موقف الشريعة... من الآثار المدمرة للحروب


وائل رمضان





عندما تنتهي الحرب نقول «وضعت الحرب أوزارها» كناية عن وضع المتقاتلين أسلحتهم أرضًا والكف عن القتال، ولكن من جرب الحرب وابتلي بها يعرف أن لها أوزارًا أثقل من الأسلحة، وزر الرحيل عن الوطن، ووزر فقدان الأحباء، ووزر الألم النفسي المرير الناتج عن ألم التجربة، فضلاً عن الأضرار والآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ففي قلوب من عاش الحرب، تضع الحرب أوزارها في تلك القلوب سنوات بعد سنوات.

والحرب ظاهرة بشرية قديمة قدم الحياة، وموجودة منذ الأزل، كما أنَّ الحروب كانت في أولها محدودة وبسيطة في دوافعها وأدواتها وآثارها المادية والمعنوية، لكنها أخذت طابعًا متصاعدًا في شدة عنفها والمشاركين فيها، ففي القدم كانت الحروب في الغالب بين قبيلتين على مصدر ماء أو مكان صيد، ولكنها تطورت الآن لتكون حروبًا بين كبرى الدول أو بالوكالة أو حتى إقليمية وعالمية مكلفة.

نتائج كارثية

وللحروب نتائج كارثية؛ فالمنتصر فيها يكون متضررًا قبل المهزوم، فالحرب العالمية الأولى أدَّت إلى نتائج كارثية؛ من حيث الخسائر المادية والبشرية للدول المتنازعة، فقد قُتل في هذه الحرب ما يقارب من عشرة ملايين جندي، وجُرح ما يزيد على عشرين مليون جندي أيضًا، وفُقد من العسكريين أكثر من سبعة ملايين جندي، أمَّا من الناحية المادية فخسائر الحرب العالمية الأولى كانت على الأراضي التي وقعت فيها الحروب والنزاعات، فضلا عن المدن التي تعرَّضت للتدمير الوحشي الأعمى، كما تعرَّضت شبكات السكك الحديدية إلى أضرار كبيرة، ودُمر عدد كبير من المصانع الحربية والمدنية، فكانت تكلفة إعادة الإعمار باهظة الثمن بعد الحرب، وفي الحرب العالمية الثانية دُمّرت مدن بل دول بأكملها، وبحسب بعض التقديرات وصل عدد القتلى إلى حوالي 80 مليون قتيل من المدنيين والعسكريين، وأضعافهم من الجرحى والمشردين، وخرج الناس بإعاقات لازمتهم طيلة حياتهم.






آثار بعيدة المدى

والملفت للنظر أن كل هذه النتائج المادية يمكن إحصاؤها وتقييمها، وعلاجها أو على الأقل إعادة استيعاب المتضررين بسببها، ولكن في المقابل هناك آثار خطيرة لتلك الحروب لا يمكن إحصاؤها ودراستها بسهولة، فهي غير واضحة للجميع، وهي الآثار النفسية لتلك الحروب التي لا يلاحظها ولا يتفطن لها إلا الدارسون والناظرون بعين البصيرة إلى الحروب وآثارها، ففي كل الحروب تستباح الحرمات، وتتجاوز الأطراف المتصارعة كل الخطوط الحمراء، ويرتكب من الجرائم الجسدية والجنسية، وما إلى ذلك ما يشيب له الولدان، وتقشعر منها الأبدان، كما تبرز المشكلات والأمراض النفسية بعد كل حرب بسبب ما نسميه الصدمات النفسية، وهي حالة من الضغط النفسي ذات مصدر خارجي، تتجاوز قدرة الإنسان على التحمل، وهي في الغالب نتيجة تعرض الإنسان لخطر مفاجئ، أو رؤية مشهد مفزع، أو سماع خبر مفجع، ولهذا السبب يمنع مشاهدة المقاطع الصادمة في الأفلام كالقتل ومشاهد التفجير… وإلخ، فكيف بمن رآها ماثلة أمام عينيه؟.

آثار الحـروب المدمرة على الأطفال

يمكن أن تتسبب النزاعات المعاصرة في آثار مدمرة على الأطفال الذين يتعرضون للقتل أو التشويه أو يسجنون أو يجنّدون في صفوف القوات أو الجماعات المسلحة، أو يقعون ضحية الاعتداء الجنسي، أو الاستغلال أو الاتجار بهم، وتمزق النزاعات شمل العائلات، وتترك الآلاف من الأطفال وحيدين لإعالة أنفسهم وأشقائهم، ويمكن أن تتسبب النزاعات المعاصرة إلى آثار مدمرة على الأطفال الذين يتعرضون للقتل أو التشويه أو يسجنون أو يجنّدون في صفوف القوات أو الجماعات المسلحة، وتشير التقديرات إلى أن عدد الأطفال الذين أجبرهم النزاع على الفرار من ديارهم وأصبحوا لاجئين أو نازحين بلغ في عام 2008 حوالي 18 مليون طفل.

ويحتاج الأطفال إلى الرعاية والحماية التي يؤمنهما العيش داخل أسرتهم ومجتمعهم المحلي، وحين ينفصل الأطفال عن عائلاتهم يصبحون عرضة لأشد المخاطر، مثل الإهمال أو الاستغلال أو سوء المعاملة أو التبني غير المشروع أو الاتجار بهم، ويظل بقاء الرضع والأطفال الصغار محفوفاً بالمخاطر، في حين تعد الفتيات أكثر عرضة للاعتداء الجنسي والزواج المبكر.

الأطفال أكثر ضحايا الألغام

وغالبًا ما تترك الألغام الأرضية والقنابل العنقودية ومخلفات الحرب القابلة للانفجار إرثاً خفيا ولكنه إرث قاتل، ويكون تهديداً في أكثر من 70 بلداً، والغالبية الساحقة من ضحايا مخلفات الحرب القابلة للانفجار هم من المدنيين، وتشير التقديرات إلى أن حوالي الثلث من ضحايا الألغام ومخلفات الحرب القابلة للانفجار في أنحاء العالم هم من الأطفال.






آثار الحـروب المدمرة على النساء

نسبة 90 في المئة من ضحايا الحروب هم من المدنيين، وجل هؤلاء نساء وأطفال؛ إذ يجري تعذيب النساء والفتيات خلال فترات الحروب وجرحهن وإعاقتهن وقتلهن، ويُشردن من منازلهن ويحرمن من الطعام ومن موارد أخرى، وقد يجبرن على الالتحاق بتلك الحروب، تماما كما هو الحال بالنسبة للذكور، وفي كثير من الصراعات المسلحة يجري اغتصاب النساء والبنات بوصفه تكتيكا حربيا، كما أن مشاهدتهن لأعمال العنف، ومقتل الأحباء أمام أعينهن، وفقدان الممتلكات، أمور تحدث صدمة شديدة بالنسبة لهن، كما أن التداعيات النفسية والآثار البدنية لمثل هذه المحن يمكن أن تستمر لفترات طويلة بعد انتهاء الحرب.

أضرار جسيمة ودائمة

كما أن تداعيات الصراعات المسلحة وأثرها على النساء والفتيات تتفاقم بفعل ضعفهن الاجتماعي، كما أن الضرر الذي يلحق بهن لا يستهان به، فقد بينت بحوث أن انهيار المنظومة الاجتماعية يؤثر على النساء بطريقة أكثر سلبية منه على الرجال، والعدو ينظر إلى النساء بوصفهن أهدافا رئيسة ويستغللن بسبب المسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتقهن بوصفهن أمهات، وغالبًا ما يلجأ العدو للعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والزواج القسري وتجارة البشر لغرض إضعاف أية مقاومة تعترض طريقه.






