هل يجوز تكرار صلاة وخطبة الجمعة في مسجد واحد إذا اشتد الزحام وضاق المسجد ؟

إن الجواب سيتكوّن من أربع فقرات :

الأولى : أن هذا الاستشكال ما كان ينبغي أن يقع في دين الإسلام أصالةً ولكن قد يقع عارضًا.

الثانية : أن كون هذه المسألة التي استشكالها بعض المسلمين مع أنه ما كان ينبغي لهم استشكالها إلا عارضًا من الأثار السيئة التي تترتب على الإقامة في البلاد الغير إسلامية حيث جاءت هذه المشكلة من بعض مسلمي الغرب.

الثالثة : أن هذه المشكلة نتيجة ترك السنة في إقامة الجمعة وأن هذه المشكلة لفرصة لهم ليعودوا إلى هذه السنة المهجورة وأن إحياء هذه السنة هو الحل.

الرابعة : ما على المسلمين فعله إذا ضاق عليهم المكان ؟

اللهَ أسأله أن يسددني وأن يوفقني للجواب على هذا الاستشكال

أولًا: ضيق المسجد إذا اشتد الزحام لإقامة الصلاة استشكال لا ينبغي أن يكون في الدين الإسلامي أصالة.

لأن الفقه الإسلامي الذي يستمد من كتاب الله ومن سنة رسوله r لم يلزم المسلمين بإقامة صلاة الجمعة في المسجد أو في مبنى لكي نستشكل كيفية إدخال هذا الجم الغفير من الناس داخل المسجد ؛ فإن المسجد لم يكن شرطًا لصحة صلاة الجمعة وذلك لعموم قوله r « وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا. »؛
وبالتالي استشكال ( ضيق المكان ) فيه نوع سهو من حيث نظر الشريعة الإسلامية المحمدية ـ إلا إذا حصل ذلك عارضًا كما يأتي ـ وإلا عليهم أن يخرجوا من البنيان وأن يصلوا في الخارج حيث يستبعد هناك أن يضيق عليهم المكان. ثم إن القول باشتراط المسجد لصحة صلاة الجمعة يتنافى مع كون الله تعالى هدانا نحن المسلمين لهذا اليوم كما ثبت في غير ما حديث. لأنه من خصائص هذه الأمة أن جعلت لها الأرض مسجدًا وهديت هذه الأمة ليوم الجمعة فكيف يستقيم ألا يشرع لنا ما اختص الله بنا (جعلت الأرض لنا مسجدًا) لصلاة اليوم الذي هدانا الله له وأضل غيرنا عنه ؟
وقد يعترض على ذلك بأنه : في البلاد التي نحن نقيم فيها لا يسمح لنا بإقامة الصلاة خارج المباني. وهذا يكون موضوع الفقرة الثانية

ثانيًا : كون هذا الاستشكال قد تحقق من الأثار السيئة التي تترتب على الإقامة في البلاد الغير إسلامية

لأن الذين استشكلوا هذه الحالة هم بعض المسلمين المقيمين في الغرب الذين دولتهم تمنعهم من إقامة الصلاة خارج المباني ؛ إذًا يجب علينا أن نعترف بأن هذه المشكلة من الأثار السيئة التي تترتب على الإقامة في البلاد الغير إسلامية.
ورغم ذلك أعتقد أن عاقبة هذه المشكلة تكون خيرًا للمسلمين إذا عالجوها كما ينبغي وهو موضوع فقرتنا الثالثة.


ثالثًا: أن هذه المشكلة نتيجة ترك السنة في صلاة الجمعة وهذه لفرصة لإحياء هذه السنة المهجورة والحل في إحيائها.

إن الأصل في الشريعة الإسلامية ألا تتعدد صلاة الجمعة في مدينة واحدة وضواحيها إلا للضرورة فإذا حصل الغنى بجمعتين لم تجز الثالثة وهكذا. المقصود تقليل عدد صلاة الجمعة ما يستطاع إلى ذلك سبيلا وألا يتساهل في تقدير الحاجة والضرورة. وهذه هي السنة التي هاجرها المسلمون منذ عدة قرون.
وقد ألف في هذه المسألة غير واحد من العلماء منهم الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي فصنف كتابه "لاستعاذة بالواحد من إقامة جمعتين في بلد واحد" وهو الذي نحن بصدد تقديمه للمسلمين. إنما يكون حل هذه المشكلة بأن يتفق عدة مساجد على أن يقيموا معًا صلاة الجمعة ثم ليتبنوا مكانًا يسع لهم جميعًا ولا يشترط أن يكون بنيانًا وقد يكون خاصًا لصلاتي الجمعة والعيد ؛ وإني أعتقد أن الحرمين الشريفين ـــ حتى في يومنا هذا ـــ لا ينبغي أن تقام فيهما صلاة جمعة إلا في المسجدين المسجد الحرم والمسجد النبوي. هذا وقد تحصل مشكلة ضيق المكان في مسجد صغير ـ مع أن كل بيت الله كبير1 لكن لتصوُّر الحال ـ فيستشكلون هذه الصورة ويقيمون صلاة الجمعة مرتين (!) وإنما حل المشكلة بالنسبة للمسؤولين على إقامة هذه الجمعة أيسر بكثير وهو أن يتركوا إقامة الجمعة في مسجدهم وأن يأمروا المسلمين الذين تعاهدوا الصلاة عندهم بأن يتفرقوا في سائر المساجد إذ ليس بالواجب ولا بالمأمور ولا بالمطلوب أن تقام صلاة الجمعة في كل مسجد ؛ وجدير بهذه المناسبة التنبيه على أن ذلك هو الواجب حتى لو لم تحصل مشكلة ضيق المكان2 بل قد عُدَّ إقامة الجمعة في المساجد الصغيرة من الابتداع في دين الله3 ؛ لأن السنة ألا تقام صلاة الجمعة ـــ وكذلك صلاة العيد ـــ في بلد إلا واحدة وأن تعددها لا يكون إلا للضرورة وهو موضوع هذا الكتاب.



رابعًا : ما العمل إذا ضاق عليهم المكان رغمهم ؟

إذا وقع المسلمون في مشكلة ضيق المكان رغمهم ـ أعني إذا حصل ذلك لهم عارضًا أو خلال المدة التي تكفيهم لتنسيق جمعة واحدة ـ فالحل ليس بتكرار صلاة الجمعة وإنما عليهم أن ينضموا جميعًا في المسجد وليسجد الرجل على ظهر أخيه لقول عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو يخطب: « فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه. » وهو أثر صحيح

أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" ( 1 / 69 ) ومن طريقه أحمد في "مسنده" ( 217 ) ومن طريقه هو الضياء المقدسي في "المختارة" ( 1 / 236 ) والبيهقي في "دلائل النبوة" ( 2 / 545 ) من طريق سلام بن الأحوص عن سماك بن حرب عن سيار بن معرور قال سمعت عمر يخطب وهو يقول : « يا أيها الناس إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنى هذا المسجد ونحن معه والمهاجرون والأنصار فإذا اشتد الزحام... » فذكره
سيار بن معرور هذا مجهول لكنه توبع

فقد تابعه كل من زيد بن وهب والشعبي والقاسم بن عبد الرحمن.

زيد بن وهب
أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" ( 4 / 104 ) وابن حزم في "المحلى" ( 2 / 403 ) والبيهقي في "الكبرى" ( 3 / 260 ) من طريق الأعمش عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب به

وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ( 1557 ) و( 5469 ) من غير ذكر زيد بن وهب فجعل المسيب بن رافع يرويه عن عمر ولفظه : « من اشتد عليه الحر يوم الجمعة في المسجد فليصل على ثوبه ومن زحمه الناس فليسجد على ظهر أخيه. » فهذا إسناد منقطع إن لم يسقط ذكر زيد بن وهب من نسخ مصنف عبد الرزاق.

وقد صححه الإمام أحمد إذ احتجَّ به كما في مسائله برواية ابنه عبد الله ( 2 / 411 ـ 412 ) برقم ( 583 ) : سألت أبي عن قوم زحموا يوم الجمعة فسجد بعضهم على ظهر بعض وبقي آخرون قيامًا لم يمكنهم أن يركعوا ولا يسجدوا ؟ فأجاب : « يصلون الركعتين بصلاة الإمام متصلة لا يسلمون ؛ ومن سجد على ظهر إنسان يجزئه أَذْهبُ فيه إلى حديث عمر قال : يجزئه حديث الأعمش عن المسيب عن زيد بن وهب عن عمر قال. »

الشعبي وهو ثقة مشهور من رجال الكتب الستة

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ( 1556 ) و( 5465 ) والبيهقي في "المعرفة" ( 4 / 327 ) وفي "الكبرى" ( 3 / 259 ) من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي به.

