تاريخ فلسطين قبْل الإسلام كما يرويه المؤرخون









كتبه/ أحمد عبد الحميد عنوز


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فحينما نتعامل مع تاريخ "فلسطين"؛ فإننا نتعامل مع مادة شديدة الثراء، ويكون مِن عدم الموضوعية الادعاء بالوصول إلى نتائج عميقة شبه قطعية دون تكلُّف النظر العميق والتحليل، وفك الأحداث وإعادة تركيبها وضمها إلى بعضها مستخلصين مجموعة مِن النتائج المفيدة في فهم القضية.

لذا فإننا سنمر مرورًا سريعًا على تاريخ فلسطين كما رواه المؤرخون؛ لنعرف ما يقول القوم، ومِن أي خلفية يتحركون، وسنقف وقتًا أطول مع التاريخ الذي رواه المسلمون عن هذه البلاد، ومنه بالقطع وقائع ثابتة منقولة عن الثقات، ومنه ما ثبت بالوحي المعصوم.

وسيكون كل ذلك بلا ادعاء متكلف كما يفعل البعض مِن جمع بعض القصاصات إلى بعضها، ثم التفاخر -مثلاً- بأنه توصل إلى حقائق تاريخيةٍ مِن شأنها أن تقلب الصراع العربي الإسرائيلي رأسًا على عقب!

تعتمد أغلب الدارسات التاريخية على نواحٍ مادية مِن حفريات وآثار باقية، ووثائق يمكن الاستئناس بها -كما سبق وبيَّنا-، ولكن دون انتحال نتائجها كمسَلَّماتٍ قطعيةٍ لا تجوز مناقشتها.

ومِن جملة ذلك: أنهم يقسِّمون التاريخ القديم إلى عصورٍ باعتبار نوع المادة التي صُنعت منها الآلات المستخدمة فيه: "كالعصر الحجري - والبرونزي - والحديدي - والنحاسي".

ولا عجب أن تجد في بلاد فلسطين مجموعة مِن الآثار التي تدل وفق قواعد الدارسين الغربيين على وجود حياة في هذه البقاع فيما يسمَّى بالعصر الحجري القديم، منذ 500 ألف سنة قبْل الميلاد، والرقم كما ترى به نوع مِن المجازفة التي تُلقي عليه بظلال الشك -كما سبق وبيَّنا-؛ فلا طائل إذن مِن مجرد الوقوف مع معلومات كهذه، ولنقفز إلى تاريخ أقرب نوعًا؛ وهو بدايات الألف الثالثة قبْل الميلاد حيث تدور أغلب نتائج الدراسات حول هجرة العديد مِن القبائل والبطون العربية وغيرها إلى بلاد الشام، حيث كانت البلاد -ولا زالت- تنعم بأنواعٍ مِن الخيرات جمة.

وممن يُذكر اسمهم في هذه الهجرات: "العموريون - والكنعانيون - واليبوسيون"، ويرى كثيرٌ مِن المؤرخين أنهم مِن البطون والقبائل العربية، وأن مدينة "القدس" القديمة أنشأها "اليبوسيون" وأسموها: "يبوس"، ثم حولوا اسمها إلى: "أور سالم" وهو مِن ملوكهم، وهو الاسم الذي تحول بعد ذلك إلى "أور شاليم"، أي "مدينة سالم" أو "مدينة السلام".

و"كنعان" هو جد بطن مِن بطون العرب القديمة، وتشير كتب أهل الكتاب إلى أنه الابن الهالك لنوح -عليه الصلاة والسلام-، والذي يشار إليه أحيانًا باسم "يام"، وليس "كنعان".

ويبدو أن القبائل الكنعانية هي أكثر مِن استوطن "فلسطين" وشكلت سكانها الأصليين؛ بحيث عُرفتْ فلسطين باسم أرض كنعان، والتي مِن مدنها القديمة المعروفة مدن: "القدس - وأريحا - وبلاطة - ونابلس - وعسقلان - وحيفا - وغيرها... "، وإلى هذا يستند مَن ينادون بعروبة فلسطين، وأن سكانها الأصليين هم العرب، وأن بني إسرائيل هم مَن طرأوا عليهم بعد ذلك؛ مما يعطي للموضوع طابعًا قوميًّا وطنيًّا، بينما يدور كلام اليهود أن الأرض وعد إلهي لشعبٍ مختارٍ؛ مما يعطي الأمر طابعًا دينيًّا ينتحله حتى العلمانيون مِن اليهود.

ومما يُذكر ضمن أحداث الألف الثانية قبْل الميلاد، هو صعود وهبوط حكم الهكسوس على هذه البلاد، وانتهاء الأمر إلى حكم الفراعنة.

وكذلك مِن أهم أحداثها: هجرة قبائل مِن العمالقة أقوياء الأجساد، متطوري الأدوات الحضارية والحربية، جاءتْ مِن جزيرة "كريت" في البحر المتوسط لتسكن أرض كنعان وتستقر فيها، وتترك فيها آثارًا تشير إلى أن هذه القبائل كانت تُدعى "البلست"؛ مما يشير إلى السبب في تغلب اسم "فلسطين" على هذه الأرض بعد ذلك.

وهنا نبيِّن أمرًا يوضِّح لنا طبيعة هذه الدراسات حتى يمكننا القياس على هذا النموذج: إن السبب الذي دعا المؤرخين للتأكيد على وجود قبائل "البلست" هذه في أرض فلسطين، ومِن ثَمَّ استنتاج سبب التسمية بفلسطين على غير الشائع قديمًا؛ هو ما عثر عليه مِن آثار في بلاد فلسطين وتطابقها مع آثار عُثر عليها في هذه الجزر المتوسطية، كجزيرة: "كريت"، ومِن أهم هذه الآثار: "الأواني الفخارية المستخدمة"؛ مما رجح عندهم حدوث هذا الانتقال مِن جزر المتوسط إلى أرض كنعان.

وبشيءٍ مِن النظر يمكنك الوصول إلى احتمالاتٍ أخرى توضِّح سبب التواجد المشترك لهذه الأدوات في الأرضين، ومنها التبادل التجاري فحسب -على سبيل المثال-، بل وبسهولةٍ شديدةٍ يمكنك أن تقلب الصورة وتدعي بأن الحضارة في أرض كنعان كانت أقوى وأكثر تقدمًا، ومِن هذه البلاد خرجت قوات غازية؛ فاحتلت جزر المتوسط، ونشرت فيها ثقافتها، ومنها صدرتها إلى بقية بلاد الرومان.

وما سبق هو مجرد نموذج لما تسير عليه الخلافات التاريخية التي لا تستند إلى حقائق محترمة موثوق بها؛ لذا لا تملك أمام كثيرٍ مِن هذه المعلومات إلا أن تقول: "ربما!".

ومِن أبرز أحداث هذه الفترة: قدوم إبراهيم ولوط -عليها الصلاة والسلام- إلى أرض فلسطين بعد هجرتهما لقومهما، حيث وعد الله إبراهيم -عليه السلام- أن يكثِر ذريته، وأن يملكها الأرض لتعبده عليها، ومَن كفر؛ فإن الله غني عن العالمين.

وهذا هو الوعد الذي يستند إليه اليهود في أحقيتهم بالأرض بغض النظر: هل هم مستحقون له بالفعل أم أنهم ممن كفر بالله، واستغنى الله عنه؟!

وكذلك مِن أبرز أحداث هذه الفترة: بناء الكعبة، وبيت المقدس على الخلاف المعروف: فيمَن يعتبر أول مَن بنى الكعبة، وبيت المقدس؟ ومَن رفعهما بعد ذلك، أو جددهما وأعاد بناءهما؟ ومتى حدث كل ذلك؟

ثم تأتي الألف الأولى قبْل الميلاد، وفيها تتضح الأحداث بعض الشيء، وتزداد الدلائل التاريخية وضوحًا مقارنة بما سبق، ومِن أبرز أحداث هذه الألف: قيادة موسى -عليه الصلاة والسلام- لبني إسرائيل للخروج مِن مصر، والدخول إلى الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، والتي كان يسكنها الجبارون "البالست"، ويقص علينا القرآن كيف امتنع اليهود عن دخول الأرض المقدسة ونكصوا عن أمر نبيهم، وقالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24).

ثم الدخول الفعلي لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد موسى -عليه الصلاة والسلام-، ثم قيام مملكة داود -عليه الصلاة والسلام-، والذي يعتبره اليهود المؤسس الحقيقي لدولتهم على أرض فلسطين؛ حيث فتح "القدس"، وحررها مِن أيدي الكفرة والمرتدين، وأعد العدة ليبني "بيت المقدس" مرة أخرى، ولكنه قُضي قبْل أن يتمه؛ فعهد به إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام- ليتمه على أحسن وجه ليكون مسجدًا لله -سبحانه-، لكن مع الآلة الدعائية الصهيونية يتحول اسم المسجد إلى الهيكل أو المعبد أو خيمة الاجتماع؛ بحيث تطغى هذه المسميات على أدبيات وصف "الصراع" بيْن اليهود والمسلمين.

ثم تتوالى الأحداث بعد ذلك بصورة يمكن الاقتراب منها أكثر حيث قرب العهد -ولو نسبيًّا-؛ بالإضافة إلى توفر المدونات التاريخية، والتي مِن بينها: "التوراة المحرفة" التي تداولها اليهود، والتي تعد مرجعًا لكثيرٍ ممن تصدَّى لدراسة التاريخ.

وهنا -أيضًا- نموذج آخر لطبيعة خلافات دارسي التاريخ؛ حيث يميل بعضهم إلى التصديق التام لكل الأساطير المكذوبة التي وردتْ في "التوراة المحرفة" إيمانًا بها، ومحاولةً للاستدلال عليها بالأدلة المحايدة، في الوقت الذي يذهب الكثيرون إلى إنكار أكثر ما جاء فيها بما في ذلك القصص الثابت بالفعل، كقصة حبس الشمس لـ"يوشع بن نون" باعتبارها أسطورة أخرى أضافها بنو إسرائيل تمجيدًا لملوكهم وقادتهم!

وأخيرًا: فبعد موت سليمان -عليه الصلاة والسلام- دخل بنو إسرائيل مرحلة الانقسامات السياسية، والردة الدينية المتكررة حتى دخلتْ فلسطين تحت حكم الآشوريين القادمين مِن العراق ثم مِن بعدهم البابليين، ومرحلة السبي البابلي، ثم الفرس، ثم اليونان، ثم السلوقيين، ثم في النهاية الرومان حوالي عام 64 ق.م؛ الذين ظل حكمهم على فلسطين ومصر، إلى أن جاء النور على أيدي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عن أصحابه؛ فأزالوا الرجس عن هذه البلاد في عام 636م.

وفي هذه الفترات التي تعاقبتْ فيها الإمبراطوريات المختلفة على فلسطين تعرضت البلاد والمسجد الأقصى إلى التدمير والإحراق والتخريب أكثر مِن مرة؛ بحيث لم تسلم بقعة مِن هذه الأرض مِن تغيير معالمها وسكانها واسمها، وكان أبرز هذه التخريبات: ما وقع على يد الإمبراطور الروماني "هادريان" حوالي عام 130م حيث خرَّب مدينة "القدس" كلها، وغيـَّر اسمها إلى إيلياء، وهو مِن كلمة "إيليوس" وهو لقب عائلة هادريان.


وقد أقام فيها هادريان معبدًا وثنيًّا لـ"جوبيتر" إله الرومان الرئيسي في نفس مكان المسجد، أو ما كان يسميه اليهود الهيكل الذي بناه سليمان -عليه الصلاة والسلام-.