضعوا أمم الأرض لحكم الإسلام، وإنما يؤتى المسلمون من الشقاق والتناحر فيما بينهم.

ولو أن المسلمين اتحدوا اليوم واجتمعوا وصدقوا وبذلوا جهدهم وطاقاتهم وسخروا إمكانياتهم لخدمة هذا الدين، لاستطاعوا استعادة أرضهم ومجدهم وعزهم، ولصاروا قوة ترهب أعداء الله في المشرق والمغرب.

2- جهاد "طغتكين" مع الصليبين

ذكر ابن الأثير في حوادث سنة تسع وتسعين وأربعمائة من الهجرة أنه في شهر صفر جرت معركة بين أمير دمشق "طغتكين" والصليبين بقيادة "بغدوين" أمير القدس وعكا وغيرهما، وذلك بعد معارك جرت بينهما.

ثم إن "بغدوين" بنى حصنا بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف "طغتكين" من شرور ذلك، فسار إلى الصليبين والتقوا واقتتلوا أشد قتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق فتبعهما "طغتكين" فقتلهما، وانهزم الصليبيون إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال "طغتكين" من أحسن قتالهم وطلب مني شيئا فعلته له، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير.

فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن، وخربوه وحملوا حجارته إلى "طغتكين"، فوفى لهم بما وعدهم وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسرى، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.

3- جهاد عماد الدين زنكي مع الصليبين

هو عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان من قبائل "الساب يو" التركمانية، كان أبوه مقدما عند "ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي"، ولما تولى ملك السلاجقة "بركيا روق بن ملك شاه" عَيَّن "آق سنقر" على إمارة "حلب"، وكان حازما عادلا.

وبعد أن قتل "آق سنقر" انتقل ابنه عماد الدين إلى الموصل في رعاية حاكمها القائد السلجوقي "كربوقا" الذي كان صديقا لوالده، وكان عماد الدين في العاشرة من عمره، وما زال بعد أن بلغ سن الشباب موضع الثقة عند حكام السلاجقة لما رأوا فيه من النبل والشجاعة، واشترك مع الأمير "مودود بن التونتكين" في حروبه مع الصليبين.

وفي عام واحد وعشرين وخمسمائة صار أميرا على مدينة الموصل من قبل السلاجقة، وقد دفعه طموحه بعد ذلك إلى ضم منطقة الجزيرة وشمال الشام إلى سلطته، وكان ذلك بداية قوته وتوجهه لجهد الصليبين.

وكان من أبرز مواجهاته معهم ما قام به من مواجهة جيش لهم كبير أرادوا به مباغتته وهو محاصر حمص، وكانوا قد شعروا بتزايد قوته مع اتساع إمارته، فانسحب من حمص، وأظهر عزمه على حصار حصن "بعرين" المنيع الذي استولى عليه النصارى، وقد استدرجهم بذلك لاختيار الموقع المناسب.

وما إن بدأ زحفه صوب ذلك الموقع حتى تقدم إليه الصليبيون بقيادة "فولك" ملك بيت المقدس و"ريموند" ملك طرابلس، ودارت بين الطرفين معركة شديدة، انتهت بانتصار المسلمين، وقتل وأسر عدد كبير من جند العدو وأمرائه وقادته، وكان "ريموند" من بينهم، أما "فولك" فقد تمكن من الهروب إلى حصن "بعرين".

فتقدم عماد الدين لحصار حصن "بعرين" ونظرا لأهمية هذا الحصن فإن الصليبين استنجدوا بملك الروم وبدول أوروبا قائلين: إن عماد الدين إن استولى على هذا الحصن سهل عليه القضاء على الممالك الصليبية في الشام، وإن المسلمين لهم نية في استعادة بيت المقدس.

وقد جاء ملك الروم ومعه الإمداد الأوروبية وأمراء النصارى في الشام، ولكن بعد ما تم استيلاء عماد الدين على ذلك الحصن، وقد أرسل عماد الدين أمراء المسلمين لإمداده فأمدوه.

