{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً}


د. أمير الحداد




من القواعد الأساسية في صفات الله -عز وجل- أنها جميعا صفات كمال وجلال وعزة، وهي صفات تليق برب العزة والجلال، ولا تشبه صفات المخلوقين في شيء، مثلا (علم الله)، يليق بجلاله ولا يقارن بعلم البشر، و(سمع الله) يليق بجلاله -سبحانه- ولا يقارن بسمع المخلوقات، وكذلك (بصر الله)، و(قوة الله)، (حكمة الله) و(رأفة الله)، مع أن الله -عز وجل- وصف بعض مخلوقاته بهذه الصفات، مثل قوله -عز وجل-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128)، ولكن لا مقارنة بين (رأفة الله) و(رحمة الله)، ورأفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورحمته.
ومثل قوله -عز وجل- (العليم) ومن صفاته (العلم)، ولكن لا مقارنة بين علم الله وعلم (اسحاق) و(اسماعيل)، وقوله -تعالى-: {فبشرناه بغلام حليم} (الصافات:101)، وذات الشيء يقال لصفة (الحلم)، فإن الله -عز وجل- من أسمائه (الحليم)، ومن صفاته (الحلم) ولكن لا مقارنة. والقاعدة الشاملة المختصرة في ذلك قول الله -تعالى-: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشوري:11). وهذه الصفات لله -عز وجل- مطلقة، غير مقيدة بزمان ولا مكان؛ لأنها صفات للذات الإلهية -سبحانه وتعالى. وهناك صفات لله تتعلق بالمخلوقين.
مثل (معية الله)، كقوله -تعالى-: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل:128)، ومثل قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه معية تأييد وحفظ ونصر، أما قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7)، فهذه معية علم واطلاع، وفيها تحذير لأهل النجوى المنهي عنها.
وهناك صفات لا تكون إلا مع من يستحقها، مثل (الكيد) و(الخداع)، و(المكر)، وبيان ذلك في هذه الآيات من سورة الطارق، تعال نتدبر تفسيرا. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الوطن). بعد أن أقسم -سبحانه- على أن القرآن قول فصل وما هو بالهزل، مثل قولهم: هو هزل أو هذيان أو سحر، بين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود، فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهم إنما يصرفهم عن الإيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعللات الملفقة.
والتأكيد بـ(إن) في (إنهم) لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله: {وأكيد كيداً} إنذار لهم حين يسمعونه.
ويجوز أن يكون قوله: {إنهم يكيدون كيدا} موجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء القرآن، أي إنما يدعون أنه هذل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذبا على نحو قوله -تعالى-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33). أي أن المشركين المكذبين (يكيدون كيدا). وجملة: {وأكيد كيدا} تثبيت للرسول - صلى الله عليه وسلم - ووعد بالنصر. و{كيدا} في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم.
والكيد: إخفاء قصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته، وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإِمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة، وهو من صفات العزيز الجبار المختصة بمن يستحقها ومن باب (الجزاء من جنس العمل).
شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسَّنها محسن المشاكلة. وقوله -عز وجل-: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}. الفاء: للإمهال على مجموع الكلام السابق من قوله: {إنه لقول الفصل} بما فيه من تصريح وتعريض وتبيين ووعد بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة.
والتمهيل: مثل مهل بمعنى أمهل، وهو الإنظار إلى وقت معين أو غير معين، فالجمع بين (مهل) و(أمهلهم) تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير.
ومهل وأمهل: بمعنى، مثل نزل وأنزل، وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة، والاستمهال: الاستنظار، وتمهل في أمره أي اتأد.
واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب، والاتمهلال أيضا: سكون وفتور، ويقال: مهلا يا فلان، أي رفقا وسكونا، رويدا أي قريبا، عن ابن عباس.
قتادة: قليلا، والتقدير أمهلهم إمهالا قليلا، والرويد في كلام العرب: تصغير رود. والمراد بـ(الكافرين) ما عاد عليهم ضمير (إنهم يكيدون) ليس المراد الكافرين جميعهم بل أريد الكافرون المعهودون.

و(رويدا) تصغير (رود) بضم الراء بعدها واو، هو المهل وعدم العجلة وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مهلة غير طويلة.

و(رويدك): وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رويد عمر، أي أرود عمر، بمعنى أمهله، والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا، والحال نحو قولك: سار القوم رويدا، لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها، والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالإضافة، كقوله -تعالى-: {فضرب الرقاب} (محمد:14)، قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر، أي إمهالا رويدا، ويجوز أن يكون للحال، أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب.
ويجوز أن يكون رويدا هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم: رويدك، ويكون الوقف على قوله: الكافرين و(رويدا) كلاما مستقلا أي تصبر ولا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة.