أما مسألة : موضع اليدين في القيام بعد الركوع فقد قال عنه الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في حاشية "صفة صلاة النبي " ( ص 121 ) : " ولستُ أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة "

وبعد دراسة هذه المسألة وجدنا أن الحق سنية القبض فيه لثلاثة أدلة :
1. السنة القولية
2. والسنة الفعلية
3. والسنة التقريرية

وإليك البيان :

الدليل الأول ( السنة القولية ) :

ما أخرجه ابن حبان ( 1770 ) من حديث ابن عباسٍ  قال : سمعتُ رسول الله  يقول : " إنا معاشر الأنبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " وصححه الإمام الألباني .
ونحوه : ما أخرجه البخاري ( 740 ) أن سهلَ بن سعدٍ  قال : " كان الناسُ يؤمرونَ أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " . قال أبو حازم : لا أعلمه إلا يَنْمِى ذلك إلى النبي  .
وجه الاستدلال : قد بيَّن رسول الله  أن وضع اليمنى على اليسرى مأمورٌ به في " الصلاة " ، وهذا عام يشمل جميع مواضع الصلاة لكن المراد بالصلاة ـ هنا ـ هو القيام فقط ؛ إذنْ وضع اليمنى على اليسرى مأمور به في كل قيام ، في القيام الذي قبل الركوع وفي القيام الذي بعد الركوع .

اعتراضات والجواب عنها .

• الاعتراض الأول :

أنه لا يجوز إثبات هيئات الصلاة بإعمال العموم وإنما تفتقر كل هيئةٍ إلى دليل خاص...

الجواب من أربعة أوجه :

ـ الوجه الأول : أن إثبات هيئات الصلاة بإعمال العموم هو منهج رسول الله  ، فقد أخرج البخاري ( 757 ) و مسلم ( 397 ) أن رسول الله  قال لـ " المسيء صلاته " : " ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها " فقد علَّمه رسول الله  بعض هيئات الصلاة ثم أثبت له سائر الهيئات بلفظ العموم " كل ".

ـ الوجه الثاني : أن إثبات هيئات الصلاة بإعمال العموم هو منهج الصحابة 
فمثلا : ما أخرجه الترمذي ( 253 ) أن عبد الله ابن مسعودٍ  قال : " كان رسول الله  يكبر في كل خفض و رفع وقيام و قعود و أبو بكر و عمر " صححه الإمام الألباني
فأثبت هذه السنة بلفظ العموم " كل " ، فلو كانت هيئات الصلاة لا يجوز إثباتها بلفظ عام لما فعله ابنُ مسعود .

ـ الوجه الثالث : أن إعمال النصّ العام على جميع الأفراد التي تصلح له واجب ، ولا يجوز استثناء إثبات هيئات الصلاة من هذا الحكم إلا بدليل ولا دليل عليه إطلاقًا

ـ الوجه الرابع : أن هناك هيئات للصلاة لم تثبت إلا عن طريقِ ( إعمال العموم ) فمثلًا : مشروعية النظر إلى موضع السجود في القيام بعد الركوع ـ أو غيره من مواضع الصلاة ـ لم تفتقر إلى دليلٍ خاصٍ وإنما اكتفيَ بإعمال عمومِ : " كان النبي  إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض " ( انظر " الإرواء " 354 ) . ولا أحسب أحدًا ثبتت عنده مشروعية النظر إلى موضع السجود في القيام بعدَ الركوع ـ أو في غيره من مواضع الصلاة ـ إلا عن طريق إعمال عموم ذلك الحديث ؛ إذنْ فقد ثبتت لدى المخالف هيئات الصلاة عن طريق ( إعمال العموم ) فلا وجه له لامتناع إعمال عموم " وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " على مشروعية القبض بعد الركوع . والله اعلم .

• الاعتراض الثاني : و هو اعتراض ـ مجدد العصر ـ الإمام الألباني

وخلاصته : أن هذا الاستدلال ـ في الأصل ـ سليم إلا أنه يبقى معرفة : بما خُصص عموم لفظ " الصلاة " بالقيام ؟ إنما خصص بما أخرجه النسائي ( 887 ) من حديث وائل بن حجرٍ  أنه قال : " رأيتُ رسول الله  إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله " وهذا عام في كل قيام إلا أنه مقيد بالقيام الأول ـ كما يأتي ـ ؛ إذن عموم الأمر بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة مقيد بالقيام الأول ...

الجواب : إن تخصيص عموم لفظة " الصلاة " في ذلك الحديث بالقيام لم يكن بحديث وائل المذكور آنفاً وإنما تخصيص " الصلاة " بالقيام من قبيل التخصيص بالعقل .
ثم إن التخصيص بالعقل جائز بالإجماع وأما الخلاف الوارد فيه فهو خلافٌ لفظيٌ .

قال إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ في " البرهان " [ المسألة : 311 ] ( 1 / 409 ) : " وأنكر بعض الناشئة ذلك وأبوا أن يسموا هذا الفنَّ تخصيصًا وهذه المسألة قليلة الفائدة ... " إلى أن قال : " وإن امتنع من تسمية ذلك تخصيصًا فليس في إطلاقه مخالفة عقلٍ ولا شرعٍ فلا أثرَ لهذا الامتناع ولستُ أرى هذه المسألة خلافية في التحقيق " . هـ

وقال الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ في " المستصفى " ( 3 / 320 ) : " وهو نزاعٌ في العبارة " . هـ

وقال الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ في " المحصول " ( 3 / 73 ) : " ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عيدي أنه لا خلافَ في المعنى بل في اللفظ " . هـ

فالحاصل أن تخصيص عموم الصلاة في حديث " وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " بالقيام أمر متفق عليه ولكن اخْتُلف في الدليل المخصِّص ؛ فهناك من يرى أن الدليل المخصص هو حديث وائل وهذا قول الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ ، وهناك من يرى أن الدليل المخصص هو صريح العقل .
وتظهر ثمرة الخلاف في أن الذي يرى الأول ـ أي التخصيص بحديث وائل ـ لا يرى مشروعية القبض في القيام بعد الركوع إذ حديث وائل هذا مقيد ـ عنده ـ بالقيام الأول ؛ ومن يرى الثاني ـ أي التخصيص بالعقل ـ كان ذلك الحديث دليلًا على مشروعية القبض في القيام بعد الركوع ، وهو الصواب من وجهين :

الوجه الأول : إن الصلاة يتكرر فعلها في اليوم الواحد أكثر من مرةٍ فلو عمَّ رسول الله  حكمًا من أحكامها وأراد أن يستثني منه صورة ـ أو موضعًا ـ لوجب البيان في الحال ليتمكن من أداء الصلاة على الوجه المطلوب وإلا كان ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو ممتنع إجماعًا ، وحديث وائل متراخ عنِ الأمر بوضع اليمنى على اليسرى ما يسع لأداء صلوات كثيرة ، فيتعين التخصيص بالعقل .

الوجه الثاني : أن هناك نصوصًا شرعية أطلق فيها " الصلاة " وأريد بها القيام بالاتفاق ولم نحتج إلى دليلٍ سمعي لهذا التخصيص وإنما اكتفينا بصريح العقل ؛ فعلى سبيل المثال : ما أخرجه أحمد ( 15090 ) و الدارقطني ( 1106 ) من حديث جابر بن عبد الله : " أن رسول الله  مرَّ برجلٍ وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى " وصححه الإمام الألباني ، فهنا قد أطلق لفظ " الصلاة " ولا أحسب أحدًا يقول : يحتمل أن يكون المصلي قد وضع يديه في غير القيام بل كان في قيام الصلاة لا غيره ، وما علمناه إلا بصريح العقل

وفي ذلك جواب على من قال لا يجوز الاستدلال بعموم الأمر بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة على مشروعية الوضع بعد الركوع وإلا لجاز نفس الاستدلال على مشروعية القبض في الجلوس بين السجدتين ـ مثلا ـ إذ يشمله عمومُ الصلاة ... فالجواب واضح ـ إن شاء الله ـ فإن لفظ الصلاة لا يعنى به إلا القيام كما سلف ؛ وإطلاق الصلاة على القيام من قبيل إطلاق الكل على الجزء كما لا يخفى أو عام أريد به خاص .

وإذا تقرر أن عموم الصلاة في قوله  : " و أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " أريد به القيام ـ اتفاقا ـ فيكون الأمر بوضع اليمنى على اليسرى عامًا في كل قيام ، القيام الذي قبل الركوع و القيام الذي بعد الركوع . و الله أعلم

وإذا سلمنا ـ جدلا ـ أن الدليل المخصص هو حديث وائل فهو غير مقيد بالقيام الأول بل هو عام ، وإيضاحه في بيان وجه الاستدلال به إذ هو دليلنا الثاني في هذه المسألة ...

الدليل الثاني ( السنة الفعلية ) :

ما أخرجه النسائي ( 887 ) من حديث وائل بن حجرٍ  أنه قال : " رأيتُ رسول الله  إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله " وصححه الإمام الألباني

وجه الاستدلال : فيه أن رسول الله  كان يقبض إذا كان في قيام الصلاة ، و( إذا ) من ألفاظ العموم أي : كان  يقبض في كل قيام الصلاة فيدخل فيه القيام بعد الركوع .

اعتراضات و الجواب عنها :

• الاعتراض الأول :

أن لفظ هذا الحديث ليس من قبيل النص العام وإنما هو من قبيل النص المطلق ، والفرق بينهما أن النص العام عمومه شمولي وأما النص المطلق عمومه بدلي فيشمل فردًا شائعًا من أفراده ولا يستغرق جميع الأفراد التي تصلح له ؛ ووجه كون لفظ هذا الحديث من قبيل النص المطلق ـ عند قائله ـ أن ( إذا ) المذكورة فيه ليست شرطية بل ظرفية ، و( إذا ) تفيد العموم إذا كانت شرطية ؛ وذلك لأن ( إذا ) المذكورة في هذا الحديث لم يقترن جوابها بلفاء ، ولتكون ( إذا ) شرطية لا بد من أن يقترن جوابها بالفاء ، كذلك زعَم اعتمادًا على كلامٍ لابن هشام من " مغني اللبيب " ...

الجواب : لا يمنع ذلك إتيانَ ( إذا ) الظرفية بمعنى الشرطية ، قال ابن هشام ـ نفسه ! ـ في " مغني اللبيب " ( 1 / 210 ) : " والثاني من وجهي إذا : أن تكون لغير المفاجأة ، فالغالب أن تكون ظرفًا للمستقبل متضمنة معنى الشرط ... " هـ فهذا النص المنقول عن ابن هشام ـ رحمه الله ـ أثبت أن ( إذا ) قد تكون ظرفية بمعنى الشرطية وإن لم يقترن جوابها بالفاء .

فهل هو لا يرى ( عمومًا ) في قوله تعالى :  إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا  الأية [ مريم : 58 ] ؟! بل هذه الأية عامة أي كلما تتلى على المؤمنين ءايات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، ولم يقترن جواب ( إذا ) بالفاء !

وهل هو لا يرى ( عمومًا ) في حديث : " إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض " فهل يقول إن هذا الحديث لا يشمل جميع مواضع الصلاة لعدم اقتران جواب ( إذا ) بالفاء ؟! بل هو عام .

وكذلك حديث وائل بن حجر : " أن رسول الله  إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله " عام في كل قيام وإن لم يقترن جواب ( إذا ) بالفاء ! وبالله التوفيق .

• الاعتراض الثاني : وهو اعتراض مجدد العصر الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ

إن هذا الحديث عام يشمل كل قيام لكنه مقيد بالقيام الأول ، فإن حديث وائل هذا مختصر من حديث آخر لم يذكر فيه الراوي ـ وائل ـ إلا القبض في القيام الأول فيُقيد به .

فقد جاء في صحيح مسلم ( 401 ) أن وائل بن حجرٍ" رأى النبي  رفع يديه حين دخل في الصلاة ، كبر ـ وصف همّام ـ حيال أذنيه ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ... " فذكر القبض بعد تكبيرة الإحرام ولم يذكره بعد الرفع من الركوع فقال : " ...فلما قال : سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه " .

وكذلك عند أبي داود ( 726 ) و النسائي ( 889 ) عن وائل بن حجرٍ قال : " قلتُ : لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله  كيف يصلي ؟ قال : فقام رسول الله  فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه ثم أخذ شماله بيمينه ... " فذكر أيضًا القبض بعد تكبيرة الإحرام ولم يذكره بعد الرفع من الركوع فقال : " ... فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك ثم وضع يديه على ركبتيه فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك فلما سجد ... " .

فواضحٌ في هاتين الروايتين أن الراوي قد لاحظ القبض في القيام الأول ؛ ففي الرواية الأولى : " [color="rgb(255, 140, 0)"]ثم وضع يده اليمنى على اليسرى [/color]" وفي الرواية الثانية : "[color="rgb(255, 140, 0)"] ثم أخذ شماله بيمينه[/color] " فدل ذلك ـ عند الإمام الألباني ـ أن المراد بعموم القيام في حديث : " إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله " هو القيام الأول فقط دون الثاني ، فيقيد مطلق القيام بالقيام الأول ...

وقد قارن الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ هذه المسألة بمسألة الإشارة في الجلوس بين السجدتين ؛ ولعل هذه المقارنة منه هي سبب حكمه على هذا القبض بالبدعة .

قال ـ رحمه الله ـ في " السلسلة الصحيحة " ( 5 / 308 ) : " يوشك أنْ يأتي رجل ببدعة جديدة اعتمادًا منه على حديثٍ مطلقٍ لم يدرِ أنه مقيدٌ أيضًا ، ألا وهي الإشارة بالإصبع في غير التشهد ! فقد جاء في " صحيح مسلم " حديثان في الإشارة بها في التشهد أحدهما من حديث ابن عمرَ، والآخر من حديث ابن الزبير ، ولكل منهما لفظان مطلق ومقيد ، أو مجمل ومفصل : " كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها .. " ، فأطلق الجلوس . والآخر : " كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى .. : الحديث . فقيد الجلوس بالتشهد . ونحوه حديث ابن الزبير . فاللفظ الأول "جلس" يشمل كل جلوس ، كالجلوس بين السجدتين ، والجلوس بين السجدة الثانية والركعة الثانية المعروفة عند العلماء بجلسة الاستراحة ... " .

إلى أن قال ( 5 / 311 ) : " قلتُ : فتبين من هذه الروايات الصحيحة أن التحريك أو الإشارة بالإصبع إنما هو في جلوس التشهد ، وأن الجلوس المطلق في بعضها مقيد بجلوس التشهد ، هذا هو الذي يقتضيه الجمع بين الروايات ، وقاعدةُ حمل المطلق على المقيد المقررة في علم أصول الفقه ، ولذلك لم يرد عن أحدٍ من السلف القول بالإشارة مطلقا في الصلاة ولا في كل جلوس منها فيما علمتُ ، ومثل ذلك يقال في وضع اليدين على الصدر ، إنما هو في القيام الذي قبل الركوع إعمالا للقاعدة المذكورة " هـ

الجواب : أما كونُ الإشارة بالإصبع في غير التشهد بدعةً فلا إشكال فيه للتقييد مطلق الجلوس بجلوس التشهد كما أفاده رحمه الله ؛ وأما مسألة القبض في القيام بعد الركوع فليست كذلك إذ الراوي وصف فعل الرسول  في رواية ، وفي رواية أخرى حكى ذلك الفعل بصيغة عموم ؛ ففي رواية أنه : " ثم وضع اليمنى على اليسرى ... " و" [color="rgb(255, 140, 0)"]ثم أخذ شماله بيمينه [/color]... " فهنا قد شاهد قبض رسول الله  وكان في القيام الأول لكن لما حكى هذا القبض إنما حكاه بصيغة عموم فقال : " رأيتُ رسول الله  إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله "

فالقضية هنا ليست قضية حمل المطلق على المقيد بل القضية راجعة إلى مسألة أصولية ألا وهي : حكاية الصحابي فعلا بصيغة عموم هل تفيد العموم ؟

والصحيح أنها تفيده لأن الصحابي عدل وعارف بدلالات الألفاظ وهذا يقتضي أنه لا ينقل ما يشعر بالعموم إلا وقد شاهد العموم ؛ وكان يجب إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيد لو قال الراوي في رواية : " إذا كان قائما في الصلاة قبض " وقال في أخرى : " إذا كان في القيام الأول قبض " كما فعله الراوي في مسألة الإشارة بالإصبع ؛

وهذا هو الفرق بين المسألتين ،

ثم كون الراوي لم يذكر القبض بعد رفع النبي  من ركوعه لا يدل على عدم القبض وإنما أهمل ذِكْرَ موضع اليدين فلم يذكرْ قبضًا ولا إرسالاً ، وهذا إجمالٌ منه والإجمال حكمه التوقف حتى يأتي البيان وقد بين الراوي هذا الإجمال بحكايته القبضَ بصيغة عموم " إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله " والله أعلم

• الاعتراض الثالث : و هو اعتراض آخر من الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ

وهو إعماله قاعدة : " كل نصٍّ عامٍ لم يجر العمل على عمومه لا يجوز الاحتجاج بعمومه ".

فعلى سبيل المثال : إذا أفتى رجلٌ بجواز صلاة الرواتب جماعة بدليل ما أخرجه أبو داود ( 554 ) و النسائي ( 843 ) من حديث أبي بن كعب مرفوعًا : " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ... " الحديث. فيكون الجواب على هذا الاستدلال هو القاعدة المذكورة .

ثم يرى الإمام ـ رحمه الله ـ أن القبض بعد الرفع من الركوع من هذا الضرب إذ لم يجر فيه عملُ السلف على عموم الأمر بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ...

الجواب : أن لازمه اشتراط ثبوت عمل السلف في كل فردٍ من أفراد العموم لجواز إعمال العموم ، وهذا الشرط باطل فإنه أقرب ما يكون تكليفًا بما لا يطاق .

فمثلا : ما أخرجه البخاري ( 168 ) و مسلم ( 268 ) من حديث عائشة أن رسول الله  : " كان يعجبه التيمن في شأنه كله ". فهذا عموم واشتراط ثبوت عمل السلف في كل فرد يصلح له لإعماله تكليف بما لا يطاق ، فلو انتظرنا ثبوت عمل السلف في كل فرد من أفراد العموم لأدَّى ذلك إلى تعطيل إعمال العموم ولأسقطنا من المستحبات الشيء الكثير...

فإن قيل : ما جوابكم ـ إذنْ ـ على من أفتى بجواز الرواتب جماعة مستدلا بعمومٍ ؟

قلنا : في هذه المسألة قد ثبت عمل السلف على خلافه أعني قد ثبت أنهم كانوا يصلون الرواتب فرادى فدل على أن عموم تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد غير مراد هنا ، بخلاف مسألة القبض في القيام الثاني ، فلو ثبت عن السلف أنهم كانوا يرسلون فيه لعلمنا أن العموم غير مراد ، وعندَئذٍ لا يجوز الاستدلال بالنص العام ـ كما في الرواتب جماعة ـ لكن لم يثبت بعدُ ، وبذلك نجيب على من لا يرى صحة إعمال العموم في هذه المسألة بدعوى هجران السلف له ،

وقد عبَّر الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ (أحيانًا) بـ : الأدلة العامة لا تصلح لإثبات سنة عملية لم تنقل عن النبي  ...

قاله مع أن قد ثبتت لديه سنن عملية بإعمال ( عمومٍ ) ؛ فمثلا :

ـ يرى استحباب القول كما يقول المقيم للصلاة بدليل ( عموم ) قوله  : " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " ـ متفق عليه ـ وهذا العموم لم يثبت عن النبي  ولا عن السلف أنهم أعملوه في الإقامة ، وإنما اكتفى الإمام الألباني ـ لإثبات هذا العمل ـ بـ (عموم ) الحديث المذكور كما قال في " تمام المنة " له ( ص 149 و150 ) .

ـ يرى مشروعية الاستعاذة في كل ركعة لـ ( عموم ) قوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " [ النحل : 98 ] وهذا العموم ـ أيضًا ـ لم يثبت عن النبي  ولا عن السلف أنهم أعملوه في كل ركعة ومع ذلك قال : " وهو احتجاج صحيح لا شائبة فيه " كما في " أصل صفة الصلاة " ( 3 / 826 ) ؛ وكذلك الاحتجاج بـ ( عموم ) " إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله " على مشروعية القبض في القيام بعد الرفع من الركوع احتجاج صحيح لا شائبة فيه. والله أعلم


الدليل الثالث ( السنة التقريرية ) :

ما أخرجه أحمد ( 15090 ) و الدارقطني ( 1106 ) من حديث جابر  أن رسول الله  " مرَّ برجلٍ وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى ؛ فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى " وصححه الإمام الألباني

والرجل المذكور هو عبد الله بن مسعود  بدليلِ ما أخرجه أبو داود ( 755 ) والنسائي ( 888 ) وابن ماجه ( 811 ) أن عبد الله بن مسعود  قال : " رآني النبي  وقد وضعتُ شمالي على يميني في الصلاة فأخذ بيميني فوضعها على شمالي " وصححه الإمام الألباني

وجه الاستدلال : أن رسول الله  لما رأى هذه المخالفة بادر لتصحيحها ولم يستفصل : أ كان المصلي في القيام الأول أم في القيام الثاني ؟ مع أن الأمر محتمل ؛ والقاعدة : " ترك الاستفصال في المقام مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال " ؛ فلو كان القبض في القيام الثاني غيرَ مشروعٍ لوجب أن يستفصل فيه الرسول  وبدل أن يجعل يمينه على شماله لأرسل يديه ، ولم يصنعْه فدل على أن للقيامين هيئةً واحدةً .

اعتراضات و الجواب عنها

• الاعتراض الأول :

إذا قلنا إن القبض بعد الرفع من الركوع غير مشروعٍ أصلا ، فنقطع بأن الصحابة ما كانوا يفعلونه فلا يحتمل أن يكون ابن مسعودٍ  وضع يديه في القيام الثاني ، لذلك لم يستفصلْ .

الجواب : قد وضع ابنُ مسعودٍ  يده اليسرى على اليمنى ، وهذا ـ أيضًا ـ غيرُ مشروعٍ أصلا ، وإذا جهل عدم مشروعية وضع اليسرى على اليمنى فقد يجهل عدم مشروعية القبض بعد الركوع ولم يستفصل الرسولُ  .

فإن قيل : لعل وضع اليسرى على اليمنى ناسيًا أو خطأ ...

الجواب : إذا كان في حالة النسيان ـ أو الخطأ ـ فلعل قبض بعد الركوع ناسيًا ـ أو خطأ ـ ولم يستفصل الرسول  ؛ والله أعلم .

• الاعتراض الثاني :

إذا كان يحتمل أن المصلي كان في القيام الأول كما يحتمل أنه كان في القيام الثاني فينبغي إسقاط الاستدلال بهذا الحديث إذ من المقرر قاعدة : " الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال " ...

الجواب : فرق ما بين القاعدتين كما أفاده العلامة القرافي ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم " الفروق " [ القاعدة الحادي و السبعون ] ( 2 / 159 ) : " الاحتمالات تارة تكون في كلام صاحب الشرع على السواء فتقدح ، وتارة تكون في محل مدلول اللفظ فلا تقدح ، فحيث قال الشافعي رضي الله عنه : إن حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال مراده : إذا استوت الاحتمالات في كلام صاحب الشرع ، ومراده أن حكاية الحال إذا تُركَ فيها الاستفصال قامت مقام العموم في المقال إذا كانت الاحتمالات في محل المدلول دون الدليل ... " هـ

الحاصل أن قاعدة : " الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال " إعمالها إنما يكون إذا كان الاحتمال في الدليل نفسه ، وأما قاعدة : " ترك الاستفصال في المقام مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال " إعمالها إنما يكون إذا كان الاحتمال في محل المدلول دون الدليل .

وفي قصة ابن مسعود  لم يكن الاحتمال في كلام الرسول ولا في فعله  أي لم يكن في الدليل وإنما الاحتمال موجود في فعل ابن مسعود  ، أ كان في القيام الأول أم في الثاني ، أي في محل المدلول ؛ فصح إعمال قاعدة " ترك الاستفصال ... " ولم يصح إعمال قاعدة " الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ... " و الله أعلم .[/size]