ولدهائه ودقة تخطيطه الحربي استطاع أن يفرق جمع الأعداء، وكان قد اتجه بقواته شمالا، وعسكر قرب "حماة" والأعداء يحاصرون "شيزر" التي تقع شمال "حماة"، وكان عماد الدين يركب كل يوم في عساكره ويسير إلى "شيزر" بحيث يراه ملك الروم، ويرسل السرايا تتخطف من يخرج من عساكرهم للميرة والنهب، ثم يعود آخر النهار.

ثم أرسل إلى هؤلاء الحلفاء يقول لهم: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال المحيطة بـ"شيزر" فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم "شيزر" وغيرها، وإن ظفرنا بكم أرحت المسلمين من شركم ولم يكن له بهم قوة لكثرتهم، وإنما كان يفعل ذلك ترهيبا لهم.

وهكذا نجح عماد الدين في خداعهم وإرهابهم حيث ظنوا أن معه جيشا كبيرا، وأن الذين يغيرون عليهم كل يوم إنما هي سرية من سرايا عماد الدين.

هذا بالإضافة إلى استعماله المكائد للتفريق بين هؤلاء الحلفاء، حيث حذر صليبي الشام من استيلاء إمبراطور الروم على بلادهم، كما أوهم هذا الإمبراطور بأن نصارى الشام قد تحالفوا معه؛ فلذلك كله قرر ملك الروم الانسحاب وفك الحصار عن "شيزر" في التاسع من رمضان عام اثنين وثلاثين وخمسمائة، واستولى عماد الدين على آلاتهم الحربية الثقيلة، كما أرسل بعض قواته لملاحقتهم فقتلوا وأسروا عددا كبيرا منهم.

وفي السادس من جمادي الآخرة من عام تسعة وثلاثين وخمسمائة قام بفتح مدينة "الرها"، وهي من أكبر مدن الجزيرة، وفيها إمارة للنصارى قوية، ويتبعها عدد من قرى الجزيرة، وهي تحت إمرة "جوسلين" أقوى الصليبين آنذاك، وأشدهم دهاء ومكرا، وقد كان بلاؤه على المسلمين ومن حوله عظيما.

وقد كان عماد الدين يعلم أنه إذا قصد حصارها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها فيتعذر عليه فتحها لما هي عليه من الحصانة، فأظهر أنه سائر إلى "ديار بكر"؛ ليوهم الفرنج أنه لا يريد بلادهم، فلما علم بذلك "جوسلين" اطمأن وفارق "الرها" إلى بلاد الشام.

فجاءت عيون عماد الدين فأخبروه الخبر فنادى بالعسكر بالرحيل، وجمع الأمراء وقدم لهم الطعام وقال لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غدا معي بباب "الرها" فلم يتقدم إليه غير أمير واحد لما يعلمون من إقدامه وشجاعته، وأن أحدا لا يقدر على مساواته في الحرب، وسار والعساكر معه ووصل إلى "الرها"، وكان هو أول من حمل على الفرنج، وحمل فارس من خيالة الفرنج على عماد الدين، فاعترضه ذلك الأمير الذي سار معه فطعنه فقتله.

وقاتل أهل البلد ثمانية وعشرين يوماً، وقدم النقَّابين فنقبوا سور البلد حتى أسقطوا جزءا منه، فاستولى على البلدة عنوة وحاصر قلعته حتى ملكها، وجعل في البلد عسكرا يحفظه، ثم أغار على القرى التي تحت سلطان الصليبين فاستولى عليها، وبسقوط "الرها" زالت دولة الصليبين في الجزيرة.


وبهذا الفتح علت سمعة عماد الدين زنكي عند المسلمين، وأضفى عليه الخليفة ألقابا عالية، وخاف منه الصليبيون والروم، وكان من أثر ذلك أن اتفقوا وقاموا بحملتهم الثانية التي تصدى لها ابنه نور الدين محمود بعد استشهاد أبيه -رحمه الله-، وكان حكم عماد الدين زنكي ما بين عامَي واحد وعشرين وواحد وأربعين وخمسمائة.