تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: المشرك أجهل الجاهلين بالله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي المشرك أجهل الجاهلين بالله

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
    لما كان الشرك أظلم الظلم وأقبح القبائح كان أبغض الأشياء إلى الله،
    وأشدها مقتاً لديه وأخبر أنه لا يغفره،
    وأن أهله نجس
    ، ومنعهم من قربان حرمه، وحرَّم ذبائحهم ومناكحهم،
    وقطع المولاة بينهم وبين المؤمنين؛
    وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين،
    وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم ،
    وأن يتخذوهم عبيداً،
    وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين .
    فلم يَجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جَمع على أهل الشرك ،
    فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به،
    ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده؛
    ولهذا أخبر سبحانه أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه ،
    وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له ويخضع.
    يجعلون له عِدْلاً في العبادة والمحبة والتعظيم،
    وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً يقولون لآلهتهم وهي في النار:
    { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين }
    ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال،
    ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السموات والأرض،
    وإنما ساووهم به بمحبتهم لها وتعظيمهم وعبادتهم إياها كما ترى عليه أكثر أهل الشرك ممن ينتسب إلى الإسلام،
    ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين،
    وما ذنبهم إلا أن قالوا إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً،
    ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً؛ وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبداً،
    بل حرَّم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة
    فليس لهم من الأمر شيء؛
    بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه،
    والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع .
    فالشرك ملزومٌ لتنقص الرب سبحانه ,
    والتنقصُ لازمٌ له ضرورةً، شاء المشرك أم أبى ,
    ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره ،
    وأن يُخلِّد صاحبه في العذاب الأليم،
    ويجعله أشقى البرية،
    فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقِّص لله سبحانه، وإن زعم أنه معظم له بذلك.
    انتهى( إغاثة اللهفان )
    وقال الامام ابن القيم في "الجواب الكافي":
    (فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق،
    وحرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد،
    وأن يتخذوهم عبيداً لهم لما تركوا القيام بعبوديته
    وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً أو يقبل فيه شفاعة أو يستجيب له فى الآخرة دعوة، أو يقبل له عشرة
    فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه نداً وذلك غاية الجهل به
    كما أنه غاية الظلم منه وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه) أ.هـ

    أن الشرك تنقص نزه الرب سبحانه نفسه عنه
    فمن أشرك بالله فقد أثبت لله ما نزه نفسه عنه، وهذا غاية المحادة لله تعالى، وغاية المعاندة والمشاقة لله.

    أن الشرك يفسد العقول، فالمشركون من أفسد الناس عقولاً،
    وقد قال الله فيهم: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).

    و من الدلائل على فساد عقل المشرك قصةً لطالب مسلم يدرس في "كلية" من جامعات "الهند" على بروفيسور من عباقرة الأساتذة،
    دخل عليهم الأستاذ ليلقي المحاضرة،
    وبعد الانتهاء من المحاضرة يقترب الطالب من المدرس ليلقي عليه بعض الإشكالات التي واجهته،
    فيفاجأ بريحة عفنة تصدر من الأستاذ !! فقال له الطالب: "
    ما هذا يا أستاذ؟!"
    فقال له: هذه ريحة بول الآلهة - أي البقرة - !!
    فالدكتور لا يخرج إلى الكلية إلا وقد تلطخ ببول البقرة تبركاً، ووقايةً من الأعين !!
    ولا يجد في ذلك أدنى خجل، ولا وجد أدنى غضاضة من أن يصرح لهذا الطالب بالحقيقة،
    وهذا الشيء لا يتردد في استنكاره عندنا الشخص الأمي الذي يعيش في أرياف المسلمين.

