اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل


الشيخ سيد حسين العفاني


... ثم نأتي إلى سيدنا رسول الله [، قال عبد الله بن رواحة:


وفيــنــــا رســـول اللــه يتلـو كتابـه إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقـلت بالمشــركين المضاجــع

وقال أحمد شوقي:

محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم

وكان رسول الله [ إذا قام الليل يقول في دعاء الاستفتاح: «اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق».

وكان أيضاً إذا قام من الليل افتتح صلاته بهذا الدعاء: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وجبريل هو ملك الوحي، وهو الروح، وميكائيل: هو ملك القطر، وبه حياة الأرض، وإسرافيل: هو الذي ينفخ في الصور، فيدعو بهذا الدعاء ليعلم أن صلاة الليل حياة للقلب. واعجباً للناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله [ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً». وعن عبد الله بن عمير قال: «دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثينا بأعجب شيء رأيتهِ من رسول الله [، فبكت، فقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، ثم قام فتطهر فقام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه للصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...}». رواه أبو الشيخ في (أخلاق النبي)، و ابن حبان في (صحيحه)، وصححه الألباني . وكان رسول الله [ إذا نام ثلث الليل قام فقال: «أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» يذكر الناس بالموت وبالقيامة لعلهم يقومون لصلاة الليل، وربما قام الليل كله بآية يرددها إلى الصباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118).

اجتهاد السلف في قيام الليل

نأخذ نماذج من الصحابة ومن التابعين ومن المجاهدين ومن النساء.

أما من الصحابة فقد كان عثمان بن أبي العاص جاراً لـعمر بن الخطاب ، فلما مات عمر تزوج عثمان بإحدى زوجاته، فقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر . أي: إنه تزوج أرملة سيدنا عمر لكي تخبره ماذا كان يفعل سيدنا عمر في الليل! وسيدنا عمر ربما مر بالآية في الليل فيمرض منها حتى يعوده الصحابة شهراً، وحفرت الدموع خطين أسودين في وجهه، فلو أتيت الآن بصنبور ماء وجعلته يقطر على جبينك سنة، فهل سيحفر خطا أسود؟ لا؛ لأن الدمع ينزل بحرقة:

من لم يبت والحب حشو فؤاده

لم يدر كيف تفتت الأكبادِ

وسيدنا عمر بعد توليه الخلافة كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله. ولسان حاله يقول:

لست أدري أطال ليلي أم لا

كيف يدري بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطـــالة ليـــلي

ولرعي النجـــوم كنت مخـــل

روى الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الإصابة) بإسناد حسنه الشيخ الألباني: «أن رسول الله طلق السيدة حفصة ذات يوم؛ فنثر عمر التراب على وجهه وعلى رأسه، فقال: ما يفعل الله بـعمر وابنة عمر، فنزل جبريل وقال: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة».

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

ويزرع إلا في منابته النخلُ

وسيدنا عثمان بن عفان الذي نزل فيه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} (الزمر: 9). انظر إلى هذه الآية فهي طيبة كشأن من أنزلت فيه، لما قتل الثوار سيدنا عثمان دخلت عليهم نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية زوجته، وقالت: قتلتموه، وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة؟! قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وغيرهما من المحدثين: إسناده جيد، والعلماء بوبوا (باب: من أوتر بركعة واحدة ختم فيها القرآن). وسيسألني أحدكم ويقول: أين أنت من حديث رسول الله [: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث»؟!. قال العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف): هذا إذا كان فعله على الدوام، أما في الأيام التي يرجى فيها الخير، ويستحب فيها كثرة الدعاء فيجوز الختم في أقل من ثلاث، بل يستحب، وعليه عمل الشافعي وقول أحمد وإسحاق بن راهويه. ويأتي الآن شخص يقول لك: أنا سلفي، وأنا مشغول عن قيام الليل بالأسانيد والمتون والعلل، أقول له: لا، لا تكن سلفياً أبداً، نام عند الإمام أحمد أحد طلاب العلم فوضع أحمد له ماءً، فلما قام الصباح وجد الماء كما هو، فقال الإمام: بئس طالب العلم لا يكون له ورد بالليل! وسيدنا أبو هريرة قسم الليل أثلاثاً هو وزوجه وخادمه، فإذا قام هذا نام هذا، وكانت له في النهار اثنا عشر ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنوبي! وفي الصحابة كثيرون منهم: معاذ بن جبل وأبو الدرداء و شداد بن أوس وكان عبد الله بن الزبير إذا سجد يأتي حمام المسجد فيحط على ظهره. وهذا تميم الداري يقول أبناء الصحابة عنه: أدركنا تميماً الداري فما قمنا ولا قعدنا إلا وهو في صلاة. وهذا الإمام أحمد كان يحيي الليل هو وغلامه، والإمام الشافعي قسم الليل أثلاثاً، وأبو حنيفة كان يصلي عامة الليل. ويزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد قيل له: ما فعلت العينان الجميلتان يا أبا خالد؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار. وهذا شعبة يبس جلده على عظمه من قيام الليل. وهذا سفيان الثوري يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: ما صاحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري, كنت أرقبه في الليل يقوم فزعاً مرعوباً ويقول: النار.. النار! ويقول: اللهم إنك تعلم أنه لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، اللهم إن كلاً في حاجته وإن حاجة سفيان أن تغفر له. وهذا نور الدين محمود زنكي وصفه ابن كثير وابن الأثير أنه كان مدمناً على قيام الليل، والناس اليوم يدمنون الآن على (الهيروين) و(الكوكايين) وهذا كان مدمناً على قيام الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين بنت الأتابك، فهي كانت زوجة ملك، يقول عنها: هبت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها، قالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً. وهذه المرأة لما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي. ونور الدين محمود زنكي قال عنه العلامة ابن كثير: إن أحد المسلمين دخل بيت المقدس أيام أخَذه الفرنجة، فقالوا: نور الدين محمود زنكي لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده؛ لأنه قتل منهم في موقعة حلب ثلاثين ألفا، وكان يعد العدة لفتح بيت المقدس قالوا: نور الدين لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه ليلاً بين يدي مولاه، فلا بد أن ربه ناصره علينا. قال ابن كثير و ابن الأثير: فهذه شهادة الكفار فيه. وصلاح الدين الأيوبي يقول عنه ابن شداد: كان يطوف الأمصار وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام.. يا لعكا، يا للإسلام.. فإذا آواه الليل يأتي إلى سجادته وتتقاطر دموعه على جبينه وفي مصلاه، وأسمعه يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاد إلى جلالك، يقول: فوالله ما ينبثق الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء، الجراحات تستغيث وتشكو ملء سمع الوجود: قم يا صلاح.

وبعد: يا داعية الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل؟ ذهب الأبطال وبقي كل بطّال، قال الرسول [: «من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين» والمقنطرون: من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها، إما أن يكون من المقنطرين، وإما أن يكون من الذين يحملون الطين.

أنت القتيل بكل من أحببته

فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي


يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: عدد آيات جزء تبارك وجزء عم ألف آية.

اللهم اكفنا من النوم باليسير، وارزقنا سهراً في طاعتك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا، واكفنا من النوم باليسير، وسهرنا على ما نامت عنه أعين الغافلين، وارزقنا حبك وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نرجو فلا تحرمنا، وببابك نغدو فلا تطردنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين، فاجعلنا من الصالحين، اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك، اللهم وحّد صفوفنا على منهاج نبيك، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تسئ بنا إخواننا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم