أيها العرب؛ آن لكم أن تقوموا بعبء الرسالة


وسيم فتح الله


الحمد لله حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على مَن بعثه بشيراً ونذيراً، فاصطفاه سبحانه وتعالى مِن خير الناس، وأنزل عليه خيرَ كتاب، وبعثه به إلى العرب والعجم بخيرِ لسان، حيث قال جلَّ وعلا: {وإنه لَتنزيلُ ربِّ العالمين. نزل به الروحُ الأمين. على قلبك لِتكون مِن المنذِرين. بلسانٍ عربيٍ مُبينٍ} [1]،
قال الإمام الطبري رحمه الله: "وقوله (بلسانٍ عربيٍ مبينٍ) يقول: لِتنذر قومك بلسانٍ عربيٍ (مبينٍ) يبين لِمن سمعه أنه عربي، وبلسان العرب نزل، وإنما ذَكر تعالى ذِكره أنه نزّل هذا القرآن بلسانٍ عربيٍ مبينٍ في هذا الموضع، إعلاماً منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك لئلا يقولوا: إنه نزل بغير لساننا فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه لأنّا لا نفهمه، وإنما هذا تقريعٌ لهم، وذلك أنه تعالى ذكره قال: {(وما يأتيهم مِن ذِكرٍ من الرحمن محدَثٍ إلا كانو عنه معرضين)} [2]، فبيَّن أنهم لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه، بل يفهمونها لأنها تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين جبريل بلسانهم العربي، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيباً واستكباراً {(فقد كَذَّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانو به يستهزئون)} [3] كما أتى هذه الأمم -التي قصَّها في سورة الشعراء حين كذبت رسلها- أنباءُ ما كانوا به يكذبون"[4].
قلت: وهذا صريحٌ في أن العرب – وعلى رأسهم قريش- هم المخاطَبون ابتداءً بتحمّل هذه الرسالة والقيام بأمرها، كما أنه صريحٌ في أن اللسان العربي المبين هو الوسيلة التي أناطت بالعرب مسؤولية تحمل الرسالة، فأصبح تضييع العرب للسانهم العربي إعراضاً مركباً عن موجب هذا الخطاب، كما سيأتي.
ولقد أكد سبحانه وتعالى هذه الخيرية – أعني خيرية النبي العربي والكتاب العربي واللسان العربي - وبيّن لنا شيئاً من حكمته البالغة في اصطفاء اللسان العربي من سائر الألسنة، واصطفاء النبي العربي من خير العرب والعجم فقال سبحانه جلَّ في علاه: {(ولو نزّلناه على بعض الأعجمين. فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين)} [5]،
قال الأصفهاني :" والأعجم مَن في لسانه عُجمة؛ عربياً كان أو غير عربي اعتباراً بقلة فهمهم عن العجم"[6]، وقال الإمام الطبري رحمه الله:"يعني: ولو نزَّلنا هذا القرآن العربي على بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح (فقرأه عليهم) يقول: فقرأ هذا الأعجم القرآن على كفار قومك يا محمد – صلى الله عليه وسلم – (ما كانوا به مؤمنين) يقول: لم يكونوا ليؤمنوا به لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء"[7].
فتركب لنا هاتين المقدمتين ما يلي: أن الله اصطفى رسولَه العربي ليرسله برسالته الخاتمة بكتابه العربي إلى قومه العرب ابتداءً ليتم تناسق الأسباب الكونية من حيث القوة، والشرعية من حيث الاصطفاء الرباني، فتكتمل مقومات تحمل الرسالة وأدائها على أكمل صورة، وأنه كلما ابتعد أتباع الرسالة عن الإتساء بكامل صفات النبي العربي، وكلما ابتعدوا عن الحفاظ على سلامة اللسان العربي، وكلما ابتعدوا عن تحمل مسؤولية تلقي البيان العربي عن الله عز وجل كلما نقصت صورة الأداء عن الصورة الكاملة التي أرادها الله تعالى لهذا الدين العظيم.
ويؤكد هذا أيضاً قوله عز وجل: { (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياته أأعجمي وعربي)} [8]، قال الإمام الطبري رحمه الله:"يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجمياً لقال قومك من قريش : (لولا فُصِّلت آياته) يعني هلا بُينت أدلّته وما فيه من آيه فنفقهه، ونعلم ما هو، وما فيه، أأعجمي؟ يعني أنهم كانوا يقولون إنكاراً له: أأعجميٌ هذا القرآن ولسان الذي أُنزل عليه عربي؟"[9].
قلت: فإذا تبين أن الأعجمي صفة مَن لا يفصح بالعربية سواء أكان عربياً أم عجمياً، تبين لك أن تضييع العرب اليوم للسان العربي وتفريطهم فيه مع تفريطهم في تحمل الرسالة القرآنية قد أصبح إعراضاً مركباً عن أمر الله تعالى بتلقي هذا الرسالة العظيمة، ونقلها إلى سائر الأمم من العرب والعجم، وأنه قد أصبح إعراضاً عن أداء مهمة النذارة لسائر الأمم من غير العرب كما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وقومه مِن بعده فقال عز وجل: {(وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لِتنذر أمَّ القُرى ومَن حولها وتنذر يوم الجَمْع لا ريب فيه فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير)} [10].
إن المهمة المنوطة بالعرب في تحمل وأداء هذه الرسالة العظيمة إذاً ليست كمهمة سائر الأمم، هذا مع كون الإسلام رسالة عالمية إلى سائر العرب والعجم، بل وللثقلين من إنس وجن، ولكن عالمية الرسالة شيء، والمسؤولية المضاعفة الملقاة على عاتق العرب في تحمل وأداء هذه الرسالة شيء آخر، والقاعدة أن الغُنم بالغرم؛ فكما أن العرب قد غنموا هذه الخيرية باصطفاء النبي الخاتم منهم، وإنزال الكتاب المهيمن على ما سواه بلسانهم، فقد غرموا مسؤولية أكبر، وتحملوا مشقةً أعظم في سبيل تحمل هذه الرسالة، وأدائها على الوجه الذي تشرق به شمس الإسلام على سائر المعمورة، هذا تكليف عظيم وتهييج للعربي السليم أن يأخذ هذا الكتاب بحقه فَيَعيَه ويتدبره بلسانه الذي يفقه، فإذا بك ترى نسيج التوحيد الخالص من خلال فطرة العربي السليمة، وترى تسبيح الخالق سبحانه وحمدَه من خلال صفاء نظرة العربي في خَلق الله العظيم، وترى مكارم الأخلاق الإسلامية مكتملة من خلال نوازع الكرم والشهامة والنخوة العربية الأصيلة، وترى الشجاعة في الحق والإقدام على الباطل من خلال شهامة وفروسية العربي الأصيل الذي يأبى الضيم ويأنف عن خذلان الملهوف والضعيف، وترى الإنفاق والصدقة والإحسان إلى الخلق من خلال كرم العربي الذي سرت بصوره الركبان، وترى التوبة والإنابة إلى الله من براثن الوثنية وفواحش الجاهلية من خلال طرح كل المواريث البالية تحت أقدام العربي الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان، فلا يشتاق لإحياء وثنٍ قد سَبَقَ هو إلى تحطيمه، ولا يَحِنُّ لمعاقرة خمر قد سَبَقَ هو إلى إراقتها، ولا يتوق لمعاشرة بغيٍ قد سَبَقَ هو إلى التعفف عنها، وإنما يتذكر ذلك كله إن ذَكَرَه لِيدرك فضل الله عليه بنعمة الإسلام وهدي القرآن وسنة النبي العدنان صلوت ربي وسلامه عليه. وهذا هو العربي ...
إن حكمة الله تعالى إذاً هي التي اقتضت هذا الاختيار وهذا التكليف، قال ابن تيمية رحمه الله في سبب فضل العرب:"وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختُصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم. وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح. والعلم له مبدأ: وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم، وتمام: وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعرب هم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني...
وأما العمل: فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعةً قابلةً للخير معطَّلةً عن فعله، ليس عندهم عِلمٌ منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبي، ولا هم مشتغلون ببعض العلوم العقلية البحتة،... فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل منه أعظم قدراً، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله فيهم"[11]. انتهى كلامه رحمه الله.
ولئن نظرنا إلى حال العرب اليوم، وجدنا من هذه القوة والخيرية المعطلة مثل ما وجدنا عند العرب قبل البعثة النبوية الكريمة، ووجدنا عند البعض من الإعراض عن رسالة النبي العربي والكتاب العربي واللسان العربي نظير ما وجدنا من إعراض ومعاندة قريش والعرب بادي الرأي، ثم ما لبث أن حصحص الحق وزالت غشاوة الباطل وتلقى العرب بقوتهم الطبيعية كتاب ربهم وسنته نبيهم المحمدية وجعلوا من لسانهم العربي المبين خير متحملٍ للرسالة وخير ناقلٍ لها، حتى قاموا بأعباء الرسالة خير قيام، وتوفي عنهم رسولهم صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وشهد لهم ربهم قبل ذلك برضاه عنهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، ومزق الله بهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم ألوية الردة وعروش الطغاة شرقاً وغرباً، حتى دخل الناس من عرب وعجم في دين الله أفواجاً، وهذا هو العربي...
ويجب على العربي المسلم أن يتنبه إلى أمر مهم في هذا المقام، ألا وهو أن هذا الخطاب ليس خطاباً شعوبياً أو عِرقياً أو استعلائياً على غير العرب البتة، وإنما هو خطاب يستثير العرب ليقوموا بما اصطفاهم الله تعالى به أعني أولية حمل الرسالة، فإن هم قاموا بما عليهم حازوا الفضل بتوفيق الله تعالى لهم، وإن هم قَصَّروا في ذلك لم تُغنِ عنهم عروبتُهم إلا كما أغنت عن كفار ومشركي قريش الذين ماتوا على كفرهم، وكذلك إخواننا العجم المسلمين؛ فمن كانت سابقته في الإسلام وسبقه في مضمار التقوى أكمل كان بالفضل أحرى، وما كان دون ذلك فكلٌ بحسب عمله، والله أعلم. ولا يلزم من الفضل الاستعلاء بالباطل، كما لا يلزم من التساوي في ميزان المنافسة إلغاء الفضائل والمنازل، فتنبه لهذا. وإن من قرأ القرآن وحفظ السنة وتعلم أحكام الشريعة ليدرك طبيعة العلاقة الوطيدة بين العرب والإسلام، لا يماري في هذا إلا جاهل، ولقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين مِلَة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين مِلَة – يعني الأهواء – كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تَجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لَغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به"[12]، فالشاهد هنا خطابه صلى الله عليه وسلم للعرب وحثهم على الأخذ بهذا الدين بقوة ليكون ذلك حادياً لغيرهم أن يأخذوا به، وذلك أنه لا عذر للعرب في عدم فهم مقتضى الخطاب القرآني كما تقدم في كلام الإمام الطبري رحمه الله، فهم أحرى الناس بالفهم لعربية لسانهم، ولئن كانوا أحرى بالفهم فهم أحرى بالعمل لا ريب، ولقد دلت النصوص الشرعية على ابتداء خطاب الرسالة للعرب كما تقدم معنا قول الله عز وجل: {(وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لِتُنذرَ أمَّ القُرى ومَن حولها وتنذرَ يوم الجَمْع لا ريب فيه فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير)} [13] ، قال الإمام الطبري رحمه الله:"يقول تعالى ذكره: وهكذا (أوحينا إليك) يا محمد صلى الله عليه وسلم (قرآناً عربياً) بلسان العرب، لأن الذين أرسلتك إليهم قومٌ عرب، فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، لأنا لا نرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم، (لتنذر أم القرى) وهي مكة (ومن حولها) يقول : ومن حول أم القرى من سائر للناس"[14].
فيا أيها العربي الذي أكرمك الله باصطفاء خير الأنبياء وخاتمهم من العرب، وخَصَّك بطبيعةِ هي أقوى الطبائع البشرية تحملاً لخصائص الكتاب الذي جعله مهيمناً على سائر الكتب، هلّا نظرت حولك فترى من جديد ألوية للردة تُعقد تنتظر من يقمعها، وعروشاً للطغاة تتمدد تنتظر من يحطمها، وفئامٍ من المستضعفين تتزايد تنتظر من يغيثها فينصرها، ثم هلّا عالجت لسانك فقومت ما فيه من لَحنٍ وعُجمة، فعقلت عن خطاب ربك وسنة نبيك ما ينفخ الروح في جسدك الهامد، فإذا بك وقد تحملت كتابَ ربك فأقمت ما فيه من التوحيد والأحكام، وأخذت حظك من ميراث نبيك فاقتديت به وهديت غيرك إليه، فإن العالم اليوم محتاجٌ إليك لتحمل شعلة القرآن وسنة النبي العدنان فتؤسس توحيداً، وتقيم عدلاً، وتزيل طاغيةً، وتقمع ملحداً، وتغيث ملهوفاً، وتنصر مستضعفاً، وتطعم جائعاً، وتستر عورةً، وتُؤَمن خائفاً، وتُسمع جاهلاً، فتلقى ربك وهو عنك راض وأنت عنه راض، وهذا والله هو العربي...
وكتب/ وسيم فتح الله
رجب 1443 هجرية

[1] سورة الشعراء – 192-195

[2] سورة الشعراء - 5

[3] سورة الشعراء - 6

[4] تفسير الطبرى بتصرف يسير

[5] سورة الشعراء – 198-199

[6] المفردات في غريب القرآن

[7] تفسير الطبري بتصرف واختصار يسيرين

[8] سورة فصلت - 44

[9] تفسير الطبري

[10] سورة الشورى - 7

[11] اقتضاء الصراط المستقيم – باختصار يسير


[12] مسند الإمام أحمد – حديث 16876

[13] سورة الشورى – 7

[14] تفسير الطبري