الحرب في الإسلام أسبابها وأهدافها

السلم هو الأصل في دين الإسلام العظيم، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُ أصحابه ويوجِّههُم فيقول لهم مربيًا: «لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ...» فالمسلم بطبيعة تربيته الأخلاقية التي يتربَّى عليها من خلال القرآن الكريم وسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ القتل والدماء، ومن ثَمَّ فهو لا يبدأ أحدًا بقتال، بل إنه يسعى بِكُلِّ الطرائق لتَجَنُّبِ القتال وسفك الدماء، وفي آيات القرآن الكريم ما يُؤَيِّد هذا المعنى جيِّدًا، فالإذن بالقتال لم يأتِ إلاَّ بعد أن بُدِئَ المسلمون بالحرب، وحينئذٍ لابُدَّ من الدفاع عن النفس والدين، وإلاَّ كان هذا جُبْنًا في الخُلُق، وخورًا في العزيمة، قال الله -تعالى-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} (الحج: 39، 40). وعلَّة القتال واضحة في الآية، وهي أن المسلمين ظُلِموا وأُخرِجوا من ديارهم بغير حقٍّ، ويقول -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ } (البقرة: 190)، يقول القرطبي: هذه الآية أَوَّل آية نَزَلَتْ في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34)، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (المائدة: 13)، وما كان مثله ممَّا نزل بمكة، فلمَّا هاجر إلى المدينة أُمِرَ بالقتال.

ماهية الأمر بالقتال

والملاحَظُ أن الأمر بالقتال هنا إنما جاء لمحاربة مَنْ بدأ بالقتال فقط، دون المسالِم، وجاء التأكيد الشديد على ذلك المعنى بقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُوا}، ثم التحذير للمؤمنين: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ }، فالله -عز وجل- لا يُحِبُّ الاعتداء، ولو كان على غير المسلمين، وفي هذا تحجيم كبير لاستمرار القتال، وهذا فيه ما فيه من الرحمة بالإنسانية جميعًا، ويقول الله -سبحانه-: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً} (التوبة: 36)، فالقتال هنا مقيَّد، وبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرضُ اجتماعِنا لهم، وعِلَّة قتال المشركين كَافَّة أنهم يقاتلون المسلمين كافَّة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يُقَاتِلَ مَنْ لم يقاتِلْه إلاَّ بِعِلَّة واضحة، كَسَلْبٍ أو نهبٍ أو اغتصابٍ لحقوقِ المسلمين، أو بسبب ظلم أوقعوه بأحدٍ، والمسلمون يُرِيدون رفع هذا الظلم، أو بسبب منعهم للمسلمين من نَشْرِ دينهم، أو إيصال هذا الدين للآخرين.

ومثل الآية السابقة يقول الله -تعالى- أيضًا: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُم ْ فَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 13)، والمقصود بمن نكثوا أيمانهم كُفَّار مكة، وكان منهم سبب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضيف الإخراج إليهم، وقيل: أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي منهم، وعن الحسن: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} بالقتال، {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي نقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بَدْر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج للعِيرِ، ولمَّا أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلاَّ الوصول إلى بدر، وشُرْب الخمر بها.. وقيل: إخراجهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم، وبقطع النظر عن حقيقة متى كانت البداية، فإن عِلَّة القتال عند المسلمين واضحة، وهي أن أعداءهم بدؤوهم بالقتال.




زمن الخلفاء الراشدين

فهذه هي الأسباب والدوافع التي تدعو المسلمين إلى الحرب، وواقع المسلمين في زمان الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُصَدِّق ذلك؛ فالمسلمون في فتوحاتهم لم يُقَاتِلوا أو يَقْتُلُوا كل المشركين الذين قابلوهم في هذه الفتوحات، بل على العكس لم يقاتلوا إلاَّ مَنْ قاتلهم من جيش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المشركين على دينهم.

وهي -كما نرى- أسباب ودوافع لا يُنْكرها منصف، ولا يعترض عليها محايد؛ فهي تشمل رَدَّ العدوان، والدفاع عن النفس والأهل والوطن والدين، وكذلك تأمين الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم، وأيضًا حماية الدعوة حتى تُبَلَّغ للناس جميعًا، وأخيرًا تأديب ناكثي العهد، ومَنْ في العالم يُنْكِرُ مثل هذه الأسباب والأهداف للحرب؟

عصمة الدماء والأموال

يقول محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله-: من لوازم الحرب سفك الدماء، والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلا بحقها، وليست عصمة الدماء خاصة بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مثلهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم: (الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته، والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل، والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل)، فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين، ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلا بحقه، وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه، أو الذمي ومن معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله، فإذا سفك دم غيره عدوًا بغير حق، استُبيح دمه، ورُفعت العصمة عنه بما كسبت يداه، وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أُخِذ من ماله بقدره من غير زيادة ولا إجحاف ولا ظلم.

الحرب مفسدة

والإسلام في أعلى مقاصده يعد الحرب مفسدة لا تُرتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأول مفسدة شُرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية، ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوة، ولو أن قريشًا لم تقف في طريق الدعوة المحمدية، وتركوها تجري إلى غايتها بالإقناع لما قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم بدؤوها بالعدوان والتقبيح، والحيلولة بينها وبين بقية العرب، والقعود بكل صراط لصدِّ الناس عنها.

من اللطائف الحكمية

ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة (شرع) أو (وجب) أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا ولا صلاحًا سرمدًا، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًّا آخر.

ومما وقر في نفوس البشر أن بعض الشرور لا تُدفع بالخير، ولا تنقصم إلا بشرٍّ آخر، وإذا كانت الأحكام على الأشياء بعواقبها وآثارها، فإن الشرَّ الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيرًا كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن، وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين، كما يؤثر عن الإمام مالك، قال -تعالى-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ..} (الحج: 39، 40)، ففي قوله -تعالى-: {يُقَاتَلُونَ} وفي قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وفي قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام، تُحمل عليها نظائرها في كل زمان.

شرعت الحرب في الإسلام، أي أُذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها، وتحدُّ أولها وآخرها، وتخفف من شرورها، وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال وتعدي الحدود.






الرحمة الشاملة

وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرنًا، إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يدعونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية إلا كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل، فما أعظم ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء وبقر بطونهن على الأجنة، ومن قتل الصبيان والعجزة، وهدم البيوت بالقنابل الجوية والمدافع الأرضية على مَن فيها، ومِن هدم المعابد، ومن تسميم المياه والأجواء، وإحراق الناس أحياء، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام؟ والإسلام يعد السلم هو القاعدة، والحرب شذوذا عن القاعدة؛ لأن الإسلام دين عدل ورحمة وعمران وعصمة فيما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنسب.



تحريم البغي والعدوان


لو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلا قوانينه الحربية، لكان مقنعا للمنصفين باعتناقه؛ ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالح المادية، والعداوة من عمل الشيطان، يوقعها بين أبناء آدم ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها، ولا رحمة فيها، ولا عدل معها، فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذبة للفطرة المشذِّبة للحيوانية، فحدَّدت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا، وحرَّمت البغي والعدوان، وقيَّدتها بقوانين هي خلاصة العدل ولبابه، حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق لتترك الراحة والاطمئنان العمر كله.





حرص الإسلام على السِّلْم


ولحرص الإسلام على السِّلْم جاءت آية الأنفال آمرة بالجنوح له كلما جنح له العدو؛ حتى لا يُسبق المسلمون إلى فضيلة، والإسلام يأمر بالوفاء لذاته، ويجعله من آيات الإيمان، وينهى عن الغدر، ويجعله شعبة من النفاق، ويأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق، والتساهل في الفضائل، يقول -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (النحل: 91)، ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (الأنفال: 72)، ويقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال:58).





تحريم التعذيب والتشويه والمثلة


حرَّم الإسلام التعذيب والتشويه والمثلة في الحرب، وأوصى بالأسرى خيرًا، حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله، وأمر بألَّا يُقتل إلا المقاتل أو المحرض على القتال، أو المظاهر على المسلمين، ونهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهرمى والقعدة والرهبان المنقطعين في الصوامع، ونهى عن عقر الحيوان المنتفع به، ونهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها، وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة، وليس تشريعا عاما للتشفي والانتقام، ووصية أبي بكر - رضي الله عنه - للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب، وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة.