من أسباب السقوط والانتكاس


أمين صادق الرفاعي


في ضجيج الحياة وفتنها المتلاطمة، تختطف القلوب، وتختلط الأوراق، ويفقد الإنسان ذاته، ومبادئه، وأولوياته، يفقد أغلى ما يملك ألا وهو دينه، واستقامته، ورفقته الصالحة، ومصلاه الذي يحن له، كل هذا يحصل وأكثر إذا وكلك الله إلى نفسك ولم يتداركك برحمته وفضله.

لكن ثمة أسبابا لهذا الاختطاف وهذا السقوط وتلكم الانتكاسة، منها ما ذكره الله -تبارك و-تعالى-- في سورة محمد فقال -تعالى- في آية توجل منها القلوب وترتعد منها الأفئدة فقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (محمد:٢٥)، تأمل إلى قوله -سبحانه-: {ارتدوا على أدبارهم}، أي رجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام وقبل الهداية وقبل الاستقامة، وهذا الرجوع كان بعد ما تبين لهم الهدى، بعد أن عرفوا الحق وعاينوا الآيات وجلسوا في مجالس الذكر، بل وربما حضروا وحاضروا، وجلسوا وجالسوا، وتبين لهم الهدى والإسلام والقرآن، لكنهم تخلوا عن هذا وتراجعوا، وتركوا مواقعهم بعد ما تبين لهم الهدى، وغادروا أماكن رباطهم، واستسلموا لما يمليه عليهم شياطين الإنس والجن، افتتنوا بالإغراءات، وانجرفوا وراء الشهوات والشبهات، تركوا المبادئ والقيم، والسبب في هذا بينه الله في هذا الاستئناف البياني فقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}.



من أسباب السقوط

هؤلاء الذين عرفوا تعاليم الإسلام وطريق الهداية، تنازلوا عن شيء من مبادئهم، وقيمهم وأخلاقهم، ربما بحجة التقارب أو السماحة أو الموازنة، وهذه الكلمات وإن كان لها معان صحيحة لكنها لا تجوز إذا كانت على حساب الدين والثوابت؛ ولهذا قال الله: {والله يعلم إسرارهم}، وفي قراءة بالفتح أسرارهم أي بواطنهم، قد يبطن بعضهم في نفسه شيئا من بقايا ما قبل الهداية، فيرتد لها بسبب ما يمليه الشيطان، ويبحث عن مخرج وعلة، ويطيع بذلك أعداء الله، فيكون هذا سببًا للسقوط والانتكاس.

موافقة الجهال وعوام الناس

وكذلك موافقة الجهال وعوام الناس على حساب شيء من دينك أو قيمك أو مبادئك سيكون من أعظم أسباب الانتكاس والسقوط عياذا بالله، لا يظن المسلم أن الموافقة والتنازل عن القيم والمبادئ لا يسقطه، سيسقطه من نظر الله أولا ثم من أعين الناس الذين سعى لإرضائهم؛ لأن سبب هذا السقوط الموافقة لأولئك الذين لم يسكن الرضا بشرع الله نفوسهم، ولم يسكن حب القرآن قلوبهم، بل هم في حيرة وشك وكره لما أنزل الله، انطوت على ذلك نفوسهم وإن لم يظهروا ولم يصرحوا لكن أفعالهم تقول ذلك، ومحاربتهم للفضيلة ونشرهم للمنكرات، وترسيمهم للمعاصي، ودعوتهم إليها بصور شتى ومتعددة تدل على ذلك، قال الله -تعالى-: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.

تأمل هذه الآيات

يقول الشنقيطي -رحمه الله تعالى-: «والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله»؛ ثم قال -رحمه الله-: «وهنا مسألة:اعلم أن كل مسلم، يجب عليه في هذا الزمان، تأمُل هذه الآيات، من سورة محمد وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد، لأن كثيرًا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد، ولأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي -صلى الله عليه وسلم - من السنن، فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية، وأحرى من ذلك من يقول لهم: سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم من تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم، فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: {سنطيعكم في بعض الأمر}!» انتهى.

الحذر من أسباب السقوط

فعلى المسلم عموما وعلى الداعية والمربي خصوصًا، أنْ يحذر من أسباب السقوط والانتكاس ولا سيما النوايا الفاسدة، وعدم الصدق مع الله، والتنازل عن بعض الثوابت، بحجة الانفتاح والوسطية والتقارب، واليوم أسمع لهم وغدا يسمعون لي، فيبدأ بالتنازل قليلاً قليلاً إذا لم يثبته الله، وكم رأينا كثيرا ممن سقطوا ! نسأل الله العافية والسلامة، فلنثبت على إسلامنا ومبادئنا ولو أن يبقى المسلم وحده، فالنصر نصر المبادئ والقيم أولا قال -تعالى- عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {إلا تنصروه فقد نصره الله}، فسماه الله نصرًا وهو - صلى الله عليه وسلم - في الغار وقريش تطارده، وكذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - عرضت عليه الدنيا والملك والسيادة والمال مقابل أن يترك ما هو عليه، فلم يتنازل؛ لأن هذا دين الله، وشرعه، ولا مجال فيه للمحاباة أو المجاملة أو المداهنة، فلما جاءه عتبة بن ربيعة كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا العرض: {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فُصّلَتْ: 1 - 5)، ومضى يقرأ عليه إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال: بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.


أتدرون لماذا رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به؛ لأن الحق يزهق الباطل، يرهقه، يبعثره، ويمحوه، الحق شرف لحامله، وقوة له وعزة وثبات، فكيف يتخلى المسلم عن هذه القوة وهذا الثبات؟ وكيف يطيب العيش في وحل الغفلة والتردي والسقوط؟.