    فهذه البقرة خلقها الله لابن آدم، وخلق له ما فيها من اللحم واللبن والجلود وغير ذلك، ثم يسخر نفسه عبداً لهذه النعمة !! وكم تموت من الأبقار في الهند يومياً دون أن يستفاد منها مع أن الهند من بلاد المجاعات.
    بل فساد المعتقد جرّ الإنسان إلى أن يعبد الفأر، ويجعله نداً لله في العبادة !!
    وهناك ثلاثة آلاف وثن يعبد في "الهند"من دون الله، ما بين بقرة وفأر وغيرهما،
    حتى الفروج تُعبد من دون الله !! في عصر قفزت فيه التكنولوجيا إلى أرقى المستويات،

    فالشرك له أثر كبير على القلوب فهو يفسدها ويوهنها،
    فالفارس الشجاع الذي لا يبارى في المعارك، تجده يخاف من أحقر الأشياء، بل يخاف من أشياء وهمية لا حقيقة لها،
    ولذلك فإننا نجد أن الأمراض النفسية والعقلية كثيرة في المجتمعات الغربية، وغالبها يؤدي إلى الانتحار.

    والشرك كما يفسد العقول كذلك يفسد الأخلاق،
    ولذلك أفسد الأخلاق هي أخلاق المشركين، وفيهم من الفواحش بقدر تعلق قلوبهم بغير الله تعالى.

    والذي يتأمل في أحوال الغرب يجد غرائب وعجائب كثيرة، منها ما يتحدث به الغرب مؤخراً من الحرية الجنسية من الشذوذ الجنسي بشتى صوره ومختلف أنواعه،
    لأنهم يرون أن إرخاء العنان لهذه الشهوات من علامات التحضر والترقي، وكل هذا يدل على فساد عقليات المشركين وأخلاقهم.

    قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (10/135-136):
    (
    ولهذا لما كان يوسف محباً لله مخلصاً له الدين لم يبتل بذلك، بل قال تعالى عن يوسف:
    (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) و
    أما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها فلذلك ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه،
    وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق
    أحدهما: إنابته إلى الله ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه.

    والثاني خوفه من الله فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه) أ.هـ
    فظهر لنا من هذه الأوجه أن الشرك أعظم الظلم وأنه أكبر الكبائر، وأنه يبيح الدم والمال وأنه يفسد العقول والأخلاق، وأن له تأثيراً عظيماً ومباشراً على مصير الإنسان في الآخرة.
    ولما كان الشرك بهذه الفظاعة والشناعة

    قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في مصباح الظلام بعد أن ذكر قوله تعالى
    (ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس)
    ((و زعيمهم الذي يناضل عنهم و يجادل دونهم هو أخبثهم على الإطلاق ))

    وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في الدرر السنية ج8 ص 396
    (( والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، ولكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم،
    فيكن متبعًا لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولاً وشعبًا
    لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه،
    وكل هذا يؤخذ من شهادة: لا إله إلا الله ))
    و قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الدرر السنية ج 2 ص 268 ((وأما من لم يعرف حقيقة الشرك، لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، فكيف يعرف التوحيد؟ ومن كان كذلك، لم يكن من الإسلام في شيء، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم وأما من شرح الله صدره للإسلام، وأصغى قلبه إلى ذكر الله من الآيات المحكمات في بيان التوحيد المتضمن لخلع الأنداد التي تعبد من دون الله، والبراءة منها ومن عابديها، عرف دين المرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع ))
    قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (( وعبادة أصحاب القبور تنافي الإسلام، فإن أساسه التوحيد والإخلاص ولا يكون الإخلاص إلا بنفي الشرك والبراءة منه، كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى )، وهذه الأعمال مع الشرك تكون (كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف )، وتكون هباء منثوراً؛ (كسراب بقيعة يحسبه الظمئآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً )...)) الدرر السنية ج 11 ص 545
    يقول الشيخ إسحاق عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (( و مسألتنا هذه وهي عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسول وأنزل الكتب وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن )) رسالة تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة
    قال عبد الرحمن بن حسن في الدرر السنية ج 11 ص 269 ((والمقصود: أن نفي الأوثان الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، يحصل بتركها، والرغبة عنها، والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها ))
    قال الشيخ سليمان بن سحمان في الدرر السنية ج 10 ص 493
    ((أن زعم المخالف أن من انتسب إلى الإسلام، يكون مسلما بمجرد انتسابه إليه، فعلى زعمه: أن عباد القبور اليوم، ممن يدعون الأنبياء، والأولياء والصالحين، وسائر من كفر بالله، وأشرك به ممن يتلفظ بالشهادتين، أنهم مسلمون بمجرد انتسابهم إلى الإسلام، تحل نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم وقد تبين لك ما أمر الله به فيهم ورسوله، من تكفيرهم وعدم إسلامهم )
    وقال الشيخ العلامة سليمان ابن سحمان في الأسنة الحداد في رد شبهات علوى الحداد ص163
    (( فمن لا يكفر من اشرك بالله في عبادته ولم يتبرأ منه فليس بمسلم على الحقيقة ،ولا ينفعه قول لااله الا الله الا ّ باخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له ،وتكفير من تركها والبراءة من الشرك واهله وتكفير من فعله ،وهذا هو اصل دين الاسلام وقاعدته التي ينبني عليها))
    و قال الشيخ سليمان ابن سحمان في قصيدته
    تبصر نور الحق من كان يُبصِر
    تكفرنا والدين فينا مقرر -- وقولك في الأولى بأي شريعة
    أليس لديكم كل أقلف مشرك -- يجاهر فيكم بالفوق ويظهر
    ويحكم بالقانون بين ظهوركم -- وحكم النبي المصطفى ليس يذكر
    وكل جميع المنكرات فسايغ - لديهم وما منكم لذلك منكسر
    فإن كان محض الحق والفسق والخنا -- لديكم هو الدين القويم المقرر
    فقد صح ما قد قيل فيكم وإنكم -- لأحرى بما قد قيل فيكم وأخطر
    فمن لم يكفرهم به فهو كافر ومن شك في تكفيرهم فهو أكفر
    فلم يَجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جَمع على أهل الشرك ،
    وفى المقابل أقول ما جمع من اصحاب العذر بالجهل من البحر الذى لا ساحل له من الاعذار ما جمع فى العذر والجدال عن أهل الشرك
    فانا لله وانا اليه راجعون

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: المشرك أجهل الجاهلين بالله

    النظرة القدرية والنظرة الشرعية إلى المشركين :
    قال الله عز وجل : (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)
    قال الحافظ ابن كثير :يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته :
    ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو
    ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) أي: اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم .
    و لو شاء الله لهدى الناس كلهم جميعا ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى )
    ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا )
    أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . انتهى
    فلا اعتراض على حكمة الله تعالى في إضلال أكثر الخلق عن الحق .
    وهو كما قال سبحانه وتعالى :
    (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
    فمن عذر الكفار والمشركين بالجهل فقد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على القدرية قديما ,
    حيث نفت القدرية مشيئة الله تعالى وخلقه للمعاصي , خشية أن يُنسب الظلم إلى رب العالمين ,
    حيث قالوا : كيف تكون هذه المعاصي قد شاءها الله وخلقها في بني آدم ثم يعذبهم عليها .
    وغفلوا عن حكمة الله تعالى في وجود هذه المعاصي وأن الله تعالى شاءها وخلقها ,
    وعلم بها وكتبها قبل أن يخلق الخلق , ولم يجبرهم عليها
    , بل جعل لكل مخلوق مشيئة وإرادة , وهذه الأعمال التي يعملونها من خير وشر تنسب إليهم ,
    فهي أعمالهم وعليها يحاسبون .
    ولله الحجة البالغة سبحانه وتعالى .
    وكذلك المشركون القبوريون , شاء الله أن يجعلهم ممن حقت عليه الضلالة ,
    فلا عذر لهم عند الله على عبادة الأولياء والصالحين
    , فهم من اختار لنفسه عبادة غير الله ودعاء غير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله ,
    هم من صرف العبادة للصالحين والأولياء ,
    فالله لم يجبرهم ولم يظلمهم , وهم محاسبون على هذه الأعمال الشركية .
    كما أن غيرهم من جهال أهل الملل والطوائف محاسبون على أعمالهم الكفرية والشركية .
    والتفريق بين جهال عباد القبور وجهال عباد الأصنام وجهال الفرق الباطنية ,
    هو تفريق بين متماثلين , فهل جاء نص عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم يستثني عابد القبر الجاهل من الحكم عليه بالشرك ؟
    فإن قيل : قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
    قلنا :
    إذن جهال اليهود وجهال النصارى والبوذيين والوثنيين في أطراف الدنيا وأدغال القارات معذرون ,
    فهم أشد جهلا من هذا القبوري الذي يعيش بين ظهراني المسلمين ويسمع القرآن والحديث .
    فإن عذرتم هؤلاء خالفتم إجماع المسلمين , وإن لم تعذروهم لزمكم ألا تعذروا عابد القبر إذ لا فرق .
    الشرط هو ان كل من بلغه بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة,
    كما قال تعالى (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ )
    ومن يعذر عباد القبور بالجهل مقتضى قوله أن الحجة لم تقم بالنبي صلى الله عليه وسلم , ولا بالقرآن ,
    وهذا قول شنيع
    ثم إن صاحب هذا القول الشنيع لابد أن يتناقض ,
    حيث يقر ولابد أن الحجة قامت على جهال اليهود والنصارى الذين سمعوا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ,
    ثم يزعم أن هذه الحجة نفسها لم تقم على جهال المشركين من عباد الأضرحة والقبور .
    فإن جيء بشبهة علماء القبوريين المعروفة : إن هذا العابد للقبر يصلي ويصوم ويقول لا إله إلا الله وينتسب للإسلام .
    فالجواب عن هذه الشبهة من كتاب الله تعالى .
    قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
    وقال تعالى – بعد أن ذكر الأنبياء – ( ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
    فالشرك لا يصلح ولا يبقى معه عمل مقبول ولا دين صحيح .
    قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)
    وقال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)
    وقال تعالى : (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )
    وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)
    والمراد بالظلم في هذه الآية الشرك , كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    ففي " الصحيحين "عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه ؟
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه:
    (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .
    وقال تعالى : (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ)
    قال الشيخ ابن سعدي في " تفسيره " :
    ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى .
    ( فَإِنْ فَعَلْتَ ) بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك ( فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها،
    وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره. انتهى
    قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله :اعلم أن لهؤلاء ( القبوريين ) شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها. وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن ( من مشركي العرب الأولين ) لا يشهدون أن لا إله إلا الله ، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونهسحرا. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم. فكيف تجعلوننا مثل أولئك.
    فالجواب أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج. ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج، أنزل الله في حقهم ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع،وحل دمه وماله كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقا، وأنه يستحق ما ذكر، زالت الشبهة. وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