أبو إسحاق هو السبيعي وهو وإن كان قد اختلط في أخرة تحديثه لهذا الحديث إنما كان قبل اختلاطه بقرينة أن الراوي عنه هو سفيان الثوري.
قال يحيى بن معين : « إنما أصحاب أبي إسحاق شعبة وسفيان الثوري. »
وقال ابن هانيء4 : « سألته ـ يعني أحمد بن حنبل ـ:أيما أثبت عندك في حديث أبي إسحاق ؟ قال : شعبة ثم سفيان الثوري. »

القاسم بن عبد الرحمن

أخرجه محمد بن عسْكَر بن اللحية في "تخريج أحاديث المهذب" ـ كما ذكره ابن الملقن في "البدر المنير" ( 11 / 558 ) ـ من طريق مسعر عنه به.

ثم ورد ذلك عن غير واحد من التابعين

قال الحسن البصري في حالة الزحام : إن شئت فاسجد على ظهر الرجل وإن شئت فإذا قام الإمام فاسجد.
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ( 5463 ) بسند صحيح ؛ وأخرجه أيضًا ابن المنذر في "الأوسط" ( 4 / 104 )

وقال مجاهد : « إذا كان الزحام فليسجد على رجل. » ثم قال سفيان الثوري : وإن لم يُطِقْ أن يسجد على رجل مكث حتى يقوم القوم ثم يسجد ويتبعهم.
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ( 1560 ) و( 5467 ) بسند صحيح

وقال طاووس : «إذا اشتد الزحام فأوم برأسك مع الإمام ثم اسجد على أخيك. »
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ( 1562 ) بسند حسن
وأخرجه أيضًا ( 5464 ) بلفظ : « يسجد الرجل على ظهر الرجل إذا لم يجد مكانًا يسجد عليه. » بسند صحيح
%

من أقوال الفقهاء في ذلك

قال ابن المنذر في "الأوسط" ( 4 / 104 ) : « وممن رأى أن يسجد على ظهر أخيه إذا لم يقدر على السجود بالأرض من الزحام سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وقال أصحاب الرأي : إن فعل ذلك فصلاته تامة...إلى أن قال :
وقالت طائفة : يمسك عن السجود فإذا رفعوا سجد كذلك قال عطاء والزهري وفعل ذلك الحجاج بن أرطأة والحكم بن عتيبة.
وكان مالك يرى أن يعيد الصلاة إن سجد على ظهر أخيه وإن كانت جمعة أعادها أربعًا.
وفيه قول ثالث وهو أن يومئ إيماء إذا لم يقدر على السجود هذا قول نافع مولى ابن عمر.
قال أبو بكر (أي ابن المنذر) وبقول عمر بن الخطاب نقول لأنه سجود في حال ضرورة على قدر طاقة الساجد ولم يكلف المصلي إلا قدر طاقته. » انتهى كلامه
وينبغي لفت الأنظار إلى أن لا أحد قال بتكرار الصلاة.

إذًا هدي سلف الأمة ـــ من الصحابة والتابعين والأئمة ــــ في حالة الازدحام في صلاة الجمعة وغير الجمعة ليس بتكرار الصلاة ـــ معاذ الله ــــ وإنما أن ينضموا جميعًا وألا يتفرقوا ويصلي أحدهم على ظهر أخيه ؛ ويلاحظ أيضًا أنه لو كانت هناك حالة في الشريعة الإسلامية يجوز فيها تكرار الصلاة لكانت هذه الحالة هي ( الخوف ) أي في معركة القتال. فإن في القتال تكون حياة المسلمين معرضة للقتل ولسفك دمائهم لكن الله سبحانه وتعالى لم يبح لهم أن يتفرقوا في الصلاة ويقيموها مرتين وإنما شرع لهم صلاة الخوف ؛ وفي تشريع صلاة الخوف لأكبر دليل على أنه لا يجوز تكرار الصلاة مهما كان العذر ! وبذلك نجيب على من يسأل : وإذا كان المسجد لا يسع المصلين حتى إذا سجد بعضهم على بعض ؟

الجواب إنما يكون بأن يصلوا صلاة الخوف لأن الضرر الذي يترتب على الصلاة خارج المباني من مضيقات الحكومة أقل من الضرر المترتب في حالة القتال وإذا ما كان يشرع تكرار الصلاة في حالة الخوف من القتل ومن سفك الدماء لا يشرع ذلك لخوف من مضيقات الحكومات وما إلى ذلك من باب أولى ؛ والله أعلم


من مقدمة تحقيقي لكتاب "الاستعاذة بالواحد من إقامة جمعتين في مكان واحد" وكتب العبد الضعيف صفوان بن جلال