تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 60

الموضوع: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان



    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام (1)
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 23الى صــ 39
    (1)
    كتاب الصيام


    جماع معنى الصيام في أصل اللغة: الكف والإمساك والامتناع, وذلك هو السكون, وضده الحركة, ولهذا قرن الله تعالى بين الصوم والصلاة؛ لأن الصلاة حركة إلى الحق, والصوم سكون عن الشهوات, فيعم الإمساك عن القول والعمل من الناس والدواب وغيرها.
    قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.
    وقال الخليل: الصيام قيام بلا عمل, والصيام الإِمساك عن الطعام, وقد قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]؛ أي: صمتاً, ويقال: صام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف, ويقال: هو الذي أمسك عن الصهيل, قال النابغة الذبياني:
    خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحتَ العجاجِ وخيلٌ تعلك اللُّجَما
    ومصام الفرس ومصامته موقوفه, وصامت الريح إذا ركدت فلم تتحرك, وصامت البكرة إذا لم تَدُرّ, وصام النهار صوماً إذا قام قائم الظهيرة واعتدل كأن الشمس سكنت عن الحركة في رأي العين.
    ثم خُصَّ في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه, وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع, ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ فإن الإمساك عن هذه الأشياء في زمن الصوم أوكد منه في غير زمن الصوم, [و] إذا كان هذا الوقت قد حظر فيه المباح في غيره؛ فالمحظور في غيره أولى؛ كالحرم والإحرام والشهر الحرام, وقد يتبعه الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس في مكان مخصوص؛ فهو من جنس الصوم, يقال منه: صام يصوم صوماُ وصياماً.
    وسُمي الصيام الصبر.

    1 - ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر».
    وقد قيل: إنه عني بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن شهواتها.
    وسُمي أيضاً السياحة.
    والصوم خمسة أنواع: الصوم المفروض بالشرع وهو صوم رمضان أداءً, وقضاءً, والصوم الواجب في الكفارات, والواجب بالنذر, وصوم التطوع.
    مسألة:
    ويجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم, ويؤمر به الصبي إذا أطاقه.
    في هذا الكلام فصول:
    أحدها: أن صيام رمضان فرض في الجملة, وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف, وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع:
    أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...} الآيات [البقرة: 183 - 185].
    2 - وأما السنة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت».
    3 - وقوله في حديث جبريل: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً».
    4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس, فأتاه رجل, فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر». قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: «الإسلام: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان». قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإنك إن لا تراه؛ فإنه يراك» ... وذكر الحديث. متفق عليه.
    5 - وعن أبي هريرة: أن أعرابيّاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته؛ دخلت الجنة. قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان». قال: والذي نفسي بيده؛ لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه. فلما ولَّى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا». متفق عليه.
    6 - وعن طلحة بن عبيد الله؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دَوِيَّ صوته ولا نفقه ما يقول, حتى دنا؛ فإذا هو يسأل عن الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة». فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" «وصيام رمضان». قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة, فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال: فأدبر الرجل, فقال: والله؛ لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق».

    7 - وعن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من القوم (أو: من الوفد؟»). قالوا: ربيعة. قال: «مرحباً بالقوم (أو: بالوفد) غير خزايا ولا ندامى». فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام, وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر؛ فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربع وأنهاهم عن أربع, أمرهم بالإيمان بالله وحده, وقال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تعطوا من المغنم الخمس». ونهاهم عن أربع, عن الجنتم والدباء والنقير والمزفت, وربما قال: المقير. قال: «احفظوهن, وأخبروا بهن من ورائكم». رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
    وقد أجمعت الأمة إجماعاً ظاهراً على وجوب صيام شهر رمضان, وأنه الشهر التاسع من شهور العام بين شعبان وشوال, والأفضل أن يقال: جاء شهر رمضان, وصمنا شهر رمضان؛ موافقة للفظ القرآن وأكثر الأحاديث.
    فأما إطلاق رمضان عليه:
    فقال القاضي وغيره: يكره إطلاق هذا الاسم عليه من غير قرينة تدل على أن المراد به الشهر؛ لأن الله سبحانه قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
    8 - ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ [قال]: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».
    رواه أحمد بن عدي.
    وفي رواية: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».
    9 - وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان؟ فقال: «أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم».
    10 - وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل؛ فانسبوه إليه كما نسبه لكم في القرآن». رواه ابن شاهين.
    وظاهر الأثر المذكور يقتضي كراهة إطلاق رمضان عليه بكل حال؛ لأنه نهى أن يقال: جاء رمضان, ومعلوم أن هذه قرينة, ونهى عن تسمية رمضان.
    11 - وقد روى أبو سعيد الأشج وغيره عن مجاهد: أنه كره أن يقول: رمضان, ويقول: شهر رمضان؛ كما سمى الله شهر رمضان.
    ولعل وجه هذا 'ن كان له أصل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما كان يرمض الذنوب في هذا الشهر على الشهر فيحرقها ويفنيها؛ كان هذا من أسمائه, لكن على هذا التقدير لا يُسمى الشهر رمضان, لا مطلقاً ولا مقيداً؛ لأن الاسم لله سبحانه, اللهم إلا أن يُقال: الاسم مشترك يُسمَّى به الله سبحانه ويسمى به الشهر, فيجوز مع القرينة أن يُعنى به الشهر؛ كما قد قيل مثل هذا في الرب والملك والسيد ونحو هذا.
    وقال غيره من أصحابنا [كـ] ابن الجوزي: لا يكره تسميته رمضان بحال.
    12 - وهذا هو المعروف من كلام أحمد؛ فإنه دائماً يطلق رمضان ولا يحترز عن ذلك؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان؛ فتحت أبواب الجنة». متفق عليه.
    13 - وعنه أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً؛ فليصمه». رواه الجماعة.

    14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
    15 - وعمن سمع في فلق فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من صام رمضان. متفق عليهما.
    16 - 18 - وعن أبي أيوب وجابر وثوبان, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان, ثم أتبعه بست من شوال ...» وذكر الحديث. رواه مسلم وغيره.
    19 - وعن سلمة بن المحبق؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». وفي لفظ: «من أدركه رمضان في السفر». رواهما أبو داوود.
    20 - 21 - وعن أبي هريرة وعن عائشة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أصبت أهلي في رمضان. متفق عليهما.
    وهذا كثير في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأما عن أصحابه؛ فأكثر من أن يُحصى.
    قالوا: ولأنه لم يذكر أحد في أسماء الله رمضان, ولا يجوز أن يُسمى به إجماعاً.
    والحديثان المتقدمان لا أصل لهما: أما الأول؛ فإن مداره على أبي معشر, والثاني مداره على إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن هشام بن عروة.
    وأما قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضانَ}؛ فكقولهم: شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر, وهو من باب إضافة الاسم العام إلى الخاص؛ كما يقال: يوم الأحد ويوم الخميس.
    قال بعض أهله. . .: ما كان في أوله رأس الشهور؛ فإن الغالب أن يذكر بإضافة الشهر إليه دون ما لم يكن كذلك, فيقولون: المحرم, وصفر, وشهر ربيع الأول, شهر ربيع الآخر, رجب, شعبان, شهر رمضان.
    وأما اشتقاقه:
    فقال القاضي: قيل: سُمي رمضان لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها ويهلكها. وقد تقدم الرواية بذلك.
    22 - وعن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون لأي شيء سُمي شعبان؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «لأنه يتشعب فيه خير كثير, وإنما سُمي رمضان لأنه يرمض الذنوب (يعني: يحرق الذنوب)». رواه ابن شاهين وغيره.
    وهذا المعنى لا يخالف ما يذكره أهل اللغة؛ فإنهم يزعمون أن أسماء الشهور لما نقلوها عن اللغة القديمة؛ سموها بالأزمنة التي وقعت فيها, فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر, فسُمي بذلك؛ كما سموا شوالاً؛ لأن الإِبل تشول بأذنابها, وسموا شعبان؛ لانشعاب القبائل فيه, وغير ذلك.

    وهذا لأن الرمض شدةُ وقعِ الشمس على الرمل وغيره, والأرض رمضا, ورمِضَ يومنا يرمض رمضاً: اشتد حرُّه, ورمضت قدمي, ورمض الفصيل: أصابه حرُّ الرمضا.
    فاجتمع في رمضان أن وقت التسمية كان زمن حر, ثم إن الله فرض صومه, والصوم فيه العطش والحرارة, ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتهلكها, وقد يُلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه هو [ويبينه فيما بعد] وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية؛ كما سموا النبي صلى الله عليه وسلم محمداً.
    وغير مستنكر أن يكون ما اشتق منه الاسم قد تضمن معاني كثيرة, يفطن بعض لبعضها.
    وأيضاً؛ فإن هذه التسمية لغوية شرعية, فجاز أن يكون له باعتبار كل واحد من التسميتين معنى غير الآخر, وقد قيل: هو اسم موضوع لغير معنى؛ كسائر الشهور.
    وقيل: شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه, وقد سمي بذلك لأن الله حين فرضه كان وقت الحر. وهذا ضعيف؛ لأن تسميته رمضان متقدمة على فرضه, ولأنه لما فُرض؛ كان في أوائل الربيع الذي تسميه العرب الصيف؛ فإن أول رمضان فُرض كانت فيه وقعة بدر, وقد أنزل الله عليهم فيها ماءً من البسماء, والقيظ العظيم لا ينزل فيه مطر.
    * فصل:
    23 - ويستحب لمن رأى الهلال - هلال رمضان أو غيره - أن يدعو بما روي عن طلحة بن عبيد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ قال: «اللهم! أهله علينا باليمن والإيمان, والسلامة والإسلام, ربي وربك الله». رواه احمد والترمذي, وقال: حسن غريب.
    24 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال؛ قال: «الله أكبر, اللهم! أهله علينا بالأمن والإيمان, والسلامة والإسلام, والتوفيق لما تحب وترضى, ربي وربك الله». رواه الأثرم.

    25 - وعن أبي حرملة؛ قال: «خرجت مع سعيد بن المسيب, وهو آخذ بيدي, فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بالهلال, فقلت: الهلال يا أبا محمد! فرفع رأسه, فقال: آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك. ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا». رواه أبو داوود في «المراسيل».
    26 - وعن قتادة: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ قال: «هلال خير ورشد, آمنت بالذي خلقك»؛ ثلاث مرات. ثم يقول: «الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا». رواه أبو داوود في «السنن» و «المراسيل» , وقال: روي: روي متصلاً, ولا يصح.
    27 - ورواه عبد الرزاق في «الجامع»: أنبأنا معمر عن قتادة؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال؛ كبر ثلاثاً, ثم هلل ثلاثاً, ثم قال: «هلال خير ورشد»؛ ثلاثاً. ثم قال: «آمنت بالذي خلقك ثلاثاً». ثم قال: «الحمد لله الذي ذهب بسهر كذا وجاء بشهر كذا».
    28 - وعن قتادة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ صرف وجهه عنه» , رواه أبو داوود.
    ----------------------------
    (1)الكتاب: كتاب الصيام من شرح العمدة
    المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ)
    المحقق: زائد بن أحمد النشيري
    تقديم: عبد الله بن عبد الرحمن السعد


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان



    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 40الى صــ 55
    (2)
    كتاب الصيام




    فإذا جمع بين هذا كله؛ كبر ثلاثاً, ثم هلل ثلاثاً, ثم قال: هلال خير ورشد؛ ثلاثاً, ثم قال: هلال خير ورشد؛ ثلاثاً, ثم قال آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك؛ ثلاثاً, ثم قال: الحمد لله الذي جاء بشهر كذا وذهب بشهر كذا, اللهم! أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام.
    29 - وأما رمضان؛ فقد روي عن أبي جناب الكلبي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رمضان قد جاء؛ فقولوا: اللهم! سلمه لنا وسلمنا له في يسر وعافية وتقبله منا». رواه عباد بن يعقوب الأسدي.
    30 - وعن يحيى بن أبي كثير؛ قال: «كان من دعائهم: اللهم! سلمني لرمضان, وسلم لي رمضان, وتسلمه مني متقبلاً». رواه محمد بن كثير عن الأوزاعي عنه.
    31 - وعن أبي جعفر الباقر؛ قال: «كان إذا أهل رمضان؛ قال: اللهم أهله علينا بالسلامة, والإسلام, ودفع الأسقام, والعون على الصلاة والصيام, والرزق الواسع, والعفو والعافية, اللهم! سلمه لنا وسلمنا له». رواه عباد بن يعقوب.

    * الفصل الثاني:
    أنه يجب على كل مسلم عاقل بالغ قادر- فيدخل في هذا المقيم والمسافر, والصحيح والمريض, والطاهر والحائض, والمغمى عليه - فإن هؤلاء كلهم يجب عليهم الصوم في ذِمَمِهم, بحيث يخاطبون بالصوم ليعتقدوا الوجوب في الذمة, والعزم على الفعل, إما أداءً وإما قضاءً, ثم منهم من يخاطب بالفعل في نفس الشهر أداءً, وهو الصحيح المقيم؛ إلا الحائض والنفساء, ومنهم من يخاطب بالقضاء فقط, وهو الحائض والنفساء والمريض الذي لا يقدر على الصوم أداء وقد يقدر عليه قضاء, ومنهم من يخير بين الأمرين, وهو المسافر والمريض الذي يمكنه الصوم بمشقة شديدة من غير خوف التلف.
    * الفصل الثالث:
    أنه لا يجب على الكافر, بمعنى أنه لا يخاطب بفعله, ولا يجب عليه قضاؤه إذا أسلم, وسواء كان أصليّاً أو مرتداً في أظهر الروايتين, وقد تقدمت فروع ذلك في الصلاة.
    ولا يصح من الكافر ابتداءً ولا دواماً؛ فلو ارتد في أثناء يوم؛ بطل صومه؛ لأن الصوم عبادة, والكفر ينافي العبادة, ولأنها عبادة؛ فبطلت بالردة كالصلاة,وطرده الإحرام والطهارة, ويتخرج؛ فعلى هذا إذا عاد إلى الإِسلام؛ فإنه يجب عليه القضاء في المشهور, وإن عاد إلى الإسلام في أثناء النهار؛ فهو أولى بوجوب القضاء.
    فأما إن قلنا: إن الإِسلام في بعض النهار لا يوجب الإِمساك والقضاء, وقلنا: إنه يقضي ما تركه قبل الردة. . . .
    وقال ابن أبي موسى: من ارتد عن الإِسلام؛ أفطر وحبط عمله؛ فإن عاد إلى الإِسلام في بقية رمضان؛ صام ما بقي, وهل يلزمه قضاء ما أفطر منه بعد الردة أم لا؟ على روايتين:
    * الفصل الرابع:
    أنه لا يجب على المجنون في المشهور من المذهب, نص عليها في رواية الأثرم, وفرق بينه وبين المغمى عليه, وعليها أصحابنا, حتى من أوجبه على الصبي, وروي عن حنبل أنه يقضيه إذا أفاق كالحائض.
    والقضاء هنا أوجه من قضاء الصلاة؛ لأن ما أسقط أداء الصلاة في الغالب فإنه يسقط قضاءها؛ بخلاف الصوم؛ فإنه يقضى مع الحيض والسفر والمرض وغير ذلك, وإن لم يجب الأداء مع هذه الأسباب, ولأن إيجاب القضاء عليه لا مشقة فيه هنا بخلاف إيجاب قضاء الصلاة, ولأن الصوم قد لا يتكرر مثله في حال الإِفاقة فيفضي إلى تركه بالكلية بخلاف الصلاة, وذلك لأنه زوال عقل, فلم يمنع وجوب القضاء كالإِغماء والسُّكر.
    فعلى هذه الرواية يجب عليه القضاء, سواء كان الجنون طارئاَ عليه بعد البلوغ أو مستداماً من حين البلوغ, وسواء استغرق الشهر أو بعضه؛ فأما إن توالت عليه رمضانات في حال الجنون؛ فعلى ما ذكره القاضي إنما يقضي الرمضان الذي أفاق بعده؛ فأما ما قبل ذلك الرمضان؛ فلا يقضيه؛ لأن أحسن أحواله أن يكون كالحائض, والحائض لا بد أن يتخلل بين الرمضانين زمن لقضائها, وكلام غيره يصام, وهو ظاهر كلامه في هذه الرواية؛ لأنه عذر توالى في عدة رمضانات, فلم يسقط القضاء كالمرض والسفر.

    32 - ووجه الأول أن قوله: «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق»:يقتضي الرفع عنه مطلقاً, وإيجاب القضاء يحتاج إلى دليل, وليس في الشرع ما يوجب القضاء على المجنون من نص ولا قياس؛ إذ لا نص في المسألة.
    والفرق بينه وبين الحائض والمغمى عليه ظاهر؛ فإن الحائض من أهل التكليف حين انعقاد سبب الوجوب, وهو استهلال الشهر, فثبت الوجوب في ذمتها كما يجب غيره من الفرائض, والمجنون ليس من أهل التكليف؛ فلا يصح الإيجاب عليه.
    ولا فرق في ذلك بين الجنون المطبق والذي يعرض أحياناً؛ فإنه لا يجب عليه الصوم إلا في حال الإِفاقة.
    وهل يصح منه الصوم بنية وليه له كالصبي وكما في الإِحرام؟ على وجه.
    * مسألة:
    فإن نوى الصوم وجُنَّ في بعض اليوم؛ لم يبطل صومه إذا أفاق في جزء منه, وجمهور أصحابنا - كابن عقيل وأبي الخطاب فيما ذكره القاضي -[أنه] كالإغماء, وقال جدي رحمه الله: يبطل صومه.
    فأما الصرع - وهو الخنق الذي يعرض وقتاً ثم يزول -؛ فينبغي أن يلحق بالإغماء والغشي؛ لأنه يزيل الإِحساس من السمع والبصر والشم والذوق, فيُغطى, فيزول العقل تبعاً لذلك؛ بخلاف الجنون؛ فإنه يزيل العقل خاصة, فيلحقه بالبهائم.
    * فصل:
    فأما من زال عقله بغير جنون من إغماء أو غيره؛ فإنه يجب عليه الصوم بغير خلاف في المذهب, ويصح صومه إذا نواه في وقت تصح فيه النية وأفاق بعض النهار, سواء أفاق في أحد الطرفين أو في الوسط.
    فأما إن أغمي عليه جميع النهار؛ لم يصح صومه. ولو نام جميع النهار؛ صح صومه. هذا هو المنصوص المشهور في المذهب, وإن كان سكراناً أو مبنجاً أو زال عقله بشرب دواء, وذلك لأن الإِغماء مرض من الأمراض, فلم يمنع صحة الصوم كسائر الأمراض, وإنما اشترطنا أن يفيق في جزء من النهار؛ لأن الصوم لا بد فيه من الإِمساك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه في صفة الصائم:33 - «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي».
    والإِمساك لا يكون إلا مع حضور العقل, ولم يشترط وجود الإِمساك في جميع النهار, بل اكتفينا بوجوده في بعضه؛ لأنه دخل في عموم قوله: «يدع طعامه وشهوته من أجلي».
    فعلى هذا: إن نوى الصوم من الليل, ثم أغمي عليه في أثناء النهار, واتصل أياماً؛ صح له صوم الأول دون ما بعده؛ لفوات الإِفاقة فيه والنية.
    قال ابن أبي موسى: وقال بعض أصحابنا: ويجيء على قولنا: يجزيه نية لجميع الشهر: أنه إذا صح له صوم الأول؛ صح له ما بعده.
    كأن صاحب هذا القول شبه جعل إفاقة واحدة كافية في جميع الشهر كما أن نية واحدة تكفي على هذه الرواية.
    نعم لو أغمي عليه أياماً, فأفاق في أثناء النهار؛ فإنه هنا يجزيه ذلك الصوم على قولنا: إنه يصح [أن] يكفي لجميع الشهر نية واحدة.

    * الفصل الخامس:
    أنه لا يجب على الصبي حتى يبلغ في إحدى الروايتين. قال في رواية حنبل: إذا احتلم في بعض الشهر؛ لا يقضي, ويصوم فيما يستقبل.
    واليهودي والنصراني إذا أسلما يصومان ما بقي ولا يقضيان ما مضى إنما وجبت الأحكام عليهما بعدما أسلما.
    وقال في رواية المرُّوذي: إذا حاضت في بعض الشهر؛ تصوم الباقي, وقال في رواية ابن إبراهيم: تصوم إذا حاضت, فإن أجهدها؛ فلتفطر ولتقض.
    وقال في رواية حرب: وقال له: غلام احتلم لثلاثة عشرة, فقيل له: صم, فقال: لا أقدر. قال: إذا احتلم الصائم لا يترك. قلت: فالجارية. قال إذا حاضت.
    وعنه أنه يلزمه الصوم إذا أطاقه, حتى لو أطاق بعضه في أثناء الشهر؛ لزمه صوم ما يستقبله, ولو تبين له في أثناء النهار, وأنه يطيق صوم ذلك اليوم؛ كان بمنزلة إسلام الكافر. وهذا اختيار أبي بكر.
    قال في رواية أبي داوود: يؤمر الغلام بالصوم إذا أطاقه.
    وقال في رواية المروذي في غلام ابن اثني عشر سنة لم يحتلم: أرى عليه الصيام, فإن لم يصم يضرب على الصوم والصلاة.
    وقد تأولها القاضي فقال: وذكر ابن أبي موسى هذه الرواية إذا أطاق صيام ثلاثة أيام تباعاً لا يضر يصبر فيه أخذ بصيام رمضان, فيكون صوم ثلاثة أيام متتابعة تفسير للطاقة المذكورة في الرواية الأخرى.
    34 - لأن أحمد رضي الله عنه قال في رواية عبد الله. قال: ورواه ابن جريج, قال: أخبرت عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة؛ فقد وجب عليه صيام شهر رمضان». قال أبو عبد الله: يؤمر الصبي بالصيام إذا أطاق.
    فهذا يبين أنه أخذ بالحديث في تفسير الطاقة.
    35 - وروى عبد الرزاق في «كتابه» , عن ابن جريج, عن محمد ابن عبد الرحمن بن لبيبة, عن أبيه, عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة؛ فقد وجب عليه صيام رمضان».
    وبكل حال؛ فإنه يؤمر به إذا أطاقه, ويضرب عليه ليعتاده, هكذا ذكر جماعة من أصحابنا, منهم أبو الخطاب, وعليه تأول القاضي قول أحمد بالضرب.

    وقال ابن عقيل: هل يلزمه الصوم ويضرب عليه؟ على روايتين.
    فعلى هذا لا يضرب على ترك الصوم قبل الوجوب, وإن ضرب على الصلاة, بناء على أن رواية المروذي فيمن وجب عليه.
    ويصح صومه إذا بلغ حد التمييز كما تصح منه الصلاة.
    فأما قبل ذلك؛ فهل يصوم وليه. . .؟
    وعلى هذا فقال الخرقي وغيره: إذا كان للغلام عشر سنين, وأطاق الصيام؛ أخذ به.
    فجعل السن الذي يضرب عليه عشر سنين مع الطاقة قياساً على الصلاة, لكن تعتبر هنا الطاقة؛ بخلاف الصلاة؛ فإنه لا مشقة فيها.
    وقد قال في رواية المروذي: ابن اثنتي عشرة سنة. وأطلق بعضهم الطاقة.
    * الفصل السادس:
    أنه لا يجب الصوم إلا على القادر؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] , وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
    فإن كان عاجزاً عنه في وقته قادراً عليه بعد خروج الوقت كالمريض والحامل؛ فإنه يجب عليه القضاء كما سيأتي.
    وإن كان عاجزاً في الوقت وبعد الوقت - وهو الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة-؛ فإنهما يفطران ويطعمان كما سيأتي إن شاء الله.
    وإن كان به عطاش أو شبق. . . .
    وإذا أفاق من إغمائه في أثناء اليوم؛ فهو كما لو أفاق المجنون. ذكره ابن عقيل.
    وينبغي. . . .
    * فصل:
    فإن صار من أهل الوجوب في أثاء النهار, مثل أن يسلم الكافر أو يفيق مجنون أو يبلغ صبي أو يطيق, ولم يكن نوى الصوم؛ ففيه روايتان ذكرهما أبو بكر والقاضي وغيرهما:
    إحداهما: أنه يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويقضيه, سواء كان قد أكل أو لم يكن, نص عليه في الكافر في رواية صالح وابن منصور غي اليهودي والنصراني يسلمان؛ [قال:] يكُفَّان عن الطعام ويقضيان ذلك اليوم.
    والثانية: لا يجب عليه إمساك ولا قضاء.
    قال في رواية حنبل في اليهودي والنصراني إذا أسلما والصبي يحتلم؛ [قال:] «يصومان ما بقي ولا يقضيان ما مضى إنما وجبت الأحكام بعد الإِسلام».
    36 - لأن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله من الفطر؛ ف يجب عليه أداءً ولا قضاءً.
    وإيجاب بعض يوم لا يصح؛ لأن أقل الصوم الصحيح يوم, ولأن مَنْ جاز له الأكل أول النهار ظاهراً وباطناً؛ جاز له الأكل كما لو دام به المانع.
    37 - والأولى اختيار القاضي وأصحابه؛ لما روي عن الرُّبَيِّع بنت معوذ قالت: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً؛ فليتم صومه, ومن كان أصبح مفطراً؛ فليتم بقية يومه, فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم [إن شاء الله] , ونذهب إلى المسجد, فنجعل لهم اللعبة من العهن, فإذا بكى أحدهم من الطعام؛ أعطيناها إياه عند الإِفطار». أخرجاه.
    38 - وعن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه: أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «صمتم يومكم هذا؟». قالوا: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم واقضوه».
    رواه أبو داوود.

    فابتداء الأمر به في أثناء النهار إيجاب له في أثناء النهار, وقد أمر بالإِمساك والقضاء؛ لأنه طرأ عليه في بعض نهار رمضان ما لو كان موجوداً في ابتداء النهار لوجب عليه الصوم, فيجب أن يؤمر بالإِمساك والقضاء, كما لو أكل في أول النهار, أو نوى الفطر فلا يعتقد أنه آخر شعبان, ثم علم في أثناء النهار أن ذلك اليوم كان أول رمضان؛ فإن هذا يجب عليه القضاء رواية واحدة.
    وكذلك الإِمساك يجب رواية واحدة فيما ذكر عامة أصحابنا, حتى القاضي وأكثر أصحابه قالوا: «بلا خلف في المذهب» , وهو منصوص أحمد في غير موضع, وخرَّج أبو الخطاب فيه روايتين.
    ولو افطر متعمداً؛ وجب عليه الإِمساك والقضاء بغير خلاف.
    ولو نسى أن ذلك اليوم من رمضان, فلم ينو صومه, ثم ذكر في أثناء النهار. . . .
    ولو أكل يعتقد الليل, ثم تبين أنه كان نهاراً؛ أمسك بقية يومه, ولم يجزه عن فرضه, فيقضيه بعد خروج الشهر, ولأن إدراك بعض وقت العبادة كإدراك جميعها في الإيجاب, ولهذا نقول: لو طهرت الحائض قبل طلوع الفجر بمقدار تكبيرة؛ لزمها قضاء العشاءين, فإذا أدرك من اليوم بعضه؛ فقد أدرك بعض وقت العبادة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان



    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 56الى صــ 70
    (3)
    كتاب الصيام




    39 - والأوجه أنه يجب عليه الإِمساك دون القضاء؛ لحديث عاشوراء.
    ولا فرق في هؤلاء* بين أن يكونوا أكلوا قبل وقت الوجوب أو لم يأكلوا؛ لأن الحيض والجنون والكفر يمنع صحة الصوم كما يمنعه الأكل.
    فأما الصبي إذا لم يكن أكل؛ فقال القاضي: يجب عليه الإِمساك رواية واحدة؛ لأن الرخصة زالت, ووقت العبادة باقٍ يقبل الصوم الصحيح في الجملة.
    فأما إن أصبح الصبي صائماً, ثم بلغ في أثناء اليوم بالسن أو الاحتلام؛ فقال أبو الخطاب: هو كما لو لم ينو الصيام؛ لأن نية الفرض لا تسقط بنية النفل؛ كما لو بلغ في أثناء الصلاة؛ فإنه يجب عليه قضاؤها.
    فعلى هذا يحب عليه القضاء والإِمساك في أحد. . . .
    وقال القاضي: يتم صومه ولا قضاء عليه هنا؛ لأن ما مضى صوم صحيح فعله قبل وجوبه, فلم يجب عليه إعادته, وما يفعله بعد البلوغ هو الصوم الواجب عليه, وقد أمكن أن يأتي به صوماً صحيحاً؛ فإن كون بعض اليوم فرضاً وبعضه نفلاً غير ممتنع؛ كما لو نذر في أثناء النفل أن يتمه؛ بخلاف من لم ينو الصوم؛ فإنه وجب عليه هناك صوم ما أدركه, وصوم بعض يوم غير صحيح ممكن, فوجب أن يصوم يوماً؛ لأن أداء الواجب لا يتم إلا به.

    والفرق بين هذا وبين الصلاة أنه قد خوطب هناك بالفعل في المستقبل, ولهذا لو بلغ بعد الفعل؛ لزمه القضاء, فلم يجزه ما فعله قبل الوجوب, وهنا لا يخاطب بالإِمساك لزمن ماض, وما فعله قبل الوجوب لا نقول: إنه وقع واجباً, وإنما نقول صحيحاً, وبصحته صح فعل الواجب بعد البلوغ, فأشبه ما لو توضأ قبل وجوب الصلاة أو أحرم بالحج أو العمرة قبل وجوبهما ثم بلغ قبل التعريف.
    قال بعض أصحابنا: ولا يجوز له الفطر هنا رواية واحدة؛ كما لو قدم المسافر صائماً, فأما ما قبل يوم الوجوب من الشهر؛ فلا يقضونه على ظاهر المذهب كما تقدم.
    وذكر ابن عقيل رواية أخرى في الصبي والمجنون أنهما يقضيان من أول الشهر تنزيلاً لإِدراك بعض الشهر بمنزلة إدراك كله على قولنا: يجزئ صومه بنية واحدة.
    * فصل:
    فأما من يجب عليه القضاء إذا زال عذره في أثناء اليوم مثل: الحائض تطهر, والمسافر المفطر يقدم, والمريض يصح؛ فإن القضاء يجب عليه رواية واحدة؛ وجود الفطر في بعض اليوم, وينبغي لهم الإِمساك أيضاً.
    قال في رواية الأثرم وأبي منصور: إذا قدم من سفره في بعض النهار وهو مفطر؛ فينبغي أن يتوقى الأكل في الحضر, وكذلك الحائض لا تأكل بقية النهار, وإذا قدم من سفره وامرأته قد طهرت؛ فلا أحب أن يغشاها.
    40 - وجابر بن زيد زعموا أنه قدم من سفر, فوجد امرأته قد طهرت من حيضها, فوقع عليها.
    وفي وجوبه روايتان, هذه طريقة القاضي وأصحابه.
    وقال ابن أبي موسى: إذا قدم المسافر مفطراً؛ أحببنا له أن يمسك عن الأكل والشرب بقية يومه, فإن أكل أو جامع مَنْ طهرت من حيضها؛ أساء, ولا كفارة عليه, ولا يلزمه سوى القضاء, والحائض إذا طهرت في بعض النهار؛ فلها الكل بقية يومها.
    وعنه رواية أخرى: أنها تمسك بقية يومها كالمسافر.

    فجعل المسافر يمسك رواية واحدة على سبيل الاستحباب المؤكد, بحيث يكون أكله مكروهاً, وحمل كلام أحمد حيث أذن على إقراره حيث منع على الكراهة, وجعل في الحائض روايتين.
    ووجه ذلك أن المسافر كان يمكنه الصوم ويصح منه في أول النهار, وإنما أفطر باختياره, فيصح الإِمساك في الجملة؛ بخلاف الحائض؛ فإن المنافي لصحة الصوم وقد وجد أول النهار, فامتنع أن تمسك في يوم حاضت فيه, وجعل الإِمساك بكل حال غير واجب؛ لما يأتي.
    وعلى الطريقة الأولى: ففي الجميع روايتان:
    إحداهما: لا يجب الإِمساك, بل يستحب. قال في رواية ابن منصور: إذا أصبح مفطراً في السفر, فدخل [أهله] , فأكل؛ ليس عليه شيء, ويعجبني أن لا يأكل؛ لأن الله سبحانه إنما اوجب صوم يوم واحد؛ فإيجاب صوم بعض يوم آخر يحتاج إلى دليل.
    والثانية: يجب الإِمساك.
    قال في رواية حنبل: إذا قدم في بعض النهار؛ أمسك عن الطعام, وإذا طهرت الحائض من آخر النهار؛ تمسك عن الطعام.
    وقال في رواية صالح وابن منصور في المسافر يقدم في رمضان, واليهودي والنصراني يُسلمان: يكفون عن الطعام, ويقضون ذلك اليوم, والحائض كذلك, وهي اختيار القاضي وأصحابه؛ لأن المقتضي للفطر قد زال, فيجب الإِمساك, وإن وجب القضاء, كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار, ولأن الإِمساك. . . هذا إن كان قد أكلوا, فأما إن كانوا ممسكين ولو ينووا في أثناء النهار والصوم؛ فقال القاضي وابن عقيل: يجب عليهم بالإِتمام رواية واحدة؛ كما لو نووا الصوم.
    فأما إن قدم المسافر أو صح المريض وقد بيَّت الصوم؛ لم يجز الفطر رواية واحدة, بل لو جامع بعد الإِقامة؛ لزمه الكفارة. نص عليه في رواية صالح. قال: وكذلك الصبي إذا بلغ صائماً.
    والأشبه الفرق كما في التبييت.
    وخرَّج أصحابنا أنه لا يلزمه؛ كما لو سافر وهو صائم؛ فإن له أن يفطر على الصحيح؛ فإذا أجاز قطع الصوم للسفر؛ فرفعه أولى.
    وإذا علم المسافر أو غلب على ظنه أنه [يقدم] في أثناء النهار؛ فإنه يُبَيِّت الصوم تلك الليلة.
    قال في رواية أبي طالب: إذا كان في سفر, فأراد أن يدخل المدينة إلى أهله من الغد؛ فليجمع الصوم من الليل؛ فإذا دخل المدينة؛ كان صائماً. هكذا كان ابن عمر.
    41 - وذلك لما روى مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا كان في سفره في رمضان, فعلم أنه داخل المدينة من أول يومه؛ دخل وهو صائم.
    وقد ذكر أحمد عن ابن عمر نحوه.
    قال ابن عبد البر: هذا هو المستحب عند جماهير العلماء؛ إلا أن بعضهم أشد تشديداً فيه من بعض.

    قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يجوز له الفطر إذا علم أنه يقدم في بعض النهار؛ لأن من أصله أنه إذا قدم؛ تعين عليه الإِمساك إذا كان مفطراً؛ فإذا علم أن سفره لا يتسع لفطر يوم؛ وجب أن يمتنع منه؛ لأن وجود السفر في أول النهار سبب يبيح الرخصة, فجاز العمل به.
    وإن علم أنه يزول آخر النهار, كما لو صلى في أول الوقت قاصراً, وهو يعلم أنه [يقدم] في الوقت, أو صلى بالتيمم وهو يعلم أنه يجد الماء في آخر الوقت, وكما لو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن؛ فإنه لا يلزمه التبييت.
    ووجه الأولى: أن الفطر في الحضر غير جائز في الحضر غير جائز أصلاً, بل يجب الصوم فيه, ولا يمكن الصوم فيه؛ إلا أن يُبيِّت النية من الليل, وما لا يتم إلا به فهو واجب, ولأن الصوم واجب في ذمة المسافر, وإنما أجيز له تأخير الفعل إذا كان مسافراً, فإذا علم أنه يقدم في أثناء اليوم؛ فقد أخَّرَ الصوم بدون سبب الرخصة, وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الصبي؛ فإنه لم يجب عليه شيء قبل البلوغ.
    فأما الحائض إذا علمت أنها تطهر في أثناء اليوم؛ فهنا لا يجوز تبييت النية؛ لأن الحيض يمنع صحة الصوم.
    * فصل:
    فأما إذا وجد سبب الفطر في أثناء النهار, مثل أن تحيض المرأة؛ فإنها تصير مفطرة؛ لأن الحيض يمنع صحة الصوم, وتأكل ولا تمسك, فيما ذكره ابن المنذر عن أحمد, وهو رواية.
    قال في رواية عبد الله: فإن كانت امرأة صامت ثم حاضت؛ تمسك عن الطعام إلى آخر النهار, وتعيد ذلك اليوم. وكذلك المسافر إذا قدم المصر وهو مفطر؛ يمسك.
    قال القاضي: لأن اليوم قد اجتمع فيه ما يوجب الإِمساك وهو الصوم أوله, وما يوجب الأكل وهو الحيض آخره, فغلب الإِمساك؛ [كما] لو حاضت أوله أو قدم المسافر, والأول. . . .
    وكذلك إذا مرض الرجل؛ فإن له أن يفطر؛ فإن المريض رُخص له في الفطر لأجل المشقة التي تلحقه بالصوم, وهذا لا فرق فيه بين أول النهار وآخره, وكذلك لو ابتدأ الصلاة قائماً ثم اعتل؛ أتمَّها جالساً.
    لكن هل يجوز له الجماع وتجب عليه الكفارة؟ على الروايتين في المسافر.
    أما إذا سافر في أثناء النهار؛ فهل يجوز له الفطر؟ على روايتين:

    أحدهما: لا يجوز. قال في رواية صالح: إذا أصبح في شهر رمضان, ثم سافر آخر النهار؛ فلا يعجبني أن يفطر.
    لأن العبادة المختلفة بالحضر والسفر إذا تلبس بها في الحضر, ثم سافر؛ غُلِّب فيها حكم الحضر؛ كالصلاة والمسح, ولأنه قد شَرَع في صوم وجب عليه؛ فلم يجز له الخروج منه لغير ضرورة؛ كما لو شرع. . .
    ولعل هذه الرواية خاصة فيمن أراد السفر آخر النهار؛ فإنه قد صام معظم يومه, ويدل على ذلك:
    42 - ما رواه أبو داوود في «مراسيله» عن طاووس؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر أول النهار؛ أفطر, وإذا سافر حين تزول الشمس؛ لم يفطر».
    والأخرى: يجوز له الفطر كسائر الأعذار. وقال في رواية الفضل فيمن خرج في سفر هل يفطر؟ قال: اختلفوا فيه, وأرجوا أن لا يكون به بأس. وقال أيضاً فيمن يصوم بعض رمضان ثم يعرض له سفر: يفطر إذا جاوز البيوت. وقال في رواية ابن منصور وابن إبراهيم إذا خرج مسافر متى يفطر؟ قال: إذا برز عن البيوت. وهي أشهر عنه وأصح عند أصحابنا.
    لكن إتمام الصوم له أفضل.
    43 - قالوا: لما روى عبيد بن جبر؛ قال: «كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان, فدفع ثم قُرِّب غداؤه, ثم قال: اقترب. فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟». رواه أحمد وابن يونس في «تاريخ مصر».
    44 - وفي رواية لأحمد عن يزيد بن أبي حبيب: «أن أبا بصرة الغفاري خرج في رمضان من الإِسكندرية, فأتي بطعامه, فقيل له: لم تغب عنا منازلنا بعد. فقال: أترغبون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فما زلنا مفطرين حتى بلغوا مكان كذا وكذا».
    45 - وعن محمد بن كعب؛ قال: «أتيت أنس بن مالك في رمضان, وهو يريد سفراً, وقد رحلت له راحلته, ولبس ثياب السفر, فدعا بطعام, فأكل, فقلت له: سنة؟ قال: سنة, ثم ركب». رواه الترمذي- وقال: حديث حسن -والدارقطني - وقال فيه: وقد تقارب غروب الشمس -, والصحابي إذا أطلق السنة؛ فإنما تنصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    46 - وعن أبي الخير, عن منصور الكلبي: «أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مِزَّة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط, وذلك ثلاثة أميال, في رمضان, ثم إنه أفطر, وأفطر معه ناس, وكره آخرون أن يفطروا, فلما رجع إلى قريته؛ قال: والله؛ لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه, إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (يقول ذلك للذين صاموا). ثم قال [عند ذلك]: اللهم! اقبضني إليك». رواه أحمد وأبو داوود.
    47 - وقد احتج بعض أصحابنا على ذلك بما رواه خالد الحذاء, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين, والناس مختلفون؛ فصائم ومفطر, فلما استوى على راحلته؛ دعا بإناءٍ من لبن أو ماء, فوضعه على راحلته (أو: راحته) , ثم نظر إلى الناس, فقال المفطرون للصوام: أفطروا». رواه البخاري.
    قال أبو بكر عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي: صوابه: خيبر أو مكة؛ لأنه قصدهما في هذا الشهر؛ فأما حنين؛ فكانت بعد الفتح بأربعين ليلة.

    واعلم أن الرواية صحيحة, ولا يجوز أن يعتقد أن ذلك كان إلى خيبر؛ فإنه لا خلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه غزى خيبر مرجعه من الحديبية, وأنها كانت في ذي القعدة سنة ست, وخيبر في أوائل سنة سبع,فكيف يجوز أن يعتقد أن خيبر كانت في رمضان؛ ثم هم لا يختلفون أنها لم تكن في رمضان؟!
    نعم ذَكَرَ حنيناً؛ لأنها كانت في ضمن غزوة الفتح, ولم يكن في الفتح قتال, وإنما كان القتال بحنين, وأراد بغزوة حنين غزوة الفتح, ولذلك لما ذكر البخاري هذه الرواية قال: وقال عبد الرزاق: أنا معمر, عن أيوب, عن عكرمة, عن ابن عباس؛ قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح» , لم يزد.
    ورواه البرقاني وغيره بتمامه قال:
    48 - «خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان, حتى مَرَّ بغدير في الطريق, وذلك في نحو الظهيرة. قال: فعطش الناس, وجعلوا يمدون أعناقهم, وتتوق إليه أنفسهم. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء, فأمسكه على يده, حتى رآه الناس, ثم شرب, وشرب الناس في رمضان».
    وهذا الخروج إما أن يكون خروجه من المدينة إلى مكة, أو خروجه من مكة إلى حنين؛ فإنه لم يزل صائماً في خروجه إلى أن بلغ الكديد؛ كما في حديث ابن عباس المشهور؛ كما تقدم في الرواية الأخرى, وأما خروجه إلى حنين. . . .
    49 - ثم قد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان, وقال: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وسعفان - أفطر حتى انسلخ الشهر». رواه البخاري.
    وهذا يقتضي أنه لم يشرع في صوم بعد يوم الكديد, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما غزا في رمضان غزوة بدر وغزوة الفتح خاصة.
    50 - وعن سيار بن مخراق: أنه سأل ابن عمر عن صيام المسافر؟ فقال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع عشرة مضيت من رمضان, فأناخ راحلته, ووضع إحدى رجليه في الغرز والأخرى في الأرض, فدعا بلبن من لبنها, فشرب».
    رواه حرب.
    51 - وقد احتج كثير من أصحابنا بما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح, فصام حتى بلغ كراع الغميم, وصام الناس, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام, وإن الناس ينظرون فيما فعلت؟ فدعا بقدح من الماء بعد العصر, فشرب, والناس ينظرون إليه, فأفطر بعضهم, وصام بعضهم, فبلغه أن ناساً صاموا, فقال: «أولئك العصاة». رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه.
    52 - وربما احتج بعضهم بحديث ابن عباس؛ قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان, حتى بلغ سعفان, ثم دعا بإناء من ماء, فشرب نهاراً ليراه الناس, وأفطر حتى قدم مكة».
    وكان ابن عباس يقول: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر؛ فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 71الى صــ 85
    (4)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام

    53 - وفي رواية عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة, ومعه عشرة آلاف, وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة, فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة, يصوم ويصومون, حتى بلغ الكديد, وهو ما بين عسفان وقديد أفطر و [أفطروا]».
    وقال الزهري: «وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر». متفق عليه.
    واعتقد من احتج بهذا أنه خرج من المدينة صائماً, وأنه وصل ذلك اليوم إلى كراع الغميم وإلى الكديد! وهذا خطأ؛ فإن عسفان قرية معروفة بينها وبين مكة نحو يومين, وهي اليوم خراب.

    54 - ولهذا قال ابن عباس: «يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان».
    وجبل قديد قريب منها, وهذا الماء بينهما, فهذا يبين أن الفطر إنما كان بعد عدة أيام من مخرجه من المدينة.
    وأما كراعُ الغميم؛ فقد قيل إن الأبنية. . . .
    فتبين بهذا أن هذا الفطر إنما كان في صوم قد أنشأه في السفر, فيدل هذا على أن المسافر إذا نوى الصوم في السفر, ثم بدا له أن يفطر؛ فله ذلك, وهذا لا يختلف المذهب فيه؛ إلا أن يريد الفطر بالجماع؛ ففيه روايتان:
    أحدهما: ليس له ذلك, وعليه الكفارة إذا أفطر بجماع, نص عليه في رواية مثنى بن جامع.
    وكذلك إذا قلنا فيمن نوى الصوم ثم سافر: إنه ليس له الفطر, فجامع؛ فعليه الكفارة؛ لأن الموجب الموسع إذا شرع فيه ثم أراد الخروج؛ لم يكن له ذلك؛ كما لو شرع في قضاء رمضان والصلاة في أول الوقت, والصوم في السفر أدنى أحواله أن يكون بمنزلة الواجب الموسع, فكان القياس أنه لا يجوز الخروج منه بعد الدخول فيه.
    نعم؛ جاز ذلك بالأكل والشرب لمجيء السنة به, ولأن الحاجة تدعو إليه, فرخص في الخروج منه للحاجة.
    أما هتك صوم رمضان الواجب بالجماع؛ فلم يجيء فيه رخصة, ولا تدعو الحاجة إليه, وهذا كما أن السفر يبيح الصلاة في السفينة للحاجة, ولا يبيحها على الراحلة, وإن اشتركا في عدم الاستقرار.
    ولم يذكر القاضي في «المجرد» إلا هذا؛ قال: وعلى هذا الأصل المريض الذي تدعوه الحاجة إلى الفطر بالأكل لا يجوز له الفطر بالوطء؛ فإن وطئ؛ كان عليه الكفارة كالسفر سواء.
    والرواية الثانية: له الفطر بالجماع وغيره, ولا شيء عليه. قال في رواية ابن منصور: وقيل له: الزهري يكره للمسافر أن يجامع المرأة في السفر نهاراً في رمضان؟ فلم ير به بأساً في السفر, وهي المنصورة عند أصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أصبح صائماً في السفر ثم أفطر كما تقدم.
    55 - وعن أبي سعيد؛ قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء, والناس صيام في يوم صائف مشاة, ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له, فقال: «اشربوا أيها الناس!». قال: فأبوا. فقال: «إني لست مثلكم, إني أيسركم, إني راكب». فأبوا. فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه, فنزل, وشرب وشرب الناس, وما كان يريد أن يشرب. رواه أحمد.

    وهذا والذي قبله نص ظاهر في أنه قد أصبح المسلمون صياماً, ثم أفطروا بعد ذلك, وكل من جاز له الإِفطار بالأكل؛ جاز له الإِفطار بالجماع؛ كالمسافر الذي لم ينو, وذلك أنه إذا نوى المريض أو المسافر الفطر, وأكلا؛ فلهما فعل كل ما ينافي الصوم من جماع وغيره على إحدى الروايتين, قاله أصحابنا: وذلك لأنه إذا عزم على الإِفطار؛ صار مفطراً, فيقع الجماع من مفطر, والفرق بين هذا وبين العبادة الموسعة أن هنا صوم رمضان عبادة مضيقة, وإنما السفر والمرض جوز تأخيرها عن وقتها, فإذا أثر في التضييق الواجب بالشرع؛ فلأن يؤثر في التضييق الواجب بفعل المكلف أولى وأحرى؛ لأن المقتضي لإِباحة الفطر هنا قائم في جميع الوقت. . . .
    والفرق بين الصوم والصلاة: أن قصر الصلاة إسقاط لشطرها؛ فليس له أن يتركه بعد أن يلتزمه أو ينعقد سبب لزومه, ولهذا قلنا: لو سافر وقد وجب عليه الصلاة؛ صلاها تامة, والصوم مجرد تأخير للصوم إلى وقت آخر, ليس هو إسقاطاً, ثم المشقة في السفر تلحقه باستدامة الصوم؛ بخلاف تكميل تلك الصلاة؛ فأنه لا مشقة فيه.
    فعلى هذا يجوز له الفطر, سواء كان قد نوى السفر من الليل أو نواه في بعض النهار, على رواية الجماعة, ونقل عنه صالح: إذا كان قد حدث نفسه من الليل بالسفر؛ فيفطر, وإن أدركه الفجر في أهله؛ إلا أن يكون نوى السفر في بعض النهار؛ فلا يعجبني أن يفطر.
    ويحتمل أن تكون هذه الرواية مثل الرواية الأولى التي نقلها صالح, فيكون فيما إذا نوى السفر من الليل يجوز له الفطر قولاً واحداً, ويحتمل أن يجمع في هذا بين الروايتين في الأصل.
    قال القاضي: وظاهر هذا يقتضي جواز نية الفطر في أهله قبل خروجه من بلده؛ لأنه إذا كان من نيته السفر من يومه والفطر في سفره؛ لم يصح له نية الصوم.
    ويفارق هذا الفطر بالأكل والشرب أن يتأخر حتى يفارق البيوت؛ ففي الموضع الذي يجوز [له] القصر يجوز [له] الفطر. . . .
    وإذا نوى المقيم الصوم, فأراد السفر ليفطر حيلة للفطر؛ لم يستبح الفطر. قاله ابن عقيل بناء على أصلنا: أن الحيل لا تسقط الزكاة ولا تبيح الفروج ولا الأموال.

    مسألة:
    ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان, ورؤية هلال رمضان, ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه:
    وجملة ذلك أن الموجب لصوم رمضان أحد ثلاثة أشياء:أحدها: إكمال عدة شعبان؛ فمتى أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً؛ لزمهم الصوم, سواء رأوا الهلال أو لم يروه, وسواء حال دون منظره سحاب أو قتر أو لم يحل؛ لتواتر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, ولأن الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يوماً؛ فمتى كمل شعبان؛ فقد تيقنَّا دخول شهر رمضان.
    ثم إكمال شعبان مبني على ابتدائه؛ فإن كان أوله قد رئي بالرؤية العامة؛ فآخره قد تيقن انصرامه بكمال العدة, وإن كان بشهادة عدلين. . . .
    الثاني: رؤية الهلال؛ فإذا رئي رؤية عامة؛ فقد وجب الصوم, سواء رأوه بعد إكمال عدة شعبان أو لتسع وعشرين خلت منه, وهذا أيضاً من العلم العام.
    وقد قال الله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] , وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الصوم لرؤيته.
    الثالث: أنه يحول بيننا وبين مطلعه غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان.

    وذلك أنه إذا لم يُرَ ولم تكمل العدة؛ فإما أن يكون هناك مانع يمنع من رؤيته لمن أرادها وقصدها, أو لا يكون هناك مانع:فإن لم يكن هناك مانع؛ لم يجز صومه من رمضان, ومنه يوم الشك المنهي عن صومه؛ كما سيأتي إن شاء الله.
    وإن كان هناك حائل يمنع من رؤيته, وهو أن يكون دون مطلعه ومنظره سحاب أو قتر؛ يجوز أن يكون الهلال تحته قد حال دون رؤيته؛ فالمشهور عن أبي عبد الله رحمه الله: أنه يصام من رمضان, ويجزئ إذا تبين أنه من رمضان, ولا يجب قضاؤه. نقله عنه الجماعة, منهم ابناه والمرُّوذي والأثرم وأبو داوود ومهنى والفضل بن زياد.
    وهل يقال: يجوز على هذا أن يُسمى يوم شك فيه, فيه روايتان:
    إحداهما: يسمى يوم شك, نقلها المروذي؛ فعلى هذا يرجح جانب التعبد.
    والثانية: لا يُسمى يوم شك, بل هو يوم من رمضان من طريق الحكم, وهو ظاهر ما نقله مهنى, وهو قول الخلال والأكثرين من أصحابنا.

    فعلى هذا لا يتوجه النهي عن صوم يوم الشك إليه إذا قلنا: هو من رمضان, وعليه جماهير أصحابنا.
    وروى عنه حنبل: إذا حال دون منظر الهلال حائل؛ أصبح الناس متلوِّمين ما يكون بعد, وإذا لم يحل دون منظره شيء؛ أصبح الناس مفطرين, فإن جاءهم خبر؛ كان عليهم يوم مكانه, ولا كفارة.
    فعلى هذا لا يصام من رمضان, وهذا اختيار طائفة من أصحابنا, منهم ابن عقيل والحلواني وأبو القاسم وابن منده؛ فعلى هذه الرواية يستحب له أن يصبح ممسكاً متلوماً, وإن لم يحل دونه شيء؛ أصبح مفطراً.
    وروى عنه حنبل في موضع آخر وقد سئل عن صوم يوم الشك, فقال:صم مع جماعة الناس والإمام، فإن السلطان أحوط في هذا وأنظر للمسلمين وأشد تفقداً، والجماعة؛ يد الله على الجماعة، ولا يعجبني أن يتقدم رجل الشهر بصيام؛ إلا من كان يصوم شعبان؛ فليصله برمضان.
    قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام ومع الناس. قال أبو عبد الله: وأذهب إلى حديث ابن عمر؛ لأن الصلاة والصيام والجهاد إلى الإمام.
    56 - يعني ما رواه حنبل عن ابن عمر: أنه قال: «صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة».
    57 - ووجه عدم الصوم ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم (أو: غبي، أو: غمي) عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عنه.
    58 - 59 - ورواه مسلم من حديث معاذ بن معاذ عن شعبة، والنسائي من حديث ابن علية وورقاء عن شعبة، وقالا: «فإن غُمِّي (غُمَّ) عليكم الشهر؛ فعدوا ثلاثين».
    60 - ورواه مسلم من حديث الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، وقال: «فأكملوا العدد فعدوا ثلاثين يوماً».
    61 - ورواه أحمد من حديث شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته؛ فإن غبي عليكم؛ فعدوا ثلاثين يوماً».
    62 - وعن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال؛ فصوموا، وإذا رأيتموه؛ فأفطروا، فإن غم عليكم؛ فصوموا ثلاثين يوماً». رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
    63 - ورواه أحمد بهذا اللفظ عن أبي سلمة عن أبي هريرة بإسناد صحيح.
    64 - وعن أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم؛ فعدوا ثلاثين يوماً، ثم أفطروا». رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة؛ قال: ورواه أبو بكر بن عياش وأسامة بن زيد عن محمد بن عمرو بهذا. قال: وهي أسانيد صحاح.
    65 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن حال بينكم وبينه سحاب؛ فكملوا العدة ثلاثين, ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً». رواه أحمد والنسائي.
    66 - وفي رواية للنسائي: «فأكملوا العدة عدة شعبان».

    67 - ورواه أبو داوود والطيالسي؛ قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة؛ فأكملوا شهر شعبان ثلاثين, ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان».
    68 - وعن محمد بن حنين, عن ابن عباس؛ قال: [عجبت] ممن يصوم قبل الشهر [وقد] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال؛ فصوموا, وإذا رأيتموه؛ فأفطروا, فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين». رواه النسائي.
    69 - وفي رواية للنسائي والترمذي: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛فإن حالت دونه غيابة؛ فأكملوا العدة ثلاثين يوماً. قال الترمذي: حدي حسن صحيح.
    70 - ورواه أبو داود ولفظه: «لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين؛ إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم, ولا تصوموا حتى تروه, ثم صوموا حتى تروه؛ فإن حال دونه غمامة؛ فأكملوا العدة ثلاثين يوماً, ثم أفطروا». هكذا رواه أبو داوود من حديث زائد عن سماك, وقال: رواه حاتم بن أبي صغيرة وشعبة والحسن بن صالح عن سماك بمعناه, ولم يقولوا: «ثم أفطروا».
    71 - وقد روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله تعالى قد أمده لرؤيته؛ فإن أغمي عليكم؛ فأكملوا العدة».
    72 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره؛ يصوم لرؤية رمضان؛ فإن غم عليه؛ عد ثلاثين يوماً ثم صام». رواه احمد وأبو داوود, وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن صحيح.
    73 - وعن ربعي عن حذيفة بن اليمان؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة, ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة». رواه أبو داود والنسائي.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 86الى صــ 100
    (5)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    74 - ورواه النسائي عن ربعي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضاً مرسلاً.
    75 - وعن ربعي بن حراش: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم؛ فعدوا شعبان ثلاثين, ثم صوموا؛ فإن غم عليكم؛ فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا؛ إلا أن تروا قبل ذلك». رواه الدارقطني.
    76 - وعن عمار بن ياسر؛ قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم». رواه الأربعة, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
    77 - وذكره البخاري تعليقاً, فقال: وقال صلة عن حذيفة: «من ضام يوم الشك؛ فقد عصى أبا القاسم».
    78 - وعن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة؛ فلا تصوموا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين». هكذا رواه البخاري بهذا الإسناد واللفظ. . . .
    79 - والذي في «الموطأ» بهذا الإسناد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون؛ فلا تصوموا حتى ترو الهلال, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين».
    80 - ثم روى مالك عن ثور بن زيد عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى ترو الهلال, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين».
    فلعل. . . .

    81 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان, فضرب بيده, فقال: «الشهر هكذا وهكذا (ثم عقد إبهامه في الثانية) , صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم؛ فاقدروا ثلاثين». رواه مسلم.
    فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه:
    أحدها أن قوله: «فأكملوا العدة»: يقتضي إكمال العدة في هلال الصوم وفي هلال الفطر؛ فإن الصوم والفطر قد تقدم ذكرهما جميعاً في قوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم - في أحد هذين الموضعين -؛ فأكملوا العدة؛ لأن اللفظ مطلق؛ فلا يجوز تقييده, ولأنه لو اختلف حكم الهلالين؛ لبينه, ولا يجوز حمله على أنه إن غم فيهما جميعاً؛ لأن غمه أغم من أن يُغم فيهما أو في أحدهما, فيجب حمله على الصور [تين] جميعاً, وأن لا يحمل على واحد منهما.
    الثاني: أن قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة»: صريح في هذا الحكم.
    الثالث: أن قوله في حديث أبي هريرة: «فأكملوا عدة شعبان» , وكذلك في حديث ابن عباس وفي حديث ابن عمر: «لا تصوموا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين»: خاص في عدة شعبان, وفي أنه لا يُصام حتى يُرى الهلال.
    الرابع: حديث عائشة نصٌّ مفسر بقولها: «عدَّ ثلاثين يوماً ثم صام».
    الخامس: أن حديث عمار مفسر بالنهي عن صوم يوم الشك, وهذا يوم شك؛ لأنه يحتمل أن يكون من شعبان ويحتمل أن يكون من رمضان, ولا معنى للشك إلا التردد بين الجهتين.
    وأما رواية من روى: «فاقدروا له»؛ فمعناها: احسبوا له وعدوا له حتى يعلم الوقت الذي يتيقن فيه طلوعه, وهو عند إكمال العدة؛ كما جاء مفسراً: «فاقدروا ثلاثين».

    82 - وكما روى أيوب: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل البصرة: «بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, زاد: وإنَّ أحسن ما يقدر له: أنَّا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا؛ فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا؛ إلا أن يروا الهلال قبل ذلك». رواه أبو داوود في «سننه».

    فقوله: «إلا أن تروا الهلال قبل ذلك»: دليل على أنهم فهموا من قوله:«فاقدروا له»: كمال العدة؛ لأن الهلال لا يُرى قبل ليلة الثلاثين, وإنما يُرى قبل الحادية والثلاثين.

    وقد زعم بعضهم أن حديث ابن عمر منسوخ؛ لأن التقدير هو حساب الوقت الذي يطلع فيه, وهذا إنما يعلمه أهل الحساب, ونحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقد يكون القدر بأن ينظر إلى طلوعه صبيحة ثمانٍ وعشرين؛ فإن رئي تلك الغداة؛ علم أن الشهر تام, وأنه لا يطلع ليلة الثلاثين, وإن لم يُرَ فيها؛ عُلم أن الشهر ناقص, وأنه يطلع ليلة الثلاثين, لكن يضيق اعتبار هذا على الناس, وقد لا ينضبط, فنسخ بإكمال العدة. وأيضاً؛ فإنها عبادة يتيقن دخول وقتها, فلم تفعل في وقت الشك؛ كالصلاة والحج, ولأنه شك في طلوع الهلال؛ فلا يشرع معه الصوم؛ كالشك في الصحو. . . .
    وأما من جعل الناس تبعاً للسلطان؛ فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .} [الحجرات: 1].
    83 - ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون».
    84 - وقال ابن عمر: «صم مع الجماعة, وأفطر مع الجماعة». رواه حنبل.
    85 - وقال أبو سعيد: «إذا رأيت هلال رمضان؛ فصم, وإذا لم تره؛ فصم مع جماعة الناس, وأفطر مع جماعة الناس». رواه الأثرم.
    ولأن الإِمام أحوط في هذا وأشد مراعاة, فوجب اتباعه في هذا كما يتبع فيما يأمر به من الجهاد وغيره, وكما لو قال ثبت عندي صوم أول يوم من رمضان, وكان ثبوته بشاهد واحد؛ وجب اتباعه على مَنْ لا يوجب الصوم بشاهد واحد. ذكره القاضي.
    86 - ووجه الأول: ما رواه أحمد, حدثنا إسماعيل, أنبأ أيوب, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشهر تسع وعشرون؛ فلا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فاقدروا له». قال نافع: فكان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون؛ يبعث مَنْ ينظر, فإن رأى؛ فذاك, وإن لم يُرَ ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطراً, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر؛ أصبح صائماً. رواه الجماعة إلا الترمذي؛ إلا أن قوله: قال نافع. . . إلى آخره؛ فإنما رواه أحمد وأبو داوود.
    87 - وفي رواية أبي داوود: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب.

    88 - وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبيد الله, حدثني نافع, عن ابن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهر تسع وعشرين, هكذا وهكذا, فإن غم عليكم فاقدروا له». وكان ابن عمر إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً.
    قال أصحابنا: فوجه الدلالة من وجوه:
    أحدها: أن ابن عمر قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «فاقدروا له» , وفسر ذلك بأن كان يصوم يوم الثلاثين مع إغماء السماء, والصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً مجملاً, وفسره بمعنى؛ وجب الرجوع إلى تفسيره؛ لأنه أعلم باللغة ولأنه يدري بقرائن الأحوال من النبي صلى الله عليه وسلم ما يعلم به قصده, وقرائن الأحوال في الغالب لا يمكن نقلها, ولأنه شهد التنزيل وحضر التأويل وشاهد الرسول, فيكون أعلم بما ينقله ويرويه؛ فكيف بما قد نقله ورواه؟!89 - ولهذا رجع ابن عمر في تفسيره التفرق أنه التفرق بالأبدان لما روى حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» , لا سيما والراوي هو ابن عمر, وكان في اتباعه للسنة وتحريه لدينه بالمكان الذي لا يخفى, وتفسيره مقدم على تفسير غيره ممن هو بعده في الفقه واللغة.
    الثاني: من جهة اللغة؛ فإنهم يقولون: قدرت الشيء أقدُره وأقدِره قدراً بمعنى قدَّرته أقدِّره تقديراً, يقولون: قَدَر الله هذا الأمر وقَدَّره من القضاء, وقَدَرْت الشيء وقَدَّرْته من الحساب, وقَدَر على عياله قَدْراً مثل قَتَر وقُدِر على الإنسان رزقه مثل قُتِر, قال جماعة من أهل اللغة: قَدَر يَقْدِر بمعنى ضيق, ومنه قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]؛ أي: نضيق, وقوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] أي: يضيق, فإن كان قوله: «فاقدروا له»؛ بمعنى: ضيقوا له؛ فالتضييق لا يكون إلا بأن يحسب له أقل زمان يطلع فيه, وهو طلوعه ليلة الثلاثين, وإن كان بمعنى: قدروا له؛ فإن التقدير الحساب والعدد, وذلك يطلق على التقدير بالثلاثين وعلى التقدير بالتسع والعشرين؛ فالقدر بالثلاثين هو القدر في آخر الشهر, وعلى ذلك تحمل الرواية المفسرة إن صحت فإن مدارها. . .؛ فإن الراوي لها ابن عمر, ومحال أن يروي: «فاقدروا له» في أول الشهر ثلاثين ويقدر هو تسعاً وعشرين.
    90 - وقد روي ذلك مفسراً من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدَّموا الشهر (يعني: رمضان) بيوم ولا يومين؛ إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم, صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين يوماً ثم أفطروا» , رواه أحمد, والقدر بالتسع والعشرين يكون في أول الشهر؛ لتفسير ابن عمر, ولأنه أحوط للصوم؛ فالقدر في كل هلال بما يقتضيه, كما كانت البينة في كل هلال بحسبه؛ ففي أوله يقبل قول الواحد وفي آخره لا بد من اثنين.

    الثالث: قوله: «إنما الشهر تسع وعشرون. . .» إلى قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له»؛ فلولا أنه أراد التقدير له بالتسع والعشرين لم يكن لذكرها هنا معنى, بل أعلمهم أن الشهر الذي لا بد منه تسع وعشرون, واليوم الموفي ثلاثين قد يكون وقد لا يكون, فإذا غم الهلال؛ فعدوا له الشهر المذكور, وهو التسع والعشرون.
    ويوضح ذلك أنه أتى بقوله: «فلا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه» عقب قوله: «إنما الشهر تسع وعشرون» بحرف الفاء المشعرة بالسبب؛ فكأنه قال: الشهر الذي لا بد منه تسع وعشرون؛ فاقدروا له هذا العدد إذا غم عليكم.
    الرابع: قد قيل: معناه: فاقدروا له زماناً يطلع في مثله الهلال:
    91 - كما في حديث عائشة: «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن المشتهية للنظر»؛ أي: اقدروا زماناً يقف في مثله جارية حديثة السن.
    92 - وأيضاً؛ فما روى أحمد في «مسائل الفضل بن زياد» بإسناده عن أبي عثمان؛ قال: قال عمر: «ليتق أحدكم أن يصوم يوماً من شعبان, ويفطر يوماً من رمضان؛ فإن تقدم قبل الناس؛ فليفطر إذا أفطر الناس».
    [فـ] نهى من احتاط بالصوم في أول الشهر أن يبني على ذلك في آخره, فيفطر يوماً من رمضان, وأمره أن يجعل احتياطه في الطرفين.
    93 - وعن الزهري, عن سالم؛ قال: «كان أبي إذا أشكل عليه شأن الهلال؛ تقدم قبله بصيام يوم».
    وقد تقدم رواية نافع عنه بالفَصْل بين الصحو والغيم.
    94 - و [عن] معاوية بن صالح, عن أبي مريم؛ قال: سمعت أبا هريرة يقول: «لأن أتعجل في صيام رمضان بيوم أحب إلي [من] أن أتأخر؛ لأني إذا تعجلت؛ لم يفتني, وإذا تأخرت؛ فاتني».
    وفي لفظ آخر: «تقدم رمضان بيوم من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».
    95 - وعن عبد الله بن هبيرة, عن عمرو بن العاص: «أنه كان يصوم [اليوم] الذي يشك فيه من رمضان».
    96 - وعن مكحول وابن [حلبس]: أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: «إن رمضان يوم كذا وكذا, ونحن متقدمون؛ فمن أحب أن يتقدم؛ فليتقدم, ولأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان».
    97 - وعن يحيى بن أبي إسحاق؛ قال: «[رأيت] هلال الفطر: إما عند الظهر, وإما قريباً منها, فأفطر ناس من الناس, فأتينا أنس بن مالك, فأخبرناه برؤية الهلال, وبإفطار من أفطر, فقال هذا اليوم يكمل لي واحد وثلاثين يوماً, وذلك أن الحكم بن أيوب أرسل إليَّ قبل صيام الناس: إني صائم, فكرهت الخلاف عليه, فصمت, وأنا متم صوم يومي هذا إلى الليل».

    98 - وعن عبد الله بن أبي موسى عن عائشة: «أنها كانت تصوم اليوم الذي تشك فيه من رمضان».
    99 - وعن [فاطمة بنت المنذر عن أسماء]: «أنها كانت تصوم اليوم الذي يُشك فيه من رمضان».
    100 - وروى أحمد في «المسند» عن عبد الله بن أبي موسى؛ قال:«أرسلني مدرك (أو: ابن مدرك) إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أسألها عن أشياء, وذكر الخبر. . .» إلى أن قال: «وسألتها عن اليوم الذي يختلف فيه من رمضان؟ فقالت: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان. قال: فخرجت, فسألت ابن عمر وأبا هريرة, فكل واحد منهما قال: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منَّا».
    101 - وروى سعيد, عن يزيد بن خمير, عن الرسول الذي أتى عائشة رحمها الله في اليوم الذي يُشك فيه من رمضان؛ قال: قالت عائشة: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحبُّ إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».
    102 - وعن فاطمة بنت المنذر؛ قالت: «ما خلق الله هلال رمضان كأن يُغم على الناس؛ إلا كانت أسماء تتقدمه وتأمرنا أن نتقدمه».
    103 - وروى أبو حفص عن مكحول: أن عمر بن الخطاب كان يصوم يوم الشك إذا كانت السماء في تلك الليلة متغيمة, ويقول: «ليس هذا بالتقدم ولكنه بالتحري».
    وذكر أبو بكر عبد العزيز عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة: أنهم أوجبوا صومه في الغيم.
    104 - وروى يونس بن عبد الأعلى, عن عبد الله بن عكيم؛ قال: كان عمر بن الخطاب في الليلة التي تشك من رمضان يقوم بعد المغرب, فيحمد الله, ثم يقول: ألا إن شهر رمضان شهر كتب الله عليكم صيامه, ولم يكتب عليكم قيامه, ألا ومن استطاع منكم أن يقوم؛ فليقم؛ فإنها من نوافل الخير التي قال الله عز وجل, ومن لم يستطع؛ فلينم على فراشه, ولا يقولنَّ قائل: إن قام فلان قمت, وإن صام فلان صمت؛ فمن قام أو صام؛ فليجعل ذلك لله, أقلوا اللغو في بيوت الله, وليعلم أحدكم أنه في صلاة ما انتظر الصلاة, ألا لا يتقدمن الشهر منكم. . . على الظراب.
    105 - كذا روى سعيد هذه الخطبة عن عبد الله بن عكيم؛ قال: كان عمر بن الخطاب إذا دخل [شهر رمضان]؛ صلى لنا صلاة المغرب, ثم تشهد بخطبة خفيفة, ثم قال: «أما بعد؛ فإن هذا الشهر [شهر] كتب الله عليكم صيامه. . .» وساق الخطبة إلى أن قال: «ألا يتقدمنَّ الشهر منكم أحد (ثلاث مرات) , ألا ولا تصوموا حتى تروه, ثم صوموا حتى تروه, ألا وإن غمي عليكم, فلن يُغمَّ عليكم العدد, فعدُّوا ثلاثين ثم أفطروا, ألا ولا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب».
    فهذا يبين أنه أراد بأول رمضان ليلة الإِغماء.
    106 - وعن فاطمة بنت الحسين: أن رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية الهلال, هلال رمضان, فصام, وأحسبه قال: ومر الناس أن يصوموا, وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 101الى صــ 115
    (6)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    فهذه الآثار من الصحابة رضي الله عنهم قالوها وفعلوها في أوقات متفرقة, وأكثر هؤلاء مثل أبي هريرة وابن عمر وعائشة هم الذين رووا أحاديث إكمال العدة وأحاديث النهي عن التقدم, وقد روي عنهم وعن غيرهم النهي عن صوم يوم الشك والأمر بإكمال العدة.
    107 - فروى سعيد والنجاد عن عبد العزيز بن حكيم؛ قال: ذكر عند ابن عمر اليوم الذي يشك فيه من رمضان, فقال ابن عمر: «لو صمت السنة؛لأفطرت اليوم الذي بينهما».
    108 - وروى حنبل عن ابن عمر؛ قال: «صوموا مع الجماعة, وأفطروا مع الجماعة».
    109 - وروى الأثرم عن مسروق؛ قال: «دخلنا على عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان, فقالت: يا جارية! خوضي له عسلاً. قالت: خوضوه, فإن رابكم منه شيء؛ فمروها فلتزد, فإني لو كنت مفطرة؛ لذقته لكم. فقلت: أنا صائم, يريد إن كان اليوم من رمضان أدركنا وإلا كان تطوعاً. قالت: إن الصوم صوم الناس, والفطر فطر الناس, والذبح ذبح الناس».

    110 - وعن محمد بن سيرين: «أنه دخل على أنس بن مالك في اليوم الذي يشك فيه من رمضان, فوجده قد شرب خزيرة وركب».
    111 - وعن الشعبي؛ قال: «كان عمر وعلي ينهيان عن صوم [اليوم] الذي يشك فيه من رمضان».
    112 - وعن أبي الطفيل؛ قال: جاء رجل إلى علي, فسأله عن صيام يوم الشك؟ فقال له علي: «إن نبيكم كان ينهى عن صيام ستة أيام من السنة:يوم الشك, ويوم النحر, ويوم الفطر, وأيام التشريق».
    113 - وعن عبد الله بن مسعود؛ قال: «لأن أفطر يوماً من رمضان ثم أقضيه أحب إليَّ من أن أزيد فيه ما ليس منه».
    114 - وعن ابن عباس؛ قال: «لا تصوموا اليوم الذي يشك فيه لا تشق فيه الإِمام».
    115 - وعن أبي سعيد؛ قال: «إذا رأيت هلال رمضان؛ فصم, وإذا لم تره؛ فصم مع جماعة الناس وأفطر مع جماعة الناس».
    116 - وعن حذيفة: «أنه كان ينهى عن صوم [اليوم] الذي يشك فيه».

    117 - وعن عمار: «أنه أتى بشاة مصلية في اليوم الذي يقول القائل: هو من شعبان, فاعتزل رجل من القوم, فقال: أما أنت بمؤمن بالله واليوم الآخر؛ فادن فكل».
    فإذا كان الأمر هكذا؛ وجب أن تحمل آثار الصوم على حال الغمام والضباب, وآثار الفطر على حال الصحو والانقشاع لوجوه:
    أحدها: أنه إن لم يفعل ذلك؛ لزم تهاتر الآثار وتعارضها, وأن يكون الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وعملوا بخلافه في مثل هذه القضية التي لا تنسى ولا تخفى, حتى يقول أبو هريرة وابن عمر: أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منَّا في قضية رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها نصّاً, وأن يخالفوا إلى ما نهوا عنه, ومثل هذا لا يجوز أن يظن بهم ويعتقد فيهم.
    الثاني: أن الآثار في الشك مجملة, ليس فيها نص بيوم الغيم, والآثار في الصوم كثير, منها مفسرة مبينة بصوم يوم الغيم, وفيها ما فُرِّق فيه بين الغيم والصحو, وهو حديث ابن عمر, مع أنه قد صرح عن نفسه بأنه يفطر اليوم الذي يشك فيه, فعلم أن مقصوده بيوم الشكِّ: الشكُّ في حال الصحو, وإذا علم أن مقصود بعض الصحابة بيوم الشك هذا؛ جاز أن يكون مقصود الباقي ذلك.

    ويوضح ذلك: أن الشك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان والله أعلم في حال الصحو؛ لأنه صام تسع رمضانات وكانت في الصيف.
    يُبيِّنُ ذلك: أنه خرج في غزوة الفتح في سنة ثمان من رمضان في حَرٍّ شديد, وخرج إلى بدر في رمضان من السنة الثانية, وهو أول رمضان فرض, وكانت في الربيع الذي تسميه العامة الخريف, وذلك لأنهم أمطروا عام بدر كما دل عليه القرآن, والمطر إنما يكون في الربيع الذي قبل الشتاء المسمى بالخريف, وفي الصيف الذي بعده سمي بالربيع, لكن العادة أن رمضان في السنة الثانية يكون قبل الوقت الذي كان فيه من السنة الأولى بنحو أحد عشر يوماً, فلما كان في غزوة الفتح رمضان في حرٍّ شديد؛ عُلِمَ أنه كان قبل ذلك فيما بين الخريف والحر الشديد, لا فيما بين الربيع الذي بعد الشتاء وبين الحر الشديد؛ لما ذكرنا أن السنة إنما تدور وراء, وهو أول رمضان فرض, والسنة إنما تدور في ثلاثة وثلاثين سنة, يقع منها نحو ستة عشر في الصيف وما يقاربه.
    الثالث: أن السماء إذا كانت مصحية وتقاعد الناس عن رؤية الهلال أو ادعى رؤيته مَنْ لا يقبل خبره أو جاز أن يكون قد رئي في موضع آخر أو تحدث به الناس ولم يثبت؛ كان شكّاً مرجوحاً؛ لأن الغالب الظاهر أنه لو كان هناك هلال لرآه بعض المقبولين, والأصل عدم الهلال, فاعتضد على عدم الهلال الأصل النافي المبني عليه استصحاب الحال والظاهر الغالب, فلم يكن لتقدير طلوعه بعد هذا إلا مجرد وهم وخيال, وأحكام الله لا تبنى على ذلك, فكان الصوم والحال هذه مجرد غلو في الدين وتعمق؛ كالمتورع عن مال رجل مسلم مستور, وكتقدير الشبهات والاحتمالات التي لا أمارة عليها, وهذا مما لا يُلتفت إليه.
    ثم إنه في حال الصحو للناس طريق إلى العلم به, وهو ترائي مطلعه والتحديق نحوه؛ فإذا لم يروه؛ جاز نفيه بناء على نفي رؤيته؛ فإن الباحث عن الشيء الطالب له بحسب الوسع والطاقة إذا لم يجده جاز أن ينفيه, وعلى هذا يبنى عامة الأحكام الشرعية المبنية على عدم الدليل الموجب, مثل أن يقال: لا يجب الشيء الفلاني أو لا يحرم؛ لأن الأصل عدم الوجوب والتحريم, لا دليل على ثبوتها.
    أما إذا حال دون منظره سحاب أو قتر؛ فهناك لا سبيل إلى ترائيه ولا نفي طلوعه, فانقطع العلم بالهلال من جهة الرؤية, ولم يبق إلا العدد.
    ويحتمل أن يكون طالعاً, ويحتمل أن لا يكون, ومثل هذا لا يأتي الشرع بتحريم الاحتياط وإزالة الشك فيه.
    118 - وهو القائل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
    بل مثل هذا في الشرع: إما أن يجب الاحتياط فيه أو يستحب كما سنذكره إن شاء الله, وهذا معنى قول من قال من الصحابة: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».
    ولا يخالف هذا قول ابن مسعود: «لأن أفطر يوماً من رمضان ثم أقضيه أحب إليَّ من أن أزيد فيه ما ليس منه»؛ لأنه جعل الفطر والقضاء خيراً من الزيادة؛ لأن الفطر والقضاء غالباً إنما يكون مع الصحو بأن يكون بعض الناس قد رآه ولم يثبت ذلك بعد, أما مع الغيم؛ فيتعذر الرؤية غالباً.
    ثم هذا الشك قد يرجح فيه الصوم من وجهين:
    أحدهما: أن الغالب على شعبان أن يكون تسعاً وعشرين, وإنما يكون ثلاثين في بعض الأعوام, فإن غُم الهلال؛ كان إلْحاق الفرد بالأعم الأغلب أولى مِنْ إِلْحاقهِ بالأقل.
    الثاني: أن الشهر المتيقن تسع وعشرون, وما زاد على ذلك متردد بين الشهور, وقد كمل العدد المتيقن, وقد نَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله: «إنما الشهر تسع وعشرون» , بصيغة (إنما) التي تقضي إثبات المذكور ونفي ما عداه, فعلم أن ما زاد على التسع والعشرين ليس من الشهر بيقين, فإذا مضت من شعبان تسع وعشرون ليلة؛ فقد مضى الشهر الأصلي.

    وأيضاً ما احتج به بعض أصحابنا, وهو:
    119 - ما روى مطرف بن الشخير عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (أو: قال لرجل وهو يسمع): «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟».
    قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أفطرت؛ فصم يومين مكانه». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.
    وفي رواية للبخاري: «أما صمت سرر هذا الشهر؟». قال: أظنه يعني رمضان.
    وفي رواية ثابت: «من سرر شعبان». قال البخاري*: - «وهو أصح».

    وفي رواية لأحمد ومسلم, عن شعبة, عن ابن أخي مطرف, عن مطرف: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً «يعني: شعبان)؟». قال؛ لا. قال: «فإذا فطرت رمضان؛ فصم يوماً أو يومين (شك شعبة. قال: وأظنه قال: يومين»).
    وفي رواية لأحمد وأبي داوود والنسائي, عن حماد بن سلمة, عن ثابت عن مطرف وسعيد الجريري, عن أبي العلاء, عن مطرف, عن عمران: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟». قال: لا. قال: «فإذا أفطرت؛ فصم يوماً (وقال أحدهما: يومين»).
    وفي رواية: وقال الجريري: «صم يوماً».
    وقد رواه أحمد عن يزيد عن الجريري, وقال: «فصم يومين».
    وكذلك رواه سليمان التيمي عن أبي العلاء, وغيلان بن جرير عن [مطرف].
    120 - وعن أبي الأزهر المغيرة بن فروة؛ قال: قام معاوية بالناس بدير مسحل الذي على باب حمص, فقال: يا أيها الناس! إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا, وأنا متقدم بالصيام؛ فمن أحب أن يفعله؛ فليفعله. قال: فقام إليه مالك ابن هبيرة السبئي, فقال: يا معاوية! أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء من رأيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صوموا الشهر وسرّ». رواه أبو داوود.
    121 - وروي عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أنهما قالا: «سره أوله».
    122 - وعن القاسم بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر قبل شهر رمضان: «الصيام يوم كذا وكذا, ونحن متقدمون؛ فمن شاء؛ فليتأخر». رواه ابن ماجه.
    قال أهل اللغة: السر والسرار - بالفتح والكسر ــ آخر الشهر ليلة يستسر هلال, فربما استسر ليلة, وربما استسر ليلتين إذا تم الشهر؛ لأنه لا بُدَّ أن يُرى صبيحة ثمان وعشرين ثم يستسر ليلة تسع وعشرين ثم يستهل ليلة الثلاثين أو يستسر أيضاً.
    وقد ذكرنا عن الأوزاعي وسعيد: أن سِرَّه أوله.
    قال من احتج بهذا: لا وجه لهذا الحديث إلا أن يكون أمر بصوم السرار مع الغيم, فلما لم يصم ذلك الرجل السرار؛ أمره بالقضاء؛ لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا أن يكون صوماً يصومه أحدكم؛ فليصمه».
    ثم أمر بصوم السرر وقضائه, وهو يوم أو يومين, فيحمل هذا على حال الصحو وهذا على حال الإِغمام توفيقاً بينهما.
    ويؤيد ذلك أن معاوية هو ممن روى حديث الأمر بصوم السِّر, وكان يتقدم رمضان, ويعلل بأني أن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان, وهذا الاحتراز لا يشرع إلا في الغيم.
    ومطرف بن الشخير هو الذي روى حديث عمران بن حصين, وكان يصوم هذا الصوم, ويقول:

    123 - «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان». رواه النجاد وغيره.
    وقد فسر سعيد والأوزاعي سره بأنه أوله, وهذا إنما يكون مع الغيم؛ لأنه يجعل يوم الإِغمام أول الشهر حكماً واجباً مضى؛ فهو سرار لشعبان من وجه, وأول لرمضان من وجه.
    فإن قيل: هذا محمول على أن الرجل كانت له عادة يصوم السرار, وكان قد نذره.
    قلنا: هذا لا يصح؛ لأن اعتياد صوم السرار دون ما قبله في الصحو هو التقدم المنهي عنه في حديث أبي هريرة؛ فلا يجوز أن يحمل على أن عادته صوم أيام منها السرار؛ لأنه إنما أمره بقضاء السرار فقط, ولذلك أيضاً يكره أن ينذر صوم السرار مفرداً أو يحرم؛ لأنه تقدم وجوبه يوم الشك, وما كان مكروهاً في الشرع كان مكروهاً وإنْ نذره.
    ثم هذا ليس له في الحديث ذكر, وإنما المذكور حكم, وهو الأمر بالقضاء, وسبب, وهو فطر ذلك السرار, فيجب تعلق الحكم بذلك السبب,ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء سوى ذلك. ثم معلوم أن النذر يجب قضاؤه, ولا اختصاص للسرار بذلك. ثم راوي الحديث عمران وصاحبه مطرف فهما من ذلك العموم في حق ذلك الرجل وغيره.
    ثم حديث معاوية عام صريح بالأمر بصوم السر, وقد فهم منه معاوية التقدم.
    فإن قيل: فقد أمره بقضاء يومين, وإنما يقضي مع الإِغمام يوماً واحداً.
    قيل: أما حديث معاوية؛ فليس فيه عدد, وإنما فيه السرار والسرار المتيقن هو ليلة واحدة.
    قال غير واحد من أهل اللغة: سرر الشهر آخر ليلة منه.

    وأما حديث عمران؛ فقد ذكر بعض الرواة أنه إنما أمره بقضاء يوم فقط؛فإن كان هذا هو الصواب؛ فلا كلام, وإن كان الصواب رواية الأكثرين؛ فقد حمله القاضي على ما إذا غُم هلال شعبان وهلال رمضان, فعدَّ كل واحد من رجب وشعبان ثلاثين يوماً, وحصل صوم رمضان ثمانية وعشرين يوماً.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 116الى صــ 130
    (7)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    قال: فليعلم أن الخطأ حصل بيومين من شعبان, وهذا الذي قاله يقتضي أنه غُم هلال شعبان ثم غُم هلال رمضان ليلتين: أن يؤخذ بالاحتياط؛ لأنه يجوز أنه كان هلال شعبان تحت الغمام, فتكون الليلة التي يظن أنها تسع وعشرون من شعبان ليلة الثلاثين منه والسماء متغيمة, فيقدر له ويصام, وأنه لو أكمل العدتين وصام ثم رأى الهلال بعد ثمانية وعشرين من رمضان: أنه يقضي يومين, وعلى قياس [هذا]؛ فلو توالت ثلاثة أشهر أو أكثر مغيمة. . . والأشبه. . . , وذكر في موضع آخر أن لا يحكم بدخول شهر من الشهور بمجرد الإِغمام إلا شهر رمضان كما لا يثبت بشهادة الواحد إلا رمضان خاصة.
    وأيضاً؛ فإن من حيل بينه وبين رؤية الهلال فإنه يعمل بالتحري والاجتهاد.
    أصله الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى, والتحري يوجب الصوم؛ لأنه أحوط للشهر, ولأنه الأغلب.
    وأيضاً فإن الصوم ثابت في ذمته بيقين, ولا يتيقن براءة ذمته إلا بصوم الإِغمام, فصامه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, كما يجب عليه إمساك جزء قبل الفجر؛ لأنه لا يتم صوم اليوم إلا به, وكما لو كان عليه فوائت لا يعلم عددها, أو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها, أو أصاب ثوبه نجاسة جهل محلها؛ فإنه يلزمه فعل ما يتيقن به براءة [ذمته] , كذلك ها هنا.

    ولأنه إغمام في أحد طرفي الشهر فأخذ فيه بالاحتياط كالطرف الثاني.
    والذي يدل على الأخذ بالاحتياط في أول الشهر قبول خبر الواحد فيه مع أنه لا يقبل في سائر الشهور إلا بشهادة اثنين, فلولا رعاية الاحتياط فيه لقيس على سائر الشهور.
    فإن قيل: في هذه الأصول المقيس عليها قد تيقن الوجوب, ولا تيقن البراءة من الواجب إلا بفعل الجميع, وهنا يشك في وجوب صوم ذلك اليوم, والأصل عدم وجوبه, والأصل بقاء شهر شعبان, فيجب العمل باستصحاب الحال؛ كما لو شك في مقدار الزمان الذي فوت صلاته, مثل أن يقول: لم أصلِّ منذ بلغت, ولا أدري هل بلغت من سنة أو سنتين, أو شك في طريان النجاسة على الثوب, وكما لو شك في طلوع الفجر؛ فإنه يجوز له الأكل حتى يتيقن طلوعه, وكما يستصحب الحال مع الصحو.
    قيل: وقد تيقن وجوب صوم الشهر بكماله, وشك في هذا [اليوم] هل هو من الشهر أم لا؟ مع أن الأغلب أنه منه, وليس معه قرينة تنفي كونه منه.
    وأما كون الأصل بقاء شعبان؛ فقد عارضه كون الغالب طلوع الهلال في هذه الليلة, وأن هذا الأصل متيقن الزوال, وإنما التردد في وقت زواله.
    ثم الفرق بين هذا وبين الأكل والوقوف مع الشك في طلوع الفجر: أنه قد وجد منه الإِمساك هنا والوقوف, فلم تسقط العبادة بالبناء على الأصل, وهنا البناء على الأصل يسقط صوم يوم.
    وأيضاً؛ فإن إيجاب الاحتياط هناك فيه مشقة عظيمة؛ فإن طلوع الفجر يخفى على كثير من الناس, وتفويت الحج أشق وأشق, وليس في صوم يوم الإِغماء مشقة.
    وأيضاً؛ فإنه هناك يجوز الأكل مع قدرته على معرفة طلوع الفجر.
    124 - كما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
    ولو كانت السماء مصحية وأراد التغافل عن رؤية الهلال لئلا يصوم ذلك اليوم؛ لم يجز. فعُلِم الفرق بينهما.
    ولأن الله سبحانه قال في الفجر: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] , فعلق الحكم بالتبيين, وقال هنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة: 189] , فعلق الحكم بنفس الهلال, لا بمجرد رؤيته.
    وأيضاً؛ فإن الصوم عبادة مقدرة بوقت وجوبها, فوجبت مع الاشتباه؛ كالصلاة في آخر الوقت, والشك في آخر الشهر, وهذا لأنه إذا شك تضايق وقت الصلاة؛ وجب [عليه] فعلها حذر الفوات, مع أن الأصل بقاء الوقت؛ فكذلك الصوم مثله سواء.
    فعلى هذا صوم يوم الغيم [واجب] في المشهور عند أصحابنا ويتوجه. . . .وأما الأحاديث المتقدمة؛ فقد أجاب أصحابنا عنها أنها بين صحيح لا دلالة فيه, أو ظاهر الدلالة لكن في إسناده مقال ويقبل التأويل. قالوا: فكل موضع جاء فيه: «فأكملوا العدة»؛ فالمراد به إكمال عدة رمضان؛ لأنه أقرب المذكورين, ولأنه جاء مصرحاً به في حديث أبي هريرة:
    من رواية مسلم التي إسنادها أصح الأسانيد: «فإن غم عليكم؛ فصوموا ثلاثين يوماً».
    وفي رواية الترمذي التي صححها هو وغيره: «فعدوا ثلاثين يوماً ثم أفطروا».

    وكذلك في حديث ابن عباس: «فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ثم أفطروا». رواه أبو داوود.
    ولأنا قد قدمنا عن أبي هريرة وعائشة وابن عمر أنهم أمروا بصوم يوم الغيم, فلو كانت أحاديثهم تقتضي إفطار يوم الغيم, لم يخالفوا ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن مثل هذا لا يجوز أن ينسب الراوي فيه إلى نسيان أو تأويل, وتأولوا أيضاً إكمال العدة على وجهٍ آخر سيأتي.
    فأمَّا الأحاديث الظاهرة في إكمال عدة شعبان؛ فأجابوا عنها بجوابين:
    أحدهما: القدح: أما حديث أبي هريرة؛ فقال أبو بكر الإِسماعيلي: قد رواه البخاري عن آدم عن شعبة, فقال: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».

    قال: قد رويناه عن غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن علية وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم بن علي والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي داوود وآدم, كلهم عن شعبة, لم يذكر أحد منهم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين. قال: وهذا يجوز أن يكون من آدم, رواه على التفسير من عنده للخبر, وإلا؛ فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين من رواه عنه [ومن بين] سائر مَنْ ذكرنا ممن يرويه عن شعبة [وجه] , ورواه المقبري عن ورقاء عن شعبة على ما ذكرناه أيضاً.
    فإن قيل: هذه زيادة من الثقة فيجب قبولها.
    قلنا: هذا لا يصح لوجوه:
    أحدها: أن من لم يذكر هذه الزيادة عدد كثير لا يجوز على مثلهم في عددهم وضبطهم أن يغفلوها ويضبطها واحد لا يقاربهم في الفضل والضبط, وقد اختلف عليه فيها, فروي أنه ذكرها, وروي عنه أنه تركها, وعلى هذا عامة أهل الحديث وأكثر محققي أصحابنا, لا سيما وقرينة الحال تقتضي أنه روى الحديث بالمعنى الذي فهمه منه.
    الثاني: أن الزيادة إنما تقبل إذا زاد الواحد على لفظ الجماعة, أما إذا غيَّر لفظ الجماعة؛ علم أنه خالف لفظهم, ولم يزد عليهم, وسائر الجماعة رووا هذا الحديث: «فأكملوا العدة» , وبعضهم قال: «فعدوا ثلاثين يوماً» , ولا شك أن هذا اللفظ لا يزاد عليه شعبان إلا بتغييره, وحذف أداة التعريف؛ فمن قال: عدة شعبان, لا يقال: إنه قد زاد على لفظ من قال: فأكملوا العدة, لكن خالف لفظُهُ لفظَهُ, وأما المعنى؛ فقد يكون متفقاً, وقد يكون مختلفاً.
    الثالث: إن الروايات الصحيحة التي لا علة فيها عن أبي هريرة تثبت أن المراد: أكملوا عدة رمضان ثلاثين يوماً كما تقدم, فتحمل الروايات المطلقة على المفسرة, وتكون هذه الرواية تفسيراً من عند الراوي؛ كما شهد به عليه أهل المعرفة بعلل الحديث.

    الرابع: أنه تقدم عن أبي هريرة أنه كان يقول: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان» , وأن عائشة أفتت بذلك, وأقرها عليه؛ فلو سمع من فلق فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً صحيحاً بإكمال عدة شعبان وابتداء الصوم بعدها في مثل هذا الخطب الذي لا يكاد يغفل ويهمل بهذا اللفظ الذي لا يعدل عنه ويتأول؛ لما استجاز خلافه.
    ونحن إذا قلنا: مخالفة الراوي للحديث لا يمنع الاحتجاج به؛ فإنا ننسب مخالفته إلى نسيان أو اعتقاد نسخ أو تأويل, وهذه الاحتمالات مندفعة هنا.
    ثم لا ريب أن مخالفته علة في الحديث تؤثر فيه؛ فإذا اعتضد بمخالفته انفراد واحد عن الإِثبات بهذا اللفظ الذي فيه المخالفة, ومخالفته للفظ الجماعة؛ كثرت الشهادات القادحة في هذا اللفظ, فوقف.
    ويتوجه فيه شيء آخر, وهو أن اللفظ المشهور: «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» , وهذا يكون في حال الصحو إذا تراءاه فغبي عليه ولم يره ولم يعرفه؛ لأنهم. . . غبي على الشيء إذا لم يعرفه مع إمكان معرفته, وفي لفظ: «فإن غمي عليكم الشهر» , وهذا محتمل للصحو.
    وأما حديث ابن عباس؛ فقد رواه أبو داوود: «فأتموا العدة ثلاثين يوماً, ثم أفطروا» , وهي زيادة محضة لا تخالف المزيد كالزيادة الأولى.
    125 - وروي أيضاً: «فأكملوا العدة عدة شعبان».
    وفي السياق ما يدل على هذا المعنى.
    وهذا الاختلاف وإن لم يكن موهياً للحديث؛ فإنه نوع علة فيه يحطه عن درجة القوة, وتعرضه للتأويل الذي يأتي.
    وأما حديث حذيفة مسنداً ومرسلاً؛ فقال أحمد: سفيان وغيره يقولون: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليبين قوله: حذيفة, [ليس] بمحفوظ.
    [و] قوله: «لا تصوموا حتى تكملوا العدة أو تروا الهلال»: محمول على حال الصحو, وأكثر ما فيه تخصيص العام, وذلك جائز بالدليل.
    وأما الرواية المفسرة؛ فمدارها على الحجاج بن أرطانة, وضعفه مشهور, ثم هي مرسلة؛ فلا تعارض المسند.

    وأما حديث عائشة؛ ففي إسناده معاوية بن صالح, وقد تُكلم فيه, والذي يضعفه أن المشهور عن عائشة أنها كانت تصوم هذا اليوم وتقول: «لأنْ أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان»؛ فكيف تروي الحديث في مثل هذا وتعمل بخلافه؟! وهذا علة ظاهرة فيه.
    الجواب الثاني: تأويا أبي إسحاق بن شاقلا وابن حامد والقاضي وغيرهم, وهو أن تحمل الأحاديث في إكمال عدة شعبان على ما إذا غُم هلال رمضان وهلال شوال؛ فإنه هنا يجب إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً, وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً, فيصوم, فيقدر أن يوم الغيم لم يكن من رمضان حتى يصوم أحداً وثلاثين يوماً, فدل على ذلك أن قوله: «فإن غم عليكم» , وبعد الجملتين, فيعود إليهما جميعاً, ويكون فائدة الحديث التحذير من أن يحتسب بيوم الغيم من رمضان بكل حال, فبنى على ذلك تمام ثلاثين يوماً, فيفضي إلى فطر آخر يوم من رمضان, وهذا المعنى هو الذي قصد عمر رضي الله عنه بقوله: «ليتق أحدكم أن يصوم يوماً من شعبان ويفطر يوماً من رمضان» , وكذلك أنس بن مالك في قوله: «هذا اليوم يَكمُلُ لي واحداً وثلاثين يوماً» , ولعل يوم الشك واستقبال الشهر ونحوه إنما نهي عنه حذراً من هذا المعنى؛ فإنه يفضي إلى إفطار يوم من رمضان.
    وأما حديث يوم الشك؛ فالمشهور عند أصحابنا أن هذا ليس بيوم شك كما تقدم عن ابن عمر وغيره: أنه كان يكره صوم الشك, ولا يرى هذا [شكاً] , كما لو شهد به واحد, فإنه ليس بيوم شك, وإن كان كذبه ممكناً, وكذلك هنا الظاهر أنه من رمضان, وإن كان الآخر محتملاً, وعلى قول مَنْ يسميه يوم الشك, لما فيه من التردد باللفظ العام, فيحمل على الشك في حال الصحو؛ فإنه هو الذي يقع فيه الشك, واحتمال الرمضانية والاختلاف فيه مرجوح.
    يبين صحة هذا أن يوم الشك يقع على أنواع: منها الشك في [حال] آخر الشهر وصومه واجب بالإِجماع, ومنها الشك إذا رآه الرجل أو أخبره ثقة عنده فإنه يجب صومه عليه دون غيره, ومنها الشك في الغيم, ومنها الشك في الصحو, والعموم ليس مراداً قطعاً, فيحمل على الشك المعهود الذي جاء مفسراً في عدة روايات.
    ثم عمار رضي الله عنه لم يحكِ عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً, وإنما ذكره أنه من صام يوم الشك فقد عصاه, وذلك يدل على أنه سمع منه نهياً عن صوم يوم الشك في الجملة, أو فهم من قوله: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته»: النهي عن صوم يوم الشك؛ فإنه ظاهر في ذلك, أو سمع منه لفظاً غير ذلك, ففهم منه هذا المعنى.
    وفي الجملة؛ فقول الصاحب: نزلت في كذا, أو: هذا حكم الله ورسوله, أو: هذا مما حرمه الله ورسوله, أو: من فعل هذا فقد عصى أبا القاسم: محتمل لأنه أخبر به عن فهم واعتقاد.
    ولهذا لم يرو أحمد وأمثاله في مسند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان غيره من العلماء يدخلون مثل هذا في الحديث المسند.
    ولم يصرح عمار بأن يوم الغيم يوشك, ولو صرح به؛ لما كان الرجوع إلى ما فهمه بأولى من الرجوع إلى ما رواه ابن عمر وفهمه, وما قاله أبو هريرة وعائشة وغيرهما مع روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال أحمد رضي الله عنه في رواية المروذي, وقد سئل عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك, فقال: «إذا كان صحو؛ لم يصم, فأما إن كان في السماء غيم؛ صام».

    ونقل أبو داوود عنه: «الشك على ضربين؛ فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر».
    ونقل الأثرم عنه: «ليس ينبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غير. . .».
    ويمكن جواب ثالث: وهو أن تحمل الأحاديث في الصوم على الجواز والاستحباب, وتحمل أحاديث الفطر على عدم الوجوب, ويكون التغليظ فيهما على مَنْ يجزم بأنه من رمضان ويعتقد وجوب صومه كوجوب صوم الذي يليه حتى يلحق برمضان ما لم يتيقن أنه منه, وعلى من يعتاض بصومه عن صوم آخر يوم من رمضان كما نهى عنه عمر.
    فإن أحاديث الصوم تدل على أن الناس كلهم لم يكونوا يصوموا يوم الغيم, وإنما كان يصومه جماعات من الصحابة والتابعين, ولم يجئ نص عن أحد منهم بأنه أنكر صوم يوم الغيم, وكان عامة الناس لا يؤمرون بالصوم إلا بعد الرؤية أو إكمال العدة, وفي حديث ابن عمر أنه كان يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب.
    وقوله: وفعله يدل على أنه كان يرى هذا حسناً لا واجباً, وكذلك فعل معاوية, وقول غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان»: إنما يدل على الاستحباب.
    والقياس يقتضي صحة هذا القول؛ فإن إيجاب ما لم يتقن وجوبه خلاف القياس, وكراهة التحري والاحتياط في العبادات خلاف القياس أيضاً.
    * فصل:
    وإذا أوجبنا صومه؛ ترتب عليه جميع أحكام الصوم, ولزم تبييت النية له وتعيينها في إحدى الروايتين نقلها الأثرم, وفي الأخرى يكفي مطلق نية الصوم, رواها المروذي وصالح, وفرق في رواية صالح بين الغيم وغيره؛ فإنه هنا لا سبيل لها إلى اعتقاد الرمضانية مع عدم العلم بخلاف غيره واعتقاد الفرضية على أحد الوجهين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    ولو جامع فيه لزمته الكفارة, ذكره القاضي؛ لأن من أصلنا أن كل يوم واجب تجب الكفارة بالوطء فيه, سواء اتفق في وجوبه وعُلم أنه من الشهر بطريق مقطوع أو لا.
    هل تصلى التراويح ليلتئذٍ؟ على وجهين:
    أحدهما: لا تصلى, وهو قول أبي حفص العكبري والتميميين وابن الجوزي, والآثار إنما جاءت في الصوم, ولا يلزم من الاحتياط للصوم الواجب أن يُعلَّق به جميع الأحكام الرمضانية, ولذلك لا يعلق به [انقضاء] العدد والآجال في الديون وغيرها, ولأن الصلاة قبل تيقن دخول الوقت لا تجوز؛ بخلاف الصوم؛ فإن الإِمساك قبل دخول الوقت مشروع في الجملة.
    والثاني: تُصلى, وهو قول كثير من أصحابنا, منهم ابن حامد والقاضي وابنه, وهو أقيس.
    قال أبو الفرج بن الجوزي: وهو اختيار أكثر مشايخنا المتقدمين. قال: جرت هذه المسألة في زمن شيخنا فصلى. قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الفضل بن زياد: القيام قبل الصيام.
    126 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه؛ فمن صامه وقامه».
    فقرن بين الصيام والقيام, ولا يتيقن أنه صام الشهر حتى يقوم ليلة الإِغمام.
    ولأنه لا فرق في الاحتياط بين الصيام والقيام, ولا يصح إلحاق هذا بسائر الصلوات؛ بخلاف من يصلي تلك الليلة وسائر الليالي؛ فإنه بمنزلة من يصوم ذلك اليوم وسائر الأيام.
    ولأنه قد تقدم في خطبة عمر أنه خطبهم ليلة الغيم وذكر الصيام والقيام.

    وأما إذا علق طلاق نسائه وعتق عبيده بدخول شهر رمضان أو كان عليه دين محله شهر رمضان أو استأجر الدار شهر شعبان ونحو ذلك من الأحكام؛ فإنه لا يحل الدين ولا يقع الطلاق ولا تنقضي مدة الإِجارة في أصح الوجهين, وفي الآخر تثبت الأحكام التي بين الناس تبعاً لوجوب الصوم, كما تثبت شهادة الواحد تبعاً, وليس بجيد؛ لأن في ذلك إسقاط لحق ثابت بمجرد الشك, وذلك لا يجوز, ولأن الصوم إنما وجب احتياطاً, وليس في حقوق الآدميين احتياط, ولأن الوقوع والحلول مما لا يتكرر, وما لا يتكرر لا يشرع فيه الاحتياط كالصلاة والوقوف, ولهذا لو شهد واحد بهلال رمضان؛ وجب الصوم.
    وقد ذكر القاضي وأبو الحسين: هل يصام هذا اليوم حكماً من رمضان أم قطعاً؟ على وجهين: أصحهما حكماً, اختاره الخلال وصاحبه والخرقي والقاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى. قال الخلال: يصام بعزيمة من رمضان في الحكم, لا قطع عين في الحقيقة.
    والوجه الثاني: ذكر القاضيان أن بعض أصحابنا قال: يصوم قطعاً, وصاحب هذا الوجه إن أراد به أن يقطع النية؛ فهذا صحيح عند هؤلاء؛ كما أن الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ تحرَّى وصام جازماً بالنية, وإن لم يجزم بوجود المنوي, وإن عنى أنه يقطع بدخول الشهر؛ فلا وجه لهذا.
    ولو حلف أن الهلال تحت الغيم أو أنه لم يطلع؛ لم يحنث؛ كما لو حلف أن هذا الطائر غراب, وطار ولم يعلم ما هو, ذكره القاضي. ويتخرج: أن يحنث. ولو حلف ليفعلن كذا أول يوم من رمضان, فقال القاضي: لا يبرأ حتى يدخل يوم الإِغمام والذي يليه؛ لأن كل واحد من اليومين يحتمل أن يكون أول الشهر؛ فلا يبرأ إلا بالفعل فيهما؛ كما لو حلف ليفعلن كذا عقب الصلاة التي في ذمته, وقد نسي صلاة من خمس لا يعلم عينها؛ فإن عليه أن يفعله في عقب كل صلاة.
    وعلى هذا: إذا غم هلال سائر الشهور. . . .
    ولو نذر أن يصوم رجباً أو شعبان, فغم أوله, فقال ابن عقيل: قال أصحابنا: يلزمه أن يصوم يوم الإِغمام؛ لأن النذور تبنى على أصولها من الفروض.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 131الى صــ 145
    (8)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    مسألة:
    وإذا رأى الهلال وحده؛ صام.

    هذا إحدى الروايتين عن أحمد, وعليه عامة أصحابنا: أنه إذا رأى الهلال وحده؛ لزمه الصوم, وإن ردت شهادته, وإن كان فاسقاً.
    وكذلك لو كان عدلاً, وقلنا: لا يقبل في هلال رمضان إلا عدلان؛ فإنه يلزمه الصوم.
    قال في رواية صالح وقد سأله: إذا رأى هلال شوال وحده هل يفطر أو رأى هلال رمضان أيصوم؟
    فقال: أما الصوم؛ فأعجب إليَّ أن يصوم, وأما الفطر؛ فيتهم نفسه.
    فقد أمره بالصوم, ومنعه من الفطر.
    وقال في رواية صالح: من رأى هلال رمضان وحده؛ يصوم ولا يفطر, وأما شوال؛ فلا.
    وأما رمضان؛ فتجوز شهادة رجل واحد, وحمل أصحابنا هذا على الإيجاب.
    والرواية الثانية: لا يصوم إذا انفرد برؤيته وردت شهادته, أو قلنا: لا يقبل إلا اثنان.

    قال في رواية حنبل في رجل رأى هلال رمضان وحده: هل ترى له أن يصوم إذا لم ير غيره؟ فقال: لا يصوم إلا في جماعة الناس, ولا يفطر حتى يفطر الإِمام.
    وحملها أصحابنا على أنه لا يلزمه, وظاهر الرواية أن يكره له الصوم, ويكون في حقه يوم شك.
    فأما إذا رآه في موضع ليس فيه غيره؛ فيلزمه الصوم رواية واحدة, وإن انفرد برؤيته بين الرفقة أو في قرية صغيرة ونحو ذلك:
    لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].

    127 - ولما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الصوم يوم تصومون, الفطر يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون». رواه الترمذي وقال:حسن غريب.
    وقال: «صومكم يوم تصومون, وفطركم يوم تفطرون». رواه الدارقطني من حديث الواقدي عن رجال من أهل المدينة, ورواه الترمذي.
    ولحديث ابن عمر وأبي سعيد.
    128 - ولأن «يد الله على الجماعة, ومن شذ شذ في النار».
    قد يجوز أن يكون عرض له غلط في الرؤية؛ فلا ينفرد عن الجماعة بمجرد ذلك, ولأنه أحد طرفي الشهر, فجاز أن يطرح فيه رؤية نفسه المردودة كالطرف الثاني؛ فإنه منهي عن الصوم في الطرف الأول؛ كما أنه منهي عنه في الطرف الآخر, ولأنه محكوم بأنه من شعبان في حق الكافة؛ فلا يلزمه صومه كما لو شك في الذي رآه هل هو هلال أم لا؟
    ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته».
    الرؤية موجودة, ولأن ثقته برؤية نفسه أبلغ من ثقته بخبر غيره, ثم لو أخبره شاهدان؛ لوجب الصوم بخبرهما؛ فأن يجب بعلمه أولى وأحرى, ولأن العبد إنما يعامل الله بعلمه؛ فإذا لم يكن له علم قبل قول غيره, وهو يعلم أن هذا اليوم من رمضان.
    وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون»؛ فهو في حق العامة.
    وتلزم الحقوق المتعلقة به من وقوع الطلاق المعلق برمضان, وحلول الدين المؤجل عليه, وانقضاء مدة الإِجازة إلى رمضان, فيما بينه وبين الله تعالى, ذكره القاضي وابن عقيل؛ كمن علم أن عليه حقّاً لا يعلمه صاحبه ويتوجه. . . .
    ولو وطئ في هذا اليوم؛ لزمته الكفارة عند أصحابنا؛ لأنا لا نعتبر في وجوبها أن يعلم الشهر بطريق مقطوع به, ولا أن نجمع على وجوبه.
    مسألة:
    فإن كان عدلاً صام الناس بقوله:هذا هو المشهور عن أبي عبد الله, وعليه أكثر أصحابه, وسواء كانت السماء مصحية أو متغيمة, وسواء رآه بين الناس أو قدم عليهم من خارج.

    وعنه: لا يقبل إلا عدلان كسائر الشهور. رواها الميموني.
    129 - لما روى حجاج بن أرطاه عن حسين بن الحارث الجدلي؛ قال: خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في اليوم الذي يشك فيه, فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم, وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته, وانسكوا لها, فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين, فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا». رواه أحمد والنسائي.

    فعلق الصوم على شهادة عدلين.
    130 - ولأن عثمان كان لا يجيز شهادة الواحد في الهلال. ذكره أحمد واستشهد به.
    ولأنه هلال من الأهلة, فلم يثبت إلا بشاهدين كسائر الأهلة.
    ولأنه إيجاب حق على الناس, فلم يجب إلا بشاهدين كسائر الحقوق.

    ولأن رؤية الواحد معرضة للغلط, ولا سيما إنْ كان بين الناس والسماء مصحية, وربما يتهم في ذلك, فلا بُدَّ من إزالة الشبهة باثنين.

    وجمع أبو بكر بين الروايتين فقال: إذا قدم الواحد من سفر على مصر, فخبرهم بالصيام؛ قبلوا وصاموا, وإذا كان شاهداً لهم, وحَوَاس الجميع سالمة؛ لم يقبل منه؛ إلا أن يكون شيئاً مثله يمكن أن ينفرد به الواحد, فيقبل.
    ولم يختلف القول في. . . لا يقبل فيه إلا اثنين؛ فعلى هذا اعتمده؛ لأن في هذا جمعاً بين الآثار, ولأن انفراد الواحد في الصحو بين الجم الغفير بعيد جدّاً.
    ووجه الأول: قوله تعالى: {. . . إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]؛ فإنه يقتضي أن لا يُتبين عند مجيء العدل, وفي رد شهادة الواحد يبين عند مجيء العدل, وفي سائر المواضع, إنما توقف في شهادة الواحد لأجل التهمة, ولكونه قد عارضها شيء آخر, وهو منتفٍ هنا.
    131 - ولما روى ابن عمر؛ قال: «تراءى الناس الهلال, فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته, فصام, وأمر الناس بصيامه». رواه أبو داوود والدارقطني,وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب, وهو ثقة.

    فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه عن رؤيته؛ لأنه ذكر ذلك بحرف الفاء, ولأنه لم يذكر شيئاً غير رؤيته, والأصل عدمه, ولأنه ذكر سبباً وحكماً, فيجب تعليقه به دون غيره.
    132 - وعن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني رأيت الهلال (يعني: رمضان). فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟». قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟». قال: نعم. قال: «يا بلال! أذن في الناس فليصوموا غداً». رواه الأربعة.
    وعن حماد بن سلمة, عن سماك, عن عكرمة: أنهم شكُّوا في هلال رمضان مرة, فأراد أن لا يقوموا ولا يصوموا, فجاء أعرابي من الحرة, فشهد أنه رأى الهلال, فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله؟». قال: نعم. وشهد أنه رأى الهلال, فأمر بلالاً, فنادى في الناس أن يقوموا وان يصوموا». رواه أبو داوود, وقال: رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلاً, ولم يذكر [القيام] أحد إلا حماد بن سلمة.

    وهذا نص مبين أنهم إنما صاموا بمجرد شهادة مسلم واحد.

    133 - وأيضاً ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: «كنت مع البراء ابن عازب وعمر بن الخطاب في البقيع ننظر إلى الهلال, فأقبل راكب, فتلقاه عمر, فقال: من أين جئت؟ أمن المغرب؟ وفي رواية: قال: من الشام. فقال: أهللت؟ قال: نعم. قال عمر: الله أكبر, إنما يكفي المسلمين رجل واحد». رواه أحمد في «المسند» وسعيد وحرب.
    وعن فاطمة بنت حسين عن علي: أنه أجاز شهادة رجل على هلال رمضان وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». رواه سعيد وحرب.
    وذكر أحمد عن ابن عمر ونحوه.

    ومثل هذا يشتهر ولم ينكر, فصار إجماعاً.
    وما نقل عن عثمان؛ فهو مرسل, ولعله أراد هلال الفطر.
    134 - وعن عبد الملك بن ميسرة؛ قال: «شهدت المدينة في عيد, فلم يشهد على الهلال إلا رجل واحد, فأمرهم ابن عمر أن يجيزوا شهادته». رواه حرب.
    وذكره أحمد, وقال: ابن عمر أجازه وحده أمره وأمر الناس بالصيام.
    ولأنه إخبار بعبادة لا يتعلق بها حق آدمي, فقبل فيها قول الواحد؛ كالإِخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكالإِخبار عن مواقيت الصلاة, وجهة الكعبة, وعكسه هلال الفطر والنحر؛ فإن يتعلق بها حق آدمي من إباحة الأكل والإِحلال من الإِحرام.
    ولأنه خبر عما يلزم به عبادة؛ يستوي فيها المخبر, فقبل فيها قول الواحد كالأصل.
    ولأنه إنما اعتبر العدد في الشهادات خوف التهمة, وهي منتفية هنا, لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره.
    ولأن قبول قوله هنا فيه احتياط وتحري فيجب اتباعه.
    وعكسه هلال الفطر, وكذلك هلال النحر؛ فإنما يخاف مِنْ رد خبره ما يخاف في قبوله؛ لأن الوقوف له وقت واحد, ولأن المرئي بعيد لطيف, ونفس مطلعه غير معلوم لأكثر الناس, والأبصار مختلفة بين حديد وكليل.
    وكل هذه الأسباب توجب جواز اختصاص بعض الناس برؤيته.

    وحديث ابن عمر دليل على مَنْ رآه بين الناس, وهو وحديث ابن عباس دليل على حال الصحو؛ لأن عامة الرمضانات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الصيف, وقول عمر وعلي نص في قبول قول الواحد مطلقاً.
    وتصلى التراويح ليلتئذٍ إذا صمنا, وإذا ثبت ذلك عند الإِمام؛ فقال القاضي: يلزم الصوم لكل أحد, سواء قلنا: يقبل فيه قول الواحد أو لا.
    فأما سائر حقوق الآدميين من الآجال والإِجارات والطلاق والعتق المعلق ونحو ذلك؛ فإنه يثبت تبعاً على ما ذكره القاضي.
    * فصل:
    ويقبل فيه شهادة الواحد سواء كان حرّاً أو عبداً, أو سواء كان رجلاً أو امرأة, في المشهور عند أصحابنا, ذكره أبو بكر وغيره من أصحابنا, كما يقبل أخبارهم, ولا تقبل شهادة الفاسق ولا الكافر ولا الصبي.
    قال القاضي: وهذا يدل على أنه خبر؛ لأن ما يطلع عليه الرجال لا تقبل فيه شهادة النساء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 146الى صــ 160
    (9)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    فعلى هذا لا يعتبر لفظ الشهادة؛ لأنه خبر عن عبادة لا يتعلق بها حق آدمي, فكانت خبراً كالإخبار بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقال ابن أبي موسى: يجب الصوم على من رأى الهلال وعلى مَنْ لم يره بشهادة رجل عدل في إحدى الروايتين, والأخرى: لا يلزمه الصوم إلا أن يراه أو يشهد على رؤيته رجلان فصاعداً.
    وفيه وجه آخر: أنه لا تقبل شهادة المرأة كالشهادة على هلال شوال, فعلى هذا يُعتبر لفظ الشهادة.
    مسألة:
    ولا يفطر إلا بشهادة عدلين:

    قال الترمذي: «ولم يختلف أهل العم في الإِفطار أنه لا يُقبل فيه إلا شهادة رجلين».
    وكذلك هلال ذي الحجة.
    135 - لما روى حسين بن الحارث الجدلي - جديلة قيس -: أن أمير مكة خطب ثم قال: «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية, فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما». فقيل للحسين بن الحارث: مَنْ أميرُ مكة؟ فقال: الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب. ثم قال الأمير: إن بكم من هو أعلم بالله ورسوله منِّي, وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأومأ بيده إلى رجل. قال الحسين لشيخ إلى جنبي: مَنْ هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر, وصدق, كان أعلم بالله منه. فقال: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه أبو داوود والدارقطني, وقال: هذا إسناد متصل صحيح.

    فهذا الحديث يدل بمنطوقه على قبول شهادة الاثنين بكل حال, سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة, ومفهومه مفهوم الشرط الذي هو أقوى المفاهيم, على أنه لا ينسك إلا شهادة شاهِدَيْ عدلٍ؛ لأن الحكم المعلق بشرط؛ معدوم عند عدمه, ولو كان الحكم يثبت بشاهد واحدٍ؛ لما احتاج إلى ذكر الاثنين, وإذا ثبت هذا في هلال النحر؛ فهلال الفطر أولى وأحرى, وقد تقدم قوله: «فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا»؛ فإن مفهومه أن الصوم والفطر لا يجتمعان إلا بشهادة اثنين, وهو كذلك.
    ولا ينتقض هذا بقبول الواحد في الصوم لوجهين:
    أحدهما: أن المفهوم عارضه نص, والمنطوق مقدم على المفهوم, فإن المفهوم أحسن أحواله أن يكون كالعام والخاص, وكالقياس مع النص, وهذا يترك من غير نسخ, والنص يترك بناسخ.
    الثاني: أن منطوقه ثبوت الصوم والفطر معاً بشهادة الاثنين, وتخصيص المنطوق بالذكر يقتضي أن المسكوت عنه يخالفه ولو من وجه.
    فاقتضى ذلك أن الصوم والفطر لا يثبت إلا باثنين, وهذا صحيح, فإن الواحد لا يثبت به الفطر لا ضمناً ولا أصلاً كما سنذكره إن شاء الله.
    ولم يتعرض الحديث للصوم بدون الفطر بأي شيء يثبت لا بمنطوق ولا بمفهوم.
    وأيضاً؛ فإن الأهلة غير رمضان تتضمن حقوقاً للناس من إباحة الأكل والإِحلال, وربما يخاف من دخول التهمة, وليس في التقدم بها احتياط, فلا يقبل فيها قول الواحد.

    ويثبت بشاهدين مع الصحو والغيم؛ لما تقدم من قوله: «فإن لم يره وشهد شاهدا عدل؛ نسكنا بشهادتهما» , وقوله: «فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا».
    136 - وعن ربعي بن حراش, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «اختلف الناس في آخر يوم من رمضان, فقدم أعرابيان, فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلاَّ الهلال أمس عشية, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم». رواه أحمد وأبو داوود والدارقطني, وقال: هذا صحيح.
    وقال أبو بكر: ولا تقبل شهادة رجل وامرأتين, ولا شهادة النساء المنفردات؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال, وليس بمال, ولا يقصد به المال, وتقبل شهادة العبيد.
    مسألة:
    (وإذا صاموا بشهادة اثنين وثلاثين يوماً؛ أفطروا, وإن كان بغيم أو قول واحد؛ لم يفطروا؛ إلا أن يروه أو يكملوا العدة).
    أما إذا صاموا بشهادة اثنين ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال؛ أفطروا؛ لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين, وذلك جائز.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن شهد شاهدان مسلمان؛ فصوموا وأفطروا» يقتضي ذلك, ولا يقال قد تبين غلطهما؛ لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع؛ لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام؛ قُبِل؛ فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه.
    وأما إذا صاموا لإِغمام الهلال لم يفطروا إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال؛ بأن يشهد به شاهدان أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين قولاً واحداً؛ لما تقدم من الحديث والأثر, ولأنه لم يثبت بذلك شهر, إنما صيم احتياطاً.
    وأما إذا صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يوماً؛ لم يفطروا حتى يروا الهلال؛ بأن يشهد به شاهدان أو يكملوا العدة عدة شعبان ورمضان سواءً أصحت السماء في أجزاء الشهر أو [أغامت] في أصح الوجهين كما ذكره الشيخ, وهو أشبه بكلامه.
    وفي الآخر: يفطرون, وهو قول أبي بكر.
    ولم يفرق بين أن تكون مصحية أو مغيمة؛ لأن الصوم إذا وجب؛ وجب الفطر لاستكمال العدة, وقد [ثبت] تبعاً ما لا يثبت أصلاً؛ كما يثبت النسب بشهادة النساء على الولادة الموجبة للنسب بشهادة النساء, وإن لم يثبت بها نفس النسب.
    قال أبو بكر: لا يجب الإِفطار؛ إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما برؤية, أو بشهادة شاهدين, أو بعدل على شهادة الواحد.
    والأول أصح؛ لأن الصوم إنما يثبت بقول الواحد احتياطاً للصوم:
    كما علل به علي رضي الله عنه لما قبل شهادة الواحد في الهلال وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».

    فمن الاحتياط: أن لا نفطر بناءً على شهادته, ولأنه إن صحت السماء لتمام الثلاثين, ولم يُر الهلال؛ كان ذلك أمارة على خطئه أو كذبه.
    وإن غامت السماء, فكأنه قد أخبر أن تحت الغيم هلال, وهو لو أخبر بذلك صريحاً لم يقبل منه فلا يقبل منه تضمناً, وإنما يثبت الشيء تبعاً إذا كان. . . .
    فإن أخبرهم عدل بالهلال بعد أن أصبحوا مفطرين لزمهم القضاء بقوله, لم يجز لهم الفطر بناء على شهادته وجهاً واحداً, لأنهم لم يصوموا بقوله, فلم يثبت الفطر أصلاً ولا ضمناً.
    وإن صاموا ثمانية وعشرين يوماً, وكانوا قد أكملوا عدة شعبان لإِصحاء السماء وكونهم لم يروه؛ فإنهم يقضون يوماً.
    137 - قال أحمد عن الوليد بن عتبة: «صمنا على عهد علي ثمانية وعشرين يوماً, فأمرنا علي أن نقضي يوماً».
    قال أبو عبد الله: العمل على هذا؛ لأن الشهر لا يكون ثمانية وعشرين؛ فمن صام هذا الصوم؛ قضى ولا كفارة عليه؛ لما روى الوليد بن عتبة الثقفي قال: «صمنا على عهد علي ثمانية وعشرين يوماً, فأمرنا فقضينا يوماً».
    138 - وعن أبي إدريس الأزدي: أنهم صاموا على عهد علي بن أبي طالب, على رؤية الهلال, وأفطروا على رؤيته, فكان صومهم ثماني وعشرين, فقال علي عليه السلام: «إن هذين الشهرين تتابعا تسع وعشرين تسع وعشرين, وإن الشهر لا يكون أقل من تسع وعشرين, فأصبحوا بعد الفطر صياماً تقضون يوماً». رواهما سعيد.
    قال أبو بكر عبد العزيز في حديث علي: إنهم صاموا في عهده ثمانية وعشرين يوماً, فأمرهم بقضاء يوم, قال: يكون شعبان تسعةً وعشرين يوماً, ويكون صحواً, ولا يُرى الهلال, يصبحون مفطرين؛ لأن هكذا عليهم مع الصحو, ثم يتبين يوم الثلاثين من شعبان الذي أفطروه كان أول رمضان, ويكون أيضاً رمضان تسعة وعشرين يوماً, فيحصل صومهم ثمان وعشرين يوماً, فيؤمرون حينئذ بقضاء يوم.
    فأما إن أكملوا العدة مع تغيم هلال رمضان وحده, وصاموا ثمانية وعشرين؛ فعليهم قضاء يوم أيضاً.
    وإن صاموا تسعة وعشرين؛ فعليهم قضاء يوم الغيم, إذا قلنا بوجوب صومه أو يستحب.

    وإن صاموا ثلاثين, ثم رأوا الهلال؛ لم يكن عليهم قضاء؛ لأنا تبينَّا أنه لم يكن تحت الغمام هلال؛ فإن الشهر لا يزيد على ثلاثين يوماً.
    وإن تغيم هلال شعبان ورمضان, فأكملوها, وصاموا ثمانية وعشرين؛ فقال القاضي: يقضون هنا يومين.
    وإذا رأى هلال الفطر وحده؛ لم يجز له أن يفطر. نص عليه:
    فقال في رواية صالح وابن منصور والأثرم: «من رأى هلال الفطر وحده يصوم ولا يفطر».
    وقال في رواية صالح: «من رأى هلال رمضان وحده يصوم ولا يفطر, وأما شوال فلا, وأما رمضان؛ فيجوز شهادة رجل واحد».

    وقال في روايته فيمن رأى هلال الصوم أو الفطر وحده: «أما الصوم؛ فأعجب إليَّ أن يصوم, وأما الفطر؛ فيتهم نفسه».
    فقد نص على الفرق, وهذا قول أكثر أصحابه مثل الخرقي وابن حامد وأبي حفص والقاضي وأكثر أصحابه.
    قال ابن أبي موسى: ولا يجوز الفطر لمن رآه وحده ولا لمن لم يره إلا بشهادة عدلين قولاً واحداً.
    وقال أبو بكر ... وكذلك ابن عقيل: إنه يفطر سرّاً.
    وحمل كلام أحمد على أنه قصد النهي عن المظاهرة بالإِفطار لأجل التهمة والفتنة ومخالفة الإِمام والسواد الأعظم, وليس بجيد؛ لأن أحمد قال: يصوم ولا يفطر؛ فقد أمره بالصوم ونهاه عن الفطر؛ فكيف يقال: أراد أنه يفطر سرّاً ولا يتظاهر بالفطر؛ لأنه يوم من شوال, فلم يجب صومه كسائر الأيام, [لأنه يوم] من شوال, فلم يجز صومه كسائر الأيام.
    وهذا لأنه يتيقن أنه أول يوم من شوال أعظم مما يتيقنه لو شهد به شاهدان, وهو فيما بينه وبين الله مأمور بما يعمله, لكن لما كان إظهار الفطر فيه تعريض نفسه لسوء الظن وإثارة الفتنة؛ لأن الناس إنما يحكمون بما ظهر, ولأنه لا يجوز أن يمكن أحد من الفطر بما يدعيه من الرؤية؛ وجب عليه إخفاؤه, ولأنه ليس الاحتياط بالصوم في الوقت الواجب بأكثر من الاحتياط بالفطر في الوقت الواجب؛ فإن الفطر في رمضان كالصوم في العيد.
    فعلى هذا يكفيه أن لا ينوي الصوم سواء أكل أو لم يأكل.

    ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون». رواه الترمذي.
    139 - وعن أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ قال: «وفطركم يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون, وكل عرفة موقف, وكل منى منحر, وكل فجاج مكة منحر, وكل مزدلفة موقف». رواه أبو داوود.
    140 - وعن أبي قلابة: «أن رجلين قدما المدينة, وقد رأيا الهلال, وقد أصبح الناس صياماً, فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فذكرا ذلك له, فقال لأحدهما: أصائم أنت أم مفطر؟ قال: مفطر. قال: ما حملك على ذلك؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر: فأنت؟ قال: إني صائم. قال: ما حملك على أن تصوم وقد رأيت الهلال؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا (يعني: الذي صام) لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس أن اخرجوا». رواه سعيد.
    فبين عمر رضي الله عنه إنما دفع العقوبة عن الذي أفطر لأجل شهادة الآخر معه, وأنه لو أفطر برؤية نفسه فقط لضربه.
    وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «إنما الفطر يوم يفطر الإِمام وجماعة المسلمين». رواه أبو حفص.
    وعن مسروق ومالك: «أنهما دخلا على عائشة في اليوم الذي يُشك فيه, فقالت للجارية: خوضي لهما سويقاً فإني صائمة. فقالا: إن الناس يرون أنه الأضحى. فقالت: إنما الأضحى إذا أضحى الإِمام هو وعلم الناس». رواه الفريابي.
    وهذا يقتضي أن من رأى هلال النحر فإن له أن يصوم اليوم العاشر في رؤيته, ولأنه يجوز أن يكون غالطاً في الرؤية, ومخالفة عامة الناس له يقوي هذا الغلط, والفطر ليس مما يحتاط له, ولهذا لا تقبل إلا بشهادة اثنين؛ بخلاف الصوم؛ فلا ينبغي له أن يقدم على ذلك بمجرد رؤيته, ولأن يوم الفطر هو اليوم الذي يفطر فيه الناس, وإن كان الهلال قد رئي في غيره, فلو كان الهلال طالعاً, ولم يره من تقبل شهادته وحده؛ لم يكن في هذا الحكم يوم عيدٍ, فيجب صومه ولا يجب فطره.
    وإذا رأى هلال شوال وحده في موضع لا يمكن أن يخبر به غيره, فقال القاضي وابن عقيل: يلزمه صيامه, ولا يجوز له الفطر برؤيته وحده؛ كما لو أخبر به فلم يحكم بقوله, والأشبه هنا. . . .
    ولو صام برؤية نفسه ثلاثين يوماً؛ لم يفطر إلا مع الإِمام والناس, فيصوم واحد وثلاثين؛ كما لو رأى شوال وحده على المشهور, وهو ظاهرها.

    وقال أبو الخطاب: يحتمل أن يفطر هنا.
    ولو كان عليه دين مؤجل أو علق عتق عبده أو طلاق امرأته بهلال شوال؛ فقال القاضي: لا يُعرف الرواية فيه.
    * فصل:
    وإذا شهد بالرؤية واحد أو اثنان أو أكثر من ذلك عند بعض الناس ولم يثبت عند الإِمام: إمَّا لكونهم لم يشهدوا عنده, أو لكونه لم يعرف عدالتهم, ونحو ذلك؛ فإنه يجب على مَنْ سمع خبرهم وعرف عدالتهم أن يصوم بخبرهم. ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا, حتى لو كان المخبر [امرأةً أو عبداً]؛ كما تقدم.

    وقال في رواية حنبل فيمن رأى هلال رمضان وحده: لا يصوم إلا في جماعة الناس, وكذلك لا يفطر حتى يفطر الإِمام.
    فعلى هذا لا يصوم ولا يفطر إلا مع الإِمام.
    وعلى الأول: إذا شهد بهلال الفطر اثنان, ولم يثبت عند الحاكم: إمَّا لعدم شهادتهما عنده, أو لردها لعدم معرفته بعدالتهما| جاز لمن سمع شهادتهما الفطر بقولهما, ولكل منهما الفطر بقولهما؛ بخلاف ما إذا لم يعرف أحدهما عدل صاحبه؛ لأن هذا إخبار ديني, فلا يعتبر الثبوت عند الحاكم, ورده للشهادة ليس بحكم, وإنما هو توقف عن ذلك لعدم علمه هذا قول. . . .
    لكن ينبغي أن يستسرَّ بالفطر إذا لم يثبت عند الإِمام.
    والأشبه بنصه. . . , والإِمام الذي يصام بقوله. . . .
    مسألة:
    وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير؛ تحرى وصام؛ فإن وافق الشهر أو بعده أجزأه, وإن وافق قبله لم يجزئه.
    وجملة ذلك أن من عمي عليه الشهر مثل الأسير الذي في بلاد ليس يعلم من جهته؛ أن الهلال لأي شهر هو, ربما كان هذا لا يرى الأهلة ونحوه, ومن هو في بادية وطرف الإِسلام, والنائي عن الأمصار؛ فإنه يجتهد ويتحرى في معرفة عين الشهر ودخوله, كما يتحرى في معرفة وقت الصلاة, وجهة القبلة, وغير ذلك عند الاشتباه؛ لأنه لا يمكنه أداء العبادة إلا بالتحري والاجتهاد, فجاز له ذلك كما يجوز في الصلاة, فإن لم يغلب على ظنه شيء؛ فإنه يؤخر الصوم حتى يتيقن أن الشهر قد دخل؛ فإن صام مع الشك؛ لم يجزه, وإن تبين أنه أصاب, قاله بعض أصحابنا, وقد تقدم فيما إذا صام ليلة الشك بنية رمضان هل يجزيه على وجهين وإن غلب على ظنه بغير دلالة؛ فإنه يصوم.

    وفي وجوب الإِعادة مع الإِصابة أو بقاء الجهل وجهان: أشبههما بكلام أحمد أنه لا قضاء عليه.
    وإن غلب على ظنه بدلالة صام, ثم إن [لم يتبين] له شيء, فصومه صحيح؛ لأنه صام باجتهاد لم يتبين له خطؤه, فأجزأه كما يجزئ من اجتهد في الوقت والقبلة.
    وإن تبين له أن صومه صادف الشهر أو صادف ما بعد الشهر؛ أجزأه. نص عليه؛ لأن أكثر ما فيه أنه قضاء, وقد نواه أداء, وهذا يجوز في حال الاشتباه كالصلاة, وإن تبين له أن القضاء كان في الرمضان الثاني أو بعده. . . .
    وإن تبين له أنه صام قبل الوقت؛ لم يجزه. نص عليه؛ لأنها عبادة يصح قضاؤها في غير وقتها, فلم يجز فعلها قبل وقتها كالصلاة. وعكسه الحج إذا وقف الناس يوم الثامن؛ فإنه يجزيهم؛ لأنه يخاف مع التأخير من التفويت ما يخاف مع التقديم, ولأن تفويت الحج فيه ضرر عام على الناس, ولهذا لو أخطأه نفر منهم لم يجزهم.
    وإن تبين أنه صام بعضه في الشهر وبعضه قبله؛ أجزأ ما صام فيه دون ما صام قبله, ولا فرق بين أن يخطئ في رمضان واحدٍ أو في رمضانات, إذا تبين له الخطأ؛ فإنه يعيد ولا يحسب الرمضان الثاني عن قضاء الأول, لأنه إنما نوى به الرمضان الثاني, وإنما لامرئ ما نوى.
    وقال أحمد في رواية مهنا في أسير في بلاد الروم مكث ثلاث سنين يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان, ثم علم: يعيد شهراً على إثر شهر كما يعيد الصلاة إذا فاتته.
    فإن صام شوال وهو يرى أنه رمضان؛ يجزيه. . . .
    وعلى هذا؛ فعليه أن يبدأ بقضاء الأول. . . .
    فإن أطلق النية, ولم ينوه عن رمضان سنته. . . .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 161الى صــ 175
    (10)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    فإن صام ثلاثين يوماً, وكان شهره تامّاً أو ناقصاً, أو صام تسعة وعشرين, وكان شهره ناقصاً؛ أجزأه.
    وإن صام تسعة وعشرين من شهرين, وكان شهره تامّاً؛ فعليه صيام واحد.
    فإن صام شهراً هلاليّاً ناقصاً؛ أجزأه عن الكامل في أحد الوجهين. قاله القاضي. وفي الآخر: لا يجزيه. قاله أبو محمد؛ لأنه قد وجب في ذمته ثلاثون يوماَ, فوجب أن يقضيها بعدتها كالمريض والمسافر إذا أفطرا.
    ولو عين اليوم الذي يصومه أو الشهر أو العام, وغلط في وقته, مثل أن يكون عليه رمضان سنة ست, فينويه يقصد به سنة خمس, أو يكون عليه يوم الاثنين, فيقصد ما عليه يعتقده يوم الأحد ونحو ذلك؛ أجزأه؛ لأنه قصد الواجب, وإنما أخطأ في وقته.
    * فصل:
    وإذا رأى الهلال بعد زوال الشمس فهو لِلَّيلة المقبلة.

    وعنه إن رئي قبل الزوال فكذلك في إحدى الروايات. اختارها الخرقي, وفي الأخرى هو لليلة ماضية, فإن كانت الرؤية أول الشهر أمسكوا وقضوا, وإن كانت آخر الشهر أفطروا وعيَّدوا, لأن وقت العيد باق, نقلها هارون بن عبد الله, وهذا اختيار أبي بكر وابن عقيل, وذكره أبو بكر عن ابن مسعود.
    141 - وقد روي عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عتبة بن فرقد: «إذا رأيتم الهلال في آخر النهار؛ فأتموا صومكم؛ فإنه لليلة المقبلة, وإذا رأيتموه في أول النهار؛ فأفطروا؛ فإنه لليلة الماضية». رواه

    142 - وعن. . .؛ قال: «كتب عمر إلى سعد وإلى أهل جلولاء: أن إذا رأيتم الهلال في الصوم من آخر النهار؛ فلا تفطروا, وإذا رأيتموه في أول النهار؛ فأفطروا؛ فإنه كان بالأمس». ذكره سيف في الفتوح.
    ولأنه. . . .
    وفي الثالثة: إن رئي قبل الزوال في أول الشهر؛ فهو لليلة الماضية فيمسك ويقضي, وإن رئي كذلك في آخر الشهر؛ فهو للمقبلة, فيتم صومه احتياطاً للصوم في الطرفين. نقلها الأثرم والميموني.
    ولفظ الأثرم: «رؤية الهلال قبل أو بعد في الصوم يصومون هو أحوط, وأما في الفطر؛ فلا يفطرون».
    وهذا يقتضي أنه إذا رئي بعد الزوال في أول الشهر يكون للماضية.
    ونقل عنه حرب أيضاً أنه إذا رئي قبل الزوال في آخر الشهر لا يفطرون.
    143 - لما روى أبو وائل؛ قال: «كنا مع عتبة بن فرقد في أناس بالجبل, فرأينا هلال شوال نهاراً فأفطرنا, فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب, فكتب عمر: الأهلة بعضها أعظم من بعض, فإذا أصبحتم صياماً؛ فلا تفطروا حتى تمسوا؛ إلا أن يشهد رجلان مسلمان؛ يشهد [أن] أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أن محمداً عبده ورسوله: أنهما أهلاه بالأمس عشيّاً». رواه إسحاق ابن راهويه وسعيد وغير [هما] بإسناد صحيح.
    وقال أحمد في رواية عبد الله عن أبي وائل: «أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أعظم من بعض؛ فإذا رأيتم الهلال من أول النهار؛ فلا تفطروا, حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس».
    144 - وعن القاسم بن عبد الرحمن: قال عبد الله: «إذا رأيتم الهلال نهارا؛ فلا تفطروا؛ فإنما مجراه في السماء, ولعله أن يكون قد أهلّ ساعتئذٍ, وإنما الفطر الغد من يوم يرى الهلال».

    145 - وعن ابن عمر؛ قال: «لا تفطروا حتى تروه من حيث يُرى».
    وقد تقدم عن أنس: أنهم رأوا الهلال عند صلاة الظهر أو قريبا منها, فقال: «أنا متم صومي إلى الليل». رواهن سعيد.
    وعن ابن عباس. . . .
    قال إسحاق: «قد صح عن عمر أن الأهلة بعضها أعظم من بعض ظهوراً, فإذا أصبحتم صياماً؛ فما لم يشهد مسلمان أنهما أهلاَّه بالأمس عشياً فلا تفطروا».
    فهذا الحق إن شاء الله, وهو الذي نعتمد عليه, وهو أكثر في الروايات.
    فهذه الآثار في آخر الشهر, ولأن صوم يوم الثلاثين قد دخلوا فيه, والهلال يجوز أن يكون هلال الليلة التي قبله وهلال الليلة التي بعده؛ فلا يجوز الفطر مع الشك؛ بخلاف ما إذا رئي في أول الشهر؛ فإنه يصام احتياطاً؛ كما يصام بقول واحد, ويصام مع الغيم, ولأن الهلال المرئي قبل الزوال يجوز أن يكون للماضية, ويجوز أن يكون للمستقبلة؛ كما يجوز أن يكون. . . .
    ووجه الأول: ما علل به عمر رضي الله عنه من قوله: «إن الأهلة بعضها أعظم من بعض» , وما علل به ابن مسعود من قوله: «لعله أن يكون قد أهل ساعتئذٍ».
    فإن هذا يعم أول الشهر وآخره, ولأن ما لا يكون هلالاً في آخر الشهر لا يكون هلالاً في [أوله]؛ كما لو رئي بعد الزوال, ولأن التفريق بين رؤيته قبل الزوال وبعده لا يستند إلى كتاب ولا سنة ولا عادة مطردة, ولأن رؤيته نهاراً بمنزلة رؤيته في الليل [كثيراً]؛ فإن ما يُرى نهاراً كبيراً, وما يرى كبيراً هو الذي يرى نهاراً, ولا يجوز الاستدلال بكبره على أنه ابن ليلتين؛ فلا يجوز الاستدلال بظهوره نهارا على انه ابن الليلة الماضية.

    146 - لما روى طلحة بن أبي حدرد؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أشراط الساعة أن يروا الهلال يقولون: ابن ليلتين». رواه البخاري في «تاريخه».
    147 - وعن أبي هريرة؛ قال: «من أشراط الساعة أن يُرى الهلال الليلة, فيقول القائل: إنه لابن ليلتين». رواه سعيد الأشج.
    ولأن هلاله. . . .
    فعلى هذا إذا رئي قبل الزوال يكون يوم شك فيكره صومه.
    وإذا رأى الهلال ودام إلى مغيب الشفق؛ فهل يستبين بذلك أنه ابن ليلتين فيقضي اليوم الذي قبله؟. . . .
    وإذا رأى آخر الليل, ثم أخبر مخبر في المستقبلة أنه رآه؛ علم كذبه.
    * فصل:
    وإذا رأى الهلال أهل بلد؛ لزم سائر البلدان الصوم, وإن لم يروه.

    قال أصحابنا: سواء كان البلدين متقاربين لا يختلف مطالع الهلال فيهما أو متباعدين يختلف.
    قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا رأى أهل المصر الهلال, ولم نره نحن, ولم يكن سحابة في السماء, فصاموا أولئك وأفطرنا؛ نقضي يوماً, والنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل أولئك الذين جاؤوه وقالوا رأيناه, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رآه.
    148 - وذلك لما احتج به أحمد, وهو ما روى أبو عمير بن أنس؛ قال:أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: «غُمِّ علينا هلال شوال, فأصبحنا صياماً, فجاء ركب من آخر النهار, فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم رأوا الهلال بالأمس, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا ثم يخرجوا لِعيدهم من الغد». رواه الخمسة إلا الترمذي, وقد تقدم عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    فهؤلاء قوم قد رأوا الهلال في غير المدينة, وبينهم وبينها نحو من يومين؛ لأن شهادتهم كانت آخر النهار, والمطالع قد تختلف في الأمكنة المتقاربة, ولأن حكم البلدين في هذه الرؤية حكم البلد الواحد؛ بدليل انقضاء الأجل وحلول الدين وغير ذلك؛ فلذلك يجب أن يكون في باب الصوم, ولأنه لو لم يكن حكم البلاد في ذلك واحداً؛ لكان يجب أن يجد ما تختلف به المطالع بحدٍّ مضبوط, وليس في ذلك حد مضبوط؛ لأن رؤية الهلال قد تكون تارة لارتفاع المكان, وتارة لصفاء الهواء, وتارة لزوال المانع, وتارة لِحدَّةِ البصر, ثم ذلك أمر يحتاج إلى حساب, ونحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب, فوجب أن نجعل الرؤية واحدة.
    فإن قيل: طلوع الهلال يختلف باختلاف الأمكنة, فوجب أن يكون لكل قوم حكم أنفسهم؛ كطلوع الشمس وغروبها.
    قيل: طلوع الشمس وغروبها يتكرر في كل يوم, ويشق مراعاته, ويلحق المشقة في اعتبار طلوعه وغروبه؛ بخلاف الهلال, ولهذا يختلف ذلك بارتفاع المكان وانخفاضه, حتى يفطر من يكون في الوادي, وإن لم يفطر م نْ هو في أعلى الجبل, والهلال بخلافه. . . ولأنه مطالعه تختلف إما با. . . .
    وقد قال ابن عبد البر في البلاد المتباعدة جدّاً. . . .
    149 - فإن قيل: قد روى كريب مولى ابن عباس: «أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام, فقضيت حاجتي, واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام, فرأيت الهلال يوم الجمعة, ثم قدمت بالمدينة في آخر الشهر, فسألني عبد الله بن عباس, ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم, ورآه الناس, وصاموا, وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت, فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال: لا؛ هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
    قيل: ابن عباس أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يفطروا في مثل هذه الواقعة, ولم يذكر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد يكون ذلك لأن كريباً هو الذي أخبرهم بالرؤية المتقدمة وحده, وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا بشهادة اثنين؛ لأنهم لو علموا بخبره؛ لأفطروا وليس فيه تعرض لقضاء ذلك اليوم, وشهادة الواحد إنما تقبل في الهلال إذا اقتضت الصوم أداءً أو قضاءً, فأما إذا اقتضت الفطر؛ فلا.
    ويجوز أن يكون ذك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصوموا لرؤيته ويفطروا لرؤيته, ولا يفطروا حتى يروه ويكملوا العدة؛ كما قد رواه ابن عباس وغيره مفسراً, فاعتقد ابن عباس أن أهل كل بلد يصومون حتى يروه أو يكملوا العدة وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أنه قصد رؤية بعض الأمة في الجملة؛ لأن الخطاب لهم, وهذا عمل برؤية قوم في غير مصره.
    يوضح ذلك. . . .
    150 - فإن قيل: فقد روى ابن المظفر عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفت أعيادهم, فضحى أهل كل بلد خلاف هذا البلد, وأهل هذا البلد خلاف أهل هذا البلد». قال: «يا عائشة! عيد كل قوم يوم يعيدون».

    قيل: قوله: «عيد كل قوم يوم يعيدون»؛ كقوله: «صومكم يوم تصومون, وفطركم يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون» , وذلك لا يمنع وقوع الخطأ في الهلال؛ فإنه قد يفطر الناس بعد الرؤية بيوم أو قبلها إذا شهد به شاهد, وإنما المقصود به أن الحكم مبني على ما ظهر, وأن العيد هو الاجتماع للصلاة والنسك؛ ففي أي يوم حصل هذا؛ فهو يوم عيد, واليوم الذي يخلو عن هذا ليس يوم عيد, وإن كان عاشر الشهر.
    فيفيد هذا أن أهل مكة إذا اخطؤوا فوقفوا في الثامن أو العاشر؛ صح نسكهم, وأما سائر الأمصار إذا رأى الهلال أهل بلد, ولم يره الآخرون إلا بعد يوم؛ فأكثر ما فيه أنهم أخروا التضحية إلى ثاني النحر, وذلك جائز, والحديث لم يجئ إلا في عيد النحر, ثم لو عيد قوم اليوم, وآخرون غداً؛ لم يكن فيه إلا صوم يوم خطأ, وذلك لا محذور فيه؛ بخلاف الخطأ في فطر يوم؛ فإنه يوجب القضاء.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 176الى صــ 190
    (11)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    * فصل:
    ولا يصح الصوم إلا بنية كسائر العبادات؛ لقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
    151 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات».
    152 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصوم؛ فإنه لي, وأنا أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي».
    فمن لم يذر طعامه وشهوته لله؛ فليس بصائم.
    والنية. . . .
    وفيها مسألتان: تبييت النية وتعيينها.

    أما تبيت النية: فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل, سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين, وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق.
    قال أحمد في رواية أبي طالب: الفرض والقضاء والنذر يجمع عليه من الليل, فإن لم يجمع عليه من الليل؛ فلا صوم.
    وقال في رواية الميموني: ويحتاج في رمضان أن يبيت الصيام من الليل, فلو أن رجلاً حمق, فقال: لا أصوم غداً, ثم أصبح, فقال: أصوم! لا يجزيه عندي.
    وسواء ترك التبييت لغير عذر كالمستحمق أو لعذر مثل أن يغمى عليه أو يجهل ن ذلك اليوم من رمضان.
    قال في رواية الأثرم: إذا لم يعزموا الصيام في أول الشهر, فأصبحوا على غير صوم, م تبين لهم أنه من رمضان, فصاموا بقية يومهم, فيقضون يوماً مكانه, وإن كانوا لم يأكلوا؛ لأنه لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل.
    وهذا إنما هو في الفرض, وابن عمر إنما أصبح صائماً حين حال دون منظره, ويعتد به ويجزيه, وإذا لم يكن علة؛ قال: يصبح عازماً على الفطر.
    وقال في الأسير إذا صام في أرض الحرب وهو لا يعلم أنه شهر رمضان ينوي به التطوع: لا يجزيه من شهر رمضان إلا بعزيمة أنه من رمضان.
    وهؤلاء يقولون: يجزيه, وكيف يجزيه وهو لا يجزيه في يوم الشك إذا أصبح ولم يأكل, ولا يجزيه يوم الشك إلا بعزيمة من الليل؟! وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن يجمع الصيام من الليل قبل الفجر الزهري عن سالم عن ابن عمر عن حفصة.
    153 - وذلك لما روى يحيى بن أيوب, وغيره عن عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه, عن حفصة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له». رواه الخمسة.
    وفي لفظ للنسائي: «من لم يبيت الصيام».

    وفي لفظ لعبد الله بن أحمد وابن ماجه والدارقطني: «لا صيام لمن لم يفرضه من الليل». وفي لفظ لهم: «لمن يورضه».
    قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله, وهو أصح. وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري, وهو من الرفعاء. وقال ابن عبد البر: هذا حديث مُرِّض في إسناده, ولكنه أحسن ما روي مرفوعاً في هذا الباب اهـ.

    وقد رواه النسائي من حديث ابن جريج عن الزهري مرفوعاً كذلك.
    ورواه حرب من حديث إسماعيل, عن الزهري, عن حمزة بن عبد الله ابن الزبير, عن حفصة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا صيام لمن لم يوجبه بالليل».
    ورواه أيضاً من حديث عبيد الله بن عمر, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه, عن حفصة: أنها كانت تقول موقوفاً.
    ورواه أيضاً من حديث معمر بن [راشد و] يونس وابن عيينة, عن الزهري, عن حمزة بن عبيد الله بن عمر, عن أبيه, عن حفصة موقوفاً.
    ورواه مالك, عن الزهري, عن عائشة وحفصة قولها.
    ورواه مالك وعبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر: أنه كان يقول: «لا يصوم إلا من اجمع الصيام قبل الفجر».
    والذي يقوي رفعه أشياء:
    أحدها أن الذي رفعه عن الزهري رجل جليل القدر سمع منه قديماَ, وقد تابعه وغيره, والذين وقفوه سمعوه منه بعد ذلك, ومعلوم أن رفعه زيادة, والزيادة من الثقة مقبولة, لا سيما وسماع صاحب الزيادة متقدم, فعلم أن الزهري ترك رفعه في آخر عمره, إما نسياناَ أو شكاَ أو غير ذلك.
    ومنها: أن هذا الحديث كان عند الزهري عن عائشة وعن حفصة, حمزة عن ابن عمر, ولهذا ليس بغريب من الزهري؛ فإن الحديث كان يكون عنده من عدة جهات, يرويه كل وقت عن بعض شيوخه, وإذا كان كذلك؛ أمكن أن يكون عنده مرفوعاً وموقوفاَ.
    ومنها: أن احتجاج أحمد به يدل على صحة رفعه عنده.
    قال أبو بكر عبد العزيز: صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام الليل».
    ومنها: أنه قول عائشة وحفصة وابن عمر ولا يُعرف لهم مخالف من الصحابة.
    154 - وعائشة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان ينشئ صوم التطوع نهاراً»؛ كما سيأتي.
    فلولا أن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لما فرقت بين الفرض والنفل.
    قال الميموني سألت أحمد عنه؟ فقال: أخبرك ما له عندي ذاك الإِسناد؛ إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان.

    155 - وقد روى الدارقطني, عن يحيى بن أيوب, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر؛ فلا صيام له». وقال: كلهم ثقات.
    156 - وروى أيضاً عن ميمونة بنت سعد؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أجمع الصيام من الليل؛ فليصم, ومن أصبح ولم يجمعه؛ فلا يصم». وفي إسناده الواقدي.
    وأيضاً: فإن الصوم الواجب هم الإِمساك من أول النهار إلى آخره؛ فإذا خلا أوله عن النية؛ فقد خلا بعض العبادة الواجبة عن النية؛ ذكراً واستصحاباً, وذلك لا يجوز, ولأنه إذا لم يعتقد الصوم أول النهار؛ لم يكن ممتثلاً للأمر بصومه؛ لأن امتثال الأمر بدون القصد لا يصح؛ فإذا لم يكن ممتثلاً للأمر؛ بقي في عهدة الأمر قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ. . .} [البقرة: 187] , وكونه معذوراً لا يقتضي أن يحكم له بما لم يفعله, لكن يقتضي سقوط الإِثم عنه, ويجزيه القضاء؛ كما لو لم يعلم به إلا بعد الزوال.
    ولأنه: صوم واجب, فلم يصح إلا بنية من الليل؛ كصوم الكفارة والقضاء والنذر المطلق, ولا يصح أن يقال: هناك لم يتعين زمانه فلا بد من النية, بخلاف صوم رمضان والنذر المعين؛ لأن التعيين لو كان كافياً؛ لكفى مجرد الإِمساك بدون النية, ولم تفترق الحال بين ما قبل الزوال وبين ما بعده.
    فإن قيل: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء أن يصوموا بنية من النهار, وكان صوماً واجباً, ولولا أن الواجب يصح بنية من النهار؛ لم يجزهم.
    قيل: لا نسلم أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً على ما يختاره كثير من أصحابنا على القول الآخر؛ فذاك إنما ابتدأ الله إيجابه من النهار, ولم يكن واجباً عليهم بالليل؛ بخلاف صوم رمضان؛ فإنه واجب من أول النهار, وإن لم يعلم بالزمان, وليس لنا صوم يوجبه الله ابتداءً في أثناء النهار.

    نعم؛ أشبه شيء بهذا أن يسلم الكافر أو يفيق المجنون أو يحتلم الصبي في أثناء النهار؛ فيجب عليه الصوم من حينئذٍ؛ إذ في المشهور عنه.
    وأيضاً: فإن هذا لو ثبت؛ لكان في صوم عاشوراء, وذاك صوم ومنسوخ؛ فلا يلزم من ثبوت الحكم فيه ثبوته في الصوم المحكم؛ لجواز أن يكون ثبت وجوبه بصفة تخالف صوم رمضان, لا سيما وقد كانوا في أول ما فرض رمضان عليهم يُخيَّر أحدهم بين أن يصوم وبين أن يفتدي بطعام مسكين عن كل يوم؛ لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا الصوم, فخفف عنهم في أول الأمر, ثم أحكمت الفرائض.

    فإن كان الواجب قد يجزئ بنية من النهار؛ فلعله في ذلك الوقت.
    ثم إن قوله: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»: حديث متأخر عن صوم عاشوراء, فيكون ناسخاً له لو اجتمعا في صوم واحد؛ فكيف إذا كان ذلك في الصوم المنسوخ؟! لأن راويه حفصة, وإنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. . . , وحديث عاشوراء كان في السنة الثانية من الهجرة.
    فأما صوم التطوع؛ فيجزئ بنية من النهار. نص عليه في غير موضع.
    157 - لما روي عن عائشة؛ قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هل عندكم من شيء؟». فقلنا: لا. قال: «فإني إذاً صائم». ثم أتانا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس, فقال: «أدنيه؛ فلقد أصبحت صائماَ». رواه الجماعة إلا البخاري, وفي بعض الروايات: فقال: «فغني صائم» , ولم يقل: «إذاً».
    وهذا يدل على أنه أنشأ الصوم من النهار؛ لأنه قال: «فإني صائم» , وهذه الفاء تفيد السبب والعلة؛ فيصير المعنى: إني صائم؛ لأنه لا شيء عندكم.
    ومعلوم أنه لو كان قد أجمع الصوم من الليل؛ لم يكن صومه لهذه العلة.
    وأيضاً: فقوله: «فإني أذاً صائم» , وإذاً أصرح في التعليل من الفاء.
    وأيضاً: فإن الظاهر من حال مَنْ أجمع الصيام من الليل أن لا يجيء سائلاً عن الغداء, وإنما يسأل عن الغداء المفطر أو المتلوم.
    وذكر إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هذا الحديث, فقال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة, فقال: «أطعمينا شيئاً». فقالت: ما عندنا. قال: «فأشهدكم إني صائم يومي هذا». قال: فنوي الصيام بعد مضي بعض اليوم.

    158 - وأيضاً: قال البخاري: وقالت أم الدرداء: [كان أبو الدرداء] قول: عندكم [طعام]؟ فإن قلنا: لا. قال: فإني صائم يومي هذا.
    159 - 160 - قال: وفعله أبو طلحة وأبو هريرة.
    161 - 162 - وابن عباس وحذيفة.

    163 - 165 - وذكر ابن عبد البر عن علي وابن مسعود وأنس.
    166 - وذكره إسحاق عن معاذ بن جبل. . . .
    [و] عن سعيد بن المسيب؛ قال: «رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق, ثم يأتي أهله, فيقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا. قال: فأنا صائم. رواه أبو عاصم.
    وهذا يفسر حديث حفصة. أن المراد بذلك الحديث الصوم الواجب, لا سيما وعائشة يروي هذا الحديث وهي تقول: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل».

    ولأن صيام عاشوراء لم يكن واجباً في المشهور لأصحابنا, وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصومه من النهار, ولأن بعض الواجبات يجوز أن يكون بتطوع به؛ كما بتطوع بالقراءة والتسبيح من أركان الصلاة والطواف من أركان الحج, ولأن النافلة يخفف فيها ما لا يخفف في الفريضة؛ بدليل أن نفل الصلاة يصح قاعداَ أو على الراحلة توسعة للنافلة, فجاز أن يوسع التنفل بالصوم بنية من النهار.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 191الى صــ 205
    (12)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    فعلى هذا يجوز التطوع بنية من النهار قبل الزوال وبعده, نص عليه في رواية الميموني, وقد سأله عن الذي ينوي الصيام بعد الفجر: أليس يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاهم فقال: «هل عندكم طعام؟» بعدما تعالى النهار؟ قال: نعم.
    ويتأول حديث حذيفة بعدما زالت الشمس ورأيته يذهب إلى هذا ما لم يكن فرضاَ.
    ولذلك أطلق الإِجزاء بنية من النهار في رواية أبي طالب وغيره, وأطلقه الخرقي وغيره, وعلى هذا أصحابنا مثل ابن أبي موسى والقاضي في آخر قوليه. وذكر ابن عقيل وغيره في هذه المسألة روايتين: إحداهما: كذلك, والثانية: لا يجزئ نية بعد الزوال. قال: وهي أصح في الروايتين.
    وهذا اختيار القاضي في «المجرد»؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في صدر النهار.

    ولا يمكن إلحاق ما بعد الزوال به؛ لأنه إذا نوى أول النهار؛ فقد حصل معظم اليوم منويّاً, فجاز أن يقوم مقام الجميع, كما لو أدرك الإِمام راكعاً؛ فإنه يحسب له جميع الركعة, بخلاف ما إذا نوي بعد الزوال, ولأن الإِمساك أول النهار أمرٌ معتادٌ؛ فإذا لم يصادفه النية؛ لم يقدح ذلك فيه؛ بخلاف الإِمساك آخره؛ فإنه بخلاف المعتاد؛ فإذا لم ينو؛ ذهب الإِمساك المقصود في الصوم باطلاَ, لهذا يكره للصائم الاستياك بالعشي, ولم يكره له أول النهار.

    فعلى هذا يصح قبل الزوال قولا واحداَ على ما ذكره القاضي وعامة أصحابنا.
    ومنهم من قال: إنما يصح قبل انتصاف النهار الذي أوله طلوع الفجر, وذلك قريب من آخر الساعة الخامسة؛ لأن النهار الذي يجب صومه من طلوع الفجر؛ فإذا لم تقع النية قبل مضي نصفه؛ لم يكن أكثر زمان الصوم منويّاً.
    ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام بنيةٍ من النهار, ولا فرق بين أوله وآخره.
    وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: الأكثرون على أنه يجوز, وإن لم ينو إلا بعد نصف النهار, منهم ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل, رأوا إن لم ينو ليلاً أن يصوم في نهاره؛ يعني: ينوي أي وقت شاء, ولو كان بعد الزوال أيضاً, وهذا أعدل الأقوال عندنا وأشبه بسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
    167 - عن المستورد بن الأحنف: أن رجلاً صلى مع عبد الله بن مسعود الظهر, فسأله, فقال: إني جئت في طلب غريم لي, فأصبحت, فلا أنا صائم ولا أنا مفطر. فقال: «أنت بالخيار, إن شئت فصم, وإن شئت فافطر». رواه حرب.
    * فصل:
    قال أحمد في رواية أبي طالب: من صام فرضاً أو قضاءً أو نذراً؛ أجمع عليه من الليل, ابن عمر وحفصة يقولان: من أجمع من الليل صام, ومن لم يجمع من الليل فلا صوم.
    وحديث طلحة بن يحيى عن مجاهد عن عائشة: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فقال: «هل عندكم من شيء؟». قلنا: لا. قال: «فإني صائم». ثم جاءنا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس, فخبأنا لك منه, فقال: «أدنيه؛ فقد أصبحت صائماً» , فأكل.
    فهذا في التطوع يكتب له بقية يومه.
    وإذا أجمع من الليل؛ كان له يومه, وسواء على هذا نوى قبل الزوال أو بعده, وهذا قول. . . .
    وقال القاضي وأبو الخطاب: يحكم له بالصوم الصحيح الشرعي المثاب عليه من أول النهار, لا من وقت النية, سواء نوى قبل الزوال أو بعده؛ لأن صوم بعض النهار لا يصح, بدليل ما لو نواه بعد الأكل, أو أراد الفطر في أثناء اليوم.
    فإذا صح نيته من أثناء النهار؛ علم أن صومه تام, فيكتب له ثواب يوم تام.

    وقد تنعطف النية على ما مضى؛ كالكافر إذا أسلم؛ فإنه يثاب على ما تحمله من الحسنات حال كفره, ولأنه لو كان صومه من حين النية؛ لوجب أن يجوز الأكل قبلها؛ بدليل أن وقت الفجر لما كان أول وقت الصوم الذي يثاب عليه؛ جاز له الأكل قبل طلوعه, فلما ثبت أنه لا يجوز أن يأكل ضحوة لم ينو الصوم الآكل؛ فثبت أن ما مي من النهار قبل الصوم صوم صحيح.
    والمنصوص أصح, وهو اختيار أبي محمد؛ لأن الإِمساك صدر النهار كان بغير نية, وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فكيف يثاب على إمساك ما لم يقصده ولم ينوه, وكونه صام اليوم كله لا يوجب أن يثاب عليه كله, وإنما يثاب فيما ابتغي وجه الله منه, هذا إذا سلمنا انه صام أوله, وإلا؛ فالحقيقة أنه لا يوقع اسم الصوم إلا من حين النية, ونجعله قد صام بعض يوم, وما تقدم من الإِمساك يشرط بصوم بعضه, وإن سمي فيه صائماً؛ فعلى المعنى اللغوي لا على المعنى الشرعي.
    أما إذا أكل؛ فقال أصحابنا: لا يصح صومه بحال.
    وقال القاضي: قول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء: «ومن أكل فليمسك» على طريق الاستحباب, وقولهم: الإِمساك في يوم لا يجب صومه لا يكون قربة ليس بصحيح؛ لأن هذا يوم شريف فيه فضل؛ فالإِمساك فيه قربة. . .
    فعلى هذا من أكل معتقداً أنه ليس بيوم شريف, ثم تبين له بخلافه؛ فإنه يمسك ويثاب. . . , فإن كان أول النهار ممن لا يصح صومه كالكافر والحائض؛ لم يصح صومه إذا أسلم أو انقطع الدم؛ كما لو كان قد أكل في أول النهار.
    * فصل:
    وتصح النية في جميع ليلة الصوم, ولا يجب استصحاب ذكرها, بل يكفي استصحاب حكمها إلى آخر النهار, ما لم يفسخها.
    فإن فسخها ليلاً؛ صار كأنه لم ينو, وإن أكل بعدها أو جامع؛ لم تبطل عند أكثر أصحابنا.

    وقال ابن حامد: تبطل؛ لأنه تخلل بين العبادة وبينها ما ينافيها, فأشبه ما لو أحدث بعد نية الصلاة وقبل فعلها.
    قال ابن عقيل: وكما لو نوى الإِحرام فوطئ, وكما لو نوى الزكاة بطعام بعينه ثم طحنه وخبزه.
    وإن فسخها نهاراً, بأن نوى الفطر؛ صار مفطراً بمنزلة مَنْ لم ينو ولم يأكل, هذا منصوص أحمد.
    وذكر الشريف عن ابن حامد انه لا يكون مفطراً. . . .
    وإن تردد في قطع الصوم, أو نوى أنه يقطعه فيما بعد؛ فهو على الخلاف في الصلاة.
    قال القاضي وابن عقيل: إن اعتقد الخروج منه, أو اعتقد أنه سيخرج؛ خرج. نص عليه أحمد, وكذلك الصلاة؛ بخلاف الحج.
    وظاهر كلامه أنه يصير مفطراً.
    قال في رواية الأثرم: لا يجزيه إذا أصبح صائماً ثم عزم على أن يفطر فلم يفطر حتى بدا له, ثم قال: لا بل أتمُّ صيامي, من الواجب, فلا يجزيه حتى يكون عازماً على الصوم يومه كله, وإن كان تطوعاً كان أسهل.
    وإن نوى أنه إن وجد طعاماً أفطر وإلا فلا؛ فوجهان.
    وجميع الليل محل للنية, حتى لو نوت الحائض, وقد عرفت من حالها الطهر قبل الفجر, ولا بد أن يكون قبل الفجر, ولا يصح معه, نص عليه. . . .
    وإن نوى نهاراً قبل يوم الصوم بليلة؛ ففيه روايتان.
    أحدهما: لا يجزيه. قال في رواية حنبل: يحتاج الرجل في شهر رمضان أن يجمع على الصيام في كل يوم من الليل.
    وهذا اختيار أصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل».
    والثانية: يجزيه. قال ابن منصور: قلت لأحمد: إذا نوى الصوم بالنهار أن يصوم غداً من قضاء رمضان, ثم لم ينوه من الليل. قال: قد تقدم منه نية, لا بأس به, إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك.

    وقد تأولها القاضي في «المجرد» على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل.
    وتأولها ابن عقيل على قولنا بأنه يكفي لجميع الشهر نية واحدة.
    وكلاهما ضعيف, وهو الذي يقتضيه كلام أحمد؛ فإنه قد نص على أن الصوم يصح مع الأكل إلى طلوع الفجر, وأن النية يجب أن تكون قبل الفجر؛ كما دل عليه نص الرواية, وأقرها القاضي في آخر أمره على ظاهرها, وهو الصواب؛ لأن ليلة الصوم تابعة له, فجاز تقديم النية عليها؛ كما يجوز تقديمها على النوم, ولأن النية إذا لم تفسخ؛ فإن حكمها باق؛ وإن تقدمت على العبادة بزمن طويل؛ ما لم يفصل بينهما عبادة من جنسها.
    ولهذا قال كثير من أصحابنا: إن نية الصلاة تصح من أول الوقت, بخلاف ما إذا نوى في ليلة صيام اليوم الذي يلي يومها؛ إنه قد تخلل بين وقت النية ووقت العبادة ووقت يصلح لأداء مثل تلك العبادة.
    فإن قوله: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل»: ليس بنص, فإن مَنْ نوى من النهار واستصحب النية إلى الفجر؛ فقد أجمع الصيام من الليل؛ لأن الإِجماع أعم من أن يكون مبتدأ أو مستصحباً أو ذكراً أو حكماً.
    ولهذا إنما ذكر ذلك لبيان. . . الذي تقدم النية عليه, لا لبيان تأخير النية عنه.
    * فصل:
    وهل يشترط أن ينوي نية الفريضة؟ على وجهين.
    أحدهما: لا يشترط. قاله القاضي وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا.

    وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ لأنه اعتبر أن ينوي رمضان ولم يذكر نية الفريضة؛ لأن نية رمضان من المكلف تتضمن نية الفرض؛ فإن رمضان منه لا يقع إلا فرضاً, وهذا أبلغ من الصلاة.
    والثاني: يشترط. قاله ابن حامد.
    وأما نية الأداء؛ فأشبه ما لو نوى صلاة في وقت التي قبلها.
    وتشترط النية لكل يوم على انفراده في المشهور عنه الذي عليه عامة أصحابه.
    قال في رواية الجماعة صالح وعبد الله وإبراهيم وابن منصور: يحتاج في شهر رمضان أن يجمع في كل يوم على الصوم.
    وروي عن حنبل في بعض المواضع قال: سألت أبا عبد الله: هل يحتاج في شهر رمضان إلى نية كل ليلة؟ قال: لا, إذا نوى من أول الشهر؛ يجزيه, وهذه التي نصرها ابن عقيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم [قال]: «وإنما لكل امرئ ما نوى» , وهذا قد نوى جميع الشهر.
    168 - وعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهل رمضان: «قد دخل عليكم هذا الشهر المبارك فقدموا فيه النية».

    ولأن شهر رمضان بمنزلة العبادة الواحدة؛ لأن الفطر في لياليه عبادة أيضاً يستعان بها على صوم نهاره, ولهذا شملت البركة لياليه وأيامه, وسمي الفطر ليلة العيد فطراً من رمضان, فعُلم أن الفطر الذي يتخلل أيامه ليس فطراً من رمضان,ويزكون صومهم ويوفون أجرهم في آخره, فعلم أنه عبادة واحدة, فأجزأت فيه نية واحدة كسائر العبادات.
    وكون الفساد يختص ببعضه إذا صادفه؛ لا يمنع كونه عبادة واحدة؛ كالحج؛ فإنه يشتمل على إحرام ووقوف وطواف وسعي, ثم لو فسد الطواف لكونه على غير طهارة, أو قد اخترق الحجر, ونحو ذلك لم يتعد الفساد إلى غيره, ومع هذا؛ فهو عبادة واحدة, بحيث تكفيه نية واحدة؛ لأن النية وقعت لهذا الصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم, من غير أن يتخلل النية والصوم المنوي زمان يصلح جنسه لصوم سواه, فجاز ذلك, كما لو نوى لكل يوم من ليلته.
    فأما القضاء والنذر؛ فلا يجزيه إلا تبييت النية في كل ليلة قولاً واحداً, ولم يفرق أصحابنا بين النذر المعين والكفارة المتتابعة وغيرها.
    ووجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجمع الصيام من الليل قبل الفجر؛ فلا صيام له» , ولأن كل يوم عبادة مفردة, بدليل أنه لا يفسد بعضها بفساد بعض.
    والعبادة المفردة تفتقر إلى نية مفردة كسائر العبادات.
    والحج عبادة واحدة؛ بدليل أنه لو وطئ في آخره؛ فسد أوله, ومع هذا؛ فلا بد للطواف من نية تخصه, ولا تكفيه نية أصل الحج, وإنما يجزئ ذلك في الوقوف خاصة؛ لأنه من خصائص الحج, وفي ضمنه, بخلاف الطواف؛ فإنه عبادة مفردة بنفسه.
    * فصل:
    ولا يجزئ الواجب من الكفارة والقضاء والنذر المطلق إلا بتعيين النية والنذر المعين.
    فأما رمضان؛ فلا يجزئ إلا بتعيين النية في إحدى الروايات.

    قال في رواية صالح فيمن صام شهر رمضان وهو ينوي به تطوعاً: أيجزيه؟ فقال: أو يفعل هذا مسلم؟ وكذلك الأثرم وقد تقدمت.
    ونقل عنه من يحج ينوي به التطوع, ويصوم ينوي به التطوع؛ فالحج والصوم سواء, لا يجزيه العمل فيه إلا بنية, نص عليه فيمن صام رمضان ينوي به تطوعاً لا يجزيه, سواء تعمد ذلك أو لم يدر؛ كيوم الشك والأسير وغيرهما. قال: لا يجزيه يعزمه أنه من رمضان.
    والثانية: يجزيه.

    قال في رواية المروذي: إذا حال دونه حائل؛ فإنه يصوم. فقيل له: يصومه على أنه من رمضان؟ فقال: نحن اجمعنا على أن نصبح صياماً, ولم نعتقد أنه من رمضان؛ فهو يجزينا من رمضان. فقيل له: أليس تريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال: لا, إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه.
    فقد نص بأنه لا يجب تعيين النية, حتى لو نوى الصوم مطلقاً, أو نوى نذراً أو قضاء أو تطوعاً؛ أجزأه من رمضان.
    قال القاضي: فظاهره أنه لو نوى صوماً مطلقاً؛ أجزأه عن فرضه.
    ومن أصحابنا مَنْ جعل هذا رواية بكل حال, وهذا اختيار الخرقي في «شرحه». قال: من أصلنا لو نوى أن يصوم تطوعاً, فوافق رمضان؛ أجزأه؛ لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والنفل لما يصلح لهما, وشهر رمضان لا يصلح.
    والرواية الثالثة: أن تعيين النية برمضان يجب مع الغيم دون الصحو.
    قال في رواية صالح: إذا حال دونه شيء, فأصبح صائماَ؛ أجزأه, وإن لم يحل؛ لم يجزه, حتى ينوي أنه من رمضان.
    واختار جَدي رحمه الله: أنه يجزيه مع الإِطلاق على رواية المروذي, ولا يجزيه مع تعيين غير رمضان؛ كما نص عليه في رواية الجماعة.
    وذلك لأن التعيين إنما يفتقر إليه للتمييز بين العبادتين, لجواز أن ينوي كل واحدة منهما, والوقت هنا لا يصلح لغير رمضان, ولا يصح فيه غيره؛ فإنه لو صام في رمضان قضاءً أو نذراً أو نفلاًَ؛ لم يصح وفاقاً.
    وإذا كان متميزاً بنفسه؛ لم يفتقر إلى التعيين؛ كما لا يفتقر المقيم أن ينوي الظهر أربعاً, ولأنه متى قصد الصيام وأراده؛ فقد أتى بالصوم الشرعي؛ لأنه عبارة عن الإِمساك والنية, وإذا أتى بالصوم الشرعي؛ أجزأه عن صوم شهر رمضان؛ لأنه لا يصح في هذا الوقت غيره, ولأنها عبادة تعين لها هذا الوقت شرعاً, فإذا وقع غيرها من جنسها, وقع [عينها]؛ كما لو أحرم بالحج نفلاً أو نذراً؛ فإنه يقع عن حجة الإِسلام؛ لأن الشارع عَيَّن أول حجة لحجة الإِسلام بقوله:
    169 - «هذه عنك, ثم حج من شبرمة».
    بلى هذا أولى من الحج؛ لأن هذا الزمان تعين بتعيين الشارع.
    وقد أجمع الناس أنه لا يجوز أن يوقع فيه غيره.
    والحج, وإن تعين له ذلك العام؛ فقد كان يجوز أن يوقع في غيره.
    وقد اختلف في جواز إيقاع غيره فيه:

    . . والأول هو المذهب الذي عليه عامة الأصحاب؛ مثل أبي بكر وأبي حفص والقاضي وأصحابه؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؛ فإنه أمر بصوم هذا الشهر متضمن للأمر بنيته, فإن من صام فيه تطوعاً أو قضاءً أو صوماً مطلقاً؛ لم يصمه, وإنما صام فيه, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» , وهذا لم ينو صوم رمضان أصلاً ولا ضمناً؛ فلا يجزيه, ولأنها عبادة. . . .
    وإن قال ليلة الشك: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي, وإن لم يكن منه فهو نفلي؛ أجزأه إن كان منه على قولنا: يصح بنية [من] الليل لا يشترط تعيين النية, وعلى قولنا: يشترط, لا يجزيه.
    . . فيمن أصبح متلوماً إذا كان من رمضان, وإلا؛ فهو شعبان نافلة, فإذا صام على هذا, قضى يوماً مكانه, ولا يكون صائماً حتى يجمع عليه من الليل.
    وإن قال: وإن لم يكن من رمضان؛ فصومي عن واجب آخر سماه لم يجزه عن ذلك الواجب بحال, وهل يجزيه عن رمضان إن بان أنه منه؟ على روايتين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 206الى صــ 220
    (13)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    وإن قال: إن كان من رمضان؛ فأنا صائم, وإلا؛ فأنا مفطر؛ لم يجزه بحال, نص عليه في رواية الأثرم. قال: سألت أحمد: تقول: إذا كان في السماء سحابة أو علة أصبح صائماً, فإن لم يكن في السماء علة أصبح مفطراً. ثم قال: كان ابن عمر إذا رأى في السماء سحاباً؛ أصبح صائماً. قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به, فإذا أصبح عازماً على الصوم؛ اعتد به ويجزيه. قلت لأبي عبد الله: فإن أصبح متلوماً يقول: إن قالوا: هو من رمضان صمت, وإن قالوا: ليس من رمضان أفطرت. قال: هذا لا يعجبني, يتم صومه ويقضيه؛ لأنه لم يعزم.

    وكذلك نقل حرب في يوم الشك إن لم يجمع الصيام ولكنه أصبح يقول: أصوم إن صام الناس, وأفطر إن أفطر الناس, ولم يجمع الصيام, وصام ذلك اليوم؛ فإذا هو من رمضان, يعيد يوماً مكانه.
    وإن قال: أنا غداً صائم من رمضان أو من نقل؛ لم يجزه عن رمضان؛ إنْ تبين أنه منه؛ إلا على القول بإجزاء الفرض بنية النفل؛ لأنه شرَّك بين الفرض والنفل في النية.
    وإن قال في سائر الأيام: أنا صائم غداً قضاءً أو تطوعاً, وقع تطوعاً.
    باب في أحكام المفطرين في رمضان
    مسألة:
    ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام: أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له الفطر؛ فالفطر لهما أفضل, وعليهما القضاء, وإن صاما أجزأهما.

    في هذا الكلام فصول:
    أحدها: أن المريض والمسافر يباح لهما الفطر:
    لقوله سبحانه وتعالى: {. . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
    ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 183 - 185].
    وقد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى اله عليه وسلم بإباحة الصوم للمسافر؛ فالمريض أولى, وهذا مما أجمع عليه المسلمون في الجملة.

    الفصل الثاني: أن السفر المبيح للفطر هو السفر المبيح للقصر على ما مضى؛ لأن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران في أربعة برد فما فوق ذلك.
    ولأن السفر المطلق هو السفر الذي يتكرر فيه الشد والحل, وذلك هو مسافة القصر, وأما المريض المبيح؛ قال ابن أبي موسى والخرقي: هو الذي يزيد في مرضه.
    وكذلك المريض الذي لا يطيق الصيام أو الذي يزيد الصوم في مرضه؛ له أن يفطر, وإن تحمَّل وصام وأجزأه.
    قال في رواية صالح: والمريض يفطر إذا لم يستطع. قيل: مثل الحُمَّى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟
    وقال في رواية عبد الله: إذا كان تخاف المرأة اللوزتان تفطر إذا كانت تخاف على نفسها.
    وقال أبو بكر: والمريض إذا خشي على نفسه أو على بعض أعضائه التلف يفطر.
    وإذا احتاج إلى أن يفطر ببعض أسباب الفطر جاز له غيره مثل أن يحتاج إلى كحل عينه أو إلى الجماع لإزالة الشبق.
    وهل يُخرَّج على هذا فطر المسافر بالجماع ويفرق بين من جاز له الفطر وحرم عليه؟
    قال فيما إذا احتاج إلى مداواة عينه: يفطر ويعالجها.
    وفي معنى المريض الصحيح الذي يخاف من الصوم مرضاً أو جهداً شديداً, مثل مَنْ به عطاش لا يقدر في الحر على الصوم, وهو يقدر عليه في الشتاء, أو امرأة قد حاضت والصوم يجهدها.
    قال في رواية ابن هانئ: الجارية تصوم إذا حاضت, فإن أجهدها فلتفطر ولتقض.
    قال أصحابنا: ولا كفارة في ذلك بخلاف الحامل.
    قال القاضي: إن كانت تخاف المرض بالصيام؛ جاز لها الفطر, وإن لم تخف من المرض, لم يبح لها الفطر؛ لأن هذا نادر ليس
    بمعتاد لخوف المشقة فيه, وكلام أحمد يقتضي. . . .
    وإن خاف من الصوم ضعفاً عن عدوه في الحضر أو لم يقدر على تحصيله. . . .
    الفصل الثالث: أن المريض يستحب له الفطر, ويكره له الصوم, فإن صام؛ أجزأه.
    170 - عن أبي العلاء بن الشخير, عن عائشة: «أنه أجهدها العطش وهي صائمة, فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يومين». رواه حرب بإسناد جيد, وكذلك المسافر يستحب له الفطر ويجزيه.
    قال أبو عبد الله في رواية المروذي: قد سافروا مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا: كان منا الصائم ومنا المفطر. والذي نختار أن يفطر, وإن صام في السفر؛ أجزأه. قال أبو سعيد: «سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فمنا الصائم ومنا المفطر, ولم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم».
    وحديث عمر ليس له إسناد.
    ولكن حديث ابن عباس: «لما بلغ الكديد أفطر» , وهو آخر الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا بأمره بالإِفطار.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر».

    وقال في رواية حنبل: لا يعجبني الصيام في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:171 - 172 - «ليس من البر الصوم في السفر» , وكان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإِعادة.
    ويتوجه أن لا يكره إذا لم يكن فيه مشقة, ولا فعله تعمقا, وإنما جاز له الأمران.
    173 - لما روى أبو سعيد وجابر؛ قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض». رواه مسلم.
    174 - وعن أبي سعيد؛ قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان, فمنا من صام, ومنا من أفطر, فلم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». رواه أحمد ومسلم والترمذي.
    وفي رواية: «كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان, فمنا الصائم, ومنا المفطر, فلم يجد الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم».
    يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن, ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن.
    175 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: «كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». أخرجاه في «الصحيحين».
    176 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال: «إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر».
    وفي رواية: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصوم, فقال: «إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر». رواه الجماعة.

    وفي رواية؛ قال: يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم.
    177 - وعن أبي الدرداء؛ قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد, حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر, وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة». رواه الجماعة إلا النسائي والترمذي.
    ولأنه صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح صام في رمضان حتى بلغ الكديد, ثم أفطر حتى قدم مكة, فصام في السفر وأفطر. وقد تقدم.

    178 - ولهذا قال ابن عباس: «لا يعب على من صام في السفر, ولا على من أفطر؛ فقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر».
    وفي لفظ: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه.
    وإنما اخترنا له الفطر لقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] , ولأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أفطر في أثناء غزوة الفتح, ثم لم يزل مفطراً, ثم لم يسافر بعدها في رمضان, وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا كانت الأحوال التي في آخر عمره أفضل من الأحوال التي في أول عمره.
    179 - وعن معمر بن أبي حبيبة: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصيام في السفر, فحدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في شهر رمضان يوم بدر ويوم الفتح, فأفطرنا فيهما». رواه أحمد والترمذي, وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
    180 - وعن حمزة بن عمرو الأسلمي؛ أنه قال: يا رسول الله! أجد مني قوة على الصوم في السفر, فهل عليَّ جناح؟ فقال: «هي رخصة من الله, فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه». رواه مسلم والنسائي.
    ورواه أبو داوود ولفظه: قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظهر أعالجه, أسافر عليه وأكريه, وإني ربما صادفني هذا الشهر (يعني: رمضان) , وأنا أجد القوة, وأنا شاب, فأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون ديناً, أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال «أي ذلك شئت يا حمزة».

    فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه به قوة على الصوم, وأنه أيسر عليه من الفطر, وخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «هي رخصة من الله, من أخذ بها فحسن» , والحسن هو المستحب, «ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه» , ورفع الجناح إنما يقتضي الإباحة فقط, وهذا بين لمن تأمله.
    181 - وعن جابر بن عبد الله؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فرأى زحاماً, ورجل قد ظلل عليه, فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم. فقال: «ليس من البر الصيام في السفر». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.
    وفي رواية النسائي: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها».
    182 - وعن كعب بن عاصم الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من البر الصيام في السفر». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
    قال سفيان بن عيينه: تفسيره: ليس من صام بأبر ممن فطر.

    183 - وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ليس من البر الصوم في السفر». رواه الأثرم.
    والبر هو العمل الصالح, فقد بين أن الصوم في السفر ليس بعمل صالح, بل هو من المباح؛ فلا حاجة بالإنسان إلى أن يجهد نفسه به.

    184 - وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر؛ يقول الله عز وجل لملائكته: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح مقيم». رواه البخاري:
    فإذا سافر في رمضان وأفطر؛ كتب له صوم رمضان, ثم إذا قضاه؛ كتب له صوم القضاء؛ فلا يكون في الصوم زيادة فضل.
    ولا يصح أن يقال: إنما هذا فيمن شق عليه الصوم في السفر, لأن الحديث خارج على هذا السبب؛ لأنه قد روي مبتدأ غير خارج على سبب.
    ولأن اللفظ عام, لا يجب قصره على سببه؛ بل يحمل على عمومه.

    ولأن التظليل ليس فيه دليل على المشقة التي تضره حتى يجب معها الفطر.
    ولأنه لو كان ذلك لأجل المشقة خاصة؛ لكان الصوم إثماً, ولقيل: إن من الإِثم الصوم في السفر, فإن نفي البر ليس يلزم منه وجود الإِثم, لأن بينهما مرتبة ثالثة.
    ولأنه قد قال في الحديث: «عليكم برخصة الله التي أرخص لكم فاقبلوها» , والرخصة عامة لجميع الناس.
    ولأنه لما كان الصوم في الجملة مظنة المشقة؛ بيَّن أنْ لا برَّ في الصوم فيه لإِفضائه إلى هذا الضر, وإن تخلف عنه في بعض الصور.
    185 - وأيضاً؛ تقدم ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره تؤتى معصيته». رواه أحمد وابن خزيمة في «صحيحه».







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 221الى صــ 235
    (14)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    186 - وعن محمد بن المنكدر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يحب أن تؤتى فريضته».
    187 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه».
    188 - وعن ابن عمر وابن عباس؛ قالا: «إن الله يحب أن تؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه». رواهن ابن أبي شيبة.
    189 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «ما خُيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما, ما لم يكن إثماَ؛ كان أبعد الناس منه».

    190 - وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ وأبي موسى: «يسرا ولا تعسرا».
    191 - وعن بشر بن حرب؛ قال: سألت عبد الله بن عمر, قلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ قال: تأخذ إن حدثتك؟ قلت: نعم. قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من هذه المدينة؛ قصر الصلاة, ولم يصم حتى يرجع إليها». رواه أحمد.

    192 - وعن أبي طعمة؛ قال: كنت عند ابن عمر, إذ جاءه رجل, فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أقوى على الصيام في السفر. فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه الإِثم مثل جبال عرفة». رواه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة.

    193 - وأيضاً: ما روى أنس بن مالك الكعبي؛ قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانتهيت [أو قال:] فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل, قال: «اجلس فأصب من طعامنا هذا». فقلت: إني صائم. قال: «اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام, إن الله وضع شطر الصلاة (أ: نصف الصلاة) والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى» , والله لقد قالهما جميعاً أو احدهما, فتلهفت نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن.
    وفي رواية لأحمد والنسائي: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى وعن المرضع».
    فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم موضوع عنه؛ استدعاء منه للفطر بعد أن أخبره أنه صائم, ودعاه بعد أن أخبره أنهه صائم.
    194 - 195 - وعن أبي أمية الضمري وعبد الله بن الشخير عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة». رواهما النسائي.
    196 - وأيضاً: عن عبد الرحمن بن حرملة, عن سعيد بن المسيب؛ قال: سمعت رجلاً سأله: أتمُّ الصلاة والصوم في السفر؟ فقال: لا. قال: إني أقوى على ذلك. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى منك, قد كان يفطر ويقصر الصلاة في السفر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر». رواه سعيد والأثرم وغيرهما.
    وهذا مع أنه من مراسيل سعيد؛ فقد احتج به, واحتجاجه يدل على صحته عنده.

    197 - ورواه النجاد عن جابر مسنداً.
    198 - وعن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فنهاه, فقال: إن ذلك عليَّ يسير. فقال: «أنت أعلم باليسير أم الله؟ يقول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} , إن الله تصدق برمضان على مرضى أمتي ومسافريهم؛ فأيكم يحب أن يتصدق بصدقة ثم ترد عليه؟!». رواه أبو حفص.

    199 - وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في القصر: «صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته». رواه مسلم.
    وأيضاً؛ فإن عامة الصحابة على ذلك:
    200 - عن أبي جمرة؛ قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر؟ فقال: «عسر ويسر, خذ بيسر الله تعالى». رواه أبو سعيد الأشج.
    201 - وعن أبي سلمة؛ قال: «نهتني عائشة أن أصوم في السفر». رواه سعيد.
    وقد تقدم عن ابن عمر الأمر بالفطر.
    202 - وعن سعيد بن جبير؛ قال: كان ابن عمر لا يستأذنه في السفر, فصحبه رجل, فدعاه إلى طعامه, قال: إني صائم. قال: «من صحبنا؛ فليقتد بنا, ومن لا؛ فليعتزلنا؛ فإن في الأرض سعة». رواه البغوي.
    203 - وعن ابن عمر: «أنه كان لا يصوم في السفر رمضان ولا غيره, وإذا أقام قلما فطر».204 - وعنه: «أنه جاء إليه رجل, فقال: أصوم في السفر؟ قال: لا. قال: إنه صوم كنت أصومه. قال: إن هذا يريد أن يتبع هواه, إني لأظنك عراقيّاً».
    205 - وعن مجاهد؛ قال: قال ابن عمر: «يا مجاهد! لا تصم في السفر؛ فإنهم يقولون: كفوا صاحبكم, أعينوا صاحبكم, حتى يذهبوا بأجرك».
    206 - وعن عمرو بن دينار؛ قال: «سمعت رجلاً من بني تميم يحدث عن أبيه أنه صام رمضان في السفر, فأمره عمر أن يقضيه».
    وعن محرر بن أبي هريرة؛ قال: «صمت رمضان في السفر, فأمرني أبو هريرة أن أعيد في أهلي».
    207 - وعن عمار مولى بني هاشم, عن ابن عباس رضي الله عنهما: فيمن صام رمضان في السفر: «لا يجزيه». رواه أبو إسحاق الشالنجي.

    208 - 209 - وعن عثمان بن أبي العاص وأنس: «الصوم أفضل». رواه سعيد.
    ولأن الفطر جائز بغير خلاف من غير كراهة, والصوم قد كرهه جماعة من الصحابة, وأمروا بالقضاء كما تقدم, ولأن الفطر أيسر وأخف, والله يريد اليسر ولا يريد بنا العسر, ويجب أن يؤتى ما أرخصه, والمفطر يجمع له أجر الصائم وأجر القضاء كما تقدم, ولأنه رخصة من رُخَص السفر, فكان اتباعها أولى من الأخذ بالثقيل؛ كالقصر والمسح.
    فإن قيل: هذا يبقى الصوم في ذمته بخلاف الذي يقصر الصلاة.
    قلنا: إذا قام واتسع له وقت؛ قضاه, وإلا؛ فلا شيء عليه.
    ولأن الصوم في السفر مظنة سوء الخلق والعجز عن مصالح السفر, وأن يصير الإِنسان كَلاًّ على أصحابه, ولو لم يغيره, لكن الفطر بكل حال أعون له على السفر, وسعة الخلق, وإعانة الرفقاء, وغير ذلك من المصالح التي هي أفضل من الصوم.
    وبهذا يتبين أن الفطر أرفق له بكل حال, ولأن في الفطر قبولاً للرخصة, وبراءة من التعمق والغلو في الدين, وشكر الله على ما أنعم به من الرخصة.
    فإن من صام؛ فهل يكره له الصوم؟

    على روايتين:
    إحداهما: يكره. كما نقله حنبل.
    وقال في رواية الأثرم: أنا أكره أن يصوم في السفر؛ فكيف بقضاء رمضان في السفر؟ وهو اختيار الخرقي وأبي طالب وغيرهما:
    لقوله: «ليس من البر الصوم في السفر» , وما ليس ببر لا يكون عبادة, فيكره أن يشغل زمانه بغير عبادة.

    ولما تقدم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صام حتى بلغ كراع الغميم, فصام الناس معه, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت, فدعا بقدح من ماء بعد العصر, فشرب, والناس ينظرون إليه, فأفطر بعضهم, وصام بعضهم, فبلغه أن أناساَ صاموا, فقال: أولئك العصاة». رواه مسلم وغيره.
    ولأن من الصحابة من يأمره بالإِعادة.

    والثانية: لا يكره. كما نقله المروذي.
    وهو اختيار ابن عقيل؛ لما تقدم من أنه لم يكن يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم, والكراهة عيب, وأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر هو وابن رواحة في يوم شديد الحر, وأنه لو كره له الصوم؛ لعادت الرخصة مشقة.
    والصحيح: أنه إن شق عليه الصوم, بأن يكون ماشياَ أو لا يجد عشاءً يقويه أو بين يديه عدو يخاف الضعف عنه بالصوم أو يصير كَلاَّ على رفقائه أو يسوء خلقه ونحو ذلك؛ كره له الصوم, وكذلك إن صام تعمقاً وغلواً, بحيث يعتقد أن الفطر نقص في الدين ونحو ذلك, وعلى هذا يحمل على ما روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة من أمر الصائم بالإِعادة على سبيل الاستحباب عقوبة له, وكذلك حديث ابن عمر وغيره.
    وأما من صام وهو مرفه من غير تغير في حاله؛ فلا بأس بصومه, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالفطر وسماهم عصاة حين شق عليهم الصوم مشقة شديدة ولم يفطروا.
    210 - وعن أبي سعيد؛ قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء, والناس صيام في يوم صائف مشاة, ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له, فقال: اشربوا أيها الناس! قال: فأبوا, فقال: إني لست مثلكم, إني أيسركم, وإني راكب. فأبوا, فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه, فنزل وشرب وشرب الناس, وما كان يريد أن يشرب». رواه أحمد.
    فقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الراكب والماشي.
    211 - وعن سلمة بن المحبق الهذلي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». رواه أحمد وأبو داوود.
    وفي رواية لأبي داوود: «من أدركه رمضان في السفر».
    فأمر بالصوم من له زاد وراحلة دون غيره.

    212 - وعن أبي سعيد؛ قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, ونحن صيام. قال: فنزلنا منزلاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم, والفطر أقوى لكم». فكانت رخصة, فمنا من صام, ومنا من أفطر, ثم نزلنا منزلاً آخر, فقال: «إنكم مصبحو عدوكم, والفطر أقوى لكم, فافطروا». فكانت عزيمة, فأفطرنا, ثم رأيتنا نصوم بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. رواه أحمد ومسلم وأبو داوود, ولفظه: قال أبو سعيد: لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفطر لما أرادوا أن يصبحوا العدو, وكانت عزيمة.
    وأما الإِعراض عن الفطر تعمقاً وتنطعاً أو استعظاماً للفطر وإكباراً له؛ فمثل:

    213 - ما روت عائشة قالت: «رخص رسول الله في أمر, فتنزه عنه ناس من الناس, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فغضب حتى بان الغضب على وجهه, فقال: ما بال أقوام يرغبون عن ما رخص لي فيه؛ فوالله؛ إني لأعلمهم بالله, وأشدهم له خشية». متفق عليه.

    214 - كما أراد جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبتَّلوا, وقال أحدهم:أما أنا فأصوم لا افطر. وقال الآخر: أما أن أقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم, فقال: «لكني أصوم وأفطر, وأقوم وأنام, وآكل اللحم, وآتي النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني».
    وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].
    والأكل في السفر من طيبات ما أحل الله لنا؛ فمن اجتنبه تنزهاً عنه كالذي يجتنب اللحم والنساء كان داخلاً في هؤلاء, وبهذا وشبهه مرقت الخوارج من الدين, وعلى هذا الوجه أنكر دحية بن خليفة الكلبي وأبو بصرة على الذين رغبوا عن الفطر, ورأوه مكروهاً, وكذلك ابن عمر أنكر على من رأى به قوة على الفطر؛ فلا يشرع في حقه.
    ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لأواصلنَّ وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم».

    ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 236الى صــ 250
    (15)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام




    215 - وعلى هذا يخرج ما روى أسامة بن زيد, عن الزهري, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر». رواه ابن ماجه.
    216 - ورواه النجاد من حديث يزيد بن عياض, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة وأبيه عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صائم رمضان في السفر كمفطره في الحضر».
    217 - ورواه النسائي موقوفاً على عبد الرحمن.
    يعني: من صامه معتقداً وجوبه, والتشبيه به في الإِثم لا في وجوب القضاء.
    فإن قيل: فهلاَّ أوجبتم عليه القضاء, لا سيما وقد استشهد أحمد في رواية حنبل بقول عمر وأبي هريرة.
    قلنا:. . . .
    مسألة:
    والثاني: الحائض والنفساء يفطران ويقضيان, وإن صامتا لم يجزئهما.
    والأصل في هذا السنة المستفيضة المتلقاة بالقبول والإِجماع على أن الحائض لا تصوم, وقد تقدم ذكر هذا في الحيض, ولا
    يصح صومها, ولا يجوز لها أن تنوي الصوم وتكف عن الأكل, ومتى حاضت في أثناء يوم؛ بطل صومها, وهل يجب عليها الإِمساك بقية النهار؟ على روايتين.

    وكذلك [لو] انقطع دمها في أثناءِ يومٍ؛ وجب عليها قضاؤه, وفي وجوب الإِمساك روايتان.
    وإن انقطع دمها قبل الفجر, [وبيتَّت] النية؛ صح صومها, وإن لم تغتسل. نص عليه, وأنكر على مَنْ قال بخلافه, وقاسه على الرجل إذا أصبح جنباً.
    مسألة:
    والثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما؛ أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً, وإن صامتا؛ أجزأهما.
    في هذا الكلام فصلان:

    أحدهما: أن المرأة الحامل إذا خافت من الصوم على ولدها: إما لأن الجوع يضرُّ به, أو لاحتياجه إلى دواء تشربه؛ فإنه يجوز لها أن تفطر؛ لأنها أحوج إلى الفطر من المسافر وبعض المرضى؛ فإنه يخاف هلاك الولد بصومها.
    وقد تقدم حديث أنس بن مالك الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الله وضع الصوم عن المسافر (وفي رواية: وعن الحبلى والمرضع»). لقد قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً أو أحدهما». [وفي رواية]: «وعن الحامل وعن المرضع».
    وعليهما مع الفطر القضاء؛ لأنها ترجو القدرة عليه, فإذا قدرت؛ صامت كالمريض والمسافر, وعليها أيضاً الفدية, وهو أن تطعم عن كل يوم مسكيناً.
    218 - وعن نافع: أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها, فقال: «تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مُدّاً من حنطة». رواه
    219 - وعن عكرمة: أن ابن عباس قال: «أثبتت للحبلى والمرضع»؛ يعني: قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. رواه أبو داوود.
    220 - وروي عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]؛ قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً,والحبلى والمرضع إذا خافتا» قال أبو داوود: يعني: على أولادهما. رواه أحمد في «الناسخ والمنسوخ» مستوفى.
    221 - عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}؛ قال: «رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم, ورخص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً, ثم نسخ ذلك في هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وثبتت الرخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم, والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليهما».

    222 - وعن عطاء ابن عباس: «أنه كان يرخص في الإِفطار في رمضان للشيخ الكبير والحامل المتم والمرضع, ولصاحب العطاش أن يفطروا ويطعموا لكل يوم مسكيناً». رواه سعيد.
    قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها تفطر وتقضي وتطعم, أذهب إلى:
    223 - حديث أبي هريرة.
    224 - 225 وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تصوم.

    226 - وكان ابن عباس يقرأها: (يطوقونه). قال: يكلفون, ومن قرأ: {يُطِيقُونَهُ}؛ فإنها منسوخة, نسخها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}؛ فقد ثبت وجوب الفدية عن ثلاثة من الصحابة, ولا يعرف لهم مخالف.

    واختلفوا في القضاء, وأشبه القولين وجوب القضاء.
    227 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: «أن الله وضع الصوم عن المسافر والحامل والمرضع» , ولم يرد إلا وضع الأداء دون القضاء؛ لأنه ذكر المسافر, وإنما وضع عنه الأداء فقط, ولأنها ترجو القدرة على القضاء؛ فهي كالمريض.
    وأما إن خافت على نفسها:
    فقال أصحابنا: تفطر وتقضي ولا تكفر.
    قال بعضهم: هذا بغير خلاف؛ لأنها بمنزلة المريض أو بمنزلة من يخاف حدوث مرض به, وإنما وجبت الفدية إذا خافت على جنينها, لأنها هناك أفطرت للخوف على غيرها, وهو أغلظ من الفطر خوفاً على نفسها, فغلظ بوجوب الفدية, ولأن الفطر يرتفق به هنا شخصان الحامل وجنينها, فكان القضاء عنها والفدية عن جنينها, بخلاف فطر المريض والمسافر؛ فإنه لا يرتفق به إلا شخص واحد.

    وقال أحمد في وآية الميموني: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولدهما يفطران ويطعمان ويصومان إذا أطاقا.
    وقد تقدمت رواية صالح: الحامل والمرضع تخاف على نفسها تفطر وتقضي وتطعم.
    وقال في رواية حرب في الحامل والمرضع يشتد عليهما الصيام: يفطران ويقضيان ويكفران لكل يوم مدًّا لمسكين, والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم مدًّا أيضاً.
    وتأل القاضي هذا على أنها تخاف على ولدها مع خوفها على نفسها؛ فإن خافت على نفسها فقط؛ فلا فدية, ولذلك قيَّد الخرقي وغيره أن تخاف على جنينها فكأنها تارة تخاف على ولدها فقط, وتارة تخاف على نفسها وعلى ولدها.
    وهذا الذي قاله ليس بجيد؛ لأن أحمد فرَّق بين خوفها على نفسها وخوفها على ولدها, ولأنها إذا خافت على نفسها وولدها؛ لم يجب عليها الفدية في قياس قول مَنْ لا يوجبها بالخوف على النفس.
    ولو أفطرت وهي حامل مريضة أو وهي حامل مسافرة؛ فإنها تفطر للمرض والسفر ولا كفارة عليها؛ لأنه قد وُجد سبب يبيح الفطر من غير كفارة.
    وهذا الذي قاله أحمد يجمع قول ابن عمر وابن عباس؛ لأنه أطلق الخوف, وجعلها من الذين يطيقونه, فكأن إيجاب الفدية لأجل طاقتها في الحال لا لأجل ولدها, وابن عمر ذكر خوفها على ولدها, ولأن خوفها على نفسها بسبب الحمل؛ فإن المسألة إنما هي إذا كان كذلك, أما لو خافت من الفطر لأمرٍ آخر غير الحمل, بأن تكون مريضة؛ فإنه لا كفارة عليها ألبتة, وإذا كان بسبب الحمل؛ لم تكن مثل المريض الذي خوفه من جهة نفسه؛ فإنه إذا كان وجود الحمل يمنعها الصوم والحمل في الأصل باختيارها؛ صارت كأنها ممتنعة عن الصوم باختيارها, فناسب ذلك وجوب الفدية, وصارت من وجهٍ قادرة على دفع الحمل فلا تصوم.
    ويحتمل أن أحمد قال ذلك لأنها إذا خافت على نفسها فإنه يخاف على جنينها؛ لأن الحامل إذا مرضت خيف على الجنين, وقد يخاف على جنينها من غير خوف على نفسها. . . .

    فعلى هذا يكون قول من أطلق الحامل إذا خافت على جنينها صحيح كالخرقي وابن أبي موسى, وأحمد رضي الله عنه فَصَّلَ الخوف؛ لأنها تارة تخاف على جنينها فقط, وتارة تخاف على نفسها, فتخاف على جنينها.
    وأما قول من قال: إذا خافت على نفسها؛ فلا فدية عليها؛ فهو مخالف لنص أحمد ولأقوال السلف.

    228 - قال مسلم بن يسار: أدركت أهل المدينة وهم يخيرون المرضع والحامل في شهرها الذي تخاف على نفسها يفطران ويطعمان كل يوم مسكيناً.

    229 - وقال سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: «وهو الكبير الذي كان يصوم فيعجز, والمرأة الحبلى التي يعسر عليها الصيام؛ [فعليهما] إطعام مسكين كل يوم حتى ينقضي شهر رمضان». رواهن سعيد.
    *الفصل الثاني: في المرضع:
    وهي كالحامل وأولى منها بوجوب الفدية؛ لأنها ترضع الطفل باختيارها في الجملة؛ بخلاف الحامل؛ فإنها لا تستطيع مفارقة الجنين, وحكمها حكم الحامل في جميع أمورها كما تقدم؛ فإنها تخاف على ولدها إذا صامت بتغير اللبن أو نقصه, وقد تخاف على نفسها إذا صامت وأرضعته بأن يضعفها إرضاعه.
    وجوب الفدية هنا إذا خافت على نفسها ظاهر؛ فإنها قادرة على الصوم, وإنما إرضاعها الذي يضعفها, وهو فعل لها.
    ومن استباح المحظورات بفعله؛ وجبت عليه الكفارة, وإن كان جائزاً.
    ولهذا تجب الكفارة بالحنث في اليمين إذا فعله, وإن كان واجباً, ولو فعل به؛ لم يكن عليه الكفارة, وكذلك محظورات الإِحرام, والفرق بينها وبين المسافر.
    ثم لا يخلوا إما أن تكون والدة أو ظئراً بأجرة أو غيرها.
    فأما الأم فقال. . . إن قبل غيرها, وقدرت أن تستأجر له, أو كان له مال تستأجر منه؛ فلتفعل ذلك ولتصم, وإلا جاز لها الفطر.
    وهذا فيما إذا كان الخوف على نفسها, أما إذا خيف عليه. . . .

    وأما الظئر التي ترضع ولد غيرها بأجرة أو بدونها؛ فذكر ابن عقيل: أنها تستبيح الإِفطار كاستباحته لولدها؛ لأنه أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق, فهو كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه.
    وطرده العمل في الصنائع الشاقة إذا بلغت منه الجهد.
    والكفارة في الحال التي تبيح في حق نفسه أباحت في حق غيره, وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإِفطار؛ لم يبح في حقه, ولا في حق غيره.
    ومن لم يمكنه إنجاء شخص من الهلكة إلا بالفطر, مثل أن يكون غريقاً أو يريد أحد أن يقاتله. . . .
    * فصل:
    ولو أحاط العدو ببلد, وكان الصوم المفروض يضعفهم؛ فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين ذكرهما الخلال في كتاب السير.
    مسألة:
    الرابع: العجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه؛ فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكين.
    هذا القسم هو الذي يعجز عن الصوم في الحال, ولا يرجى قدرته عليه في المآل, مثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذين لا يطيقان الصوم, والمريض مرضاً لا يرجى برؤه, مثل صاحب العطاش الذي لا يصبر عن شرب الماء شتاءً ولا صيفاً, أو من لا يصبر عن النكاح يخاف إن قطعه تشققت أنثياه.
    قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فيمن به شهوة غالبة للجماع: يجزيه أن يطعم ولا يصوم إذا كان لا يملك نفسه, وذلك أنه يؤمن عليه عند ذلك أن تنشق أنثياه.
    قال القاضي: يجب أن تحمل المسألة على أنه حصل به ذلك كالمرض الدائم الذي لا يمكنه الصيام معه, فيكون حكمه حكم الشيخ إذا عجز عن الصايم, فيسقط الصيام, وينتقل إلى الإِطعام, ولا يكون عليه كفارة الجماع؛ لأن الصيام غير متعين عليه؛ فهو كالمسافر إذا وطئ, وكل من كان به هذا الشبق الذي يخاف من الصوم معه أن ينشق أنثياه يفطر, لكن إن أمكنه القضاء؛ قضى ولم يكفر, وإن لم يكن القضاء؛ أطعم, والعبرة بإمكان القضاء أن يكون ممن يرجى برؤه أو لا يرجى برؤه.

    قال ابن عقيل وغيره من أصحابنا: هذا الذي به الشبق يستخرج ماءه بما لا يفسد صوم غيره: إما استمناء بيده, أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة التي يخاف أن يحرك ذلك شهوتها, فإن كان له زوجة أو أمة صغيرة أو كافرة؛ استمنى بيدها, ويجوز أن يستخرجه بوطئها دون الفرج.
    فرخصا له في المباشرة دون الفرج مطلقاً.
    فأما وطؤها في الفرج مع إمكان إخراج الماء ودفع ضرورة الشبق بما دون الفرج؛ فقال ابن عقيل وغيره: لا يجوز؛ لأن الضرورة إذا دفعت؛ حرم ما وراءها؛ كما يمنع من الشبع من الميتة إذا سدَّ رمقه, فإن جامع؛ فعليه الكفارة, فأما إن لم يندفع إلا بوطئ غير صائمة؛ جاز له وطؤها.

    وكلام أحمد والقاضي يقتضي أنه يباح له الجماع مطلقاً؛ فإنهما إنما ذكرا إباحة الجماع, ولم يتعرضا لغيره؛ لأن مَنْ أبيح له استخراج الماء بالمباشرة دون الفرج أبيح له الجماع في الفرج؛ كالمسافر, وذلك لأن الفطر يحصل بهما جميعاً, والكفارة أيضاً في إحدى الروايتين, ولأنه من أبيح له الفطر لعذر؛ صار في حكم المفطرين, وجاز له ما يجوز لهم مطلقاً؛ كالمريض والمسافر وغيرهما, ولأن من أبيح له الفطر لحاجته إلى الأكل, وهو الشيخ الكبير والمريض؛ جاز له أن يأكل ما شاء, ولم يختص ذلك بقدر الضرورة؛ فكذلك مَنْ أبيح له لحاجته إلى الجماع, وقياسه عليه أولى من قياسه على المضطر إلى الميتة إن سلم الحكم فيه؛ فإن المانع هناك في معنى الغذاء, وهو موجود في كل جزء منه, والمانع هنا الصوم الواجب, وهذا قد زال بإباحة الفطر.
    ثم الفطر هنا له بدل, وهو القضاء أو الكفارة, بخلاف الأكل هناك,وقياس المذهب يقتضي أنه يباح له الأكل إذا أبيح له الجماع, كما أنه يباح الجماع لمن يباح له الأكل؛ إلا أن يُخرَّج من منع المسافر من الجماع وجه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 251الى صــ 255
    (16)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    وأما تفطيره غيره؛ فهذا لا يجوز إلا عند الضرورة بلا ريب؛ لأنه إفساد صوم صحيح لغير حاجة, وذلك لا يجوز.
    فإن أراد وطئ زوجته أو أمته الصائمة؛ لم يحل له ولا لها تمكينه.
    قال ابن عقيل لأن الوطء لا يستباح بالضرورة, وإنما يباح إخراج الماء, ولا ضرورة إلى ما وراءه؛ لأن الضرورة تندفع بما دون الفرج والاستمناء باليد, فلا يجوز التعدي إلى ما يضر بالغير.

    وقال أبو محمد: إذا لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم الغير؛ أبيح ذلك؛ لأنه مما تدعو إليه الضرورة, فأبيح الفطر, كفطر الحامل والمرضع للخوف على ولديهما.
    فإن كان له امرأتان أحدهما صائمة, والأخرى حائض؛ فهل وطء الصائمة أولى أو يتخيَّر بينهما؟ على وجهين.
    قال أصحابنا: لسنا نريد بالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة من بلغ حدّاً إن ترك الأكل هلك, وإنما نريد به من يلحقه مشقة شديدة في الصيام, وإنما يسقط عن هؤلاء الصيام؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها, وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

    230 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم».
    231 - وجبت الكفارة لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن معاذ ابن جبل؛ قال: «أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} إلى هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال: فكان من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً؛ أجزأ ذلك عنه. قال: ثم إن الله عزَّ وجل أنزل الآية الأخرى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض والمسافر, وثبت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام». مختصر من حديث طويل رواه أبو داوود.
    232 - ورواه البخاري عن ابن ليلى؛ قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: «نزل رمضان, فشق عليهم, فكان من أطعم كل يوم مسكيناً؛ ترك الصوم ممن يطيقه, ورُخِّص لهم في ذلك, فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} , فأمروا بالصوم».
    233 - وعن عطاء, سمع ابن عباس يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} , قال ابن عباس: «ليست بمنسوخة, هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً». رواه البخاري.
    234 - وفي رواية أخرى صحيحة رواها ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عنه؛ في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}؛ قال: «يتكلفونه ولا يستطيعونه {طَعَامُ مِسْكِينٍ} , {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فأطعم مسكيناً آخر, {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} , وليست بمنسوخة». قال ابن عباس: «ولم يرخص في هذه الآية إلا للشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام والمريض الذي علم أنه لا يشفى» , وقد تقدم عنه مثل هذا.

    235 - وعن أيوب, عن ابن سيرين, عن ابن عباس؛ قال في هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: «نسختها الآية الأخرى, {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}».
    236 - قال أيوب: وسمعت عكرمة يقول ابن عباس: «ليست منسوخة, هي في الشيخ الذي يكلف الصيام ولا يطيقه, فيفطر ويطعم». رواهما أحمد في «الناسخ والمنسوخ».
    فالرواية الأولى أراد أن قراءة العامة المنسوخة في الجملة, والرواية الثانية أراد بها أنها ليست منسوخة على الحرف المشدّد.
    237 - وعن أنس بن مالك: «أنه ضعف عن الصوم قبل موته بعام أو عامين, فأفطر وأطعمهم». قال: «[فـ] كان يجمعهم ويطعمهم». رواه سعيد.
    238 - وذكر الليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد؛ في الشيخ إذا كبر ولم يطق الصيام: «افتدى بطعام مسكين كل يوم مُدّاً مِنْ حنطة». قال ذلك أبو بكر بن حزم عن أشياخ الأنصار.
    239 - وعن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال: «هو الكبير الذي كان يصوم فيعجز, والمرأة الحبلى التي يعسر عليها الصيام؛ فعليها طعام مسكين كل يوم حتى ينقضي شهر رمضان». رواه سعيد.
    240 - وعن إبراهيم؛ قال: «كان الرجل يفتدي بطعام يوم, ثم يظل مفطراً, حتى نزلت: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. قال: فنسخت وكانت الرخصة للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم».

    241 - وعن الزهري: أنه سئل عن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. قال: «إنها منسوخة, وقد بلغنا أن هذه الآية للمريض الذي تدارك عليه الأشهر, يطعم مكان كل يوم أفطر مدّاً م~نْ حنطة». رواهما أحمد.242 - وعن قتادة في هذه الآية: «كانت فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة, وهما لا يطيقان الصيام: أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً ويفطرا, ثم نَسَخَ تلك الآية التي بعدها, فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ. . .} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فنسختها هذه الآية, فكان أهل العلم يرون ويرجون أن الرخصة قد ثبتت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً, وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها, والمرضع إذا خشيت على ولدها». رواه محمد بن كثير عن همام عنه.
    فهذا قول ثلاثة من الصحابة, ولم يعرف لهم مخالف.
    وأيضاً؛ فإن الصحابة والتابعين أخبروا أن الله رخص في هذه الآية للعاجز عن الصوم أن يفطر ويطعم, وأن حكم الآية باقٍ في حقه, وهم أعلم بالتنزيل والتأويل.
    وأيضاً؛ فإن ذلك تبين من وجهين:
    243 - أحدهما: أن ابن عباس وأصحابه قرؤوا (يُطَوَّقونه)و {يُطِيقُونَهُ} , وهي قراءة صحيحة عنه, والقراءة إذا صحت عن الصحابة؛ كان أدنى أحوالها أن تجري مجرى خبر الواحد في اتباعها والعمل بها؛ لأن قارئها يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك, فإما أن يكون حرفاً من
    الحروف السبعة التي نزل القرآن بها, ويكون بعد النسخ يقرأ الآية على حرفين: (يُطَوَّقونه) و {يُطِيقُونَهُ} , أو يكون سمعها على جهة التفسير وبيان الحكم, فاعتقد أنها من التلاوة, وعلى التقديرين؛ فيجب العمل بها, وإن لم يقطع بأنها قرآن, ولهذا موضع يستوفى فيه غير هذا الموضع.
    ومعنى (يطوقونه)؛ أي: يكلفونه فلا يستطيعونه؛ فكل من كلف الصوم فلم يطقه؛ فعليه فدية طعام مسكين, وإن صام مع الجهد والمشقة؛ فهو خير له, وهذا معنى كلام ابن عباس في رواية عطاء عنه.
    الثاني: أن العامة تقرأ: {يُطِيقُونَهُ} , فكان في صدر الإِسلام لما فرض الله الصوم خير الرجل بين أن يصوم وبين أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً؛ فإن صام ولم يطعم؛ كان خيراً له, ثم نسخ الله هذا التخيير في حق القادر بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , فأوجب الصوم ومنع من الفطر والإِطعام, وبقي الفطر والإِطعام للعاجز عن الصوم؛ لأنه لما أوجب على المطيق للصوم أحد هذين الأمرين, وهو الصيام والإِطعام, لقدرته على كل منهما؛ كان القادر على أحدهما مأموراً بما قدر عليه؛ فمن كان إذْ ذاك يقدر على الصيام دون الإِطعام؛ لزمه, ومن يقدر على الإِطعام دون الصيام؛ لزمه, ومن قدر عليهما؛ خُيِّر بينهما؛ فإن هذا شأن جميع ما خُير الناس بينه؛ مثل خصال كفارة اليمين, وخصالة فدية الأذى, وغير ذلك, ثم نسخ الله جواز الفطر عن القادر عليه, فبقي الفطر والفدية المستفاد من معنى الآية للعاجز.

    ويُبيِّن ذلك أن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم؛ فإنهما كانا يكونان مخيران بين الصيام والإِطعام, فإذا عجز بعد ذلك عن الصوم؛ تعين عليهما الإِطعام, ثم نسخ ذلك التخيير, وبقي هذا المعين, وهذا ما تقدم عن معاذ وابن عباس من رواية سعيد بن جبير وغيره من التابعين.
    ومنهم من يوجهه بوجه آخر, وهو أن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}: عام فيمن يطيقه بجهد ومشقة, وفين يطيقه بغير جهد ومشقة, فنسخ في حق مَنْ لا مشقة عليه, وبقي في حق مَنْ لا يطيقه إلا بجهد ومشقة.
    244 - فإن قيل: فقد رُوي عن جماعة من السلف أنها منسوخة, منهم ابن عباس كما تقدم.
    245 - وعن سلمة بن الأكوع؛ قال: «لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها». وفي رواية: «حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}». رواه صاحبا الصحيح وأصحاب السنن الأربعة.
    246 - وعن ابن عمر: أنه قرأ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِساكِينَ)؛ قال: «هي منسوخة». رواه البخاري.
    247 - وعن عَبيدة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ قال: «نسختها التي بعدها والتي تليها».
    248 - وعن علقمة: أنه كان يقرؤها {يُطِيقُونَهُ}؛ قال: «كانوا إذا أراد أحدهم أن يفطر؛ أطعم مسكيناً وأفطر, فكانت تلك كفارته, حتى نسختها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}».
    249 - وعن الشعبي؛ قال: «لما نزلت هذه الآية, فكان الأغنياء يطعمون ويفطرون, فصار الصيام على الفقراء, فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. . .}؛ قال: «فوجب الصوم على الناس كلهم». رواهن أحمد.
    قيل: هي منسوخة في حق الذي كان قد خُيِّر بين الأمرين, وهو القادر على الصيام؛ كما دل عليه نطق الآية, وكما بيَّنُوه, فأما من كان فرضه الطعام فقط كما دل عليه معنى الآية؛ فلم يُنسخ في حقه شيء, وعلى هذا يُحمل كلام من أطلق القول بأنها منسوخة؛ لأنه قد روي عن ابن عباس التصريح بذلك.
    * فصل:
    وإن قوي الشيخ أو العجوز بعد ذلك على القضاء, أو عوفي المريض الميؤوس من بُرئه, بأن زال عطاشه وزال شبقه ونحو ذلك بعد إخراج الفدية, فقال أصحابنا: لا قضاء عليه؛ كما قالوا في المعضوب إذا حج عن نفسه ثم قوي؛ لأن الاعتبار بما في اعتقاده, ولأنه لو اعتقد أنه يقدر على القضاء, ثم مات قبل القدرة عليه؛ لم يكن عليه شيء؛ فكذلك إذا اعتقد أنه لا يقدر عليه ثم قدر.

    وخرَّج بعضهم وجهاً بوجوب القضاء إذا قدر عليه؛ لدخوله في عموم قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا. . .} [البقرة: 185].
    ولأنها بدل إياس, وقد تبينا زوال اليأس, فأشبه من اعتدَّت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت.
    وإن عوفي قبل إخراج الفدية؛ فينبغي هنا أن يجب عليه القضاء رواية واحدة.

    مسألة:
    وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير؛ إلا من أفطر بجماع في الفرج؛ فإنه يقضي ويعتق رقبة؛ فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكيناً؛ فإن لم يجد؛ سقطت عنه.
    في هذا الكلام فصول:
    أحدها: أن المفطرين قسمان:
    أحدهما: ومَنْ يباح له الفطر, وهم الأربعة المذكورون أولاً المريض والمسافر والحائض والنفساء والمرضع والحامل والعاجز عن الصوم, وقد تقدم حكمهم, وهؤلاء ليس عليهم كفارة, سوى الكفارة الصغرى المذكورة.

    الثاني: من أفطر بغير هذه الأعذار, وسيأتي أنواع المفطرات؛ فهؤلاء يجب عليهم القضاء عن كل يومٍ يوماً؛ كما يجب القضاء على مَنْ فوَّت الصلاة؛ لأنه إذا وجب القضاء على المعذور؛ فعلى غير المعذور أولى, مع أن الفطر متعمداً من الكبائر, وفوات العين باقٍ في ذمته, وعليه أن يتوب منه, وهو أعظم من أن يمحوه كفارة مقدرة أو تكرار الصيام أو غير ذلك.

    250 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في رمضان أن يقضي يوماً مكانه ويستغفر الله. رواه أبو داوود وابن ماجه.
    251 - وهذا معنى ما يُروى عن أبي المطوس, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة؛ لم يجزه صيام الدهر». وفي لفظ: «لم يقض عنه صيام الدهر». رواه الخمسة, وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
    وقال البخاري في «صحيحه»: ويُذكر عن أبي هريرة رفعه: «من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض؛ لم يقضه صيام الدهر, وإن صامه». وبعه قال ابن مسعود.
    252 - 253 - قال ابن عبد البر: وعن علي وابن مسعود مثله.
    وقال:
    254 - 259 - سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 255الى صــ 270
    (17)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    260 - وقد روى النسائي, عن علي بن الحسين, عن أبي هريرة: أن رجلاً أفطر في شهر رمضان, فأتى أبا هريرة, فقال: «لا يقبل منك صوم سنة».
    261 - وعن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة؛ قال: «من أفطر يوماً من رمضان؛ لم يقضه يوم من أيام الدنيا».
    وإنما كان كذلك لأن الله سبحانه أوجب عليه صوم ذلك اليوم المعيَّن, وذلك اليوم لا يكون مثله إلا في شهر رمضان, لكن صوم ذلك المثل واجب بنفسه أداءً, فلا يمكن أن يُصام قضاءً عن غيره, فلو صام الدهر كله؛ لم يقض عنه حق ذلك المعين, لكن وجب عليه صوم يوم؛ لأنه أحد الواجبين والتعيين هو الواجب الآخر؛ ففوات أحدهما لا يوجب سقوط الآخر, وهذا معنى كلام أحمد, وسواء أفطر بجماع أو أكل أو غيره.
    *الفصل الثاني:

    أنه لا كفارة بالفطر في رمضان إلا بالجماع وأسبابه؛ كما سيأتي إن شاء الله, هذا هو المنصوص عنه في مواضع, وهو المذهب.
    قال في رواية إسماعيل بن سعيد وإبراهيم بن الحارث والمروذي وأبي طالب وأبي الصقر وغيرهم: من أفطر يوماً من رمضان تعمداً؛ فعليه بالقضاء بلا كفارة, ولو كان كلما أفطر؛ كان عليه الكفارة؛ لكان إذا تقيأ كفَّر, ولكن ذهبنا إلى الحديث في الجماع خاصة.
    وقال في رواية المروذي فيمن نذر صيام عشرة أيام فاحتجم فيها: عليه القضاء والكفارة, وإن احتجم في رمضان؛ فعليه القضاء.
    فأوجب كفارة النذر في صيام النذر لفوات التعيين, ولم يوجب في فطر رمضان إلا القضاء.
    وقال حرب: سألت أبا عبد الله: قلت: الصائم يحتجم؟ قال: «أما في رمضان؛ فأحب إليَّ أن لا يحتجم, وأما في غير رمضان؛ فإن شاء احتجم إذا لم يكن فريضة. قلت: فإن احتجم في رمضان يكفر أو يقضي يوماً؟ قال: يقضي يوماً مكانه ولا يكفر.
    وقال مرة: يقضي يوماً مكانه وليست عليه كفارة.

    لكن يستحب له الكفارة؛ قال في رواية حرب: من افطر يوماً من رمضان متعمداً؛ صام يوماً مكانه, ولم يوجب عليه الكفارة وقال: الكفارة على مَنْ أتى أهله.
    وقال مرة: إن كفر فهو أفضل.
    ويقضي يوماً عند أصحابه.

    وروى حنبل: تكره الحقنة للصائم وغير الصائم؛ إلا من علة وعلاج؛ فإن فعل؛ فعليه الكفارة والقضاء.
    وروى عن محمد بن عبد ك الفزار فيمن احتجم في شهر رمضان: فإن كان قد بلغه الخبر؛ فعليه القضاء والكفارة, وإن لم يبلغه؛ فعليه القضاء.
    فقد أوجب الكفارة على العالم دون الجاهل, وعلى قياس هذا كل من أفطر عامداً عالماً يجب عليه الكفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على الذي أصاب امرأته في رمضان؛ لعموم كونه مفطراً لا بخصوص كونه مجامعاً؛ لأنه روي من طرق صحيحة أن رجلاً أفطر في رمضان, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة.
    262 - 264 - هكذا رواه مالك وابن جريج ويحيى بن سعيد وخلق عظيم, عن الزهري, عن حُميد بن عبد الرحمن.

    ولا يخالف هذا رواية من روى: «واقعت أهلي» , أو: «أصبت أهلي»؛ فإن ذلك الفطر لا شك أنه بجماع, لكن هذا يدل على أن الحكم ثبت لكونه مفطراً لا مجامعاً؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يبين أنه علة.
    265 - 266 - كما في قوله: «زنى ماعز فرجم» , «وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد». . . ونحو ذلك.
    267 - ولما روى الدارقطني من طريق الواقدي عن سعد؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أفطرت يوماً من رمضان متعمداً. قال: «اعتق رقبة, أو صم شهرين متتابعين, أو أطعم ستين مسكيناً».
    وهذا نص في أنه أمره بالكفارة لما أخبر أنه أفطر عامداً, ولم يستفصل بأي المفطرات كان.

    268 - وروى أيضاً من طريق أبي معشر, عن محمد بن كعب, عن أبي هريرة: «أن رجلاً أكل في رمضان, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً».
    269 - وذكر بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر».

    لكن لا يعرف له إسناد ولا أصل.
    ولأن الكفارة إذا وجبت بالوطء مع قلة الداعي إليه في الصوم؛ [فلأن] يجب بالأكل أولى وأحرى, ولأن الكفارة إنما تجب زاجرة عن المعاودة وماحيةً للسيئة وجابرةً لما دخل من النقص على العبادة, وهذا يستوي فيه الأكل والوطء, ولأن الأكل مما تدعو إليه الطباع وتشتهيه النفوس كالجماع, وما كان من المحرمات تشتهيه الطباع كالزنى وشرب الخمر؛ فلا بد من زاجر شرعي, والزواجر إما حدود وإما كفارات؛ فلما لم يكن في الأكل حد؛ فلا بد فيه من كفارة.
    فعلى هذه الرواية تجب بكل فطر [تعمده] , سواء كان مما يشتهى أو لا يشتهى؛ لأن الحجامة لا تشتهى, وقد أوجب بها الكفارة؛ لأن تعمد إفساد الصوم لا يقع غالباً إلا عما للنفس فيه غرض, فألحق النادر بالغالب؛ كما يجب الحد بوطء العجوز الشوهاء.
    والأول هو الصحيح: لأن لفظ الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال:
    270 - «إن الآخِر وقع على امرأته في نهار رمضان».

    وفي رواية قال: «أصبت أهلي في رمضان»؛ كما سنذكره.
    فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة عقيب ذلك, فهذا مفسر في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالكفارة لأجل الجماع.
    فمن قال: «إن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم»؛ فقد صدق, وإفطاره كان بجماع, وترتيب الحكم على الوصف ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما المحدث يقول: إنه أفطر فأمر بكذا, وقد علم أن الإفطار كان بالجماع؛ فلو صرح المحدث بذلك, وقال: إنما أمره بالكفارة لمجرد الإِفطار؛ لم يجب قبول ذلك منه؛ لأنه رأي واجتهاد؛ فكيف إذا دل عليه كلامه, مع إمكان أنه لم يقصد بذلك؟!
    قال الدارقطني: روى مالك ويحيى بن سعيد وابن جريج وسمى نحو عشرة من المحدثين: أن رجلاً أفطر, وخالفهم أكثر منهم عدداً, منهم عبيد الله بن عمر ومعمر ويونس وعقيل والأوزاعي وشعيب بن أبي حمزة وسمى أكثر من ثلاثين من المحدثين, كلهم رووا عن الزهري هذا الحديث بهذا الإِسناد, وأن إفطار ذلك الرجل كان بجماع.

    وأما الحديثان الآخران؛ فلا يجوز الاحتجاج بهما على وجه الانفراد لضعف إسنادهما.
    وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالكفارة لما أخبره أنه وقع على امرأته وأصابها؛ لم يجز أن تلحق سائر المفطرات بالجماع؛ لأنه إجماع الصحابة.
    271 - فروى عبد الله بن أبي الهذيل؛ قال: «أتي عمر بشيخ سكران في رمضان, فقال للمتحرين: ويلك! صبياننا صيام وأنت مفطر؟! فجلده ثمانين».

    272 - وعن علي: أنه أتى بالنجاشي وقد شرب الخمر في رمضان, فضربه ثمانين, ثم أعاده إلى السجن, ثم أخرجه من الغد, فضربه عشرين, فقال: «ثمانين في الخمر, وعشرين جرأتك على الله في رمضان».
    رواهما سعيد.

    وهاتان قضيتان مثلهما يشتهر.
    فهذا عمر رضي الله عنه قد جلده, ولم يخبره أن عليه كفارة, وكذلك علي رضي الله عنه جلده عشرين لأجل الفطر, ولم يخبره أن عليه كفارة, ولو كان ذلك عليه؛ لبيَّناه له؛ كما قد أقاما عليه الحد؛ لوجوه:أحدها: أن الأصل براءة الذمة من هذه الكفارة, والحديث إنما يوجبها في الوقاع؛ فإلحاق غيره به يحتاج إلى دليل, والقياس فيها ليس بالبيِّن؛ لجواز أن يكون الجماع قد تضمن وصفاً فارق به غيره, فما لم يقم دليل على أن الموجب الكفارة مجرد الفطر؛ لم يجز الإِيجاب بمجرد الظن.
    الثاني: أنه لو وجب لأجل الإِفطار؛ لاستوى فيه جميع المفطرات؛ فإن تخصيص بعضها دون بعض نوعٌ تشريعٍ يحتاج إلى دلالة الشرع.
    الثالث: أن الجماع يفارق غيره بقوة داعيه وشدة باعثه؛ فإنه إذا هاجت شهوته؛ لم يكد يزعها وازع العقل ولم يمنعها حارس الدين.
    273 - ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فما يحكى عن ربه: «كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي, وأنا أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي.
    فسمى النكاح شهوة, وسمى المأكل طعاماً, وإن كان يشتهى في الجملة.
    ولهذا كان الحد المشروع فيه القتل, وأدناه الجلد والتغريب, وحدُّ المطعوم إنما هو جلد دون ذلك, وقد يصيب المبتلين بشهوتهم في عقولهم وأديانهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ما يجل عن النعت.
    والأكل إن [كانت] الضرورة إليه أشد, وعند شدة الجوع يقدم على كل مطلوب, لكن إنما هو جوع يوم, ومثل هذا لا يكاد يبلغ بكل أحد من الناس إلى شيء من البلاء.
    274 - ولهذا ظاهر سلمة بن صخر من امرأته, واعتقد أن وطأها حرام, ثم إنه أصابها, وكذلك الأعرابي وقع على امرأته مع ما يعلم فيه من التحريم.

    ولم يبلغنا أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل في رمضان.
    نعم دعية الأكل أكبر وأعم, لكن داعية الجماع إذا وقعت؛ كانت أشد وأقوى؛ فلو سوى بين الأكل وبين الجماع في الكفارة؛ لسوَّى بين شيئين قد فرقت الأصول بينهما؛ بحيث لم يسو بينهما في موضع واحد من الشريعة؛ فكيف يصح مثل هذا القياس؟! وليس في المطعومات حد سوى المسكر؛ لقوة الداعي الطبعي إلى نوعه, وفي رمضان داعية الأكل لا تختص بنوع دون نوع.
    الرابع: أن هذه الكفارة العظمى لا تجب إلا في نوع النكاح المحرم لعارض, ولهذا وجبت على المظاهر لمَّا حَرُم عليه فرج امرأته بالظهار؛ كما حُرم على الصائم فرج امرأته بالصيام, ووجب نحوها على المحرم لما حرم عليه فرج امرأته بالإِحرام.
    الخامس: أن هذه الكفارة لو كانت واجبة بالفطر؛ لكان من أبيح له الفطر من غير قضاء؛ تجب عليه هذه الكفارة؛ كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة, ولكان الناس مخيرين في أول الإِسلام بينها وبين الصوم, وذلك لأن ما وجب الكفارة في محظوره ومباحه لم يختلف جنسها, وإنما يختلف الإِثم وعدمه, [و] دليله كفارة الإِحرام؛ فإن الكفارة التي تجب في اللباس والطيب والحلق والتقليم للعذر وغيره من جنس واحد, فعلم أنها إنما وجبت لخصوص وصف الجماع المحرم.
    ولهذا قلنا فيمن عجز عن النوم لشبقه: إنه يطعم يوماً؛ لأن الجماع لم يبق في هذه الصورة محرماً ليوجب كفارة, وإنما تجب كفارة الإِفطار, والإِفطار كفارته إطعام المساكين.
    *الفصل الثالث:
    أن الجماع في الفرج يوجب الكفارة, وهذا كالمجمع عليه, ليس فيه إلا خلاف شاذ.
    275 - والأصل فيه ما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم, إذ جاء رجل, فقال: يا رسول الله! هلكت. قال: «وما أهلكك؟». قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم (وفي رواية: في نهار رمضان). فقال
    رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟». قال: لا. قال: «اجلس». فمكث النبي صلى الله عليه وسلم, فبينا نحن على ذلك؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق المكتل الضخم-, فقال: «أين السائل؟». قال: أنا. قال: «خذ هذا فتصدق به». فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله؛ ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدأت أنيابه, ثم قال: «أطعمه أهل بيتك». رواه الجماعة.

    276 - وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داوود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً».
    277 - ورواه أبو داوود من طريق هشام بن سعد, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة؛ قال فيه: فأتي بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعاً, وقال فيه: «كله أنت وأهل بيتك, وصم يوماً, واستغفر الله».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 271الى صــ 285
    (18)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    278 - وفي رواية ابن ماجه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعتق رقبة». قال: لا أجد. قال: «صم شهرين متتابعين». قال: لا أطيق. قال: «أطعم ستين مسكيناً».
    279 - وفي رواية له: «ويصوم يوماً مكانه».

    280 - وعن عائشة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه احترق. قال: «ما لك؟». قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق, فقال: «أين المحترق؟». قال: أنا. قال: «تصدق بهذا». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.
    وفي رواية لمسلم: أصبت امرأتي في رمضان نهاراً. قال: (. قال: ما عندي شيء. فأمره أن يجلس, فجاءه عرقان فيهما عام, فأمره أن يتصدق به.
    281 - وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داوود: فبينا هو على ذلك؛ أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المحترق آنفاَ؟». فقام الرجل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدق بهذا». فقال: يا رسول الله! أعلى غيرنا, فوالله؛ إنا لجياع ما لنا شيء. قال: «فكلوه».

    282 - وفي رواية لأبي داوود: «فأتي بعرق فيه عشون صاعاَ». وفي رواية لبعضهم: «من تمر».
    وهذه الكفارة على الترتيب في الرواية المنصورة.
    وفي الأخرى هي على التخيير بين الخصال الثلاثة؛ لما تقدم من رواية مسلم, وقد رواه كذلك مالك وابن جريج, وهما من أجلِّ من رواه عن الزهري.
    وكذلك في حديث عائشة أمره بالصدقة, ولم يذكر العتق الصيام, فعلم أنها مجزئة عنه ابتداءً, ولأنها كفارة وجبت.
    ووجه الأول: ما تقدم من الرواية المشهورة, وقول النبي صلى اله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟». قال: لا. قال: «هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟». قال: لا. قال: «هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟». قال: لا.
    وعامة أصحاب الزهري يروونه هكذا.
    وأما الرواية الأخرى؛ فلم يذكر فيها لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما ذكر أنه أمره بهذا أو بهذا, وهذا مجمل يحتمل أنه أمره به على وجه الترتيب, ويحتمل أنه أمره به على وجه التخيير, والرواية الأخرى ذكر فيها لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وهو دليل ظاهر في الترتيب.
    ولهذا أنكر أحمد على من فهم التخيير, فقال في رواية ابن القاسم: مالك يقول في حديثه: إنه خيَّره في الكفارة, وليس أحد يقول في الحديث: إنه خيره, إنما قال له شيئاً بعد شيء, ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعتق أو صم أو تصدق؛ فرواه بالمعنى من حيث الجملة؛ فإن الرجل قد يقول: افعل كذا أو كذا, ومعناه الترتيب.
    وأما حديث عائشة: فإنها حكت ما استقر عليه الحال, وهو أمره بالصدقة؛ فإنه كان عند العجز عن العتق والصيام, ولهذا لم يذكر العتق والإِطعام.
    ثم هي قضية في عين, فذلك المأمور بالصدقة إن كان هو غير الذي في حديث أبي هريرة؛ فربما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حاله العجز عن العتق والإِطعام, ولهذا لم يذكرهما له, ولا ريب في أنهما يُذكران للمستفتي كما في حديث أبي هريرة.
    ثم هي أكثر رواة وأشد استقصاء وأحوط وأشبه بالقياس.
    فإن هذه الكفارة لم تجب في الشرع إلا على وجه الترتيب, ولأنها إذا وجبت على المظاهر على وجه الترتيب؛ فعلى المجامع في رمضان أولى؛ فإن ذنب هذا أعظم؛ لأن التحريم في الظهار ثبت بقول المكلف, وهنا ثبت بتحريم الله ابتداء, ولأنه إمساك عن محظورات تجب بالوطء فيه الكفارة, فكانت على الترتيب؛ ككفارة المجامع في إحرامه.


    * فصل:
    فإن عجز عن الكفارات الثلاثة:
    قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أطعمه عيالك» , أتقول به؟ قال: نعم إذا كان محتاجاً, ولكن لا يكون في شيء من الكفارات؛ إلا في الجماع في رمضان وحده, لا في كفارة اليمين, ولا في كفارة الظهار. قيل له: أليس في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ووقع عليها نحو هذا؟ قال: ومن يقول هذا؟ إنما حديث سلمة تفرد بهذا: «واستعن بسائره على أهلك» , وإنما أمر له بما بقي. قلت له: فإن كان المجامع محتاجاً فأطعمه عياله؟ قال: يجزئ عنه. قلت: ولا يكفر إذا وجد؟ قال: لا؛ إلا أنه خاص في الجماع وحده.
    فذكر أصحابنا هل تسقط عنه أو تبقى في ذمته: على روايتين:

    أصحهما تسقط عن ذمته؛ كما ذكره الشيخ؛ لحديث الأعرابي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يطعم العرق أهل بيته, ولم يأمره أن يقضي إذا أيسر, وكان عاجزاً؛ لأن التكفير إنما يكون بما يفضل عن حاجته, ولأنه حق مالي يجب لله على وجه الطهرة للصائم, فلم يجب على العاجز كصدقة الفطر, بخلاف بقية الكفارات؛ فإنها تجب على وجه الطهرة في الصيام.

    الثانية: تبقى في ذمته كسائر الكفارات في الأصح من روايتين:
    [قال الزهري لما روى الحديث: وإنما كان هذا رخصة له خاصة, فلو أن رجلاً فعل ذلك اليوم؛ لم يكن له بدٌّ من التكفير]؛ لأنها كفارة وجبت بسبب من المكلف, فلم تسقط بالعجز؛ ككفارة اليمين وغيرها, ولأن الأعرابي لو سقطت الكفارة عنه؛ لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير بعد أن أتي بالعرق؛ فإنه حين وجوب الكفارة كان عاجزاً, وعكسه صدقة.
    وأما الكفارة الصغرى في الصيام, وهي فدية المرضع والحامل والشيخ الكبير والعجوز الكبيرة؛ فقال ابن عقيل في «التذكرة»: جميعها تسقط بالعجز ولا تثبت في الذمة ككفارة الجماع [و] أولى؛ لأنها تجب بغير فعل من المكلف؛ فهي بصدقة الفطر أشبه.
    وقال القاضي في «خلافه» وغيره: تسقط كفارة المرضع والحامل, ولا تسقط فدية العاجز عن الصيام لكبر أو مرض؛ لأنها بدل عن الصيام الواجب, فلما لم يسقط الصيام بالعجز عنه؛ فكذلك بدله لا يسقط بالعجز عنه إذا قدر عليه في الثاني, وعلى هذا؛ فلو قدر بعد الصيام على الصيام والإِطعام. . . .
    وظاهر كلام أحمد أنه لا يسقط شيء من ذلك بالعجز إلا كفارة الجماع.
    وكذلك ذكر في «المجرد والفصول»؛ لأن كفارة المرضع والحامل بدل عن الصوم الواجب أيضاً.
    فإن كان عاجزاً حين وجوب الكفارة ثم قدر على ذلك فيما بعد بقريب كالأعرابي وسلمة بن صخر, وقلنا: تسقط. . . .
    فإن قلنا: تسقط؛ فلا كلام.

    وإن قلنا: لا تسقط؛ فكفر عن المظاهر رجل بإذنه لفقره, أو كان عنده ما يكفر به أو دفع إليه, وهو محتاج إليه, أو هو أحوج إليه من غيره؛ فهل يجوز صرفه إلى نفسه؟ على روايتين.
    فقال القاضي: لا يجوز صرف الكفارة عنه إلى نفسه حملاً لحديث الأعرابي على أنه لم يكن كفارة, وإنما أكلها صدقة محضة؛ لأنه ليس في الأصول أن الواجبات تصرف إلى مَنْ وجبت عليه من غير خروج عن ملكه.
    وهذا على قولنا: سقطت الكفارة عنه.
    فأما إن قلنا: تبقى في ذمته:
    فقال بعض أصحابنا: يجوز صرفها إليه لحديث الأعرابي.
    وقال بعضهم: هل يجوز ذلك أم يكون خاصّاً بالأعرابي؟ فيه وجهان.
    [وهل يجوز ذلك في بقية الكفارات؟ على روايتين].
    والمنصوص عن أحمد في رواية الأثرم وقد ذكر له حديث أبي هريرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أطعمه عيالك» , فقال: يكون هذا في شيء من الكفارات؛ إلا في الجماع خاصة؛ فإنه يجزيه ولا يكفر مرة أخرى.
    وهذا بيان من أحمد أن الذي أطعمه الأعرابي لأهله كان كفارة أجزأت عنه؛ لقوله: «يجزيه» , والإِجزاء لا يكون إلا لشيء قد فعل وامتثل فيه الأمر, ولقوله: «ولا يكفر مرة أخرى» , فدل على أنه قد كفر أول مرة.
    وقال في رواية مهنا: في رجل عليه عتق رقبة, وليس عنده ما يكفر, فقال له رجل: أنا أعتق عنك هذه الجارية؟ قال: لا يجوز؛ إلا أنه يملكه إياها, فيعتقها هو؛ فإذا لم يملكها؛ فلا تجزيه؛ لأن ولاءها للذي أعتقها, وفي الإِطعام يجوز أن يطعم عنه غيره, فأما في الرقبة؛ فلا.
    وقال في رواية الأثرم: فإذا لم يكن عنده, وأطعم عنه غيره؛ يكون له ولعياله؟ قال: نعم؛ على حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال أبو بكر: قد روي عن أبي عبد الله أن ذلك خاص في الواطئ إذا كفر عنه غيره, رواه إبراهيم بن الحارث: أنه يأكلها إذا أطعم عنه غيره, ويمتنع في غير كفارة الوطء في الصيام أن يأكل منها شيئاً.

    وروى عنه أبو الحارث: أن كل الكفارات لا بأس بأكلها إذا كفرت عنه.
    وبما روى الأثرم وإبراهيم بن الحارث.
    أقول: وهذه طريقة ابن أبي موسى؛ قال - ولم يختلف قوله-: إن من وطئ في رمضان فقدر على الكفارة من ماله؛ أنَّ عليه أنْ يكفر واجباً؛ فإن كان فقيراً, فتصدق عليه بالكفارة؛ فهل له أن يأكلها كما جاء الحديث؟ أم كان ذلك مخصوصاً لذلك الرجل, وعليه أن يتصدق بذلك, ولا يجوز له أكله؟ على روايتين.
    فعلى هذا يجوز له أن يصرف هذه إلى نفسه, سواء كفر هو عن نفسه أو كفر عنه غيره بإذنه, وهذا ظاهر الحديث؛ فإن الأعرابي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد ما يطعمه, ثم بعد هذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بالعرق الذي جاءه, فعلم أن الكفارة لم تسقط عنه, وإنما كفر بإطعام ذلك العرق لنفسه وعياله.

    * فصل:
    ويجب العتق إذا وجد الرقبة أو ثمنها فاضلاً عن حوائجه الأصلية؛ كما يستوفى إن شاء الله تعالى في موضعه.
    فإن كان عادمها وقت الوجوب, ثم وجدها قبل الصوم؛ فقال بعض أصحابنا: يلزمه العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالعتق, ولم يسأله عن حاله حين الجماع. . . .

    *الفصل الرابع:
    أن الكفارة تجب بالجماع في الفرج, سواء كان قبلاً أو دبراً, من ذكر أو أنثى, وسواء أنزل الماء أو لم ينزل؛ رواية واحدة.
    وكذلك إذا ولج في فرج بهيمة في المشهور عن أصحابنا, وحكاه أبو بكر عن أحمد في رواية ابن منصور.
    وخرَّج القاضي في الخلاف وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب رواية أخرى: أنه لا كفارة عليه, من إحدى الروايتين في الحد بوطء البهيمة؛ تخريجاً للكفارة على الحد.

    فإن قلنا: فيه الحد؛ ففيه الكفارة, وإن قلنا: فيه التعزيز؛ فلا كفارة فيه. ومنهم من أوجب الكفارة قولاً واحداً, وإن لم يوجب الحد, وهو قول القاضي في «المجرد»؛ لأن سبب وجوب الكفارة أوسع من سبب وجوب الحد؛ بدليل أنها تجب في الإِنزال عن الوطء دون الفرج, والحد ليس كذلك.
    ويفطر بالجماع في هذه المواضع قولاً واحداً, سواء أنزل أو لم ينزل؛ لأنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم, وأوجب الكفارة؛ كجماع المرأة.
    وسواء كان الوطء بعقد نكاح أو شبهه أو ملك يمين أو زنى. ذكره أصحابنا.
    ويتوجه في الزنى. . . وجماع الميتة. . . .

    أما المباشرة فيما دون الفرج بقبلة أو جسّ أو وطء دون الفرج أو غير ذلك بحيث يمس بدنه بدن امرأة لشهوة, إذا لم ينزل بها؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة.
    وفي «زاد المسافر» رواية حنبل: إذا غشي دون الفرج؛ فعليه القضاء والكفارة.

    وفي «التعليق»: فأنزل.
    وإن انزل الماء الأعظم؛ فسد صومه. رواية واحدة.
    وفي الكفارة فيه ثلاث روايات:
    إحداهن: لا كفارة عليه كما ذكره الشيخ: إذا لامس امرأته, فأنزل وأنزلت, يقضي يوماً مكانه. هذا لم يجامع, إنما لمس فأنزل.
    وحمله القاضي على الجماع دون الفرج أيضاً.
    وظاهره أنه لم يجامع الجماع المعروف؛ لأن الوطء في الفرج يفارق غيره في ثبوت الإِحصان والإِحلال ووجوب الغسل بمجرده, والحد والمهر والعدة والصهر اتفاقاً, وهو الاستمتاع التام, فلا يلزم من وجوب الكفارة فيه وجوبها فيما دونه.
    والثانية: عليه الكفارة. نقلها حنبل وأحمد بن إبراهيم الكوفي.
    وهي اختيار القاضي وأصحابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى الأعرابي بوجوب الكفارة لما أخبره أنه أصاب امرأته, ولم يستفصله كما استفصل الذي أقر بما يوجب الحد, والاستمتاع أفسد الصوم فأوجب الكفارة كالوطء.
    فعلى هذا إذا لمس صبياً. . . .
    والثالثة: إن جامع دون الفرج, فانزل فعليه الكفارة.
    فأما المعانقة والقبلة المباشرة؛ فلا كفارة فيه. نقلها الأثرم.
    وقال في رواية حرب: الجماع في الفرج وغير الفرج سواء, إذا أنزل فعليه الكفارة. وهي اختيار قدماء الأصحاب كالخرقي وأبي بكر وابن موسى.
    والجماع دون الفرج أن يباشرها بفرجه في موضع من بدنها على أي وجهٍ كان فيما ذكره ابن عقيل, سواء أولج بين فخذيها ونحوها من بدنها أو لم يولج.

    وفرق أحمد بين المجامعة دون الفرج وبين المعانقة, وقال: هو جماع؛ لأن استمتاعه فيما دون الفرج جماع, فأشبه الإِيلاج في الفرج.
    [فأما إذا مس امرأته, فأنزل وأنزلت؛ يقضي يوماً مكانه. هذا لم يجامع, إنما لمس فأنزل, وحمله القاضي على الجماع دون الفرج أيضاً, وظاهره أنه لم يجامع الجماع المعروف].
    وإن استمنى بيده؛ فعليه القضاء دون الكفارة فيما ذكره أصحابنا, وفرَّق القاضي بينه وبين الإِنزال عن مباشرة أو نظر.
    وأما ابن عقيل؛ فخرجها على روايتين, وجعل النص على رواية التي تقول: لا يفطر بالإِنزال عن مباشرة, لا سيما إذا قلنا: الإِنزال عن دوام النظر يوجب الكفارة؛ فالاستمتاع أبلغ في إنزال الماء وتسكين الشهوة.
    والمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب في صائم وجد شهوة, فخشي أن يمذي, فجعل ينثر ذكره لكي يقطع المذي, فأدفق الماء الأعظم؛ فعليه القضاء دون الكفارة.
    وأخذ القاضي من هذا أن الاستمناء لا كفارة فيه.
    ويتوجه الفرق بين هذا وبين الاستمناء؛ فإن هذا لم يقصد إلا تكسير الذكر لئلا يخرج المذي؛ فأين هو ممن يستخرج المني؟
    وكذلك لو حكَّ ذكره بشيء ناعم حتى أنزل؛ لأنه أنزل الماء الأعظم باختياره, ولأنه لم يستمتع.
    وإن أمذى بالمباشرة؛ فعليه القضاء دون الكفارة. نص عليه في رواية حنبل والأثرم.
    وربما ذكر بعض أصحابنا رواية حنبل: أن عليه القضاء والكفارة؛ لأنه جزء من المني يجري في مجاريه, ويخرج بأسبابه, وهو دونه؛ لأنه لم يكمل, ولا يحصل معه كمال لذة, فجعل فوق البول ودون المني؛ كما وجب به غسل الذكر والأنثيين, فأفسد الصوم ولم يوجب الكفارة.
    وكذلك إن أمذى بالعبث بذكره؛ فهو كما لو أمذى بالمباشرة. ذكره ابن أبي موسى.
    وإن تساحقت امرأتان فأنزلتا؛ وجب القضاء. وفي الكفارة إذا كان عبثاً وجهان؛ كالروايتين فيمن باشر بالفرج فيما دونه. هذا قول ابن عقيل وغيره.
    وقال أبو محمد: يخرَّج الوجهان على أن جماع المرأة هل يوجب الكفارة؟ قال: وأصح الوجهين أنه لا كفارة عليهما؛ فإن أنزلت إحداهما؛ فحكمها كذلك.
    والمحبوب إذا ساحق النساء أو فاخذ الرجال فأنزل؛ فسد صومه. وفي الكفارة روايتان.
    فأما الخصي؛ فإنه بمجرد إيلاجه يفسد صومه وتجب الكفارة كما يجب عليه الحد.
    وأما النظر؛ فإن نظر الفجأة معفو عنها, فإن خرج منه الماء في عقبها؛ فلا شيء عليه.

    وإن تعمد النظر لشهوة؛ لم يحل له, وإن أنزل بذلك:
    فقال أبو بكر والقاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب وغيرهما: يفسد صومه ولا كفارة عليه, وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل في رجل نظر إلى امرأته في شهر رمضان لشهوة, فأمنى من غير أن يكون أحدث حدثاً غير ذلك؛ فعليه القضاء ولا كفارة؛ إلا أن يكون قبل أو لمس أو عمل عملاً يدعو إلى أنْ جاء الماء الدافق, فتجب عليه الكفارة.
    وقال الخرقي وابن أبي موسى وأبو محمد: إذا كرر النزر فأنزل؛ فعليه القضاء بلا كفارة. وكذلك ذكر القاضي في «المجرد» أنه لا يفسد صومه إلا إذا كرر النظر, فأما إن نظر ثم صرف بصره في الحال؛ فصومه صحيح, ويتخرَّج على الحج. قال: لأنه أنزل بسبب لا يأثم فيه.
    فإن كرر النظر فأمنى؛ لزمه القضاء رواية واحدة؛ لأنه أنزل باستمتاع محرم, فأشبه الإِنزال بالمباشرة, وذلك لأن استدامة النظر تحت قدرته.
    283 - قال جرير عن عبد الله البجلي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك».
    284 - وعن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 286الى صــ 300
    (19)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    وفي وجوب الكفارة روايتان منصوصتان:
    إحداهما: تجب عليه. وهو اختيار ابن عقيل؛ لأنه أنزل باستمتاع محرم, فأشبه الإِنزال عن الملامسة.
    والثانية: لا تجب عليه الكفارة, وهي اختيار أكثر أصحابنا.
    وإن أمذى بنظر؛ فقال أبو بكر وأبو حفص البرمكي: يفطر ولا كفارة عليه. وقال بعض أصحابنا: ظاهر كلامه أنه لا يفطر بذلك.

    وعلى الأول: هل يفطر بمطلق النظر المتعمد أم بالمستدام المتكرر؟ على وجهين.
    وأما إن تفكر في شيء حتى أنزل؛ فقال أحمد في رواية أبي طالب في محرم نظر فأمنى؟ قال: عليه دم. قيل له: فإن ذكر شيئاً فأمنى؟ قال: لا ينبغي أن يذكر شيئاً. قيل: فوقع في قلبه شيء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء.
    فعلى هذا: إن غلبه الفكر لم يفطر؛ لأنه يصير كالإِنزال بالاحتلام, وهو لا يفطر إجماعاً؛ فإنه لا يدخل تحت قدرته.
    وأما إن استدعاه أو قدر على دفعه عن قلبه فلم يفعل؛ ففيه وجهان:
    أحدهما: لا يفطر, وهو قول ابن أبي موسى, وذكر أن أحمد أومأ إليه والقاضي وأكثر أصحابه؛ بناءً على أنه من جنس ما لا يملك صرفه عن نفسه.

    والثاني: يفطر, وهو قول أبي حفص البرمكي وابن عقيل.
    حتى قال أبو حفص: من تفكر في شهوة, فأمذى, ليس عن أبي عبد الله فطور, ولكن يجيء والله أعلم أن يفسد صومه.
    وذكر ابن عقيل أن كلام أحمد يقتضيه؛ لأنه نهاه عن أن يذكر ذلك؛ لأن هذا إفطار بسبب من جهته, داخل تحت قدرته؛ فهو كالإِنزال بإدامة النظر؛ فإن التفكر يؤمر به تارة وينهى عنه أخرى؛ كما في الحديث.
    285 - «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله».
    قال ابن عقيل: فإن الصائم لو سألنا: هل يجوز أن أخلو بنفسي مستحضراً للصور الشهية وللفعل فيها والمباشرة؟ لأفتيناه بتحريم ذلك والمنع منه.
    وقال بعض أصحابنا: لا يحرم إذا وقع بأجنبية, ولا يكره إذا وقع بالزوجة؛ بخلاف المباشرة, وإن فكر فأمذى من غير أن يمس ذكره فهو كما لو أمنى.
    قال ابن أبي موسى والقاضي وغيرهما: لا يبطل صومه.
    قال ابن أبي موسى: ويحتمل أن يبطل, وهذا قول أبي حفص.

    * فصل:
    ولا تجب الكفارة إلا في شهر رمضان, فلو جامع في القضاء أو النذر أو الكفارة؛ لم تجب عليه الكفارة. نص عليه.
    وتجب الكفارة بكل صوم في نهار رمضان, سواء كان ذلك اليوم مقطوعاً بأنه من رمضان أم لا, وسواء كان صومه مجمعاً على وجوبه أم لا.
    فلو رأى الهلال وحده, وردت شهادته, فصام, ثم وطئ؛ لزمته الكفارة؛ لأنه تيقن أنه من رمضان, وذلك لأن الكفارات لا تسقط بالشبهات كالحدود؛ فإنها ليست عقوبة, بل قد توجب محواً للخطيئة, وجبراً للفائت, وزجراً عن الإِثم.
    ولو وطئ في أول النهار, ثم مرض أو جُنَّ أو سافر أو حاضت المرأة؛ لم تسقط عنه الكفارة. نص عليه في رواية صالح وابن منصور.
    ونص في رواية ابن القاسم وحنبل على أنه لو أكل ثم سافر وحاضت المرأة؛ فإنهما يمسكان عن الطعام ويقضيان ذلك اليوم؛ لأنهما تعمدا الفطر بالمعصية.
    ولو وطئ في آخر يوم من رمضان, فتبين له أنه شوال؛ لم يكن عليه كفارة؛ لأنه تبين أن الصوم لم يكن واجباً عليه. ذكره القاضي.

    مسألة:
    فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية؛ فكفارة واحدة.
    وإن كفر ثم جامع؛ فكفارة ثانية.
    وكل من لزمه الإِمساك في رمضان, فجامع؛ فعليه كفارة.

    وجملة ذلك أنه تجب الكفارة في الصوم الصحيح والفاسد؛ فكل من وجب عليه الإِمساك؛ وجبت عليه الكفارة إذا جامع, وإن لم يكن معتداً به, مثل أن يأكل ثم يجامع, أو يترك النية ثم يجامع, أو يجامع ويكفر ثم يجامع.
    قال أحمد: إذا أكل ووطئ في رمضان؛ فعليه مع القضاء الكفارة للوطء, فإن كفر في يومه, ثم عاد؛ يكفر أيضاً؛ لأن حرمة اليوم لم تذهب, فإن فعل مراراً؛ فإنما عليه كفارة واحدة ما لم يكفر, فإذا كفر ثم وطئ؛ فعليه كفارة أخرى, وهو مذهبي, وذلك لأن هذا الإِمساك صوم واجب في نهار رمضان, فأوجب الكفارة؛ كالصوم الصحيح.
    ودليل الوصف: ما روى سلمة بن الأكوع؛ قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم: أن أذن في الناس أن من كان أكل؛ فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل؛ فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء» متفق عليه.
    ولأن الكفارة إنما وجبت لما انتهك من حرمة الزمان بالجماع فيه.
    ومن أكل ثم جامع, أو جامع ثانية بعد أولى؛ فهو أشد انتهاكاً للحرمة, وأعظم من الاجتراء على الله, وربما اتخذ هذا حيلة إلى إسقاط الكفارة بالجماع, ولأنها عبادة يجب إتمام فاسدها, فوجبت الكفارة فيه؛ كالحج الفاسد.
    وهذا لأن الله سبحانه قال في الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] وقال تعالى في الصوم: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

    وزمان الحج يتعين ابتداؤه بفعل المكلف, وزمان رمضان يتعين ابتداؤه وانتهاؤه بالشرع, وكلاهما لا يخرج منه بالإِفساد؛ بحيث لو أراد في الحج أن يصير بالوطء حلالاً يباح له المحظورات؛ لم يكن له ذلك, ولو أراد بالإِفطار في رمضان أن يباح له الإِفطار في سائر النهار؛ لم يبح له.
    ولو تبين له وجوب الصوم في أثناء النهار ببينة تقوم؛ أثيب على صيامه مع وجوب القضاء؛ فليس بينه وبين الإِحرام فرق, هذا فيمن ترك النية, مع العلم بوجوب الصوم, حتى لو افطر يوم الإِغماء وهو يعتقد. . . .
    فأما إن ترك النية لعدم العلم أنه من رمضان وأمسك؛ لم يلزمه الكفارة؛ لأنه ليس بإمساك مأمور به.
    وإذا علم في أثناء النهار أن اليوم من رمضان؛ فإنه يجب عليه الإِمساك على المذهب المعروف؛ فلو وطئ فيه؛ لزمته الكفارة.
    وإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو عقل المجنون أو طهرت الحائض أو قدم المسافر, وقلنا: يجب عليهم الإِمساك:
    فقال القاضي وابن عقيل: إذا وطئ؛ وجبت عليه الكفارة.
    والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: لا كفارة عليه.
    وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره.
    وحمل القاضي على ذلك الرواية التي لا يوجب فيها الإِمساك.
    وقد قال في رواية حنبل في مسافر قدم في آخر النهار فواقع أهله قبل الليل: عليه القضاء والكفارة.
    فإذا وطئ مرات في يوم واحد, ولم يكفر؛ فكفارة واحدة, نص عليه.
    كما أنه لو أكل مرات في يوم؛ لم يجب عليه إلا قضاء يوم واحد.
    وإن وطئ في يومين ولم يكفر:
    فقال حرب: سئل أحمد عن رجل جامع في رمضان أساماً متتابعة: كم كفارة؟ قال: قد اختلف الناس في هذا. فلم يجبه.
    واختلف أصحابنا في ذلك:

    فقال ابن حامد والقاضي وأصحابه: عليه الكفارة لكل يوم وإن لم يكفر.
    وحكي هذا عن أحمد نفسه, حكاه ابن عبد البر؛ لأن كل يوم عبادة منفردة بنفسه, فلم يدخل كفارة أحدهما في كفارة الآخر؛ كما لو وطئ في رمضانين أو حجتين أو عمرتين, وذلك لأنه لا يفسد صوم أحدهما بفساد الآخر, ولا يجب أحدهما بوجوب الآخر؛ فإنه لو سافر في أثناء الشهر؛ فهو مخير بين الصوم والفطر, ولو أقام في أثنائه؛ لتحتَّم عليه الصوم, ويحتاج كل منهما إلى نية منفردة في المشهور من المذهب.
    وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يكفيه كفارة واحدة, وإن وطئ كل يوم؛ ما لم يكفر؛ لأن الكفارات بمنزلة الحدود في أنها عقوبات, والحدود بمنزلة الكفارات في أنها كفارات لأهلها, ثم لو زنى مرات أو شرب مرات أو سرق مرات؛ لم يجب عليه إلا حدٌّ واحد؛ فكذلك إذا أفسد عبادات. . . .
    وإذا جامع في رمضانين أو في حجتين أو عمرتين.
    فقياس قول أبي بكر. . . .

    * فصل:
    ولا فرق في الجماع بين المعذور وغير المعذور؛ فلو وطئ ناسياً أو جاهلاً بوجوب الصوم لاعتقاده أنه واطئ في غير نهار رمضان, أو جاهلاً بأن الوطء يحرم في الصوم, مثل أن يعتقد أن الفجر لم يطلع, أو أن الشمس قد غربت, فجامع, ثم يتبين بخلافه, أو يجامع معتقداً أنه آخر يوم من شعبان, فتبين أنه من رمضان. . . .
    هذا أشهر الروايتين, ذكرهما أبو حفص وسائر الأصحاب, نقلها ابن القاسم والأثرم وحنبل وحرب.
    قال في رواية القاسم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: هلكت, وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «أعتق رقبة». ظاهره على النسيان والجهالة, ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم, إنما أفتاه على ظاهر الفعل.

    وهذا اختيار جمهور الأصحاب.
    والرواية الثانية: عليه القضاء دون الكفارة.
    قال في رواية أبي طالب: إذا وطئ ناسياً؛ يعيد صومه. قيل له: عليه كفارة؟ قال: لا.
    وإذا كان عامداً؛ أعاد وكفَّر. وهذا اختيار ابن بطة.
    286 - لأن الله قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان؛ بدليل قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] , فقال الله: قد فعلت. حديث صحيح.
    287 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان».
    ولأن الكفارة إن كانت لجبر الصوم؛ فإنه مجبور بالقضاء, وإن كانت لمحو الخطيئة أو عقوبةً للواطئ؛ فالناسي والجاهل لا إثم عليهما؛ بخلاف كفارة القتل والصيد ونحوهما؛ فإنها وجبت جبراً لما فوته؛ فأشبهت ضمان الأموال.
    ومن أصحابنا من يحكي رواية ثالثة في الناسي والمكره: أنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
    وكقول أحمد في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه الصائم؛ فليس عليه قضاء ولا كفارة.
    وقال أبو داوود: سمعته غير مرة لا ينقل له فيها قول.

    يعني: مسألة من وطئ ناسياً.
    ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالكفارة, ولم يستفصله: هل كان ناسياً أو جاهلاً؟ مع أن هذا الاحتمال ظاهر, بل هو الأظهر؛ فإن الرجل المسلم لا يكاد يفعل مثل هذا عالماً عامداً, لا سيما في أول الأمر, والقلوب مقبلة على رعاية الحدود, والجهل بمثل هذا خليق أن يكون في الأعراب؛ فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
    وليس في قوله: «هلكت»: ما يدل على أنه فعل ذلك عالماً عامداً؛ لجواز أنه لما ذكر أو أخبر أن هذا محرم في الصيام؛ خاف أن يكون هذا من الكبائر,وقد كانوا يخافون مما هو دون هذا.
    288 - كما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أتيت اليوم أمراً عظيماً, قبلت وأنا صائم».
    ولهذا لم يعتبه النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يلمه كما لام سلمة بن صخر لما جامع بعد الظهار, وكما لام الذي جامع امرأته ليلة الصيام قبل أن يبيح الله الرفث ليلة الصيام, ومثل هذا لا بد فيه على العامد العالم من تعزيز أو توبيخ؛ فهذه قرينة تبين أن الرجل قد كان له بعض العذر في هذا الوقاع.
    ولأنها كفارة وجبت بالوطء مع العمد فوجبت بالسهو؛ ككفارة الوطء في الظهار والإحرام.
    ولأن الوطء في الشرع يجري مجرى الإِتلاف؛ بدليل أنه لا يخلو من غرم أو حدٍّ أو غرم وحد, وباب الإِتلاف يستوي فيه العمد والخطأ؛ كالقتل للإِنسان والصيد والحلق والتقليم.
    وإذا اعتقد أنه آخر يوم من شعبان, فجامع فيه, ثم تبين أنه من رمضان؛ فإنه يمسك ويقضي, ولم تجب عليه الكفارة هنا. ذكره ابن عقيل.
    لأنه لم ينو صومه على وجه يعذر فيه, والكفارة إنما تجب بالوطء في إمساك واجب؛ بخلاف من أكل فإنه مأمور يظنه ليلاً فبان نهاراً؛ فإنه مأمور بالإِمساك ذلك الجزء, والاحتياط فيه مشروع, وهو داخل في ضمن اليوم الذي نواه, ولهذا لا يفرد بنية.
    وإذا أكل ناسياً, فظن أنه قد أفطر, فجامع, أو ذرعه القيء, أو قطر في إحليله, ونحو ذلك, فظن أنه قد أفطر, فجامع.
    فقال بعض أصحابنا: في وجوب الكفارة وجهان؛ لأنه مثل الجاهل والناسي.
    وكذلك قال القاضي: قياس المذهب أن الكفارة تجب عليه؛ لأن أكثر ما في هذا ظنه إباحة الفطر, وهذا لا يسقط الكفارة؛ كما لو وطئ يظن أن الفجر لم يطلع؛ فإن الكفارة لا تسقط هناك على المنصوص.
    فعلى هذا: إذا قلنا هناك: إنه لا كفارة عليه. . . .

    وإن وطئ يعتقد أنه آخر يوم من شعبان, ثم بان أنه أول يوم من رمضان.
    والصواب: أن هذا تجب عليه الكفارة قولاً واحداً؛ لأن أكثر ما فيه أنه وجب عليه, وكل مفطر وجب عليه الإِمساك إذا جامع؛ لزمته الكفارة عندنا؛ فإنه ليس معذوراً بالجماع؛ كما لو أكل عمداً, ثم جامع؛ لزمته الكفارة. نص عليه.
    اللهم؛ إلا أن يعتقد جواز الأكل والوطء, فيلحق [بالمعذور].
    فإن قيل: أما إيجاب القضاء على الجاهل؛ فهو القياس؛ لأنه لو أكل جاهلاً؛ للزمه القضاء؛ فالواطئ أولى.
    وأما إيجابه على الناسي؛ فهو مخالف لقياس الصوم؛ فإن الأكل ناسياً لا يفطر الصائم.
    قلنا: الفرق بينهما أن الأكل بالنهار معتاد؛ فالشيء الخفيف منه ما قد يفعله الصائم لنسيانه صومه فعذر فيه.
    أما الجماع؛ فأمر عظيم, وليست العادة فعله في النهار؛ فوقوعه مع النسيان إن وقع نادر جدّاً.
    289 - وهذا معنى ما ذكره ابن جريج؛ قال: «كنت إذا سألت عطاء عن الرجل يصيب أهله ناسياً, لا يجعل له عذر, يقول: لا ينسى ذلك ولا جهله».

    فيأبى أن يجعل له عذراً, لا سيما. . . .
    وأما مقدمات الجماع التي لا توجب الكفارة مثل القبلة واللمس والنظر إذا فعلها ناسياً فأمنى أو أمذى:
    فقال أصحابنا: هو على صيامه, ولا قضاء عليه.
    لأنه أمر يوجب القضاء فقط, ففرقٌ بين عمده ونسيانه؛ كالآكل.
    فعلى هذا: ما أوجب عمده الكفارة؛ أوجب سهوه القضاء في المشهور, وفي الكفارة الخلاف المتقدم, وما أوجب عمده القضاء فقط؛ لم يُبطل الصوم سهوه؛ لأن ما أوجب جنسه الكفارة؛ تغلظ جنسه فألحق بالجماع, بخلاف ما لا يوجب إلا القضاء فقط؛ فإنه كالأكل.
    وإن أكره الرجل على الجماع:
    فقال ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيل وغيرهم: عليه مع القضاء الكفارة قولاً واحداً؛ بخلاف الناسي؛ لأن الجماع لا يتأتَّى إلا مع حدوث الشهوة, ولهذا وجبت الكفارة على المكره على الزنا في المنصوص؛ لأنه لا يطأ حتى ينتشر, ولا ينتشر إلا عن شهوة.
    قال ابن عقيل: وإن كان منتشر العضو, فاغتفلته امرأة, ووقعت عليه, فغلبته, واستدخلت عضوه؛ فلا كفارة عليه هنا؛ لعدم العلة, وفي إفساد الصوم وجهان.
    وذكر أبو الخطاب وغيره فيه الروايتين في الناسي.
    وإن استدخلت ذكره وهو نائم:
    فقال القاضي: لا يفطر؛ لأنه كالمحتلم, لم يصدر منه فعل ولا لذة.
    وهذا قياس قول من يفرق بين النائمة والمكرهة, وليس هو قول القاضي.
    وذكر ابن عقيل وجهاً أنه يفطر؛ قال: كما لو جرع الماء؛ كان فيه الروايتان, والأشبه أن لا يبطل؛ كما لو قُطِّرَ في حلقه وهو نائم.
    قال ابن عقيل: فإن كشفته واستيقظت عضوه بان عبثت به حتى انتشر, ثم استدخلته؛ أفطرا جميعاً, ولا كفارة عليه.
    وهل عليها كفارة؟ على روايتين, وكأنه جعله في هذه الصورة مكرهاً, فيكون كقول أبي الخطاب.
    وقال غيرهما: ظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء؛ لأن القضاء وجب على المرأة المغصوبة على نفسها فالرجل أولى.
    وهذا أصح؛ فإن المقهور على نفسه أقوى من المقهورة على نفسها, والنائم أقوى من النائمة.


    * فصل:
    وأما المرأة؛ فلا تخلو: إما أن تكون مطاوعة, أو مستكرهة: فإن كانت مطاوعة في الصيام أو الإِحرام؛ ففيها ثلاث روايات:إحداهن: أن عليها الكفارة فيهما.
    وهي المنصورة عندهم مثل أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه.
    قال في رواية ابن إبراهيم في الرجل يستكره امرأته على الجماع: ليس عليها كفارة وعليه, وإذا طاوعته؛ فعليها وعليه كفارة, كفارة في الصوم.
    ونقل عنه إسحاق بن إبراهيم ويعقوب بن بختان في المحرمة إذا وطأها:
    عليها الهدي. والثانية: لا كفارة عليها.

    نقله عنه أبو داوود وأبو الحارث ومهنا والمروذي: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان.
    فعلى هذا تجب الكفارة عليه وحده, وليس عليها كفارة يتحملها الزوج عنها, وتعتبر الكفارة بحاله في الحرية والعبودية, واليسر والعسر, وغير ذلك.
    ونقل عنه ابن منصور في الذي يصيب أهله مهلاَّ بالحج: يحجان من قابل ويتفرقان, وأرجو أن يجزيهما هدي واحد.
    فمن أصحابنا من يجعل هذا رواية واحدة في أنه لا كفارة عليها, وإنما الكفارة عليه وحده.
    ومنهم من يجعل هذا رواية أخرى بأن الكفارة الواحدة تكون عليهما في مالهما وتجزئ عنهما.
    وهل تجب عليهما في مالهما؟ أو في ماله وتقع عنهما, أو في ماله وتقع عنه وحده؟
    فعلى هذا: إن كفر بالصوم؛ لزم كل واحد منهما صوم شهرين.
    والثالثة: عليها الكفارة في الحج دون الصوم.
    فقال في رواية أبي طالب: ليس على المرأة كفارة, إنما هي على الرجل؛ إلا أن يكونا محرمين, فيكون عليهما كفارة. كذا قال ابن عباس, ولم أسمع على المرأة هدي إلا في الحج.
    ولهذا أكثر نصوصه في الحج بالوجوب, وفي الصوم بعدمه, وذلك لأن الذي واقع أهله في رمضان؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً؛ في معرض جواب سؤاله عن هذه الواقعة, فعلم أنه لا يجب في الجماع شيء غير هذا؛ لأنه لو كان؛ لذكره؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, ولأن السؤال كالمُعاد في الجواب؛ فتقديره: من أصاب امرأته في رمضان فعليه هذه الكفارة.

    ولو قيل مثل ذلك؛ لدل على أن هذا جزاء هذا الفعل ولا شيء فيه غير ذلك.
    290 - ولهذا لما قال له ذلك الرجل: إن ابني كان عسيفاً على هذا, وإنه زنى بامرأته, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على ابنك جلد مئة وتغريم عام, واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت؛ فارجمها».
    فذكر في الحد حكم الواطئ والواطئة, وفي الكفارة اقتصر على حكم الواطئ فقط.
    291 - وفي الحج: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم المتجامعين أن يهديا هدياً».
    292 - 293 - وكذلك عمر وعلي.

    ولأن الكفارة هنا إنما وجبت لأجل الإِصابة والوقوع على المرأة وجماعها, والجماع إنما يفعله الرجل وحده, وإنما المرأة ممكنة من الفعل ومحل له,والكفارة لم توجب لذلك, ولأن الجماع فعل واحد لا يتم إلا بهما, فاجزأت فيه كفارة واحدة؛ لأن تعدد. . . , ولأنه حق مالي يجب بالوطء؛ فاختص بوجوبه [على] الواطئ كالمهر في وطء الشبهة.

    وهذا لأن الأصل فعل الرجل, والمرأة محل فعله, فاندرج فعلها في فعله, وصار تبعاً له؛ كما تدخل دية الأطراف في دية النفس, وكما لو جامع مرة ثم مرة ولم ينزل, وكما لو قبَّل المحرم ثم أولج, ولأنها كفارة تجب بالوطء, فاختصت بالرجل دون المرأة؛ ككفارة الظهار, أو نقول: إصابةُ فرجٍ حرم لعارض, فاختصت كفارته بالرجل؛ كإصابة المظاهر منها.
    فعلى هذا لو لم تجب الكفارة على الرجل بأن تستدخل ذكره وهو نائم, أو تستدخل ذكر مجنون أو صبي؛ فإنه بطل صومها. هكذا ذكره القاضي وابن عقيل.
    وهل تجب الكفارة؟ على روايتين.
    فيما إذا وطئها الرجل. ذكره القاضي وابن عقيل.
    وكذلك لو وطئها وهو مسافر أو مريض, وهي مقيمة صحيحة؛ ففي الكفارة عليها الروايتان.
    ومن فرق بين الحج والصوم؛ قال: إن الحج جاء في الأثر عن ابن عباس, والصوم بخلافه, ولأن الحج أغلظ؛ فإن الكفارة تجب فيه بالقبلة والمباشرة وإن لم ينزل


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 301الى صــ 315
    (20)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام









    ولأن حرمة الحج متعددة بالنسبة إليهما فإن كل منهما يصير حراماً بإحرام يعقده لنفسه؛ فإذا جامع؛ فقد هتك إحراماً منفصلاً عن إحرام غيره, وهنا الحرمة للشهر الذي يوجب صومه, لا لنفس الصوم المجزئ, ولهذا تجب الكفارة سواء كان صائماً أو مفطراً إذا كان الإِمساك واجباً عليه, ولا تجب إلا في شهر رمضان, وحرمة الشهر واحدة يشملها؛ فإذا هتكاها؛ فإنما هتَّكا حرمة واحدة, فأشبه ما لو اشتركا في قتل صيد.
    ولأن الكفارات في الحج تجب مع الانفراد والاشتراك كما تجب بالحلق واللبس؛ فإذا وقع الاشتراك؛ جاز أن يجعلا في حكم المنفردين, وهنا لا تجب إلا بالفعل المشترك.

    فعلى هذا, لو استدخلت ذكر نائم أو مكنت من نفسها مجنوناَ أو مسافراَ ونحوه. . . .
    وذكر ابن عقيل في موضع آخر أن الوطء إذا تردد بين اثنين لا تجب الكفارة على أحدهما, ووجبت على الآخر وحده؛ كالمسافر إذا وطئ.
    ووجه الأول: أن المرأة هتكت حرمة شهر رمضان بالجماع, فوجبت الكفارة عليها كالرجل, وذلك لأنها إذا طاوعته على الجماع؛ كان كل منهما فاعلاً له ومشاركاً فيه, وإن جاز أن ينفرد أحدهما به إذا استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم؛ فما وجب عليه لله من الكفارة والعقوبة وغير ذلك وجب عليها مثله.

    ولهذا يجب الحدُّ عليها كوجوبه عليه, وتفطر بهذا الجماع كما يفطر هو, وتستحق العقوبة في الآخرة كما يستحقه, وتسمى باسمه, فيقال: زان وزانية,ويسمى جماعاً وحلامة ومباشرة, وصيغة الفعال والمفاعلة في الأصل إنما تكون بين شيئين يفعل كل منهما بصاحبه ما يفعل الآخر به؛ كالقتال والخصام.
    ولهذا؛ لو استدخلت ذكره وهو نائم؛ وجبت الكفارة. ذكروا فيه الروايتين, ولأنها كفارة, فوجبت على كل واحد منهما؛ كالحد؛ فإن الحدود كفارات لأهلها.
    وهذا لأن الكفارة ماحية من وجه وزاجرة من وجه وجابرة من وجه, والمرأة محتاجة إلى هذه المعاني حسب احتياج الرجل.
    ولا يصح التفريق بأن الكفارة في المال, والحد على البدن؛ لأن من الكفارات ما هو على البدن, وهو الصيام.
    وكذلك لو حلف كل منهما لا يجامع الآخر؛ كان على كل منهما كفارة [إذا] حنث كل منهما في يمينه؛ كهتك كل منهما لحرمة صومه وإحرامه.
    وأما حديث الأعرابي؛ فقد أجاب أصحابنا عنه بوجوه:
    أحدها: أن بيانه لحكم الأعرابي بيان لحكم مَنْ في مثل حاله؛ إذ من المعلوم أنها تشاركه في الجماع فتشاركه في حكمه, ولهذا لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء والاغتسال, وقد أمر الأعرابي بالقضاء؛ لعلمه بأن حكمها حكمه, فما حمل عليه ترك ذكر القضاء؛ حمل عليه ترك ذكر الكفارة.
    ثانيها: أن هذه قضية في عين, فلعل المرأة كانت مكرهة أو نائمة؛ فإنه قد. . .
    294 - روي في بعض الألفاظ: أنه قال: «هلكت وأهلكت». رواه الدارقطني.
    ونسبة الإِهلاك إليه وحده, وإن كان يحتمل التسبب والدعاء إلى الفعل, لكنه ظاهر في انفراده بالإِهلاك, وسماه إهلاكاً للمرأة؛ لتفطيرها وإيجاب القضاء عليها.

    وثالثها: أن المرأة كانت غائبة, ولم تستفه, وإنما سأله الأعرابي عن حكم نفسه فقط, فلم يجب بيان حكم المرأة, وإنما بينه في قصة العسيف؛ لأن له أن يبينه وألاّ يبيِّنه؛ فإن الزيادة على السؤال جائزة.
    295 - كقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
    ثم الفرق بينهما: أن في قصة العسيف حضر زوج المرأة, وكان سائلاً عن حكمها؛ كما حضر أبو العسيف يسأل عن حكم ابنه.
    ثم حكم الرجل في الزنى كان مخالفاً لحكم المرأة؛ فإن حدّها كان الرجم, وحدُّه الجلد, فلم يكن بيان أحدهما بياناً للآخر؛ بخلاف الجماع.
    ثم الحدُّ حق الله, يجب استيفاؤه على الإِمام؛ بخلاف الكفارة؛ فإنها حق فيما بين العبد وبين ربه.
    ورابعها: أن الرجل أقر بما يوجب الكفارة, والمرأة لم تقر بذلك, وقوله غير مقبول عليها.
    وخامسها: أنه يمكن أنه ذكر حكمها فلم ينقل, ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم أراد ذكر حكمها فشغل عنه؛ فإنه عدم محض, والعدم المحض لا دلالة فيه.
    وأما قياس هذا على الظهار؛ فلا يصح, لأنها إن كانت مظاهرة منه كما هو مظاهر منها؛ وجبت الكفارة على كل منهما, وإن لم تكن هي مظاهرةً, وقلنا: إنه لا كفارة عليها بظهارها منه؛ فلأن سبب وجوب الكفارة - وهو الظهار-مختص به, كما لو حلف لا يطأها؛ فإن كفارة اليمين تجب عليه خاصة, وكما لو كان هو وحده محرماً أو صائماً؛ فإنه لا ينبغي أن تمكنه من نفسها؛ لما فيه من إعانته على المعصية, ولأن فرجها حرام عليه في هذه الحال, ثم لو مكَّنته؛ لم تجب الكفارة إلا عليه؛ لأنها هي ليست محرمة ولا صائمة.

    * فصل:
    وإن كانت مستكرهة بأن يضطجعها ويطأها, ولا تقدر أن تمتنع منه, أو يقيدها ونحو ذلك؛ فسد صومها.
    نص عليه في رواية مهنا في محرمة غصبها رجل نفسها فجامعها وهي كارهة؛ قال: أخاف أن يكون قد فسد حجها. فقيل له: فإن غصبها رجل نفسها وهي صائمة فجامعها؟ قال: هو كذلك.
    وفي لفظ: إذا أكرهها فوطئها؛ فعليها القضاء. قلت: وعليها الكفارة؟ قال: لا. قلت: فإن كانت اشتهته؟ قال: لم أسمع على المرأة كفارة.
    وهذا قول ابن أبي موسى والقاضي وأكثر أصحابنا.
    وعنه: لا يفسد. ذكرها أبو الخطاب وابن عقيل.
    قال في رواية ابن القاسم في الرجل يتوضأ فيسبقه الماء فيدخل حلقه: لا يضره ذلك, وكذلك الذباب يدخل حلقه, والرجل يومئ بالشيء فيدخل حلق الآخر, وكل أمر غلب عليه الصائم؛ فليس عليه قضاء ولا غيره.
    فإن هذا يقتضي أنه لا يفسد الصوم بالإِكراه على الجماع؛ لقوله: «ليس عليه قضاء ولا غيره» , وغير القضاء هي الكفارة, وإنما تجب الكفارة في الجماع, فعلم أنه إذا غلب على الجماع؛ لم يكن عليه قضاء ولا غيره. وهذا اختيار ابن عقيل؛ لأن الله تعالى عفا للأمة عما استكرهوا عليه, ولأن هذه المرأة لم يصدر منها فعل ألبتة.
    ولهذا لا يجب عليه حدٌّ ولا إثم ولا تعزير ولا ضمان؛ فإنه لو ألقى إنسانٌ إنساناً على آخر, فقتله؛ لم يضمنه؛ فإذا لم يجب الضمان مع وجوبه مع السهو وغيره؛ فأن لا يفسد العبادة أولى.
    ولأنه لو حلق رأس محرم أو قلم ظفره بغير اختياره؛ لم يكن عليه جزاء؛ فكيف يفسد إحرامه وصيامه بذلك؟!

    فعلى هذا: إن أكرهت بالضرب أو الحبس أو الوعيد, حتى اضطجعت أو مكَّنت؛ ففيه وجهان كالوجهين فيما إذا أكره حتى أكل بيده.
    ووجه الأول: أنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم والحج؛ كجماع المطاوِعَة, ولأنها عبادة تبطل بجماع المختارة فبطلت بجماع المستكرهة كالطهارة؛ إلا أن الأسباب الموجبة للوضوء لا تفريق بين عمدها وسهوها؛ بخلاف الأسباب المفسدة للإِحرام, ولأن الجماع يشبه الإِتلاف. . . . فعلى هذا لا كفارة عليها.
    نص عليه في الصائمة في رواية مهنا, وفي المحرمة المستكرهة في رواية ابن إبراهيم ويعقوب بن بختان وحنبل.
    وفرق بينها وبين المطاوعة.
    وسواء قلنا: تجب الكفارة على الناسي والجاهل والرجل والمكره أو لا تجب في المشهور عند أصحابنا.
    قال القاضي في «المجرد»: لا كفارة عليها روايةً واحدةً؛ لأن المكره لا فعل له, ولهذا لو أكره على قتل الصيد وإتلاف مال الغير؛ لم يكن عليه ضمان, وإنْ وجب الضمان على الناسي.
    وذكر القاضي في خلافه فيها روايتين:
    إحداهما: كذلك.

    والثانية: عليها الكفارة كالناسي والجاهل.
    وقد نص أحمد في رواية الأثرم: إذا أكرهها في الحج؛ على كل واحد منهما هدي.
    ولا ترجع به عليه على هذه الرواية كالناسي.
    وقال ابن أبي موسى: قيل: عنه كفارة ترجع بها عليه؛ لأنه حق لزمها بسببه, فكان استقراره عليه؛ كما لو أكره رجلاً على إتلاف المال أو غرَّه في نكاح أو بيع أو غيرها أو حلق رأس المحرم بغير اختياره؛ فإن ضمانه عليه.
    والإِكراه الذي لا ريب فيه أن يقهرها على نفسها, وسواء كان إكراه غلبة مثل إنْ قهرها على نفسها, أو كان إكراه تمكين مثل إنْ ضربها حتى مكَّنت من نفسها؛ فالحكم سواء. هذا قول القاضي وأبي الخطاب.
    فعليها الكفارة هنا؛ لأن لها فعلاً صحيحاً وقصداً واختياراً, وإن كانت معذورةً فيه؛ فإن العذر لا يمنع وجوب الكفارة؛ كالنسيان والجهل.
    لأنه لو دفعه على إنسان فقتله؛ لم يكن على المدفوع دية ولا كفارة, ولو أكرهه حتى قتله؛ لوجب عليه دية القود, وكان هذا الفعل محرماً بالإِجماع. وعلى الوجهين متى قدرت على الدفع عن نفسها, فلم تفعل؛ فهي كالمطاوعة.
    وإن مانعته في أول الفعل, ثم استلانت في أثنائه؛ فهي كالمطاوعة؛ لأن استدامة الوطء كابتدائه في إيجاب الكفارة؛ بدليل مَنْ طلع عليه الفجر وهو مجامع. هكذا ذكره ابن عقيل.
    فأما إن وطئها وهي نائمة, ولم تستيقظ إلا بعد مفارقته للفعل:
    فقال ابن أبي موسى: ليس عليها قضاء ولا كفارة, وعليه القضاء والكفارة قولاَ واحداً؛ لأنها لم تشعر بالجماع, ولم تجد طعمه, ولم تذق عسيلته.
    قال: وقال بعض أصحابنا: عليها القضاء وجهاً واحداً؛ يعني: كالمستكرهة؛ فإنه لم يذكر فيها خلافاً, وعليها الكفارة في أحد الوجهين, ترجع بها عليه.
    هذا قول القاضي وأصحابه, لا فرق عندهم بين النائمة والمستكرهة.
    قال القاضي: قياس المذهب أنها تفطر؛ كما لو أكرهها على الوطء أنها تفطر؛ بخلاف ما لو أكره على الأكل, أو أكل وهو نائم؛ فإنه لا يفطر؛ كالناسي إذا أكل وأولى؛ لأن أكثر ما فيه أنها جومعت بغير اختيارها, فأشبه المقهورة, ولأنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم كسائر أنواع الجماع.
    قال ابن أبي موسى: ولو ألزمناه كفارتين عنه وعنها؛ كان وجهاً.
    فعلى هذا يطالب هو بالتكفير؛ كما قلنا فيمن حلق [رأس] محرم وهو نائم.
    وعلى الوجه الذي نقول فيه: ترجع عليه بالكفارة, تطالب هي بها, وترجع عليه.
    وإن لم تمكنه؛ فهي كالمستكرهة؛ لأنها تشعر بالجماع.
    قال ابن أبي موسى: عليها القضاء والكفارة, ترجع بالكفارة عليه؛ فإنه على الرواية التي توجب الكفارة على المستكرهة.
    وأما الموطوءة بعذر غير الاستكراه؛ مثل الناسية والجاهلة والممكنة تظنه ليلاً فبان نهاراً ونحو ذلك:
    فذكر أبو الخطاب أنه يفسد صومها, ولا يلزمها الكفارة مع العذر, والعذر الإِكراه والنسيان, وسوّى بين الأعذار, وألحق المكرهة بالناسية, وجعل في الرجل المعذور روايتين.
    وخرَّج بعض أصحابنا وجهاً: أنه لا يفسد صومها أيضاً.
    لأن ما لا يوجب الكفارة لا يفسد الصوم مع النسيان؛ كالأكل.
    وأما المنصوص عن أحمد, والذي ذكره عامة الأصحاب: الفرق إنما هو بين المطاوعة والمستكرهة فقط, وأن المطاوعة إذا نسيت أو جهلت؛ فإنها كالرجل سواء.

    وقد صرح القاضي بالفرق بين الناسية والمستكرهة.
    وهذا أصح؛ لأنه لا فرق بين عذر المرأة وعذر الرجل في غير الاستكراه, وإنما فرق بينهما في الاستكراه؛ لأن المرأة لا فعل لها هنالك, ولأن الرجل يمتنع إكراهه على الجماع. . . .
    وإذا وطئ أمته مطاوعة, [وأوجبنا] الكفارة؛ كفَّرت بالصوم.
    وإن استكرهها؛ فقال ابن أبي موسى: الكفارتان عليه.
    وهذا إذا قلنا: لا كفارة على المستكرهة؛ فيحتمل أن تكون كذلك؛ لأنها إنما سقطت عنها تخفيفاً, وهنا تجب ابتداءً على السيد, وليس أهلاً للتخفيف عنه.
    وإن قلنا: تجب عليها, ولا يحلها عنها على الرواية التي ذكرها القاضي. . . .
    والموطوءة في الدبر كالموطوءة في القبل في لزوم الكفارة, ذكره القاضي.
    وعلى قياسه المفعول به لواطاً؛ لأنهما يشتركان في الإِفطار بذلك, ووجوب الحدّ به؛ فكذلك في لزوم الكفارة له.
    ويتوجه: أن لا كفارة بهذا, لأنه لا شهوة لها فيه.
    فأما المستمتع بها من مباشرة أو وطء دون الفرج إذا أنزلت الماء؛ فإنها. . . .
    * فصل:
    إذا جامع ونزع قبل الفجر, ثم أمنى بذلك بعد طلوع الفجر؛ فصومه صحيح.
    لأن أكثر ما فيه خروج المني بغير اختياره, وخروج المني بغير اختياره لا يفطره؛ كالاحتلام.
    وإن شك هل نزع قبل الفجر أو بعده. . . .

    وإن طلع عليه الفجر وهو مولج, وعلم به, واستدام الجماع؛ فهو مفطر, وعليه الكفارة.
    قال ابن أبي موسى: إن تحرك لغير انتزاعه؛ فعليه مع القضاء الكفارة قولاً واحداً؛ لأن استدامة الجماع بمنزلة ابتدائه.
    ولهذا؛ لو حلف لا يجامعها, وهو مجامعها, فاستدام الجماع؛ حنث.
    وأما إذا طلقها ثلاثاً وهو مولج, فاستدام ذلك؛ هل يجب عليه الحد والمهر؟. . . .
    ولو أحرم وهو مجامع, فاستدام الجماع؛ فسد إحرامه.
    ولأن صومه يفسد بهذه الاستدامة بالإِجماع, ولولا أنَّ استدامة الجماع جماع؛ لم يفسد به الصوم.
    وإذا كان جماعاً, وقد وجد في نهار رمضان؛ وجبت به الكفارة كغيره.
    فإن قيل: لكن هذا الجماع لم يبطل به صوماً, وإنما منع صحة الصوم, والكفارة إنما تجب لإِفساد الصوم.
    قيل: لا فرق عندنا بين جماع الصائم وجماع المفطر في نهار رمضان, بل كل جماع وُجد ممن يجب عليه الإِمساك؛ ففيه الكفارة.
    وأيضاً؛ فإنه لا فرق فيما يبطل العبادات بين المقارن والطارئ, ولهذا استويا في وجوب القضاء, ولأن منع صحته في هتك الحرمة بمنزلة إبطاله بعد انعقاده وأشد؛ لأنه هناك أفسد بعض الصوم, وهنا أبطل جميعه.

    وإن استدام الجماع بعد طلوع الفجر, ولم يعلم, ونزع قبل أن يعلم؛ وجب عليه القضاء والكفارة في إحدى الروايتين. نقلها عبد الله.
    وفي الأخرى: عليه القضاء بلا كفارة. وقد تقدم ذلك.
    فإن قلنا: لا كفارة عليه فنزع حين علم؛ ففي الكفارة روايتان, ويقال: وجهان؛ كما سيأتي.
    وإن طلع عليه الفجر, وهو مخالط أصل ذكره, فنزع حين طلع, وأمكن ذلك برعايته للفجر, أو بإخبار مخبر حين طلوعه, أو بأنه حين تبين له
    طلوعه؛نزع:
    قال ابن أبي موسى: لم يتحرك بغير انتزاعه, ولم يتيقن أنه استدام الجماع بعد طلوعه.
    ففي هذه المواضع لم يوجد منه استدامة الجماع بعد طلوع الفجر وبعد استيقانه طلوع الفجر, وإنما وجد النزع.
    فقال ابن أبي موسى: عليه القضاء قولاً واحداً, وفي الكفارة عنه خلاف.

    وخرَّجها القاضي على وجهين بناء على الروايتين في النزع: هل هو وطء أم لا؟ وفيه روايتان.
    نص عليهما فيمن قال لامرأته: إن وطأتك؛ فأنت عليَّ كظهر أمي, ومثله: إن وطأتك؛ فأنت طالق ثلاثاً: هل يجوز له وطأها؟ على روايتين؛ لأن النزع يقع بعد انعقاد الظهار والطلاق.
    ولو حلف وهو مجامع: لا وطئتك, فنزع في الحال؛ لم يحنث؛ لأنه إنما يحلف على ترك ما يقدر عليه, ولأن مفهوم يمينه لا استدمت الجماع. . .
    إحداهما: هو جماع فعليه القضاء والكفارة.
    قاله ابن حامد والقاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي جعفر وابن عقيل في «الفصول» , وقد قال أحمد في رواية حنبل: إذا كان واطئاً, فطلع الفجر؛ نزع وعليه القضاء والكفارة.
    لأن النزع جماع؛ بدليل أنه يلتذ بالإِيلاج والانتزاع.
    نعم؛ هو معذور في هذا الجماع؛ فإنه لا يقدر على ترك الجماع إلا بالنزع, فيكون بمنزلة من استدام الجماع بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم.
    والثاني: لا قضاء عليه ولا كفارة.
    وهو اختيار أبي حفص العكبري وابن عقيل في «خلافه».
    وهذا ينبني على أصلين:

    أحدهما: أن النزع ليس بجماع, بل هو ترك كخلع القميص والخروج من الدار.
    والثاني: أنه وإن كان جماعاً, لكنه مغلوب عليه؛ فلا تجب عليه الكفارة على إحدى الروايتين, وكما لو أوجب الله عليه في هذه الحال أن يترك الجماع؛ فإن تركه إنما يجب بطلوع الفجر.
    وعلى هذا: لو أولج في جزء من الليل, وهو يتيقن أن الفجر يطلع عليه وهو مولج, ونزع عقب طلوعه, وتصور ذلك؛ وجبت عليه الكفارة على مقتضى كلام ابن عقيل, وهو بمنزلة المقهورة على الوطء, وتلك لا تجب عليها الكفارة في ظاهر المذهب؛ لأنه تعمد أن يفعل النزع في نهار رمضان.
    وعلى المأخذ الأول: لا كفارة عليه؛ كالمتعمد أن ينزع في فرج المطلقة والمظاهر منها.
    وعلى الرواية التي ذكرها ابن أبي موسى: يجب القضاء دون الكفارة؛ لأن النزع جماع هو فيه معذور, فيجب القضاء دون الكفارة؛ كالرواية فيمن جامع يظنه ليلاً, فتبين أنه نهاراً.
    فعلى هذه الرواية: إن تعمد الإِيلاج في وقت يتيقن أن الفجر يطلع عليه فيه؛ لزمته الكفارة.
    * فصل:
    ولو احتلم الصائم في النهار في المنام؛ لم يفطر.
    وإن أصبح جنباً من احتلام أو جماع؛ فصومه صحيح, لكن عليه أن يغتسل ويصلي؛ فإن لم يفعل؛ فعليه إثم ترك الصلاة, وصومه صحيح, وكذلك المرأة إذا طهرت قبل الفجر.

    نص على ذلك كله, وأنكر على من خالفه, وذلك لقوله سبحانه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. . .} الآية [البقرة: 187] , فأباح المباشرة, وهي الجماع إلى أن يبين الفجر, ومعلوم أن من جامع إلى ذلك الوقت؛ فإنه يصبح جنباً.
    296 - وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يصبح جنباً من غير احتلام, ثم يصوم في رمضان». رواه الجماعة إلا النسائي.
    297 - وعن عائشة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم». فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله؛ إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي». رواه مسلم وغيره.
    مسألة:
    ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر؛ فليس عليه غيره, وإن فرط؛ أطعم مع القضاء لكل يوم مسكيناً.
    في هذا الكلام فصلان:
    أحدهما: أنه يجوز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان, وهو مؤقت بين الرمضانين, يقضي متى شاء, إلى أن يدخل شهر رمضان, وسواء كان قد أفطر لعذر أو لغير عذر فيما ذكره أصحابنا.
    298 - لما روي عن عائشة؛ قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان, فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان, وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الجماعة.

    وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان فكانت تقضيه في شعبان.
    قال أبو عبد الله: يقضي رمضان كيف شاء, إن شاء متوالياً, وإن شاء متفرقاً, كيف تيسر, ليس هو محدود, إنما هو دين.
    ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً, إن كان فاته متتابعاً, وإن فاته متفرقاً. . . .
    وإن قضاه مفرقاً؛ جاز ولم يكره.
    وعنه: هما سواء؛ لقوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] , ولم يقيدها بالتتابع, فيجب أن تحمل على الإِطلاق؛ كالمطلقة في قوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 195].
    299 - قال أحمد: قال ابن عباس في قضاء شهر رمضان: «صم كيف شئت, قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}».
    ولأنه يريد اليسر بعباده, وقد يكون التفريق أيسر.
    300 - قال مجاهد في الرجل يكون عليه صيام من رمضان أيفرق صيامه أو يصله؟ فقال: «إن الله أراد بعباده اليسر؛ فلينظر أيسر ذلك عليه, إن شاء وصله, وإن شاء فرقه».
    ولأنه اعتبر إكمال العدة فقط, وإكمال العدة يحصل بالتقطيع والصلة.
    301 - فإن قيل: فقد روى مالك, عن حميد بن قيس؛ قال: «كنت أطوف مع مجاهد, فجاءه إنسان يسأله عن صيام من أفطر في رمضان: أيتابع؟ فقلت: لا. فضرب مجاهد في صدري, ثم قال: إنها في قراءة أبي بن كعب متتابعات».
    والقراءة الشاذة تجري مجرى الخبر الواحد.
    302 - كقراءة عبد الله (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
    قيل: هذا الحرف منسوخ تلاوته وحكمه.
    303 - بدليل ما روي عن عائشة؛ قالت: «نزلت (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعاتٍ) , فسقطت متتابعات». رواه عبد الرزاق والدارقطني, وقال: إسناد صحيح.
    وأن مجاهداً قد صح عنه من غير وجه: أنه يجيز التفريق ويخبر بذلك عن جميع أهل مكة, وهو راوي هذا الحرف, فعلم أنه منسوخ.

    عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: «إن شاء فرق وإن شاء تابع». رواه الدارقطني, وقال: لم يسنده غير سفيان بن بشر.
    305 - وروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
    306 - وعن محمد بن المنكدر؛ قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال: «ذاك إليك, أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر». رواه الدارقطني, وقال: إسناد حسن؛ إلا أنه مرسل.
    307 - وعن جابر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقطيع صيام شهر رمضان؟ فقال: «أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضي الدرهم والدرهمين حتى يقضي, هل كان ذلك قضاء دينه (أو: قاضيه)؟». قالوا: نعم. رواه الدارقطني.
    ولأنه إجماع الصحابة.
    308 - فروى الدارقطني عن أبي عبيدة بن الجراح أنه سئل عن قضاء رمضان متفرقاً؟ فقال: «أحص وصم كيف شئت».


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •