تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: كيف نتأدب مع الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي كيف نتأدب مع الله



    كيف نتأدب مع الله (1_3)









    كتبه/ عصام حسنين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

    فمدار كلمة الأدب لغة على الجمع والندب والترويض والتلقين والمجازاة.

    فيقال: "أدَّب القومَ" أي: جمعهم على الأدب وندبهم إليه.

    ويقال: "أدَّبه" أي: لقَّنه فنون الأدب، وكذلك جازاه على إساءته.

    ويقال: "تأدَّب بآداب القرآن والسنة" أي روَّض نفسه للالتزام بهما، وصار واقعاً حياً في حياته.

    - والأدب هو: رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي. اهـ بتصرف من المعجم الوجيز.

    نستنتج مما سبق أن الأدب اصطلاحاً يحتاج إلى هذه الأصول اللغوية، فلابد من علم ثم ممارسة ورياضة وتطبيق ومحاسبة لنفسك، ولمن يلزمك تأديبه حتى تصير الآداب كما قالت عائشة -رضي الله عنها- في وصف خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.

    والأدب -أخي الحبيب- هو الدين كله كما يقول ابن القيم -رحمه الله- فمن التزم به فهو المؤدب على الحقيقة.

    - والأدب أنواع ثلاثة، أدب مع الله -تعالى-، وأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأدب مع الخلق.

    أما الأدب مع الله -تعالى- فهو أوله وأكمله وأساس ما وراءه، لأن الله -تعالى- هو الآمر بها.

    وأصل كل خير في الأدب مع الله -تعالى-، ومنه تتفجر أنواع العبادات الباطنة والظاهرة هو: أن تقدر الله -تعالى- حق قدره, بحيث يمتلئ القلب من محبته ومخافته ومهابته ورجائه، فيفيض على سائر الأركان، فتتسابق في مرضاته والعمل بطاعته، واجتناب مساخطه.

    وطريق ذلك أن يشهد القلب بعين بصيرته اللهَ -تعالى- بعظمته وجبروته وكبريائه، فهو -عز وجل-، فهو الكبير الذي لا أكبر منه، والعظيم الذي لا أعظم منه، والجبار الذي جبر عباده على ما يريد، والذي يجبر كسر كل كسير، والمتعالي عن الأضداد والأنداد والشركاء والوزراء، والصاحبة والولد، وجميع صفات المخلوقين العاجزين.

    - والعليّ ذاتاً فلا تشبه ذاته ذوات المخلوقين: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم:65).

    - والعلي شأناً: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)

    وشأنه -تعالى- واضح بيِّن لكل ذي عينين من أنواع التدبير والتصرفات.

    - والعليّ قهراً: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:18).

    فالكل عبيده، وتحت سلطان قهره، لا خروج لأحد عن قضائه وأمره الكوني.

    - وهو -تعالى- القوي المتين، شديد الأخذ والبأس، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يوصل انتقامه وبأسه لمن عصاه وخالف أمره، ولا يخاف عاقبة ذلك.

    قال -تعالى-: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (الشمس: 14،15)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11)

    - ومن قوته -تعالى- أنه يصل إلى ما يريد، فما وعد به فهو حق أي: متحقق وجوده، فأيقِنَنَّ بذلك، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ).

    - ومِن وعده: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة:9)

    - ومن عظمته وقوته وفضله أنه يوصل فضله ورحمته لمن أطاعه واتقاه، قال -تعالى-: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107).

    - ومن عظمته وكبريائه وجبروته أن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67).

    عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ....) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب -تعالى- نفسه (أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر حتى قلنا: لَيَخرَّن به) رواه أحمد بسند صحيح.

    يا لَهُ من تعظيم وتمجيد رجف منه المنبر! فنسأل الله -تعالى- أن يَمُن علينا من هذا الخير.

    قال -تعالى- عن نوح -عليه السلام- مخاطباً قومه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح:13).

    قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " لا تعظمون الله حق عظمته" ثم ذكَّرهم بعد ذلك بنعم الله عليهم لعلهم يتقون.

    قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينبههم نوح -عليه السلام- على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع العظيمة السماوية والأرضية، فهو الخالق العظيم الرزاق، جعل السماء بناء، والأرض مهداً، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يُعبَد ويوحَّد، ولا يشرك به أحد، لأنه لا نظير له ولا شريك ولا ند ولا كفء ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير" اهـ

    - ويشهد القلب كذلك قيام الله -تعالى- على كل نفس بما تحتاجه وينفعها من رزق وسكن وصاحب، وكل ذلك بالعدل والحكمة.

    - ويشهد القلب أيضاً سعة رحمته وفضله ومعالم ذلك في خلقه.

    أخي الحبيب:

    إن هذا التعظيم والتقدير الحق لله -تعالى- يُولِّد في النفس مراقبة الله -تعالى- في الأقوال والفعال، والحركات والسكنات، والخلوات والجلوات، قال -تعالى-: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء:219)

    وقال -تعالى-: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61).

    - كما أنه يولِّد في النفس خوفاً منه -عز وجل- ومهابة له، وفراراً إليه بطاعته وترك معصيته، قال -تعالى-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات:50)

    واللهج بذكره على الدوام.


    - وأخيراً -أخي الحبيب- نذكّر بقول ابن القيم -رحمه الله-: " الأدب مع الله -تعالى- هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً، ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحبه وما يكرهه، ونفس مستعدة، قابلة، ليِّنة، متهيئة لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً. والله المستعان" اهـ مدارج السالكين 2/358.
    نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل أدبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: كيف نتأدب مع الله

    كيف نتأدب مع الله (2_3)


    كتبه/ عصام حسنين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

    فقد تكلمنا في مقال سابق عن السبب الأعظم الدافع للتأدب مع الله -تعالى- ألا وهو: "تعظيم الله -تعالى- حق تعظيمه".

    وفي هذا المقال نبين -مستعيناً بالله تعالى- بعض الآداب التي ينبغي علينا أن نأخذ أنفسنا بها في المعاملة مع الله -تعالى-، مع استحضار الدُربة والممارسة التي تكلمنا عنها؛ فما أسهل الدعوى وما أصعب العمل! لكن الله المستعان.

    أولاً: أن نثبت لله -تعالى- الأسماء الحسنى والصفات العلا التي أثبتها -تعالى- لنفسه, وأثبتها له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تمثيل ولا تعطيل، ولا طمعِ في إدراك حقيقة صفاته -تعالى-، مع اعتقادنا الجازم أنه موصوف بكل كمال وجمال وجلال وعظمة, وأنه ليس كمثله شيء كما قال -تعالى- عن نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى:11).

    وقال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)(مريم:65)، أي: يساميه ويماثله -تعالى-.

    وقال: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(الإخلاص:4)، أي: شبيهاً ونظيراً.

    وأن نتعبد لله -تعالى- بمقتضى أسمائه وصفاته؛ فما كان منها متضمناً لصفات الجود والرحمة والعفو والمغفرة والبر والإحسان، نسعى إلى التشبه بها في معاملة الخلق, وما كان منها متضمناً لصفات الجبروت والعظمة والكبرياء، نقف منها موقف العبد الذليل الخاضع لربه, الخائف منه, الراجي له، وأن نثني عليه -تعالى- بها, وأن نسأله -تعالى- بها.

    ثانياً: أن نوحِّده -تعالى- بأفعاله:

    فهو الخالق, الرازق, المحيي, المميت, الضار, النافع, السيد, الآمر, الناهي, المطاع, الحاكم الذي يحكم في عباده بما يريد كوناً وشرعاً, المدبر الذي أعطى كل مخلوق آلته ورزقه وصرفه فيه أعظم تصريف، قال -تعالى-: )أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)(الأع راف:54).

    ثالثاً: أن نوحِّده -تعالى- بأفعالنا:

    فنفرده -تعالى- بالعبادة، بكمال حبنا وتعظيمنا له مع كمال ذلنا وخضوعنا له -سبحانه- وهذا حقه -عز وجل, ومقتضى ربوبيته -سبحانه وتعالى-.

    قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة:21)، وقال-تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )(النساء:36)، وقال-تعالى-: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الأنعام:101 -102).

    وأن نسير في حياتنا وفق مرضاته -تعالى- جهدنا, وأن ننشغل بعبادته عمرنا، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:163)، قال العلامة السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "محياي أي: ما آتيه في حياتي, وما يجريه الله عليّ, وما يقدر عليّ في مماتي, الجميع لله رب العالمين لا شريك له في العبادة, كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير" أ. هـ.

    وقال ابن رجب -رحمه الله-: "التوبة وظيفة العمر كله"، من لطائف المعارف.

    والتوبة من العبادة؛ فالعبادة هي وظيفة العمر كله، والله المستعان.

    رابعاً: ومن الأدب مع الله:

    دوام الحياء منه -تعالي-، قال -تعالى-: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(العلق:14)، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء:1).

    وقال -صلى الله عليه وسلم-: (استحيوا من الله حق الحياء. قالوا إنا نستحيي يا رسول الله قال ليس ذلكم, ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى, وليحفظ البطن وما حوى, وليذكر الموت والبلى, ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا, فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)(رواه الترمذي وحسنه الألباني).

    وقال معاوية بن حيدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أمره -صلى الله عليه وسلم-بحفظ عورته إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (الله أحق أن يُستَحْيَى منه من الناس)(رواه أبو داود وحسنه الألباني).

    روي أن آدم -عليه السلام- لما علم أنه عصى ربه -تعالى- فرَّ هارباً في الجنة فقال الله -تعالى-"أفراراً مني يا آدم؟! قال: لا يا رب؛ بل حياء منك".

    ما أعظمه من استحضارِ عند المخالفة والعصيان قوله -تعالى-: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ )(لأعراف:22)!!

    وأنا وأنت لنستحضر عند المخالفة أن الله -تعالى- يقول لنا: "ألم أنهك عن ذلك؟!"؛ لعله يولد الحياء من الله -تعالى- في نفوسنا؛ فلا تقصِّر في حقه -تعالى-, ولا تخالفه.

    والحياء من الله -تعالى- يتولد من رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، كما قال الجنيد -رحمه الله-.

    ومن استشعار معية الله -تعالى- الخاصة لعباده الصالحين التي تستوجب حباً وخضوعاً واجتماعاً للهمم على مرضاته -تعالى-، وكذلك علم العبد ويقينه بنظر الله إليه, واطلاعه عليه؛ فيستحيي من الله أن يراه حيث نهاه أو يفتقده حيث أمره.


    واللهَ -تعالى- نسألُه من فضله أن يجعلني وإياكم من أهل أدبه ومحبته، ومن عباده الصادقين.

    يتبع -إن شاء الله-



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: كيف نتأدب مع الله

    كيف نتأدب مع الله (3_3)


    كتبه/ عصام حسنين



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

    فنواصل معاً مسيرتنا في طريق الأدب مع الله فنقول:

    خامساً:

    ومن الأدب مع الله -تعالى- إحسان الظن به ورجاء فضله ورحمته ووعده إذا عملت بطاعته، ورجاء مغفرته؛ وإحسانه وجوده إذا تبت إليه من ذنوبك، وهذا من أجلَِّ منازل العابدين، وعليه وعلى الخوف والحب مدار السير إلى الله -تعالى-، وقد مدح الله -تعالى- أهل رجائه فقال:- (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21)، وأخبر -تعالى- أنه عند ظن عبده به فقال فيما رواه عنه -صلى الله عليه وسلم-: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) رواه البخاري، وفي رواية عند أحمد: (أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيراً فله وإن ظن شراً بي فله).

    وظن الشر هو ظن السوء، ظن الجاهلية الذي ذم الله به المنافقين؛ قال -تعالى-: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ )(آل عمران:154)، فـُسِّر ظن الجاهلية بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم الله أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأن يظهره على الدين كله.

    فأحسِّن الظن بالله -تعالي- من جميع وجوه الكمال المستحق له، وظن بنفسك الغافلة الجاهلة ظن السوء.

    قال علي -رضي الله عنه-:

    فلا تظنن بربك ظـن سـوء فإن الـلـه أولي بالجميل

    ولا تظنن بنفسك قط خيراً فكيف بظالم جانٍ جهول

    قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالنفس هي الأولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى" أ.هـ.

    ولنعلم أن الخوف الذي يبعث على العمل، ولا ينقلب يأساً ينبغي أن يغلب علي الرجاء في حالة الصحة، وأما إذا نزل المرض أو الموت؛ فيغلب الرجاء وحسن الظن برحمة الله وعفوه ومغفرته. قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) رواه مسلم.

    قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: "كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن الظن بربه".

    ولما احتضر أبو بكر بن عياش -رحمه الله- وبكوا عليه قال: "لا تبكوا؛ فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة".

    وقال لابنه: "علام تبكي، والله ما أتى أبوك فاحشة قط".

    وآدم ابن أبي إياس -رحمه الله- ختم القرآن وهو مسجىً للموت ثم قال: "بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا، كنت أرجوك لهذا.. "لا إله إلا الله" ثم قضى -رحمه الله-. وعبد الصمد الزاهد قال عند موته: "سيدي، لهذه الساعة خبأتك، حقق حسن ظني بك".

    ولما حضرت أبا الوفاء ابن عقيل -رحمه الله- الوفاة، بكى النسوة؛ فقال: "قد وقفت عنه خمسين سنة؛ فدعوني أتهنأ بلقائه".

    قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ)(العنكبوت:5).

    سادساً: ومن الأدب مع الله -تعالى-، دعاؤه دعاء ثناء ودعاء مسألة، والانطراح بين يديه، والتعلق به -تعالى- كتعلق الطفل بوالديه، بل أشد كما قال الله -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)(البقرة:200)، وأن تنسب كل خير وطيب إليه -تعالى-، وتثني به عليه، وأن تنسب إلى نفسك الجهولة اكتساباً كما قال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: (الخير كله في يديك والشر ليس إليك....) رواه مسلم.

    سابعاً: تعظيم أمره ونهيه -تعالى-؛ لأنه من تعظيمه، قال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)(الحج:30).

    وقال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:32).

    قال ابن تيمية -رحمه الله- في صفة تعظيم الأمر والنهي: "ألا يعارضا بترخيصِ جافٍ، ولا يعرضا لتشديد غالِ، ولا يُحملا على علة توهن الانقياد".

    ويشرح تلميذه ابن القيم -رحمه الله- قول شيخه بقوله: "وعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش عن أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة عند فوت حق من حقوقها.

    وعلامة تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، وأن يغضب لله -تعالى- إذا انتهكت محارمه، وأن يجد قلبه حزناً وكسرة إذا عصي الله -تعالى- في أرضه ولم يستطع تغيير ذلك.

    ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جفياً غير مستقيم على المنهج الوسط؛ كرخصة الإبراد بالظهر في شدة الحر -أي تأخيره حتى تنكسر موجة الحر- فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافياً.

    وألا يعرض لتشديد غالِ كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً حتى يفوته الوقت.

    فالمقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله -تعالى- بسالكه، ولا يحمله على علة توهن الانقياد والتسليم لله -تعالى-، بل يسلم لأمر الله -تعالى- وحكمه ممتثلاً ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر؛ فإن ظهرت له رحمة الشرع في أمره ونهيه، حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم ولا يحمله ذلك على الإنسلاخ منه وتركه".أ.هـ.

    ثامناً: ألا يقدم قول أحد كائناً من كان على كلامه -تعالى- وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات:1)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".

    وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله بقول ولا فعل".

    وقال العلامة السعدي في تفسيره: "هذا متضمن للأدب مع الله -تعالى-، ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتعظيم له، واحترامه وإكرامه؛ فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله وبرسوله، من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متابعين لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع أمورهم، وأن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر.

    فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها كائناً ما كان".

    تاسعاً: ومن الأدب مع الله -تعالى- الوقوف بين يديه طاهراً من الحدث والخبث، ومتجملاً في الظاهر والباطن؛ لقوله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(لأعراف:31)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة -العورة-، وما سوى ذلك من جيد المتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد"، وكذلك قال غير واحد من السلف.

    قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي هذه الآية وما ورد في معناها من السنة؛ أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم...) رواه أحمد بسند صحيح".

    وقد ورد عن بعض السلف أنه كان له حُلة بألف دينار يلبسها وقت الصلاة ويقول: "ربي أحق من تجملت له"، ومن أدبه مع الله -تعالى- في صلاة ألا يرفع بصره إلى السماء.

    قال ابن تيمية معلقاً على حديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة:

    "وهذا من كمال الأدب، أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً، خافضاً طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق".

    ومن الأدب أيضاً وضع اليمنى على اليسرى حال القيام، وكذلك السكون في الصلاة قال -تعالى-: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)(البقرة:238)، أي خاشعين، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)(المعارج:23)، أي ساكنون لا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، وفي حال سماع القرآن أن يُلقي السمع وهو شهيد، وأن يكون شأنه الفهم ثم التطبيق.

    كما قال الحسن -رحمه الله-:

    "كان الذين من قبلكم ينظرون إلى القرآن على أنه رسائل من ربهم فيتدبرونها بالليل ويطبقونها بالنهار".

    وكذلك في حال الركوع يعظم الرب -تعالى- بحيث لا يكون شيء في قلبه أعظم من الله -تعالى-.

    وفي حال السجود يعظم ربه ويري ذله وخضوعه لله -تعالى-، وهكذا في كل عبادة لله -تعالى-يؤديها على الوجه الأكمل، ويسأل ربه القبول ويخاف أن ترد عليه، وأن يستحضر المعاني الإيمانية الخاصة بها من انقياده وامتثاله أمر ربه وتعظيمه إياه.

    وبعد....


    فهذا غيض من فيض في التأدب مع الله -تعالى-، ونسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل أدبه، وأن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل حياتنا خالصة له، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه... آمين.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •