خطبة المسجد النبوي - التحذير مــــن فاحشة قبيحـــــة ذمـيـمـة


مجلة الفرقان

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 3 رجب 1443 ه الموافق 4 فبراير 2022م، للشيخ د. أحمد بن طالب بن حميد بعنوان التحذير من فاحشة قبيحة ذميمة؛ حيث تحدث فيها عن فطرة الله النقية ومحاولة الشيطان وأتباعه تلويثها، وأن الذنب يعظم إذا ضعفت دواعيه، ثم بيَّن وقاحة فعل قوم لوط وأتباعهم في العصر الحاضر ودناءته ، كما ذكر عقوبات فاحشة إتيان الذكران في الدنيا والآخرة، ثم أشار إلى تربص الكافرين والمنافقين بأمة الإسلام وواجب المسلمين نحو ذلك، وأخيرًا بين الشيخ أحمد بن طالب خطورة تغيير الأسماء والمصطلحات ووجوب الحذر من ذلك.

قال الشيخ ابن حميد في بداية خطبته: إن الله كرَّم البشرية بالنسبة الآدميَّة، وفطَرَها على الحنيفيَّة، وأنزَل عليها لباسَ وقاية الأجساد، ولباس الهدى والتقى والرشاد، وذكرهم فتنة الشيطان للأبوين؛ ليُظهر لهم عداوتَه وخُبث طويته، وما تُورِثُه طاعتُه من الذلة والهوان، وليجلي مراده من الخليقة من ظهور السوآت وكشف العورات، حتى تألفها الطباعُ، فلا يَقنَع أهلُها بفعلها فحسبُ، بل يَدعُونَ إليها، ويَكذِبُون على الله في تزيينها، قال الله -عز وجل-: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الْأَعْرَافِ: 26-30).

عداوة الشيطان المستمرة

وأكد الشيخ ابن حميد أنَّ الشيطان ما زال مع كل أمة ونبيها، يحتنك منهم كالبهائم نصيبَه، ويبثُّ من عرشه جنودَه، ويجتال الخلقَ عن خالقهم، ويُغريهم بالكفر بسبيل الْمُلْك والجاه والمال والعَدَد والعُدَّة والعتاد، {فَاسْتَكْبروا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 39-40).

عظم الذنب

ثم بيَّن أنَّ الذنب يعظم ويَقبُح إذا ضَعُفَتْ دواعيه، كحال الْمَلِك الكذَّاب، والشيخ الزاني، والفقير المستكبِر، فكلُّهم لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فكيف إذا تواطأ قوم على ما لا تدعو الفطرة إليه؟ ولا تدل الطباع عليه؟ وقد قص الله علينا من خبر آل سدوم (قوم لوط) -عليه السلام- من ذلك أسوأ الخبر؛ إذ جمعوا من الكفور فجورًا لم يُسبَقوا إليه، قال الله -عز وجل-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}( الْعَنْكَبُوتِ: 28-30)، فما قبَّح اللهُ فعلًا بعد الكفر كما قبَّح أفعالهم، ولا يُعلَم في كتاب الله جُرمٌ اجتمع فيه الوضاعة والدناءة والنجاسة والمهانة كما اجتمع في فسقهم، مع جرأة ووقاحة وصفاقة، لا تخطئها في أمثالهم إلى يوم الناس هذا، ولكل قوم وارث، وها هم اليوم يُجمِعون أمرهم وشركاءهم وكيدهم ومكرهم وأذاهم على كل مستنكِر لفعالهم، متبرئ من أحوالهم، ولو كان أخا لهم في الكفر، فالفاحشة لهم شريعة، والتطهر في دينهم جريمة، كما قال أسلافهم من قبل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}( النَّمْلِ: 56).

فساد الطباع

وليس الكلام فيمن تنازعته الذكورة والأنوثة، فكان مُشكِل الحال بالتساوي أو بالغلبة، أو بنحو ذلك من الأدواء، فسَلَك في رفع ذلك من مباح الأسباب ما تيسر له، وإنما فيمن فسدت طباعهم، فعدلوا عن الصحيح إلى القبيح، فمَنْ غلَبَت عليه شقوتُه بهذه الفاحشة، فهو على ذنب عظيم، وجُرم جسيم، يُذهِب الدينَ والمروءةَ والخُلُقَ، ويُفسِد الطبع ويُسوِّد الوجهَ والقلبَ، وأمَّا مَنِ استحسَنَه استباحةً واعتقَد حِلَّه، أو سوَّى بينَه وبينَ ما أحلَّ الله، ورجَع حكمه إلى العوائد البشرية، والحرية الشخصية، فهو كُفْر بُواح وردَّة صُراح، يستتاب صاحبها تحت سلطان الشرع، فإن تاب وإلا قتل، هذا وإن لم يكن من أهل تلك الفعلة، كحال امرأة لوط -عليه السلام-، وقل مثل ذلك في اكتفاء النساء بالنساء أجلكم الله.

إن الله استودعكم حواسَّكم

وأضاف الشيخ ابن حميد: إن الله استودعنا حواسَّنا واستأمَنَنا على أسماعنا وأبصارنا، وما ينفعل لها منا، وأودَع صدورنا قلوبًا هي محل نظر ربنا فينا، وإنما يُنقَش في قلوبنا ما نرى وما نسمع، بل وما نذوق وما نمسّ، فانظر أي قلب تستقبل به نظرَ ربِّكَ، واحتَكِمْ إلى ما يَسبِق إليه عفوُ خاطركَ، وتُبادِر إليه غفلة جوارحك، ويدندن به سهو لسانك، فإنه حشو قلبك، ومرآة باطنك، وانظروا إلى مَنْ تحت أيديكم من الأهل والذرية، فإنكم عنهم مسؤولون، وبذلك مجزيون، وها هم أولاء أعداء الطُّهْر يغزونكم ظاهرًا وباطنًا، كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا، وما كانت تلك أُولى معاركهم، ولن تكون آخرتها، فكلما آنَسُوا منكم نزولًا، ازدادوا سُفُولًا، حتى تكونوا في الكفر سواء، فما أنتم فاعلون؟

سنة التدافع

ومَنْ ظنَّ أنه لو تَرَكَ تُرِكَ فهو غافل، فسنة التدافع أن من لم يَدْفَع دُفِعَ، وأن من لم يصرع صرع، وإن عدوك لا يجرؤ عليك ويستمرئ أذيتك حتى يؤنس منك ضَعْفًا أو استجابةً أو غفلةً، ولا نعلم في كتاب الله وخبر الأولينَ عقوبةً كانت أشدَّ ولا أشنعَ من عقوبة قوم لوط -عليه السلام-، مع ما وُصِفُوا به من الإجرام، والفسق، والفُحش، والإفساد، قال الله -عز وجل-: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}(هُودٍ : 78-83).

كرامة أهل الإيمان

ثم أكد الشيخ ابن حميد أنه لا أكرم على الله من أهل الإيمان، ولا أكرم منهم عليه وأقرب إليه من أنبيائه ورسله، فسلم ذواتهم فكملها، وأسماءهم فجملها، وجعل -سبحانه- السلام عليهم لهم شعارا، بين تسبيحه وتحميده، فقال -عز وجلَّ-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(ا لصَّافَّاتِ: 180-182).

العبث بالمصطلحات


وعن العبث بالمصطلحات وتغيير المسميات قال الشيخ ابن حميد: كما أننا لا نسلم لأهل الفاحشة ما تسمَّوْا به مما يستدفعون به الشناعة، ويشوهون الأسماع، ويضللون الأفهام، ويستميلون القلوب، ولَطالَما فعَل العبثُ بالمصطلحات ذلك، فإنا نُسلم اسمَ نبي الله لوط -عليه السلام- من نسبة فعل قومه إليه، فليُنسَبوا إلى كل لفظ شنيع، وفعل قبيح، أو إلى قرية أسلافهم، فهُم سدوميَّة أنجاس، ليسوا من نبي الله في شيء، وإنهم لم يكتفوا بتلويث السمع والأبصار والأفئدة، وإيذاء الخَلْق حسًّا ومعنًى حتى عمدوا إلى آية كونية، وبديعة ربانيَّة، تنشأ مع التقاء الضياء، بنداوة الضياء، فتكتحل الأحداقُ منها بكل لون بهيج، فاتَّخَذُوها لهم شعارًا، مؤتمرينَ بأمر الشيطان الذي قال: {وَلَآمُرَنهم فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ}(النِّسَ اءِ: 119)، فأورَثُوا النفوس من زينة الله نفورًا، بعد أن كانت تملؤها فرحًا وسرورًا، والله -عز وجل- يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الْأَعْرَافِ: 32-33).