تجربة فريدة... حاول ألا تفوتك!









كتبه/ ياسر برهامي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثيرًا ما تكون الحياة اليومية الروتينية ذات الإيقاع السريع التي نحياها حاجزًا أمام التفكير في حقيقة الحياة ومآلها، وبدايتنا ونهايتنا.

والمؤمن دائمًا في حاجة إلى لحظات يتوقف فيها عن هذا الروتين، وينظر إلى نفسه وغيره عن بعد؛ ليعلم أين يقف، وأين يسير؟ ويقدِّر الله -سبحانه- لنا كل يوم مِن مواقف الموت والحياة ما يهز القلوب النائمة ويوقظها.

فكم نرى مِن آتٍ إلى الدنيا... مولود خرج مِن بطن أمه لا يعرف شيئًا، فقير عاجز ضعيف، وإذا تأملتَ عجبتَ كيف سيكون مستقبله بيْن خير وشر، ولذة وألم، وهداية وضلال، وسعادة وشقاء، والكل حوله يضحك ويبتسم لا يعلم عنه شيئًا، ولا عن صراعاته المستقبلية؛ مع مَن ستكون؟ وفي سبيل ماذا ستحصل؟ وإلى أي شيء ستنتهي؟

وكم نرى في نفس اليوم ربما مِن ذاهبٍ عن الدنيا راحلٍ مودعٍ، قد فارق ظهرها ليبقى في بطنها مدة لا يعلمها إلا الله، قد فضحت لحظة موته كل لذات الحياة الدنيا وتنافساتها، وأظهرت حقيقة عزها أنه الذل، وحقيقة غناها أنه الفقر، وحقيقة قوتها أنها العجز والضعف، وحقيقة ملكها أنه العدم والفناء!

فهلا فكرنا في هذه اللحظة الهائلة؟! وهل فكرنا ونحن نشيع ميتًا قبْل التفكير في مجاملة أهل الميت بإثباتات الحضور والتعزية؟ فهل فكرنا في هذه الحفرة الضيقة المظلمة الموحشة التي نتركه فيها وحده يواجه مصيرًا محتومًا لا يشاركه فيه غيره، قد أصبح في حياتنا ذكرى وخبرًا، وصار في قبره وحيدًا مع عمله، كم كان قد ضيَّع مِن طاعات، وفرَّط في واجبات، وأطلق لسانه فيما لا يعنيه، بل فيما يضره ويؤذيه!

والكل قد بادر بالانتهاء مِن الدفن للعودة إلى حياته، ربما أرهقه حر الشمس أثناء الجنازة، وأتعبه الوقوف على القبر حتى ينتهي الموقف.

هل جرَّب الواحد منا أن ينزل إلى قبر يشارك في الدفن ليستشعر معنى الظلمة، إلا أن ينوِّر الله ذلك القبر، ومعنى الوحدة إلا أن يؤنسه الله، ومعنى الضيق إلا أن يوسعه الله عليه؟!

إنها تجربة فريدة قد نشفق على أنفسنا مِن دخولها، إما ضعفًا عن مواجهة هذه الحقيقة اليقينية -الموت-، وتصور أنفسنا ونحن أصحاب هذه الحفرة، وإما منًّا بالمجهود لأنه يوجد غالبًا "التُرَبي" الذي يكفينا إياه، وإما حرصًا على نظافة الثياب والأناقة التي لا نحتمل أن يرانا الناس بدونها، حتى ضاعت منا فوائد عظيمة لا تقدر بثمن؛ توقظ القلب الوسنان، وتحرِّك المياه الراكدة في بحيرة التدبر والتذكر، وتطلع النفس المنشغلة بالشهوات والصراعات، والأحقاد والضغائن، والحسد والغل على حقيقة هذه الشهوات.


إنها فعلاً تجربة مهمة ينبغي ألا تهملها حتى تعد نفسك ليوم الرحيل، حاول ولا تتردد! (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281).