الإيمان بالقدر خيره وشره


محمد جميل زينو



هذا هو الركن السادس من أركان الإيمان، ومعناه كما قال الإمام النووي في شرحه لهذا الركن في كتاب (الأربعين النووية):
إن الله -سبحانه وتعالى- قدَّر الأشياء في القِدَم، وعلم -سبحانه وتعالى- أنها ستقع في أوقات معلومة عنده -سبحانه وتعالى- وفي أمكنة معلومة، وهي تقع على حسب ما قدره الله - سبحانه وتعالى.

والإيمان بالقدر على أنواع:
1- التقدير في العلم: "وهو الإيمان بأن الله تعالى قد سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومَن هو منهم مِن أهل الجنة، ومَن هو منهم من أهل النار، وأعدَّ لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجرى على ما سبق في علمه وكتابه". (نقلًا من كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 24).

2- التقدير في اللوح المحفوظ: ذكر ابن كثير في تفسيره نقلًا عن عبد الرحمن بن سلمان قوله: "ما من شيء قضى الله: القرآن فما قبله وما بعده إلا هو في اللوح المحفوظ" (أي هو في الملأ الأعلى). (ج 4/ 497).

3- التقدير في الرحم: وقد ورد في الحديث: " «... ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمَر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد...» ؛ (رواه البخاري ومسلم)..

4- التقدير في المواقيت: "وهو سوق المقادير إلى المواقيت، والله تعالى خلق الخير والشر، وقدر مجيئه إلى العبد في أوقات معلومة؛ (نقلًا من شرح الأربعين حديث للنووي).

من فوائد الإيمان بالقدر:
1- الرضا واليقين والعوض: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإذْنِ اللَّهِ}. [التغابن: 11].
قال ابن عباس: (بأمر الله، يعني عن قدره وقضائه).

وقول تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. [التغابن: 11].

قال ابن كثير في تفسيرها: (أي ومن أصابته مُصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوَّضه عما فاته من الدنيا هدىً في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أُخذ منه أو خيرًا منه، وقال ابن عباس: يَهدِ قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله).

2- تكفير الذنوب: قال صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من وصَب ولا نصَب، ولا سَقم، ولا حزَن حتى الهمِّ يهُمُّهُ إلا كفر الله به سيئاته»؛ (متفق عليه).

3- إعطاء الأجر الكبير: قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 - 157).

4- غنى النفس: قال صلى الله عليه وسلم: " «.. وارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس»؛ (رواه أحمد والترمذي وحسنه محقق جامع الأصول).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العَرض ولكن الغنى غنى النفس»؛ (متفق عليه).

والمشاهد أن كثيرًا ممن يملكون الأموال الطائلة، ولا يرضون بها فيكونون فقراء النفوس، والذي يملك مالًا قليلًا، وهو راضٍ بما قسمه الله بعد الأخذ بالأسباب، فيكون غنيًا بنفسه.

5- عدم الفرح والحزن: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. [الحديد:22 - 23].

(نبرأها: نخلقها، تأسوا: تحزنوا، مختال فخور: متكبر في نفسه فخور على غيره).

قال ابن كثير: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشَرًا وبطرًا، وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبرًا. (انظر ابن كثير جـ 4/ 314).

6- الشجاعة والإقدام: إن الذي يؤمن بالقدر يكون شجاعًا لا يهاب إلا الله، لأنه يعلم أن الأجل مقدر، وأن ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وأن مع العسر يُسرًا.

7- عدم الخوف من ضرر البشر: قال صلى الله عليه وسلم: «... وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف»؛ (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح)..

8- عدم الخوف من الموت: وقد نُسب إلى عليّ رضي الله عنه قوله:
أيَّ يومَيَّ من الموت أفّر *** يوم لم يُقدَر، أم يوم قُــــــدِر
يوم لم يُقدَر لا أرهَبُـــــهُ *** ومِن المكتوب لا ينجو الحذِر

9- عدم الندم على ما فات: قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير احرص على ما ينفعك واستعِن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»؛ (رواه مسلم).

10- الخير فيما اختاره الله: إذا أُصيب المسلم بجرح في يده مثلًا فليحمد الله أنها لم تكسر، وإذا كسرت فليحمد الله أنها لم تقطع، أو لم يكسر ظهره مما هو أخطر، وحدث أن رجلًا تاجرًا كان ينتظر طائرة لعقد صفقة تجارية فأذن المؤذن للصلاة، فدخل ليصلي، ولما خرج وجد الطائرة قد أقلعت، فجلس حزينًا على ما فاته، وبعد قليل علم أن الطائرة احترقت في الجو، فسجد شكرًا لله على صلاته وتأخرِّه بسبب الصلاة، وتذكر قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. [البقرة: 216].

لا تَحتَجَّ بالقدر:
يجب على كل مسلم الاعتقاد بأن الخير والشر بتقدير الله وعلمه وإرادته، ولكن فعل الخير والشر من العبد باختياره، ومراعاة الأمر والنهي واجب على العبد، فلا يجوز له أن يعصي الله ويقول "هكذا قدر الله ذلك"! الله أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب لِيُبيِّنوا طريق السعادة والشقاء، وتكرَّم على الإنسان بالعقل والتفكير وعرَّفه الضلال والرشاد، قال الله تعالى: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورًا}. [الإنسان: 3].

فإذا ترك الإنسان الصلاة أو شرب الخمر استحق العقوبة لمخالفة أمر الله ونهيه، وعندها يحتاج إلى التوبة والندم ولا يرفع عنه ذلك احتجاجه بالقدر..


وإنما يحتج بالقدر عند نزول المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى بقضاء الله وقدره. قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. [الحديد: 22].