    ويقال أيضا: إن كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدقبذلك كله لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا. فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل. ويقال أيضا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون.
    فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل: هذا هو المطلوب،إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف، أو صحابيَاَ، أو نبيا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما اعظم شأنه ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )
    ويقال أيضا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم، أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين أم تظنون أن الاعتقاد في " تاج " وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في " علي بن أبي طالب " يُكفر.
    ويقال أيضا: بنو عبيد القداح ( المعروفون في التاريخ بالفاطميين ! ) الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدونأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
    ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب " باب حكم المرتد " وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. ثم ذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
    ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ) أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون. وكذلك الذين قال الله فيهم: ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون من المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق . انتهى ( كشف الشبهات )
    وقال العلامة المحدث محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه ( تطهير الاعتقاد ) :
    فإن قلتَ : أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام ؟
    قلتُ : نعم ! قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا عليهم في الاعتقاد والانقياد والاستعباد، فلا فرق بينهم .
    فإن قلتَ : هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندًّا، والالتجاءُ إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركاً !
    قلتُ : نعم ! ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ،
    لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإنَّ تعظيمَهم الأولياء ونحرَهم النحائر لهم شركٌ، والله تعالى يقول: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) أي: لا لغيره، كما يفيدُه تقديم الظرف ، ويقول تعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً )
    وقد عرفتَ بما قدَّمناه قريباً أنَّه صلى الله عليه وسلم قد سمَّى الرياءَ شركاً، فكيف بما ذكرناه ؟!
    فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعَلَه المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم : نحن لا نشركُ بالله شيئاً، لأنَّ فعلَهم أَكْذبَ قولَهم .
    فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه .
    قلتُ : قد صرَّح الفقهاء في كتب الفقه في باب الرِّدة أنَّ مَن تكلَّم بكلمة الكفر يَكفر وإن لَم يقصد معناها , وهذا دالٌّ على أنَّهم ( يعني القبوريين ) لا يعرفون حقيقةَ الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليَّا، فإنَّ الله تعالى فَرَضَ على عباده إفرادَه بالعبادة ( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ ) ، وإخلاصها له , ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ،
    ومَن نادى الله ليلاً ونهاراً وسرًّا وجهاراً وخوفاً وطمعاً، ثمَّ نادى معه غيرَه فقد أشرك في العبادة، فإنَّ الدعاءَ من العبادة، وقد سمَّاه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) بعد قوله :
    ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )
    فإن قلتَ : فإذا كانوا مشركين وجَب جهادُهم، والسلوك فيهم ما سلَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين .
    قلتُ: إلى هذا ذهب طائفةٌ من أئمَّة العلم، فقالوا: يَجب أوَّلاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانةُ أنَّ ما يعتقدونه ينفعُ ويَضر، لا يغني عنهم من الله شيئاً وأنَّهم أمثالهم ، وأنَّ هذا الاعتقاد منهم فيه شركٌ لا يتم الإيمانُ بما جاءت به الرسلُ إلاَّ بتركه والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقاداً وعملاً لله وحده.
    وهذا واجبٌ على العلماء، أي : بيان أنَّ ذلك الاعتقاد الذي تفرَّعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شركٌ محرَّم، وأنَّه عينُ ما كان يفعله المشركون لأصنامهم،
    فإذا أبان العلماءُ ذلك للأئمَّة والملوك، وَجَبَ على الأئمة والملوك بعثُ دعاة إلى الناس يَدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمَن رجع وأقرَّ حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومَن أصَرَّ فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين . انتهى ,
    وقال العلامة القاضي الشوكاني رحمه الله في كتابه ( نيل الأوطار ) :
    وَكَمْ قَدْ سَرَى عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ،
    مِنْهَا اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ : وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا.
    وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
    وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا وَلَا مَلِكًا، وَقَدْ تَوَارَدَ إلَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَقْبُورِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ . وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ،
    فَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَيَا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ، أَيُّ رُزْءٍ لِلْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَيُّ بَلَاءٍ لِهَذَا الدِّينِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ؟ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ يَجِبُ إنْكَارُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ إنْكَارُ هَذَا الشِّرْكِ الْبَيِّنِ وَاجِبًا .
    لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
    وَلَوْ نَارًا نَفَخْت بِهَا أَضَاءَتْ ... وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
    انْتَهَى .
    لا فرق بين مشرك قبل الإسلام ومشرك بعد الإسلام :
    إذا كان عابد القبر المشرك يُعذر بجهله فأولى منه بالعذر بالجهل المشرك العربي الجاهل قبل الإسلام .
    فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام والأوثان , وكانوا كما وصفهم الله تعالى في ضلال مبين .
    قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)
    فهؤلاء مشركون أميون لم يُبعث فيهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب , ماتوا على الشرك قبل الإسلام فكانوا في النار . والمشركون الذين بُعث فيهم نبي وأنزل عليهم كتاب وعاشوا في ديار الإسلام معذرون بالجهل !
    هذا من أفسد الفروق وأبطل التقاسيم .
    وقد يقول قائل : إذا كان الله تعالى لا يعذب أحدا من بني آدم حتى تقام عليه الحجة الرسالية , , كما قال تعالى : (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)
    فأين هي الحجة التي قامت على هؤلاء العرب الأميين قبل الإسلام ؟
    فالجواب : أن هذه الحجة قد اشار الله إليها في قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَإِلّ َا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
    قال الحافظ ابن كثير : يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد مَن بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال : ( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان وهي « لا إله إلا الله » أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم، عليه السلام، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي: إليها .
    وقال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها. ورُوي نحوه عن ابن عباس.
    وقال ابن زيد: كلمة الإسلام. وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة . انتهى
    فكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) كانت باقية في العرب , وفيهم من دان اللهَ بها , منهم : زيد بن عمرو بن نفيل
    قال الحافظ ابن كثير في ( البداية والنهاية 316/3 ) :
    وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ تَرَكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَفَارَقَ دِينَهُمْ وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ .
    قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالَّذِي نَفْسُ زَيْدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحِلَتِهِ .
    وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَزَادَ وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ،وَ كَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا ادْفَعْهَا إِلَيَّ أَكْفُلْهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْتَ فَادْفَعْهَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَىَّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ . انتهى
    فقصة زيد بن عمرو رضي الله عنه , دليل على دين إبراهيم لم يزل في العرب , وأن التوحيد لا يتعذر على الشخص منهم أن يعرفه , لكنهم آثروا الشرك وعبادة الأصنام , وقلد الأبناء فيها الآباء والاجداد .
    وكان رئيس قبيلة خزاعة عمرو بن لحي هو الذي أدخل الشرك على العرب , وكانوا قبله على دين أبيهم إسماعيل عليه السلام .
    فحجة الله قائمة على عرب الجاهلية بما بقي فيهم من بصيص التوحيد من دين إبراهيم عليه السلام .
    ثم يأتي من يزعم ان حجة الله ليست قائمة على جهال القبوريين , في أمة مسلمة بُعث فيه النبي وأنزل فيها القرآن وهي تصلي وتسجد لله , والقرآن يتلى في مساجدها صباح مساء .
    ومن الأدلة على أن التوحيد كان معروفا عند العرب الجاهليين انهم كانوا يخلصون الدعاء لله في حالة الشدة , كما قال تعالى : (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)
    فهذا إقرار منهم أن أصنامهم لا تنفعهم في مثل هذه الحالة , وأن عبادتهم لها هو اتباع للهوى .
    والعجب أن بعض العلماء ذكر أن جماعة من عباد القبور ركبوا البحر فلما غشيهم الموج أخذوا يستغيثون بالشيخ عبدالقادر !
    ولهذا نص الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله, في ( القواعد الأربع ) على أن شرك أهل زماننا أغلظ من شرك الأولين ؛ لأن الأولين كانوا يشركون في حالة الرخاء ويخلصون في حالة الشدة , كما جاء في القرآن , أما أهل زماننا فشركهم دائم في الرخاء وفي الشدة . ومثله ذكر في ( كشف الشبهات ) وزاد عليه بأن مشركي العرب الأولين كانوا أصح عقولا وأخف شركا من مشركي هذا الزمان , وبيَّن علةَ ذلك .
    وقال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله: وأما مشركوا أهل هذه الأزمان فإنه لا يشتد شركهم إلا إذا وقعت بهم الشدائد، فإنهم ينسون الله، ولا يدعون إلا معبودهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات. ( الضياء الشارق )
    وقال العلامة المحدث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله, في رسالته ( تطهير الاعتقاد ) :
    لقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه , وقال هذه لسيده فلان, يريد صاحب القبر , نصف نهر ابنتي لأني زوجتها وكنت ملكت نصفها فلانا , يريد صاحب القبر .
    وهذه النذور بالأموال وجعل قسط منها للقبر , كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه " قلما " في بعض الجهات اليمنية , وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام , وهو داخل تحت قول الله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ) بلا شك ولا ريب . انتهى
    فالعجب لا ينقضي حينئذ ممن يعذر صاحب الشرك بالجهل , ولا يعذر به ذاك المشرك الذي يخلص في حالة الشدة , ولا يتوفر له من العلم والهدى ما يتوافر لذاك المشرك القبورى .
    هذا, وليس عند من يعذر صاحب الشرك شبهة إلا أنه يصلي ويصوم . . وقد تقدم الجواب عن هذه الشبهة , وأزيد هنا : إن صلاة هذا المشرك وصيامه وتلاوته للقرآن أو سماعه للقرآن أقطع لعذره من ذلك الجاهلي الذي لا يعرف صلاة ولا صياما ولا قرآنا .
    فالجاهلي أدخله الله النار على شركه , وهو ليس عنده غير كلمة باقية من دين إبراهيم – عليه السلام - , اقام الله به الحجة عليه , وهذا القبوري المشرك عنده دين نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - كله ولا يكون ذلك حجة عليه ؟
    امتثال النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه وتسليمه لحكمه :
    إن الله جل وعلا لم يأذن لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه , كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ ‏قال : ‏‏زار النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : ‏ " ‏استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"
    فلم يأذن له رب العالمين بالاستغفار لها , لأنها لم تكن مسلمة ولا موحدة , والاستغفار لا يجوز إلا لأهل التوحيد , فإن الاستغفار نوع من الشفاعة , والشفاعة لا تجوز لمشرك . كما قال تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
    نزلت هذه الآية حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ان يستغفر لعمه أبي طالب الذي توفي على ملة عبدالمطلب , كما في " الصحيحين " عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله عز وجل: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم )وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ)
    فنظر النبي صلى الله عليه وسلم بعين القدر إلى أمِّه فرَحِمَها وبكى , ونظر بعين الشرع فالتزم أمر الله تعالى فلم يستغفر لها .
    فما بال أقوام اليوم يُبتلى أحدهم بأبٍ مشرك أو أمٍ مشركة أو بقريب مشرك يعبدون الصالحين والأولياء , يهلك أحدهم على هذا العقيدة الوثنية الشركية , والعياذ بالله , فيبقى الولد يستغفر لهذا الوالد المشرك , غير مسلِّم لأمر الله وحكمه كما سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم حين نهاه ربه عن الاستغفار لأمه ولعمه أبي طالب .
    جواب عن شبهة :
    قد يكون الدافع لهؤلاء العاذرين في الشرك الأكبر هو عموم البلوى , فإن عبادة القبور والتعلق بأهلها قد تلطخت به غالب بلدان المسلمين , وسقط في عبادتها خلق عظيم من هذه الأمة , فنظر هؤلاء العاذرون إلى هؤلاء الهالكين نظرة رحمة وشفقة فحكموا بإسلامهم , ودافعوا عنهم , وتصدوا لكل من يكفرهم بأنه متشدد وصاحب غلو في التكفير وخارجي ..
    كما أن بعضهم دافع عن تاركي الصلاة بهذا النظرة القدرية , فقرر أن تارك الصلاة مسلم , إذ لو حكمنا عليه بالكفر لحكمنا على غالب الأمة بالكفر إذ إن أكثر الأمة لا يصلون !
    وهؤلاء جهلوا حكمة الله في خلقه , وخالفوا الله تعالى في أمره , فإن لله تعالى حكمة في إضلال أكثر الخلق عن الحق , كما تقدم , فلا اعتراض على حكمته سبحانه وتعالى , وليس لنا من الأمر شيء فنرحم هذا ونشفق على هذا , وقد شاء الله عز وجل هلاكهم والعياذ بالله , كما قال تعالى : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
    ونحن يلزمنا أن نطبق حكم الله تعالى في أهل الشرك , كما يلزمنا أن نطبق حكم الله تعالى في تاركي الصلاة , ولا يجوز أن نعطل الحكم الشرعي من أجل الحكم القدري . فإن أول من عطل الحكم الشرعي لأجل الحكم القدري هو إبليس أعاذنا الله منه , حين أمره الله بالسجود لآدم فأبى متحججا بأنه أفضل خلقا من آدم , فكان جزاؤه اللعن والطرد من رحمة الله .
    قال تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَوَلَ وْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)
    هذه شبهة : من ثبت عندي إسلامه بيقين فلا أخرجه من الإسلام إلا بيقين .
    والجواب عن هذه القاعدة الفاسدة في هذا الموضع بأن يقال له : أثبت أولا أن عباد القبور مسلمون , وقد تقدم في كلام الإمام الصنعاني أنه قال عنهم " لا يعرفون حقيقةَ الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليَّا " ولم يعذرهم بالجهل . فأين هذا اليقين ؟
    ثم إن صاحب هذه القاعدة يجادل عن عباد القبور بأسلوب داود بن جرجيس الذي كان يدعي أن عباد القبور مسلمون , ثم يجادل العلماء بناءً على هذه الدعوى , في حين أنه لا يسلم له بها , وفي هذا يقول الشيخ العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله :ومن عجيب جهل العراقي( داود بن جرجيس ) أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلا، فإن دعوى العراقي لإسلامعبّاد القبور تحتاج دليلا قاطعا على إسلامهم , فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم،والتفري ع ( أي تفريع المنع من التكفير بناء على ثبوت الإسلام ) ليس مشكلا . انتهى ( حكم تكفير المعين )

    رأيت بعض الناس يقول في الحكم على عباد القبور : نحن نكفرهم بالنوع لا بالعين , فنقول هم مشركون لكن لا نقول لشخص منهم بعينه إنه مشرك إلا بعد البيان والتعريف وإقامة الحجة .
    والجواب عن هذه الشبهة في كتاب الله تعالى , قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) فسماه الله مشركا قبل بلوغ القرآن وقبل العلم وإقامة الحجة القرآنية عليه بعينه .
    ثم اعلم أن هذه الشبهة هي التي ألف الشيخ العلامة المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله رسالته المعروفة ( حكم تكفير المعين ) في الجواب عنها . فهي شبهة قديمة من شبهات القوم , ومما قال فيها :
    فإن هذا الجواب ( شبهة تكفير النوع دون العين ) من بعض أجوبة العراقي( داود بن جرجيس ) التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عنذلك وعن مستدلهم فقال : نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف، ومستندنا مارأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد ( ابن عبدالوهاب ) ـ قدس الله روحه ـ على أنه امتنع من تكفير من عبدقبة الكلواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه، فانظر ترى العجب ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيهورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث، حتى جاء بعض الكلمات التي فيها مافيها، فقال الرجل : ما هذه كيف ذلك ؟ فقال الشيخ : قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوملم تفهم ولم تسأل عنه، فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال.( يريد أن ابن جرجيس وأمثاله أعرضوا عن كل كتب ورسائل الشيخ التي فيها تقرير التوحيد ثم وقعوا على هذه الكلمة المتشابهة ,
    ثم قال رحمه الله ):ومسألتنا هذه وهى عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن مَنْ عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمةالدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لايذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة،أو في مسألة خفية كالصرف والعطف وكيف يُعَرَّفون عُبّاد القبورِ وهم ليسوا بمسلمين ولا يدخلون في مسمى الإسلام،
    وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول : ( ولا يدخلونالجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط(( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق(( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله(إلى غير ذلك من الآيات ،ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول، بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة، وهذه الشبهةالتي ذكرنا قد وقع مثلها أو دونها لأناس في زمن الشيخ محمد ( ابن عبدالوهاب ) رحمه الله ولكن مَنْوقعت له يراها شبهة ويطلب كشفها، وأما من ذكرنا فإنهم يجعلونها أصلا ويحكمون علىعامة المشركين بالتعريف ويُجَهِّلون من خالفهم فلا يوقفون للصواب، لأن لهم في ذلك هوى وهو مخالطة المشركين ( أي أنهم يعذرون القبوريين لأن لهم معه مصالح دنيوية ) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، الله أكبر ما أكثر المنحرفين وهم لا يشعرون . انتهى المراد نقله ..
    انتهى
    كتبه : عبدالحميد الجهني

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •