مشكلة.. غـلاء الأسعـار كيف عالجها الإسلام؟


د. بدر عبد الحميد هميسة


مشكلة غلاء الأسعار من المشكلات التي تواجه الشعوب والأفراد، وقد يكون لها أسبابها الطبيعية والمنطقية، فزيادة سعر المواد الخام وزيادة أسعار تكلفة الأشياء وتصنيعها ونقلها قد يكون سبباً منطقيا لارتفاع الأسعار.


لكن إذا كان هذا الارتفاع غير منطقي وغير طبيعي فإن له أسبابه غير المنطقية وغير الطبيعية، فقد يكون حب الترف والحرص عليه من أهم أسباب هذا الغلاء، ومن هنا فقد حذرنا الإسلام تحذيراً شديداً من الترف والحرص عليه؛ لأن الترف سبب لفساد الأمم ومن ثم هزيمتها وسقوطها، بل أشد من ذلك من الركون إلى الدنيا ورغبتها عن الآخرة، ولقد ورد الترف في القرآن في مورد الذم والاقتران بالكفر والعصيان؛ قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ < وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116-117).

وقال: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُ مْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون: 33).

وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ < وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ < قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 34-36).

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّم ِينَ». رواه أحمد والبيهقي ورواة أحمد ثقات ( صحيح الترغيب والترهيب 2/246).

ولقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم خطورة التنعم والترفه ولا سيما بعد أن اتسعت موارد الدولة وكثر المال بسبب الفتوحات, فكانوا يتعاهدون بعضهم بالنصح، وَفِي صحيح مسلم (ص 311- 606 ) عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ، إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيك وَلَا كَدِّ أُمِّك؛ فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِك، وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلُبُوسَ الْحَرِيرِ» وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِ يّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فلسوف يسأل المرء عن كل نعمة وهبها الله تعالى له، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 8).

عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ [: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِى الْعَبْدَ - مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟!» أخرجه الترمذي (3358) السلسلة الصحيحة ( 539 )، المشكاة ( 5196 ).

ودخل عمر بن الخطاب ] على ابنته حفصة - رضي الله عنها - فقدمت إليه مرقا باردا وصبت عليه زيتا، فقال: «أدمان في إناء واحد؟ لا آكله حتى ألقى الله عز وجل».

وقال الأشعث بن قيس لما طلب أن يلين اللحم بالزيت: «أدمان في أدم؟ كلا، إني لقيت صاحبيَّ وصحبتهما فأخاف إن خالفتهما أن يخالف بي عنهما ولا أنزل معهما حيث ينزلان».

ولما قدم وفد البصرة ومعهم أميرهم أبو موسى الأشعري ] أطعمهم عمر ] من طعامه، فرأى كراهتهم فقال: «أيها القوم إني والله لقد أرى كراهيتكم طعامي وإني والله لو شئت لكنت أطيبكم طعاما»، ثم قال: «ولكني سمعت الله جل ثناؤه عيّر قوما بأمر فعلوه فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها..}».

بل إن السلف كانوا ينهون عن مجالسة المترفين خوفا من العدوى، قال المروذي: سمعت أبا عبدالله - أحمد بن حنبل - وذكر قوما من المترفين فقال: «الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة». (الورع) للمروزي (82).

- والنصوص المحذرة من الترف لم تأت من فراغ وإنما حُذر المؤمنون منه لما فيه من مفاسد، ومن هذه المفاسد:

1- أن الترف والتنعم مؤدٍّ إلى التنافس على جمع الدنيا.

وبذلك تحصل الخصومة المؤدية إلى التفرق والقتال؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ < لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ < قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ < مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} (المؤمنون: 64-67).

عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ [ قَالَ: «إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ (التبختر) وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ». أخرجه ابن المبارك في (الزهد) ( رقم 187) و الترمذي ( 2 / 42 - 43 الألباني في (السلسلة الصحيحة: 2 / 679).

2- أن الترف والتنعم من أسباب قسوة القلب ونسيان الآخرة.

ولذا فأهل التنعم هم شرار هذه الأمة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ [، قَالَ: «إِنَّ شِرَارَ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ، وَنَبَتَتْ عَلَيْهِ أَجْسَادُهُمْ». أخرجه أحمد في (الزهد) (ص - 77) و ابن أبي الدنيا في (الجوع: ق 9 / 1 (السلسلة الصحيحة: 4 / 513).

3- أن الأمة المترفة أسرع إلى الفناء والهزيمة من غيرها.

قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16).

قال الرازي في (تفسيره): في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} في تفسير هذا الأمر قولان:

القول الأول: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم، فقال الأكثرون: معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون.

وقد قال ابن خلدون في الفصل الثامن عشر من (مقدمته): «وانغماس القبيل في النعيم، وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره، وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم، وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها. فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه، أذعن ذلك القبيل لولايتها، والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها، ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه، إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك؛ فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة، ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة، وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم، ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية، حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية، فيأذنون بالانقراض. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك» (مقدمة ابن خلدون: 69).

1- تربية الضمير على التقوى والمراقبة:

الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة: 65-66)، فالتقوى هي سبب لسعة الأرزاق والبركة فيها، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق).

2- كثرة الاستغفار والدعاء:

الدليل قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (نوح)، قال ابن صبيح: «شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله». فقلنا له في ذلك؟ فقال: «ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}». (تفسير القرطبي: 18/302).

3- التكافل الاجتماعي وأداء الزكاة والصدقات.

الزكاة عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف المعيشة إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من الفقر والدولة من الإرهاق والضعف، وعدم إخراج الزكاة سبب من أسباب البلاء والغلاء، ومن أسباب العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع لغياب التكافل فيما بينهم، أما إخراج الزكاة فهو سبب البركة وسبب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع؛ قال [: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، و من كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» (صحيح: صحيح الجامع‏ 6497).

4 – التربية على الرضا والقناعة بما قسم الله تعالى.

قال [: «وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» (حسن: صحيح سنن الترمذي 1876)، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: «ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله [ نار، يعني لا يطبخون شيئاً، قال عروة: فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» (رواه البخاري 6459، ومسلم 2973)

وعَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ، أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الأَنْمَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ [ يَقُولُ: «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً، فَصَبَرَ عَلَيْهَا، إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِه؛ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. أخرجه أحمد 4/231 (18194) والتِّرمِذي (2325) صحيح، وابن ماجة (4228).

رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ ، فَقَالَ: أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ يَا جَابِرُ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا}. ابن مفلح: (الآداب الشرعية: 3/341).

قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: «سلني حاجتك»، فقال: «والله إني لأستحيي أن أسأل في بيته غيره». فلما خرج من المسجد قال هشام: «الآن خرجت من بيت الله فاسألني»، فقال: «من حوائج الدنيا أم الآخرة؟» قال: «من حوائج الدنيا»، فقال سالم: «ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها؟!» «(الصفدي: الوافي بالوفيات: 15 / 54).

5- التربية على الاعتدال ونبذ الترف والإسراف.

ومن الترف المستشري في المجتمع الإكثار من المطعومات كما ونوعا، وقد ذكر بعض أطباء المسلمين أن الله تعالى جمع الطب في نصف آية وهي قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين}َ (الأعراف: 31).

قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَالبَسُواْ وَتَصَدَّقُواْ في غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُلْ مَا شِئْتَ وَالبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ». الألباني (صحيح النسائي: 2399).

والسرف المذموم في الأكل والشرب نوعان: التخليط والتنويع في الطعام والإكثار منه والسمنة الناتجة عنهما.

فأما التخليط والتنويع في الطعام فقد ورد ذمه بصيغ شتى، فمن ذلك أن رسول الله [ حذر من أقوام همهم بطونهم وشهواتهم فيكثرون من التنويع في الأطعمة والأشربة فقد روى الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ، وَيُلْبِسُونَ أَلْوَانَ اللِّبَاسِ، وَيَتَشَدَّقُون َ فِي الْكَلامِ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي». (صحيح الترغيب والترهيب: 2/232).

قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 26-27).

فلو أن كل مسلم التزم شرع الله تعالى في أفراحه لتغلب على غلاء الأسعار على الأقل على مستوى أسرته، ولو أن كل مسلم التزم شرع الله تعالى في أحزانه ولم ينفق الأموال الطائلة على إقامة السرادقات واستئجار المقرئين وغير ذلك لتغلب على مشكلة غلاء الأسعار على الأقل على مستوى أسرته.

6- مقاومة الاحتكار والاستغلال.

الاحتكار معناه: تخزين السلع والبضائع الخاصة بأقوات الناس حتى تنفد من السوق ويرتفع سعرها، ثم يبيعها بأضعاف أضعاف سعرها الأول، وهذا حرام؛ لقول النبي [: «لا يحتكر إلا خاطئ» ( صحيح: رواه مسلم 1605 )، والخاطئ: هو العاصي الآثم. قال العلماء: الحكمة في تحريم الاحتكار: دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس. (انظر صحيح مسلم بشرح النووي: 5/346).

فمن أسباب غلاء الأسعار تصرفات وسلوكيات رجال الأعمال من تجار ومصنعين ووسطاء المخالفة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية مثل: الاحتكار والتكتلات المغرضة، والغش، والتطفيف، وانخفاض الجودة، ونحو ذلك، ولقد نهى الإسلام عن هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ [: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» أَخْرَجَهُ أحمد (2/33: 4880).

فيجب منع الاحتكار بكافة صوره وأشكاله وحيله، ويجب على ولاة الأمر اتخاذ التدابير لحماية المستهلك من التجار الجشعين الذين لا يهمهم إلا انتفاخ جيوبهم.

7- ثقافة التعامل مع الغلاء.

جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب ] جاءوا إليه وقالوا:نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم.


بل إن علي بن أبي طالب ] يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس، قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب: أن أرخصوه بالتمر، أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة؛ فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص، وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.

فاللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والشقاء، واقنعنا بما رزقتنا، وارزقنا الحلال وبارك لنا فيه.