تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 60

الموضوع: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 316الى صــ 330
    (21)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام

    309 - وعن معاذ بن جبل؛ قال: «أحص العدة واصنع كيف شئت».
    310 - وعن عمرو بن العاص؛ أنه قال: «فرق قضاء رمضان, إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}».
    311 - وعن رافع بن خديج: أنه كان يقول: «أحص العدة وصم كيف شئت».
    312 - 313 - وعن ابن عباس وأبي هريرة؛ قالا: «لا بأس بقضاء رمضان متفرقاً».

    314 - وروى سعيد عن أنس بن مالك: أنه سُئل عن قضاء رمضان؟
    فقال: «إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ فإذا أحصى العدة؛ فلا بأس بالتفريق».
    315 - وعن مجاهد؛ قال: «أما نحن أهل مكة: فلا نرى بالتفريق بأساً».
    وهذه الآثار تعضد الأحاديث المتقدمة وتجعلها حجة عند من لا يقول بالمرسل المجرد.
    316 - وقد روي عن سالم عن ابن عمر: أنه كان يقول: «صمه كما أفطرته».
    317 - 318 - وعن ابن عباس: أنه كان لا يرى بالتفريق بأساً, وكان ابن عمر يقضيه متتابعاً.
    319 - وعن الحارث عن علي؛ قال: «من كان عليه صوم من رمضان؛ فليقضه متصلاً ولا يفرقه».
    وهذا محمول على الاستحباب؛ لأنه قد تقدم عن ابن عمر خلاف ذلك.
    وأيضاً؛ فإن القضاء لا يزيد على الأداء, وفعل الصوم أداء لا تجب فيه الموالاة؛ فإنه لو أفطر أثناء الشهر لعذر أو غيره؛ بنى على صومه وقضى ما أفطره؛ إذا لم يشترط الموالاة في الأصل؛ ففي البدل أولى.
    نعم؛ لما كان صوم الشهر واجباً وأيامه متوالية؛ وجبت الموالاة للفعل تبعاً للموالاة في الوقت؛ فإذا فات الوقت؛ سقطت الموالاة الواجبة فيه. . . .

    ولأن الصوم وإن وجب جملة؛ فهو دين في الذمة, وقضاء الدين يجزئ متتابعاً. . . , ولأنه إذا جاز تأخيره كله إلى شعبان؛ فتأخير بعضه أولى.
    الفصل الثاني: أنه ليس له أن يؤخره إلى رمضان آخر إلا لعذر؛ مثل أن يمتد به المرض أو السفر إلى أن يدخل الرمضان الثاني.
    فإن أخره إليه لعذر؛ صام رمضان الذي أدركه, وقضى الرمضان الذي فاته بعده, ولا شيء عليه.
    قال حرب: سألت أحمد: قلت: رجل أفطر في رمضان من مرض أو علة, ثم صحَّ ولم يقض حتى جاء رمضان آخر؟ قال: يصوم هذا اليوم الذي جاء, ويقضي الذي ترك, ويطعم لكل يوم مسكيناً. قلت: مُدّاً؟ قال: نعم.
    قال القاضي: نص عليه في رواية الأثرم والمروذي وحنبل.
    وإن امتدَّ العذر إلى آخر الرمضان الثاني؛ صام. . . .
    وإن أخره إلى الثاني لغير عذر؛ أتمَّ وعليه أن يصوم الذي أدركه ثم يقضي الأول ويطعم لكل يوم مسكيناً.
    وقيل: له أن يؤخره إلى الرمضان الثالث هنا. . . .
    وذلك لما احتج به أحمد.
    قال في رواية المروذي في الرجل يلحقه شهر رمضان وعليه شهر رمضان قبله: إن كان فرَّط؛ أطعم عن كل يوم مسكيناً, وإن كان لم يفرط؛ صام الذي أدركه وقضى بعدد ما عليه.
    320 - رواه عن الحكم, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس.
    321 - وعن أبي الخليل, عن عطاء, عن أبي هريرة.
    322 - وقيس بن سعد, عن عطاء, عن أبي هريرة.
    323 - وقد روى الدارقطني عن ابن عمر: أنه كان يقول: «من أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء؛ فليطعم مكان كل يوم مسكيناً مدّاً من حنطة».
    324 - وعن مجاهد, عن ابن عباس؛ قال: «من فرّط في صيام شهر رمضان حتى يدركه رمضان آخر؛ فليصم هذا الذي أدركه, ثم ليصم ما فاته, ويطعم مكان كل يوم مسكيناً».
    325 - وعن مجاهد, عن أبي هريرة؛ فيمن فرط في قضاء حتى أدركه رمضان آخر؛ قال: «يصوم هذا مع الناس, ويصوم الذي فرط فيه, ويطعم لكل يوم مسكيناً».
    326 - ورواه الدارقطني, عن عطاء, عن أبي هريرة, وقال: إسناد صحيح موقوف.
    327 - ورواه مرفوعاً من وجهٍ غير مرضي.
    328 - وقد ذكر يحيى بن أكثم: أنه وجد في هذه المسألة الإِطعام عن ستة من الصحابة لم يعلم لهم منهم مخالفاً, ولأن قضاء الرمضان مؤقت بما بين الرمضانين:

    لوجوه:
    329 - أحدها: ما رواه أحمد: عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يتقبل منه».
    لأن العبادات إما أن تجب مؤقتة أو على الفور؛ فإنها لا تكون على التراخي عندنا؛ كما نذكر إن شاء الله في الحج, فلما لم يجب قضاء رمضان على الفور؛ علم أنه مؤقت.
    وبهذا يتبين أن قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لولا حديث عائشة؛ لحُمل على الفور, وحديث عائشة إنما أفاد جواز التأخير إلى شعبان, وما زاد على ذلك؛ لا يعلم جواز التأخير فيه, ومطلق [الأمر] يقتضيه.
    وقد احتج أصحابنا بأن عائشة ذكرت أنها كانت تقضيه في شعبان؛ لبيان تضييق وقته في شعبان, وأنها كانت تؤخره إلى آخر وقته, فعُلِم أن وقت القضاء كان محصوراً, وأنها إنما أخرت القضاء شغلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم, وشعبان وغيره في الشغل سواء, فلولا تضيّق الوقت؛ لأخّرته.
    لكن يقال: إنما أخرته إلى شعبان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم في شعبان, فتتمكن من الصوم معه.
    وكذلك سياق الحديث يدل على ذلك.
    الثاني: أن الصوم قد وُسِّع وقته على المسافر والمريض, فهو بالخيرة بين أن يصوم فيه أو فيما بعده, وضيق على الصحيح المقيم.

    والعبادة الموسعة يخرج وقتها بدخول وقت مثلها؛ بدليل الصلاة.
    330 - قال صلى الله عليه وسلم: «ليس في النوم تفريط, إنما التفريط في اليقظة: أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى».
    فإذا كان هذا في الصلاة؛ فهو في الصوم أولى؛ لأن وقت الصلاة الثانية يتسع للصلاتين, ووقت الصوم الثاني لا يتسع لهما.
    ولأن الصوم قد استقر في ذمته أعظم من استقرار الصلاة بأول الوقت.
    الثالث: أنه إذا أخره إلى الرمضان الثاني عمداً؛ فقد أخره إلى وقت لا يمكنه فعله فيه, ويجوز أن يدرك ما بعد رمضان, ويجوز أن لا يُدركه, فأشبه تأخير الحج من عام وجوبه إلى العام الذي يليه.
    الرابع: أنه إذا أخره إلى رمضان الثاني؛ فإنه يلزمه أن يبدأ بالحاضر قبل الفائت, والعبادات المؤقتة من جنس واحد يجب أن يبدأ بأولها فأولها وجوباً كالصلاتين المجموعتين والفائتتين والجمرات إذا أخَّر رميها اليوم الثالث.
    الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم سمَّوه مفرطاً كما تقدم.
    والتفريط إنما يكون فيمن أخرها عن وقتها.
    وإذا ثبت أنه مؤقت؛ فقد ترك الصوم الواجب في وقته على وجه لا يوجب القضاء, فأوجب الفدية؛ كالشيخ الكبير والعجوز إذا تركا الصوم.
    ومعنى قولنا: «لا يوجب القضاء»: أنه لا يجب عليه صوم بترك الصوم بين الرمضانين, وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من أفطر عمداً؛ فإن نفس ذلك الترك أوجب القضاء فلا يوجب غيره.
    وفوات العين لا سبيل إلى جبرها أصلاً, وهنا الفطر في رمضان أوجب من القضاء, والصوم الواجب بين الرمضانين لا بد له من بدل.
    فإن قيل: فهلاَّ أوجب صوم يوم آخر.
    قيل. . . .
    ولأنها عبادة لا تفعل في العام إلا مرة.
    * مسألة:

    وأما إذا أخر القضاء لعذر؛ فإنه لم يجب عليه قضاؤه بين الرمضانين لوجود العذر, والصوم باقٍ في ذمته, فلا يجب عليه أكثر منه.
    331 - فإن قيل: فقد روى سعيد, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس: أنه كان يقول فيمن مرض في رمضان فلم يزل مريضاً حتى جاء رمضان آخر؛ قال: «يطعم للأول ويصوم للثاني, فإن كان صح بينهما أو فرط في صيامه؛ صام هذا الذي أدرك, وأطعم للأول وصامه أيضاً».
    وعن أبي هريرة وابن عباس نحوه.
    ولأنه قد فوت للعجز عنه على وجه لا يوجب عليه القضاء, فلم يكن عليه إلا الفدية؛ كالشيخ الكبير.
    قيل: قد تقدم عن أحمد أنه ذكر عنهما خلاف ذلك, ولأن القضاء قد وجب في ذمته, وفوات وقته لا يقتضي سقوطه كفوات وقت الأداء.
    * فصل:
    فإن كان قد أمكنه قضاء بعض ما فاته دون بعض؛ لزمه الإِطعام عن قدر ما أمكنه قضاؤه؛ لأنه هو الذي فرط فيه, فلم يلزمه إلا فديته؛ كما لو أفطر في رمضان أياماً؛ لم يلزمه إلا قضاؤها, والإِطعام قبل القضاء. . . .
    * مسألة:
    فإن أخره إلى رمضان ثالث؛ لم يلزمه أكثر من كفارة أخرى, مع الإِثم:
    لأنه قد لزمه كفارة بتأخيره عن وقته, فلم يلزمه كفارة أخرى بزيادة التأخير؛ كمل لو أخَّر قضاء الحج من عام إلى عام.
    ولأن وقت القضائين رمضان الأول ورمضان الذي يليه, فإذا فات وقته؛ لم يبق للقضاء وقت محصور؛ فلا شيء بتأخيره.
    فإن لم يفرط حتى أدركه الرمضان الثاني, ثم قدر على القضاء, ففرط فيه حتى دخل الرمضان الثالث؛ فهنا ينبغي أن تلزمه الكفارة.
    * فصل:
    ومن عليه قضاء رمضان, لا يجوز أن يصوم تطوعاً.
    وكذلك مَنْ عليه صوم واجب غير القضاء يجب أن يبدأ به قبل التطوع, فإن اجتمع عليه كفارة وقضاء أو نذر. . . .

    وعلى هذا؛ فلا يكره قضاء رمضان في العشر, بل لا يجوز له أن يصوم فيه التطوع قبل القضاء. هذا إحدى الروايتين.
    قال أحمد في رواية حنبل: يقضي رمضان في العشر.
    لأنه لا يجوز له أن يصوم تطوعاً [وعليه] فرض, فيقضي رمضان كيف شاء إلا يوم الفطر والأضحى.
    وإذا نذر أن يصوم وعليه أيام من رمضان؛ يبدأ بالفرض قبل التطوع.
    وإذا كان عليه نذر؛ صامه بعد الفرض.
    قال أحمد: رواية ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يقبل منه».
    ورواه في «المسند»؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يتقبل منه حتى يصومه».
    والفتيا المذكورة فيما بعد عن أبي هريرة تؤيد هذا المسند, واحتجاج أحمد به يدل على أنه من جيد حديث ابن لهيعة.

    332 - ولأن في وصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: «اعلم أنه لا تقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة».
    333 - وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما تقدم في الصلاة. لأنها عبادة [لا] يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها ممن عليه فرضها؛ كالحج.
    ولأنه إنما جاز له تأخير القضاء رفقاَ به وتخفيفاً عنه؛ فلم يجز له أن يشتغل عنه بغيره كالأداء؛ فإنه لو أراد المسافر أن يصوم في رمضان عن غيره؛ لم يجز له ذلك.
    فعلى هذا: إذا اجتمع عليه نذر مطلق وقضاء رمضان؛ بدأ بقضاء رمضان. نص عليه لأن وجوبه آكد.
    ولهذا يبدأ بقضاء الحجة الفاسدة قبل النذر.
    ونقل عنه أبو الحارث: إذا نذر صيام أيام, وعليه من صوم رمضان؛ بدأ بالنذر.
    وحمل ذلك القاضي وابن عقيل وغيرهما على أن الأيام المنذورة معينة.
    ويتوجه: أن يقر على ظاهره؛ لأن وفاء النذر يجب على الفور, وقضاء رمضان مؤقت بما بين الرمضانين؛ فأشبه ما لو دخل عليه الزوال وعليه صلاة منذورة.

    والثانية: يجوز أن يتطوع قبل القضاء.
    لأن عائشة أخبرت أنها كانت تقضي رمضان في شعبان, ويبعد أن لا تكون تطوعت بيوم, مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال: لا يفطر, ويفطر حتى يقال: لا يصوم, وكان يصوم يوم عرفة وعاشوراء, وكان يكثر صوم الاثنين والخميس, وكان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
    ولأن القضاء مؤقت, فجاز التنفل قبل خروج وقته؛ كما يجوز التنفل أول وقت المكتوبة؛ بخلاف قضاء الصلاة؛ فإنه على الفور, وكذلك الحج هو على الفور.
    ثم الحج لا يمكنه الخروج من نفله, وليس لبعض الأعوام على بعض مزية, ولا يعود إلى العام المقبل؛ بخلاف التطوع.
    فعلى هذا: هل يكره رمضان فيه؟ على روايتين.
    الأولى: يكره.
    قال أحمد في رواية أبي طالب: لا يقضي رمضان في العشر.
    334 - يروى عن علي: «لا يقضى رمضان في العشر؛ لأنها عبادة».
    335 - وقد روى سعيد عن الحارث عن علي: «من كان عليه صوم من رمضان؛ فليقضه متصلاً, ولا يفرقه, ولا يصوم في ذي الحجة؛ فإنه شهر نسك».
    336 - وعن الحسن عن علي؛ قال: «كره قضاء رمضان في العشر».
    ولأن صوم هذه الأيام بمنزلة السنن والرواتب, فكره تفويتها بالفرض الذي لا يخاف فوته؛ كما لو صلى الفجر والظهر قبل سننهما.
    والثانية: لا يكره.
    قال حرب: قيل لأحمد: يُقضى رمضان في العشر؟ فقال: «يُروى عن علي كراهته». وكان أحمد يسهل فيه.
    وتسهيله فيه يقتضي جوازه لا المنع من غيره؛ فإنه لو منع من غيره؛ لأوجب تقديمه.
    337 - لما روى عن عثمان بن عبد الله بن موهب؛ قال: «سأل أبي هريرة رجل, فقال: إني كنت أصوم هذه الأيام أيام العشر (يعني: ذي الحجة) , وإني مرضت في رمضان, وعليَّ أيام من رمضان, أفأصوم هذه الأيام؟ قال: ابدأ بحق الله عليك». رواه سعيد.
    338 - وتقدم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر.
    والأوجه: أن يجوز صومهما تطوعاً وقضاءً, والتطوع أفضل؛ كالسنن الراتبة في أول وقت الصلاة.
    ومن أصحابنا مَنْ بنى الروايتين في كراهة قضاء رمضان في العشر على الروايتين في وجوب تقديم القضاء على النفل.
    فإن قلنا: يجب تقديم القضاء؛ لم يكره قضاؤه في العشر.
    وإن قلنا: لا يجب تقديم القضاء؛ كره قضاؤه في العشر.
    والطريقة التي ذكرناها أصوب؛ كما دل عليه كلام أحمد وأصوله, وهو أنَّا إذا قلنا يجوز التطوع قبل القضاء؛ ففي كراهة قضاء رمضان فيه روايتان.
    وإذا قلنا: يجوز التطوع قبل القضاء؛ فلا معنى لكراهة القضاء فيه.


    مسألة:
    وإن ترك القضاء حتى مات لعذر؛ فلا شيء عليه, وإن كان لغير عذر؛ أطعم عنه لكل يوم مسكيناً؛ إلا أن يكون الصوم منذوراً؛ فإنه يصام عنه, وكذلك كل نذر طاعة.
    في هذا الكلام مسائل:

    المسألة الأولى: من استمر به العذر من سفر أو مرض حتى مات قبل إدراك رمضان الثاني أو بعده؛ فإنه لا شيء عليه من قضاء ولا كفارة.
    قال في رواية المروذي فيمن صام من رمضان خمسة عشر يوماً ثم مرض فعاش شهرين ومات: أطعم عنه كل يوم مسكيناً, وإن مات في مرضه؛ فلا شيء عليه».
    وقال حرب: سألت أحمد: قلت: رجل أفطر في رمضان في السفر, أو مرض, فلم يقضه, فمات؟ قال: إذا توانى في ذلك؛ يطعم عنه؛ إلا أن يكون من نذر. قلت: فإن كان من نذر؟ قال: يصام عنه. قال: أقرب الناس إليه أو غيره؟ قال: نعم.
    وقال في رواية عبد الله في رجل مرض في رمضان: إن استمر به المرض حتى مات؛ فليس عليه شيء, وإن كان نذر؛ صام عنه وليه إذا هو مات.
    وقد أطلق في رواية الأثرم: إذا مات وعليه نذر؛ يصام عنه, ولو مات وعليه صوم رمضان؛ يطعم عنه.
    لأنه لم يجب عليه الصوم قضاءً ولا أداءً, فلم تجب عليه الكفارة, كالمجنون والصبي. فإن قيل: فالمريض الذي لا يرجى برؤه قد أوجبتم عليه الكفارة, وهذا أسوأ أحواله أن يكون بمنزلته.
    ثم الوجوب في الذمة لا يشترط فيه التمكن من الفعل كالصلاة والزكاة؛ فإذا استقر وجوب الصلاة والزكاة أيضاً في الذمة قبل التمكن؛ فكذلك الصوم أولى, وإذا استقر في ذمته؛ فلا بد من الكفارة بدلاً عن ذلك الواجب.
    قلنا: المريض الميئوس منه قد عزم على الفطر في الحال والمآل, ولهذا لم يجب الصوم في ذمته, ولا يجب عليه القضاء البتًّة, ولا بد من البدل, وهو الفدية.
    وأما المريض المرجو والمسافر؛ فهما عازمان على القضاء بشرط القدرة, فلا يجمع عليهما واجبان على سبيل البدل. . . .
    وأما استقرار العبادات في الذمة قبل التمكن؛ فكذلك نقول في الصوم: إنه بإدراك الشهر استقر الوجوب في ذمته, لكن هذه الواجبات في الذمة قبل التمكن معناها إيجاب القضاء عند التمكن, فأما إذا لم يتمكن من القضاء؛ فإنه يموت غير آثم بلا تردد.
    كما لو حاضت في أثناء الوقت وماتت قبل الطهر, أو تلف النصاب قبل التمكن من الإِخراج, وليس له ما يخرج غيره, ومات قبل اليسار, ونحو ذلك.
    وذلك لأن تكليف ما [لا] يطيقه العبد الطاقة المعروفة غير واقع في الشرائع, فالتكليف في العبادة لا بد فيه من القدرة في الحال والمآل, وأما مع انتفائهما؛ فمحال.

    المسألة الثانية: إذا فرط في القضاء حتى مات قبل أن يدركه الرمضان الثاني؛ فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكين.
    وهل يأثم ويكون هذا الإِطعام بمنزلة ما لو مات ولم يحج؛ لقوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] , وهذا قد أطاق الصوم ولم يصمه أداءً ولا قضاءً, فتجب عليه الفدية بظاهر الآية؟
    يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} , بعد قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فيفيد ذلك أنه يَعمُّ منْ أطاق الصوم في رمضان وأفطر, ومَنْ أطاق الصوم في أيام أخر فلم يصم.
    ثم نسخ الأول يوجب نسخ الثاني؛ لأنه إنما نسخ التخيير, أما وجوب الفدية مع الفطر الذي لا قضاء فيه, فلم يُنسخ البتَّة.
    339 - لما روى أشعث, عن محمد, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام شهر رمضان؛ فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً». رواه ابن ماجه والترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, والصحيح عن ابن عمر موقوف. قال: وأشعث هو ابن سوَّار, ومحمد هو ابن أبي ليلى.
    ورواه الأثرم وأبو بكر, [كلاهما عن قتيبة, عن عمر بن القاسم, عن أشعث].

    340 - وعن عبد العزيز بن رفيع, عن عمرة امرأة منهم؛ قال: توفيت أمها وعليها أيام من رمضان, فسألت عائشة رحمها الله أن تقضيه عنها؟ قالت: «لا؛ بل أطعمي مكان كل يوم مسكيناً». رواه سعيد.
    341 - وعن ميمون بن مهران: أن ابن عباس سُئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان؟ قال: «أما رمضان؛ فيطعم عنه, وأما النذر؛ فيصام عنه». رواه أبو بكر.
    ورواه الأثرم وأبو بكر, [كلاهما عن قتيبة, عن عمر بن القاسم, عن أشعث].
    340 - وعن عبد العزيز بن رفيع, عن عمرة امرأة منهم؛ قال: توفيت أمها وعليها أيام من رمضان, فسألت عائشة رحمها الله أن تقضيه عنها؟ قالت: «لا؛ بل أطعمي مكان كل يوم مسكيناً». رواه سعيد.
    341 - وعن ميمون بن مهران: أن ابن عباس سُئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان؟ قال: «أما رمضان؛ فيطعم عنه, وأما النذر؛ فيصام عنه». رواه أبو بكر.

    342 - 343 - وعن ابن عباس وابن عمر مثله.
    ولا يُعرف لهم في الصحابة مخالف.
    344 - وعن ابن عباس؛ قال: «إذا مرض الرجل في رمضان, ثم مات ولم يصم؛ أُطعِم عنه, ولم يكن عليه قضاء, وإن نذر؛ قضى عنه وليه». رواه أبو داوود.
    ولأنه قد وجب القضاء في ذمته, واشترطت له الفدية في المال؛ فإذا قدر عليه لم يكن بدٌّ من إيجاب الفدية؛ لأن الصوم الواجب لا يخلو من فعله أو فعل الفدية.
    فإن قيل: قضاء رمضان موسَّع, والعبادة الموسعة إذا مات في أثناء وقتها؛ لم يكن آثماً؛ بدليل الصلاة, ومنْ لا إثم عليه؛ لا فدية عليه.
    قلنا: نعم؛ إذا لم يغلب على ظنه الموت قبل القضاء؛ لم يأثم, وإن غلب على ظنه الموت قبله؛ أثم؛ كما قلنا في الصلاة, لكن الفدية تجب بدون الإِثم؛ كما تجب على الشيخ الكبير والمريض الميؤوس منه؛ لأنه بدل عن الصوم الواجب.
    وإنما كان البدل هو الإِطعام؛ لما ذكرنا من الآية والحديث وإجماع الصحابة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 331الى صــ 345
    (22)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    345 - فإن هؤلاء الذين قالوا: يطعم عنه, هم الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الولي يصوم عنه مولِّيه» , وبينوا أنما هو النذر كما سيأتي.
    ولأن الصوم المفروض قد جعل الله له بدلاً في الحياة, وهو الإِطعام, فوجب أن يكون له بدلاً بعد الموت مثل بدله في الحياة؛ كسائر الفرائض.
    فإن معنى البدل لا يختلف بالحياة والموت, ولهذا لمَّا كان البدل في الحج عن المعضوب أن يحج عنه غيره؛ كان البدل في الميت أن يحج عنه غيره.

    ولأن إيجاب الله إنما هو ابتلاء وامتحان للمكلف, وهو المخاطب بهذا الفرض, وكل ما كان أقرب إليه؛ كان أحق بأداء الفرض منه مما هو أبعد منه.
    فإذا كان قادراً ببدنه؛ لم يجز أداؤه بماله, وإذا كان قادراً بماله؛ لم يجز أداؤه ببدن غيره؛ لأن ماله أحق بأداء الفرض منه منْ بدن غيره.
    فلو جاز أن يصوم عنه الولي؛ لكان قد أدى الفرض ببدن غيره دون ماله. . . .
    ولأن الله قد أوجب عليه الصوم, والولي لا يوجب عليه شيئاً يكله إلى غيره, وإذا أوجبنا من ماله؛ كان ديناً في التركة.
    فعلى هذا: إن كان له تركة؛ أطعم عنه تركته, فإن أطعم رجل عنه من غير ماله بإذن الولي أو بغير إذنه, أو لم يكن له مال, فتبرع رجل بالإِطعام عنه. . . .
    فإن لم يكن له تركة, فأحب أحد أن يصوم عنه, فقال القاضي: لا يجزئ الصوم عنه, ويحتمل كلام أحمد أنه يجزئ؛ لأنه سمَّاه ديناً.

    * فصل:
    فإن فرط حتى أدركه رمضان الثاني قبل أن يصوم, ومات في أثناء ذلك الرمضان أو بعده قبل أن يصوم:
    فقال القاضي في «المجرد» وأصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب: يطعم عنه لكل يوم مسكيناً؛ لأنه قد وجب عليه القضاء والكفارة لو عاش؛ فإذا مات قبل القضاء؛ لزمه عنه كفارتان: كفارة لتأخير القضاء, وكفارة لتفويته.

    ولا فرق على هذا بين أن يفوت بين وقت القضاء برمضان واحد أو رمضانات.
    والمنصوص عن أحمد: أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة؛ لأنه لا يجب في اليوم الواحد بدلان من جنس واحد؛ كما لم يجب في شيء من الأيام صوم يومين, ولأنه إذا أدرك رمضان الثاني؛ فإنما وجبت عليه الكفارة لترك القضاء في وقته, وهذا بعينه هو المقتضي لوجوب الكفارة بالموت, وإذا كان السببان من جنس واحد؛ تداخل موجبهما.
    المسألة الثالثة: أن الصوم المنذور إذا مات قبل فعله؛ فإنه يصام عنه, بخلاف صوم رمضان وصوم الكفارة, وسواء كان معيناً أو مطلقاً.
    هذا منصوص أحمد في غير موضع, وهو قول عامة أصحابه.

    وقال ابن عقيل: عندي أن الصوم لا يفعل عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة للعجز؛ فكذلك بعد الموت؛ كالصلاة, وعكسه الحج.
    346 - لما روى سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر, أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟». قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك». رواه الجماعة إلا أبا داوود.
    347 - وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي: أن امرأة ركبت البحر, فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهراً, فأنجاها الله, فلم تصم حتى ماتت, فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرت ذلك, فقال: «صومي عنها».
    348 - وفي رواية ابن ماجه والترمذي؛ قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين؟ قال: «أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟». قالت: نعم. قال: «فحق الله أحق». قال الترمذي: حديث حسن.
    349 - وفي رواية متفق عليها: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! أمي ماتت وعليها صوم شهر, أفأقضيه عنها؟ فقال: «لو كان على أمك دين أكنت تقضيه عنها؟». قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى».
    فهذه الرواية المطلقة منهم من يقول: «رجل» , ومنهم من يقول: «امرأة» , وأكثرهم يقول: «أمي»؛ قد فسِّرت في الروايات المتقدمة أن الصوم كان نذراً.

    350 - ورواية من روى شهرين متتابعين كأنها وهم.
    351 - وعن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس: أن سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه, فقال: «اقضه عنها». رواه الجماعة.

    وفي لفظ: استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقضه عنها». فكانت سنة بعد.
    352 - وعن عائشة؛ قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه». متفق عليه.
    353 - وعن بريدة بن الحصيب قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أتته امرأة, فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية, وإنها ماتت. فقال: «وجب أجرك, وردها عليك الميراث». فقالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر, أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها». قالت: إنها لم تحج قط, أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». رواه أحمد ومسلم وأبو داوود والترمذي وصححه.
    354 - وفي رواية لمسلم: صوم شهرين.
    فهذه الأحاديث نصوص في أن النذر يصام عن الميت, وظاهر بعضها أن جميع الصوم كذلك؛ لأن حديث عائشة عام, وفي حديث بريدة وبعض ألفاظ ابن عباس: أنها قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر؛ أفأصوم عنها؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم عنها, ولم يستفصل هل من رمضان أو غيره, وذَكر معنى يعم رمضان وغيره, وهو كونه ديناً, فإن صوم رمضان دين في ذمة من وجب عليه, ودين الآدمي يقضى عن الميت؛ فدين الله أحق, وجمع بينه وبين الحج في نسق واحد.
    لكن هذه الأحاديث إنما هي على وجهها في النذر:
    أما حديث ابن عباس: فقد صرح فيه بذلك, والمطلق منه محمول على المفسر؛ فإنه حديث واحد إسناداً ومتناً.
    وكذلك حديث بريدة: فإن قولها: «صوم شهر» بصيغة التنكير, تشعر بأنه غير رمضان, لا سيما رواية من روى: «شهرين».
    والذي يدل على ذلك أنه قد تقدم عن عائشة وابن عباس وعن ابن عمر موقوفاً ومرفوعاً: أنهم قالوا في صوم رمضان: لا يقضى عنه, بل يطعم عنه لكل يوم مسكيناً.
    وابن عباس وعائشة رويا هذين الحديثين وهما أعلم بمعنى ما رويا من غيرهما؛ فلو لم يكن معناه عندهما في غير رمضان؛ لما جاز لهما خلافه.

    وليس الحديث نصّاً حتى يعارض بين الرأي والرواية.
    وأما كونه ديناً؛ فصحيح, لكن وفاء الدين من تركة الميت وماله أولى من وفائه من بدن غيره, ولأن صوم رمضان لم يجب فيه الصوم عيناً, وإنما وجب الصوم مع القدرة والإِطعام مع العجز, فصار الدين عليه أحد شيئين.
    وهذا الواجب يصلح عن قوله: «وعليه صيام»؛ فإن العاجز عن قضاء رمضان ليس عليه صيام, وإنما عليه فدية؛ فالواجب عليه أحد شيئين, وفيه نظر.
    والفرق بين رمضان والنذر: أن النذر محله الذمة، وقد وجب بإيجابه, وهو لم يوجب على نفسه إلا الصوم فقط؛ فإذا فُعل عنه؛ فقد أُدِّيَ عنه نفس ما أوجبه, ولو أُطعِم عنه؛ لم يكن قد أُدِّيَ عنه الواجب.
    ولهذا يصح أن ينذر ما يطيقه وما لا يطيقه؛ فإذا عجز عنه؛ فهو في عهدته.
    والصوم إنما أوجبه الله سبحانه على بدن المكلف؛ فإذا عجز؛ ففي ماله, فإذا عجز عن الأصل؛ انتقل إلى البدل الذي شرعه الله سبحانه.
    ولهذا لم يوجب الله عليه من الصوم إلا ما يطيقه, وكذلك كل صوم وجب بإيجاب الله؛ فإنه بدله الإِطعام, وإن كان سبب وجوبه من المكلف كصوم الكفارة؛ بخلاف النذر.
    نص عليه احمد في رواية ابن منصور فيمن مات وعليه صيام من دم التمتع أو كفارة يطعم عنه.
    وكذلك نقل حنبل عنه فيمن مات وعليه نذر صيام شهر؛ صام عنه؛ فإن مات وعليه صيام شهر من كفارة؛ يطعم عنه, النذر فيه الوفاء.
    وكذلك نقل المروذي صوم السبعة.
    * فصل:
    ويصام النذر عنه, سواء تركه لعذر أو لغير عذر.
    قال القاضي: أومأ أحمد إلى هذا في رواية عبد الله والميموني والفضل وابن منصور.
    قال في رواية عبد الله في رجل مرض في رمضان: إن استمر المرض حتى مات؛ ليس عليه شيء؛ فإن كان نذر؛ صام عنه وليه إذا هو مات.
    لأن النذر محله الذمة, وهو أجبه على نفسه, ولم يشترط القدرة, والله سبحانه قد شرط فيما أوجبه على خلقه القدرة.
    ولهذا قد يجب على الإِنسان من الديون بفعل نفسه ما يعجز عنه, ولا يجب عليه بإيجاب الله عليه إلا ما يقدر عليه.

    ولهذا لو تكفَّل من الدين بما لا يقدر عليه؛ لزمه في ذمته.
    وعلى هذا؛ فلا فرق بين أن ينذر وهو مريض فيموت مريضاً, أو ينذر صوم شهر ثم يموت قبل مضي شهر.
    وقد ذكر القاضي في موقع من «خلافه» وابن عقيل: أنه لا يلزم أن يقضي عنه من النذر إلا ما أمكنه أن يفعله صحيحاً مقيماً؛ اعتباراً بقضاء رمضان.

    فأما إذا نذر الحج وهو لا يجد زاداً ولا راحلة بعد ذلك:
    فقال القاضي: إن وجد في الثاني؛ لزمه الحج بالنذر السابق, وإن لم يجد؛ لم يلزمه؛ كالواجب بأصل الشرع؛ كما قلنا في الصوم سواءً.
    فإن لم يكن له تركة يصام عنه منها؛ لم يلزمه صوم ولا حج, ويكون بمنزلة مَنْ عليه دين ولم يخلف وفاء.
    وهذا الصوم لا يجب على الولي, بل يخير بين أن يصوم وبين أن يدفع من [يطعم] عن الميت عن كل يوم مسكيناً إن كان له تركة, فإن لم يكن له تركة؛ لم يلزم الوارث. قاله القاضي في «خلافه».
    فعلى هذا: لو تبرع الولي أو غيره بالإِطعام عنه دون الصيام. . . .
    وقال في «المجرد» وابن عقيل وغيرهما: هذا القضاء لا يلزم الورثة, كما لا يلزمهم أن يقضوا دينه, وإنما الكلام فيه: هل يصح قضاؤه عنه؟
    قال ابن عقيل: إذا قضوا عنه؛ صح, لكنه لا يلزمهم القضاء والصوم عنه الأقرب فالأقرب استحباباً. قال أحمد: يصوم أقرب الناس إليه ابنه أو غيره. وقال أيضاً: يصوم عنه واحد.
    قال القاضي: وظاهر هذا أنه لا يختص القضاء بجميع الورثة, بل يصوم أحدهم, وهو الأقرب فالأقرب.
    وهل تعتبر الولاية والقرابة؟. . . .
    ف|إن صام غير الولي عنه بإذنه؛ جاز, وإن صام بغير إذنه؛ جاز أيضاً فيما ذكره القاضي, كما لو كان عليه دين يصح أن يقضيه الولي وغيره, وظاهر كلام أحمد. . . .
    قال في رواية حنبل: إذا نذر أن يصوم شهراً, فحيل بينه وبين ذلك من مرض أو علة حتى يموت؛ صام عنه مليه النذر, وأطعم لكل يوم مسكيناً لتفريطه.
    وإن عجز عن الصوم المنذور لكبر أو مرض لا يرجى برؤه:
    فقال: لا يمتنع أن نقول: يصح الصوم عنه كما نقول في الحج إذا عجز عنه في حال الحياة: يحج عنه.
    وقال الخرقي: يطعم عنه ولا يصام عنه.
    وعلى هذا؛ فلا كفارة فيه.
    والمنصوص عن أحمد: وجوب الكفارة والإِطعام؛ لأن التعيين قد فات.
    قيل: ليس فيه إلا كفارة يمين فقط
    * مسألة:
    وإن نذر الصوم في حال الكبر واليأس من البرء.
    فقيل: لا ينعقد نذره.
    وظاهر المذهب: أنه ينعقد موجباً لما يجب إذا نذر ثم عجز عن الكفارة والإِطعام أو عن أحدهما.
    * فصل:
    وإذا صام عنه أكثر من واحد في يوم:
    فقال أحمد في رواية أبي طالب, وقد ذكر له فيمن كان عليه صوم شهر: هل يصوم عشرة أنفس شهراً؟
    355 - فقال: طاووس يقول ذلك. قيل له: فما تقول أنت؟ قال: بصوم واحد.

    قال القاضي: فمنع الاشتراك؛ كالحجة المنذورة تصح بالنيابة فيها من واحد ولا تصح من الجماعة.
    وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يصوم عنه جماعة في يوم واحد, ويجزئ عن عدتهم من الأيام, وحُمِل كلام أحمد على نذر مقتضاه التتابع؛ لأن لفظ الشهر في إحدى الروايتين يقتضي التتابع.
    المسألة الرابعة: إذا نذر غير الصوم من عتقٍ أو صدقة أو هدي أو حج؛ فإنه يجوز أن يفعله عنه وليه, روايةً واحدة, أوصى أو لم يوص.

    356 - لما روى عبد الله بن عمرو: أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مئة بدنة, وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين, وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: «أما أبوك؛ فلو أقرَّ بالتوحيد, فصمت عنه وتصدقت؛ نفعه ذلك». رواه أحمد.
    357 - وعن سعيد بن جبير, عن ابن عباس؛ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن أختي نذرت أن تحج, وإنها ماتت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟». قال: نعم. قال: «فاقض الله؛ فهو أحق بالقضاء». رواه أحمد والبخاري.
    358 - وفي لفظ للبخاري: إن أمي نذرت أن تحج, فلم تحج حتى ماتت, أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها, أرأيت لو كان على أمك دين؛ ألست قاضيه؟». قالت: نعم. قال: «اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء».
    ولأن هذه الأمور يجوز أن تفعل عنه من هذه العبادات ما وجب بالشرع بعد موته بدون إذنه؛ فلأن يفعل عنه ما وجب بالنذر أولى وأحرى.
    وأما الصلاة المنذورة والقرآن والذكر والدعاء؛ فهل يفعل بعد الموت؟
    على روايتين:
    أحدهما: لا يجوز.
    لأنه لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال, فلم تجب النيابة فيها بعد الموت؛ كالأيمان.
    ولأنه لا مدخل للبدل في المشروع منها, فلم يدخل في المنذور.
    ولأن العبادات المنذورة يحتذى بها حذو العبادات المشروعة, ولا يجوز أن تفعل بالنذر ما لم يكن له أصل في الشرع, وعكسه الصوم؛ فإن للبدل فيه مدخلاً؛ كما ذكره الشيخ.

    والثانية: يفعل عنه بعد الموت.
    وهو اختيار أبي بكر والخرقي.
    قال القاضي: وهو الصحيح؛ لما رَوَى ابن عباس.
    359 - ولأن سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه؟ قال: «اقضه عنها». رواه الجماعة.
    ولا يخلو إما أن يكون سعد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى هذا السؤال ولم يستفصله, فيكون كأنه قال: إذا كان عليها نذر؛ فاقضه عنها؛ لأن السؤال كالمعاد في الجواب, وهذا عام مطلق في جميع النذور.
    أو يكون قد سأله عن نذر معين من صوم ونحوه, فيكون إخبار ابن عباس: أنه أمره أن يقضي عنها النذر, ولم يعين ابن عباس أي نذر, هو دليل على أنه فهم أن مناط الحكم عموم كونه نذراً, لا خصوص ذلك المنذور, وأن كل النذور مستوية في هذا الحكم, وابن عباس أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ومقصوده.
    وأيضاً؛ فقد جاء مفسراً من حديث ابن عباس:
    360 - أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر رجلاً وامرأة أن تقضي نذر صوم كان على أمه وأخته».
    ووجَّهه النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا دين من الديون, وأن الله أحق أن يوفى دينه, وأحق أن يقبل الوفاء, وهذه علة تعم جميع الديون الثابتة في الذمة لله.
    وأيضاً؛ فإنه لا فرق بين الصلاة والصيام؛ فإنها عبادة بدنية لا يجوز الاستنابة في فرضها بحال, والصوم كذلك؛ فإذا جاز قضاء الصوم المنذور عينا؛ فكذلك الصلاة المنذورة, نعم؛ الصوم دخلت النيابة فيه بالمال بخلاف الصلاة, لكن هذا لا أثر له في دخول النيابة ببدن الغير؛ فإنهما مستويان فيه.
    وأيضاً؛ فإن النذور محلها ذمة العبد, فصارت. . . .

    وأما الاعتكاف:
    فالمنصوص عن أحمد في رواية ابن إبراهيم وحنبل: إذا نذر أن يعتكف, فمات قبل أن يعتكف؛ ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه.
    وكذلك قال أصحابنا, ولم يذكروا خلافاً؛ إلحاقاً له بالصوم؛ فإنه به أشبه منه بالصلاة.
    وعلى قول ابن عقيل في منع النيابة في الصوم يمتنع في الاعتكاف.
    361 - وقد روي عن عامر بن مصعب؛ قال: «اعتكفت عائشة عن أخيها بعدما مات». رواه سعيد.
    وإذا نذر فعل طهارة:
    فقال القاضي وابن عقيل: لا تفعل عنه؛ لأنها غير مقصودة في نفسها.
    باب ما يفسد الصوم
    مسألة:
    ومن أكل أو شرب أو استعط أو وصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر حتى أنزل أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه؛ فسد, وإن فعله ناسياً أو مكرهاً؛ لم يفسد.
    في هذا الكلام فصول:
    أحدها: أن الصوم يفسد بالجماع كما تقدم.
    ويفسد بالأكل والشرب؛ فإن حقيقة الصوم هو الإِمساك عن الأكل والشرب والجماع توابع لذلك.
    وهذا من العلم العام المستفيض الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف.
    والأصل فيه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ. . .} إلى قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ. . .} الآية [البقرة: 187].

    فأذن في الرفث والأكل والشرب إلى تبين الفجر, وأمر بإتمام الصيام عن هذه الأشياء إلى الليل.
    362 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي».
    363 - وقال: «من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». متفق عليه.
    وسواء في ذلك جميع المأكولات والمشروبات من الأغذية والأدوية وغيرها؛ مثل الثلج والبرد.
    وسواء في ذلك الطعام والشراب المعتادان, اللذان يحصل بهما الاقتيات وغيرهما.
    ولو استفَّ تراباً أو ابتلع حصاة؛ أفطر.

    قال أحمد في رواية أبي الصقر: إذا بلع الصائم خاتماً أو ذهباً أو فضة أو جوزة بقشرها أو خرزة أو حبة لؤلؤ أو طيناً متعمداً؛ فعليه القضاء ولا كفارة, ولا قضاء عليه ما لم يتعمد.
    364 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتِّقاء الكحل الذي يدخل من العين إلى الحلق, وليس في الكحل تغذية, فعلم أنه لا يشترط في الداخل أن يكون مما يغذي في العادة.
    الفصل الثاني: أن الواصل إلى الجوف يفطر من أي موضع دخل, لا يختص ذلك بمدخل دون مدخل, كما لم يختص بداخل دون داخل في ذلك.
    ولا بُد عند أصحابنا: أن يصل إلى البطن أو ما بينه وبين البطن مجرى نافذ.
    هذا كلام أحمد وعامة أصحابه, وهو الذي حرره القاضي في كتبه المعتمدة: أن المفطر وصول الواصل إلى الجوف من أي وضع كان.
    فإذا استعط بدهن أو ماء أو غيرها, بأن أدخله في أنفه, فوصل إلى دماغه؛ أفطر, سواء تيقن وصوله إلى حلقه وجوفه أو لم يتحققه؛ بناءً على أن بين الدماغ والجوف مجرى؛ فما يصل إلى الدماغ لا بد أن يصل إلى الحلق ويصل إلى الجوف, والحكمة إذا خفيت؛ أقيمت المظنة مقامها؛ كالنوم مع الحدث.
    وذكر القاضي في بعض المواضع وغيره: أن نفس الوصول إلى الدماغ مفطر؛ لأنه جوف يقع الاغتذاء بالواصل إليه, فأشبه الجوف.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 346الى صــ 360
    (23)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام


    والصواب الأول, لو لم يكن بين الدماغ والجوف منفذ؛ لم يفطر بالواصل إليه, وإن أنبت اللحم وغذّى؛ كما يقطر في الإِحليل, وكالكحل الذي تتغذَّى بع العين, وليس له نفوذ إلى الحلق؛ كالمراهم التي توضع في أعماق الجراح ونحوها؛ [فإن أنبت اللحم بها؛ فلا تفطر] , ولأن الغذاء الذي به البنية لا بد أن يحصل في المعدة.
    قال: في رواية أبي الصقر: إذا استعط, أو وضع على أسنانه دواء, فدخل حلقه؛ فعليه القضاء.

    وكذلك أطلق كثير من أصحابنا الاستعاط, وقال: إذا استعط بدهن أو غيره, ووصل إلى دماغه؛ أفطر [وعليه القضاء].
    365 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً».
    فلو لم يكن ما يدخل في الأنف مفطراً [كما يفطر ما يدخل في الفم]؛ لم ينهه عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائماً.
    ولأن العين تفطر بالداخل منها؛ فلأن يفطر بالداخل من الأنف أولى.
    لأن ما يدخل من الأنف يحصل به للبدن اغتذاء ونمو, وإن قلَّ؛ كما يحصل بالقليل من الطعام والشراب.
    فأما شم الأرواح الطيبة من البخور وغيره؛ فلا بأس به للصائم.

    قال أبو علي ابن البناء: ويكره أن يشم ما لا يأمن أن يجتذبه نفسه؛ كالمسك والكافور السحيق ونحوه.
    ومن ذلك الأذن: فإذا قطر في أذنه دهناً أو غيره, فوصل دماغه؛ أفطر.
    قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يخف أن يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه.
    ذكره أصحابنا, وهو قياس قول أحمد: فإنه يفطر بما يدخل من العين؛ فمن الأذن أولى.
    366 - وعن سعيد بن المسيب, عن علي بن أبي طالب؛ قال: «لا بأس أن يكتحل الصائم, ولكن لا يستعط, ولا يُصَيِّرْ شيئاً». رواه حرب.
    لأنه واصل إلى الدماغ فيفطر؛ كما لو وصل من الأنف والعين أولى.
    فعلى هذا: لا يكره أن يغتسل ويغوص [في] الماء ويغيب فيه. قاله القاضي وغيره.
    وكلام أحمد مقيد بما إذا لم يخف أن يدخل الماء مسامعه, وهو الصواب.
    ومن ذلك العين: فإذا اكتحل بما يصل إلى حلقه: إما لرطوبته كالأشياف, أو لحدَّته؛ كالذرور والطيب؛ أفطر.
    وإن شك في وصوله؛ فالأصل صحة الصوم, لكن لا يكتحل بما يخشى دخوله
    وقال القاضي وابن عقيل: يكره الكحل مطلقاً.
    قال في رواية حنبل في الكحل للصائم: إن كان فيه طيب يدخل حلقه؛ فلا.
    ولا يكتحل نهاراً؛ لأنه ربما وصل إلى حلقه, والطيب كذلك.
    والذرور يدخل إلى حلقه, فإن خشي على عينه؛ تعالَجَ ويقضي إذا لم يجد بُدّاً.
    وهذا عندنا على الجهد, ولا يعين على نفسه.
    وقال في رواية الأثرم: الصائم لا يكتحل بالصبر وما أشبهه, هذا يوجد طعمه, فأما الإِثمد؛ فما خفّ منه وجعله عند الإِفطار؛ فهو أسهل.
    وقال في رواية أبي الصقر: إذا علم أنه قد دخل؛ فعليه القضاء, وإلا؛ فلا شيء عليه.
    فقد بيَّن أن القضاء لا يجب إلا مع تيقن الدخول, وأمر باجتناب ما يخشى دخوله.
    367 - وذلك لما روى عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بالإِثمد المروَّح عند النوم, وقال: «ليتقه الصائم».
    رواه أبو داوود, وقال: قال لي يحيى بن معين: وهو حديث منكر, وعبد الرحمن: قيل: هو ضعيف, [وقال الرازي:] هو صدوق.
    وقد روي ما يصحح هذا الحديث:
    368 - فروى إسحاق بن راهوية, عن أبي نعيم, عن عبد الرحمن بن النعمان, عن أبي النعمان الأنصاري, عن أبيه, عن جده؛ قال: وكان جدي قد أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه, وقال: «لا تكتحل نهاراً وأنت صائم واكتحل ليلاً». قال أبو النعمان: جدي يقول: لا تكتحل نهاراً.
    قال إسحاق: الأمر فيه على ما قال جد أبي النعمان - وكانت له صحبة -: «لا تكتحل نهاراً وأنت صائم» , وهذا أصح شيء في هذا الباب, وذلك أن معناه حسن.

    ورواه [البخاري] , عن عبد الرحمن بن نعمان الأنصاري, عن أبيه, عن جده؛ قال: وكان جدي قد أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه, وقال: «لا تكتحل بالنهار وأنت صائم, واكتحل ليلاً بالإِثمد؛ فإنه يجلو البصر وينبت الشعر».
    فروايته عنه موقوفاً ومرفوعاً يدل على أن له أصلاً.
    وأيضاً؛ فإن الكحل الحاد يصل إلى الجوف, ويظهر الكحل بعينه إذا تنخعه الإِنسان على اللسان, فعلم أن في العين منفذاً يصل منه, وإذا كان فيها منفذاً وصل بالداخل منه كسائر المنافذ.
    وأيضاً؛ فإن الدمع يخرج من العين, والدمع محله الدماغ, فعلم أن في العين منافذ ينزل منها الدمع.
    فإن قيل: دخول الكحل وخروج الدمع من المسام التي في العين, والمسام ليست كالمنافذ التي يحصل الفطر بالداخل منها, بدليل أنه لو اغتسل بالماء أو دهن رأسه أو طيب بدنه؛ فإنه يجد في حلقه برودة الماء وطعم الدهن ولا يفطر, والعرق يخرج من هذه المسام كما يخرج الدمع من العين.
    قيل: الداخل من العين جسم الكحل, وهو الذي يوجد عند التَّنخع, فأما الذي يجده من الدهن والماء؛ فإنما هو برده وطعمه, وذلك العرض الذي فيه لا جسمه, والعرق يخرج من ظاهر الجسد لا من باطنه, فصار كما لو كان بدنه مجروحاً, فداواه بدواءٍ؛ فإن المفطر لا بد أن يدخل إلى داخل البدن, والكحل بهذه المثابة؛ بخلاف الدهن والماء ونحوهما.
    369 - فإن قيل: فقد روى أبو عاتكة, عن أنس بن مالك؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: اشتكت عيني, أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: «نعم». رواه الترمذي, وقال: إسناده ليس بالقوي, ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء, وأبو عاتكة ضعيف.

    370 - وعن بقية بن الوليد؛ قال: ثنا الزبيدي, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة؛ قالت: «اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم». رواه ابن ماجه.
    371 - وقد تقدم عن علي: أنه قال: «لا بأس أن يكتحل الصائم».
    372 - وعن عبد الله بن أبي بكر؛ قال: «كان أنس بن مالك يكتحل وهو صائم». رواه أبو داود وغيره.

    قيل: أما المرفوع؛ فضعيف, وحديث أنس وعائشة قضية في عين.
    والظاهر أن الكحل كان مما لا يدخل إلى الحلق؛ لأنه فسر في الحديث الذي تقدم أنه أمر بالإِثمد المروح؛ الذي فيه طيب تبدو رائحته, ففرق بين المروح وغيره.
    قال ابن أبي موسى: وإن اكتحل باليسير من الإِثمد غير المطيب بالمسك ونحوه؛ لم يفطر.
    373 - وقد روي عن ابن رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ونزلت معه, فدعا بكحل إثمد غير ممسك, واكتحلت معه في رمضان».

    ومن ذلك: الدبر؛ فلو احتقن أو أدخل دهناَ أو غيره إلى مقعدته؛ أفطر.
    فأما إن قطر في إحليله؛ فقال أصحابنا: لا يفطر.
    قال أحمد في رواية أحمد بن الحسين في الرجل يصيب في إحليله الدهن بالدواء: أرجو أن لا يكون عليه شيء ما لم يصل إلى البطن.
    والأشياف في المقعدة يصل إلى البطن, وهذا خلاف ذاك.
    فعلى هذا يكره أن يكتحل. قاله القاضي؛ لأنه يخاف من الفطر.
    والصحيح: أنه إذا غلب ظنه أنه لا يصل إلى حلقه؛ لم يكره؛ فقد فرق بين القُبُل والدبر بأن ما يدخل الدبر يصل إلى البطن؛ بخلاف ما يدخل [من] الإِحليل.
    قال: أصحابنا الفطر إنما هو بما يصل إلى البطن أو إلى ما بينه وبين الطريق طريق؛ لأن الصوم هو الإِمساك عن الأكل والشرب ونحوهما مما يصل إلى المعدة, والواصل من العين والأذن يصل إلى الدماغ, وبين الدماغ والبطن مجرى يصل منه إلى البطن, وليس بين المثانة مجرى إلى الجوف, وما يحصل منها من البول؛ فإنما يحصل بالرشح كالعرق يخرج من البدن, فإذا لم يصل منها إلى الجوف؛ لم يفطر؛ كمن أخذ في فمه ماءً لم يفطره؛ فإن علم أنه رشح منه شيء إلى البطن؛ فهل يكون كالعين؟. . . .
    فإن أدخل في دبره عوداً أو بقي طرفه خارجاً, أو ابتلع خيطاً طرفه بيده, ثم أخرجه, فقال أصحابنا: يفطر.
    وظاهر كلامه في العود يدخل البطن. . . .
    قال ابن أبي موسى: ومن داوى جرحه بيابس أو رطب, فوصل إلى جوفه؛ أفطر.
    ومن ذلك أن يداوي المأمومة أو الجائفة بدواء يصل إلى الجوف لرطوبته, فأما [الدواء اليابس]؛ فهو لا يصل إلى الجوف في العادة, فإن وصل إليه؛ فهو والرطب سواء؛ لأنه لا فرق بين الواصل من المخارق المعتادة وغير المعتادة. . . .
    فإن جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه؛ أفطر, سواء استقر النصل في جوفه أو لم يستقر؛ لأنه ذاكر لصومه وصل إلى جوفه باختياره ما أمكنه الاحتراز منه.
    وإن جرح بغير اختياره, فوصل إلى جوفه؛ لم يفطر. هذا قول [أصحابنا] القاضي وغيره.

    * فصل:
    فإن تجوَّف جوف في فخذه أو يده أو ظهره أو غير ذلك, وليس بينه وبين البطن منفذ, فوضع فيه شيء؛ لم يفطره؛ كما لو وضعه في فمه وأنفه.
    الفصل الثالث: إذا استقاء, وهو أن يستدعي القيء؛ فإنه يفطر.
    فأما إن ذرعة القيء؛ فلا قضاء عليه.
    374 - والأصل فيه ما روى عيسى بن يونس, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء وهو صائم؛ فليس عليه قضاء, ومن استقاء عمداً؛ فليقض». رواه الخمسة.
    لكن لم يذكر أبو داوود وابن ماجه: «عمداً».
    قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات.

    وقال الترمذي: حسن صحيح غريب, لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس, وقال محمد: لا أراه محفوظاً.
    375 - قلت: وقد رواه ابن ماجه, عن أبي زرعة, عن علي بن الحسن بن سليمان أبي الشعثاء, عن حفص بن غياث, عن هشام: مثل رواية عيسى بن يونس.

    376 - ورواه النسائي موقوفاً على أبي هريرة من حديث الأوزاعي عن عطاء عنه.
    377 - وعن أبي الدرداء حدثه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر». فلقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق, فقلت: إنّ أبا الدرداء حدثْني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: صدق, وأنا صببت له وضوءه. رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
    378 - وفي رواية: «استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأفطر, فأتى بماء, فتوضأ».
    379 - وعن ابن عمر؛ قال: «إذا استقاء الصائم؛ فعليه القضاء, وإذا ذرعه القيء؛ فلا قضاء عليه».
    380 - وعن زيد بن أرقم؛ قال: «ليس بفطر من ذرعه القيء وهو صائم». رواه سعيد.
    وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عمداً.
    381 - فإن قيل: فقد روى البخاري عن أبي هريرة؛ قال: «إذا قاء؛ فلا يفطر, إنما يخرج ولا يولج». قال: ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر, والأول أصح.

    382 - 383 - قال: وقال ابن عباس وعكرمة: «الفطر مما دخل وليس مما خرج».
    384 - وعن إبراهيم؛ قال: قال: «إنما الصيام مما دخل وليس مما خرج, وإنما الوضوء مما خرج [وليس مما دخل]». رواه سعيد.
    385 - وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه عن عطاء ابن يسار, عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة, والقيء, والاحتلام». رواه الترمذي وقال: هو غير محفوظ, وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير واحد هذا الحديث عن زيد بن اسلم مرسلاً, ولم يذكر فيه: عن أبي سعيد.
    386 - وقد رواه الدارقطني من حديث هشام بن سعد عن زيد متصلاً. . . .
    ضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ويقول: روى هذا الحديث عن أبيه عن عطاء بن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرون الصائم: القيء, والحجامة, والاحتلام».
    387 - وقال العمري: عن نافع, عن ابن عمر: «إذا ذرعه القيء؛ فلا قضاء عليه, وإن استقاء؛ فعليه القضاء».
    388 - ورواه أبو داوود من حديث سفيان, عن زيد بن أسلم, عن بعض أصحابه, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفطر من قاء ولا من احتجم ولا من احتلم».
    قيل: أما الحديث المرفوع؛ فضعيف, ثم قِرانه بالاحتلام قد يحتمل أنه أراد من ذرعه القيء؛ فإنه لو استمنى أفطر, فيحمل هذا على من ذرعه القيء.
    ثم لو لم يكن في الباب حديث مرفوع, وتعارضت أقوال الصحابة؛ لكان قول من فطَّره أولى بالاتباع؛ لأن التفطير بالاستقاء لا يدرك بالقياس على الأكل والشرب.
    فمن نفى الفطر به؛ بناه على ما ظهر من أن الفطر إنما هو مما دخل, ومن أوجب الفطر به؛ فقد اطلع مزيد علم وسنة خفيت على غيره.
    والاستقاء: أن يستدعي القيء بيده أو بجذب نفسه.
    فأما إن نظر إلى شيء بغتة أو تفكر في شيء بغتة حتى قاء:
    فقال ابن عقيل: يفطر إذا قصد ذلك. كما اختار أنه يفسد صومه إذا نظر أو تفكر فأنزل.
    وذكر عمن خالفه من أصحابنا: أنه إذا نظر فقاء أو تذكر فقاء؛ لم يفطر.
    والقيء المفطر: هو الطعام ونحوه الذي يخرج من الجوف, فأما ما ينزل من الرأس؛ فلا بأس به.
    فأما النخامة: التي تخرج من الجوف:
    فقال في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم؛ إلا أنه لا يعجبني أن يفعل.
    والنخاعة إذا كانت من الصدر, ليس فيها طعام؛ فلا بأس.

    وإن استقاء حتى يخرج الطعام؛ فعليه القضاء.
    وقال في رواية حنبل: إذا تنخم الصائم, ثم ازدرده؛ فقد أفطر.
    فإن بلع ريقه؛ لم يفطر.
    لأن النخامة تنزل من الرأس, والريق من الفم؛ فبينهما فرق.
    ولو أن رجلاً تنخع من جوفه, ثم ازدرده؛ فقد أفطر.
    لأنه شيء قد بان منه, وكان بمنزلة من أكل شيئاً.

    ولا ينبغي أن يتنخم ويقلع من جوفه بلغماً أو غيره؛ إلا أن يغلبه أمر, فيقذفه ولا يزدرده؛ فقد نص في استخراج النخامة من الصدر عمداً على روايتين:
    قال القاضي: وتحقيق المذهب في قدر القيء الذي يحصل به الفطر مبني على قدر ما يحصل به نقض الطهر, وفيه ثلاث روايات:
    إحداها: ما كان ملء الفم.
    والثانية: ما كان نصفه.
    والثالثة: قليلة وكثيرة سواء في الفساد.

    والرواية الأولى؛ قال [في رواية] حنبل: إذا استقاء عمداً أفطر. قيل له: ما القلس؟ قال: إذا كان فاحشاً. قيل له: ما الفاحش؟ قال: ما كان كثيراً في الفم.
    ونصر القاضي إذا كان فاحشاً على ظاهر رواية حنبل, وتعليله يقتضي أن يخرج إلى فمه مقدار لا يمكنه أن يمسكه حتى يمجه؛ بخلاف ما دونه.
    والإِفطار بملء الفم اختيار الشريف. . . . .
    الفصل الرابع: إذا استمنى أو فعل فعلاً فأنزل به مثل أن يباشر بقبلةٍ أو لمسٍ أو نظر, فيمني أم يمذي.
    وقد تقدم ذلك بحديث عمر لما قبَّل وهو صائم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 361الى صــ 375
    (24)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام


    * فصل:
    ويكره للصائم أن يباشر أو يقبل أو ينظر لشهوة في إحدى الروايتين.
    قال في رواية حنبل وقد سئل عن القبلة للصائم؟ فقال: لا يُقبِّل.
    وينبغي له أن يحفظ صومه, والشاب ينبغي له أن يجتنب ذلك؛ لما يخاف من نقض صومه.
    وفي الأخرى: لا يكره. لمن لا تحرك القبلة شهوته.

    وأما المباشرة باليد:
    فقال في رواية ابن منصور وقد سُئل عن الصائم يقبل أو يباشر؟ قال: المباشرة شديدة, والقبلة أهون.
    الفصل الخامس: إذا احتجم؛ فإنه يفطر. نص عليه في رواية الجماعة, وهو قول أصحابه.
    قال في رواية ابن إبراهيم في الرجل يحتجم على ساقه أو على يده أو على شيء منه: فقد أفطر.
    وقال في رواية المروذي فيمن نظر صيام عشرة أيام فاحتجم فيها: عليه القضاء والكفارة, وان احتجم في رمضان؛ فعليه القضاء.
    وقال في رواية ابن عبدك فيمن احتجم في شهر رمضان: فإن كان قد بلغه الخبر؛ فعليه القضاء والكفارة, وإن لم يبلغه الخبر؛ فعليه القضاء.
    فقد نص في رواية المروذي: أنه لا كفارة فيها, وإنما عليه كفارة ترك النذر, وهذا هو المذهب. وقال في الرواية الأخرى: عليه الكفارة مع العلم. قال ابن عقيل: لم يقدرها, والأشبه أنها كفارة الوطء. قال: ويحتمل أن يجب فدية المرضع والحامل.

    وأما الذي يحجم غيره: فقال أكثر أصحابنا: يفطر أيضاً.
    قال أحمد في رواية حنبل: «الحجامة تفطر».
    وقال في رواية ابن إبراهيم: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» , يقولون: إنهما كانا يغتابان؛ فالغيبة أشد للصائم بفطره أجدر أن يفطره الغيبة, ومن يَسْلَم من الغيبة؟
    وقال أيضاً في رواية عبد الله من أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»: حديث شداد بن أوس وثوبان؛ لأن شيبان جمع الحديثين جميعاً.
    فظاهر هذا أنه أخذ به, ولم يذكر الخرقي الحجم في المفطرات. . . .

    389 - والأصل في ذلك ما روى ابن قلابة, عن أبي الأشعث, عن شداد بن أوس: أنه مرَّ زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    390 - وعن أبي قلابة ومكحول, عن أبي أسماء, عن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواهما الخمسة إلا الترمذي.

    391 - وعن رافع بن خديج؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه أحمد والترمذي, وقال: حديث حسن.
    قال الترمذي: ذكر عن أحمد بن حنبل: أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج. وذكر عن علي بن عبد الله: أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس.
    [قال الترمذي: وسألت محمد بن إسماعيل؟ فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس] وثوبان. فقلت له: وكيف ما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن شداد بن أوس الحديثين جميعاً.
    وذكر عباس بن عبد العظيم؛ قال: سمعت علي بن عبد الله, وسئل عن أصح حديث في الحجامة للصائم؟ فقال: أصحهما حديث رافع بن خديج. وقال أحمد في رواية عبد الله: من أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»؟ حديث شداد بن أوس وثوبان؛ لأن شيبان جمع الحديثين جميعاً. اهـ.

    وقال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس: صحيحان هما عندك؟ قال: نعم.
    وقال ابن إبراهيم: قيل لأبي عبد الله: أي حديث أقوى عندك في الحجامة؟ قال: حديث ثوبان.
    وقال في رواية الميموني: حديث رافع بن خديج إسناده جيد؛ [إلا أنه لا أحد رواه غير عبد الرزاق].
    392 - وعن الحسن, عن معقل بن سنان الأشجعي: أنه قال: مرَّ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه أحمد.
    393 - 394 - وعن عائشة وبلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواهما أحمد والنسائي.
    وعن أبي هريرة مثله. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
    396 - وعن أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمستحجم». رواه أحمد والنسائي.
    وقد روى أحمد في «مسائل عبد الله» هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية بضعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم, ومنهم:397 - علي بن أبي طالب.

    398 - وسعد بن أبي وقاص.
    399 - وأبو زيد الأنصاري.
    400 - وأبو موسى.
    401 - وعبد الله بن عمر.
    402 - وابن عباس.
    403 - وصفية.

    قال حرب: سمعت إسحاق يقول: «مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتجم في شهر رمضان؛ فقد أفطر الحاجم والمحجوم» , وصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار متصلة. . . .
    فإن قيل: يجوز أن يكون قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» ذكره على وجه التعريف لهما بذلك, ويكونان قد أفطرا بسبب غير الحجامة.
    404 - فقد قيل: إنهما كانا يغتابان, فقال: أفطرا لذلك السبب, لا لأن الحجامة تفطر.
    405 - يدل عليه ما رواه محمد بن حمدون بن خالد, عن الحسن بن الفضل البصري, ثنا غياث بن كلوب, ثنا مطرف بن سمرة, عن أبيه؛ قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل بين يدي حجام - وذاك في رمضان وهما يغتابان رجلاً - فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه القشيري عن عبدوس عنه, وقال: هو صريح في أن الحجامة لا تفطر, والغيبة أيضاً.
    والخبر محمول على الاستحباب أو هو منسوخ.

    ويجوز أن يكون قوله: «أفطرا»؛ أي: قاربا الفطر؛ فإنه يخشى على المحتجم أن يضعف فيفطر كما يفطر المريض, وعلى الحاجم أن يمتص من الدم شيئاً فيفطر به فتكون الحجامة مكروهة لا مفطرة.
    وقد روي عن السلف ما يدل على ذلك:
    406 - فروى عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم والمواصلة, ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه, فقيل له: يا رسول الله! إنك تواصل إلى السحر. فقال: «إني أواصل إلى السحر وربي يطعمني ويسقيني». رواه أحمد وأبو داوود.
    407 - وعن ثابت البناني: «أنه قال لأنس بن مالك: ألستم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا؛ إلا من أجل الضعف». رواه البخاري وأبو داود, ولفظه: «ما ندع الحجامة للصائم إلا كراهة الجهد».
    408 - وعن حميد؛ قال: «سئل [أنس] عن الحجامة للصائم؟ قال: ما كنت [أرى] أنه يكره إلا أن يجهده». رواه أحمد في «مسائل عبد الله».
    ورواه سعيد ولفظه: «ما كنا نكره منه إلا جهده».

    409 - وقال إبراهيم: «كانوا يكرهون الحجامة للصائم مخافة الضعف». رواه سعيد.
    410 - ثم هذا الحديث منسوخ بما روى عكرمة, عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وهو محرم, واحتجم وهو صائم». رواه أحمد والبخاري.
    411 - ورواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه, ولفظهم: «احتجم وهو محرم صائم». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

    وهذا الحديث قد رواه جماعة كثيرة عن أيوب عن عكرمة مرسلاً.
    412 - ورواه النسائي أيضاً, عن عطاء, عن ابن عباس: «احتجم بلحي الجمل وهو صائم محرم».
    قالوا: وهذا الحديث كان في حجة الوداع, والحديث الأول كان في عام الفتح؛ فاحتجامه بعد النهي.
    ويدل على ذلك:

    413 - ما روي عن أنس بن مالك؛ قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم, فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أفطر هذان». ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الحجامة للصائم. رواه الدارقطني وقال: كلهم ثقات ولا أعلم له علة.
    414 - وعن رجل عن أنس؛ قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بعدما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    415 - وقد روي عن ابن مسعود: «أنه لا يرى بأساً بالحجامة للصائم».




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 376الى صــ 390
    (25)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام


    416 - وعن أبي سعيد مثله.
    417 - وعن الحسين بن علي: «أنه احتجم في رمضان».
    418 - وعن أم سلمة: «أنها احتجمت وهي صائمة». رواهن سعيد.
    419 - 420 - قال البخاري: «ويُذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة: احتجموا صياماً».

    421 - قال: وقال بكير: [عن أم علقمة]: «كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهانا».
    422 - وعن أبي سعيد؛ قال: «رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة». رواه النسائي والدارقطني وقال: كلهم ثقات.
    423 - وعن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة, والقيء, والاحتلام». رواه الترمذي كم حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد, وقال: هو غير محفوظ, وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير واحد هذا الحديث عن زيد بن أسلم مرسلاً, ولم يذكروا: عن أبي سعيد.
    424 - ورواه الدارقطني من حديث هشام بن سعد عن زيد مثله.

    425 - ورواه أبو داوود من حديث سفيان, عن [زيد بن أسلم] , عن بعض أصحابه, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم».
    426 - ورواه عبد الرزاق, عن أبي بكر عن عبد الله, عن زيد بن عطاء, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: وذكره معمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    427 - وعن [أيمن] بن نابل: أنه سأل القاسم بن محمد: أيحتجم الصائم؟ قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم». رواه عبد الرزاق.
    واحتجاجه به يدل على أنه لم يفطر.
    وأيضاً؛ فإن الأصل في الفطر أن يكون مما دخل إلى الجوف دون ما خرج منه, وإنما خرج عن هذا دم الحيض, وهو يخرج بغير اختيار الإِنسان, ولأنه استخراج دم من البدن, فلم يفطر؛ كالفصاد وبط الدماميل والجرح.
    قلنا: أما كونهما أفطرا بغير الحجامة؛ فلا يصح لوجوه:
    أحدها: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» , فعلق الحكم باسم مشتق من معنى, فيجب أن يتعلق بذلك المعنى, ولو علَّقناه بغيره؛ كان خلاف ظاهر اللفظ, وذلك لا يجوز؛ إلا أن يعلم أن هناك سبباً آخر, فلو فتح هذا الباب؛ لم يبق حكم معلق باسم من الأسماء إلا ويجوز أن يدعي مدع أن الحكم له سبب غير معنى الاسم.
    الثاني: أن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»: لفظ عام لم يخصصه بمحجوم بعينه؛ فإنه قد رواه عنه جماعة من أصحابه رواية مطلقة عامة, وبلغوه إلى من بعدهم تبليغ من يعلمهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان ذلك لسبب يختص بذلك المحتجم؛ لم يكن في رواية هذا الحديث فائدة أصلاً, لا سيما إذا لم يذكر السبب الذي به أفطر.
    الثالث: أنه قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم.
    428 - وروى أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم وقال لعلي: «لا تحتجم وأنت صائم».
    وهذا صريح بالنهي عن نفس الحجامة.
    الرابع: أن الصحابة الذين رووا هذا الحديث, والذين لم يرووه, فهموا من

    ه أنه نهى عن الحجامة.
    429 - فروى أحمد في «مسائل عبد الله» بإسناده عن علي: أنه قال: «لا تدخل الحمام وأنت صائم, ولا تحتجم وأنت صائم».
    430 - وفي لفظ عن علي: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    431 - وعن عطاء؛ قال: قال أبو هريرة: «أفطر الحاجم والمحجوم».

    432 - وفي رواية عن أبي هريرة: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم, ولو احتجمت؛ لم أبال».
    433 - وعن عائشة وصفية: أنهما قالتا: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    434 - وعن أبي العالية؛ قال: دخلت على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة ممسياً, فوجدته يأكل ثمراً وكامخاً, فقال: «احتجمتُ». فقلت: ألا احتجمتَ نهاراً؟ فقال: «أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم».

    435 - وعن ابن عمر: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    436 - وعن سالم: «أن ابن عمر كان يحتجم وهو صائم. قال: فبلغه حديث [أو شيء] , فكان إذا كان صائماً احتجم بالليل».
    438 - وروى أحمد, عن الحسن, عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    439 - وعن عبد الله بن أيوب المخرمي؛ قال: سمعت روحاً يقول لأبي عبد الله: أدركت الناس بالبصرة منذ خمسين سنة, إذا دخل شهر رمضان؛ أغلق الحجَّامون دكاكينهم». ذكره عنه المروذي.
    قال البخاري: «وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم, ثم تركه, وكان يحتجم بالليل, واحتجم أبو موسى ليلاً».
    الخامس: أن السبب الذي زعموا أنهما أفطرا به الغيبة؛ [قال أحمد:] يقولون: إنهما كانا يغتابان, والغيبة أشد للصائم؛ ففطره أجدر أن تفطره الغيبة, ومن يسلم من الغيبة؟
    وقال أيضاً: لو كان للغيبة؛ ما كان لنا صوم.

    وأما حمله على مقارنة الفطر, وأن ذلك يفيد الكراهة؛ فلا يصح أيضاً؛ لوجوه:
    أحدها: أن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»: نص في حصول الفطر بهما, ولا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما, والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنهما بالفطر, لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقاً, من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره ليس بمراد؛ فلو جاز أن يراد به مقارنة الفطر دون حقيقته؛ لكان ذلك تلبيساً لا بياناً للحكم.
    440 - الثاني: أن ابن بطة روى بإسناده عن عمر بن الخطاب؛ قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فإذا برجل يحتجم. قال: فلما رآه رسول الله؛ قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». فقلت: يا رسول الله! أفلا آخذ بعنقه حتى أكسره؟ قال: «ذره؛ فما [لزمه من] الكفارة أعظم مما تريد به». قال: قلت: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: «يوماً مثله». [قلت:] إذاً لا يجده. قال: «إذاً لا أبالي».
    الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في مقدمات الفطر, ولم يجعلها بمنزلته.
    441 - ولهذا لما سأله عمر رضي الله عنه القبلة للصائم؟ قال: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ففيم».
    فإذا كانت القبلة تدعو إلى الإِنزال, والمضمضمة تدعو إلى الابتلاع, ولم يسمِّ النبي صلى الله عليه وسلم فاعلها مفطراً [بذلك]؛ فلأن لا يُسمى المحتجم مفطراً خشية أن يضعف فيحتاج إلى الفطر أولى.
    وأما اعتقاد من اعتقد أن كراهة الحجامة إنما هي لأجل الضعف؛ فهذا لا يمنع كونها مفطرة.
    وأما قول من قال: «ولم يحرمها»؛ فهو قد اعتقد ذلك, وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك, والنهي يقتضي التحريم, ولم يعلم الصحابي الذي اعتقد ذلك.
    وقد خالفه جمهور الصحابة.

    ومن روي عنه من الصحابة الرخصة في ذلك؛ فأكثرهم قد روي عنه بخلافه, وهذا يدل على أنهم لم يكونوا سمعوا النهي في ذلك, ثم سمعوه كما جاء مفسراً في حديث ابن عمر.
    ويوضح ذلك أن من قال منهم: لا يفطر؛ فقد بنى قوله على ظاهر القياس.
    بخلاف من قال: إنها تفطر؛ فإنه لا يقول ذلك؛ إلا لعلم اطلع عليه وخفي على غيره.

    وكل ما اختلف فيه الصحابة مما يشبه هذا؛ مثل: اختلافهم في انتقاض الوضوء بمس الذكر ونحوه؛ فإن المثبت منهم يجب أن يكون معه علم خفي على الناس؛ لأن هذا ابتداء شريعة, لا يجوز أن يثبت بالقياس؛ بخلاف النفي؛ فإنه يكفي فيه البراءة الأصلية.
    442 - وأما حديث ابن عباس؛ فقد قال أحمد في رواية مهنا: حديث ابن عباس «أنه احتجم صائماً»: خطأ من قبل قبيصة, رواه عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

    443 - 444 - وقال في رواية صالح: عمرو عن طاووس وعطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم».
    445 - ومعمر عن [ابن خيثم] عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم».
    هؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياماً.
    وقال في رواية حنبل: الذي في [الحديث أن] بلغني عن يحيى ومعاذ أنهما أنكراه عليه. يعني: على الأنصاري.
    446 - وقال في رواية الأثرم: هو ضعيف؛ لأن الأنصاري ذهبت كتبه, وكان يحدث من كتب غلامه أبي حكيم.
    وأما ادعاء النسخ؛ فلا يصح؛ لوجوه:
    أحدها: أن الذي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: احتجم وهو محرم صائم, ولم يبين أن هذا الإِحرام كان في حجة الوداع؛ فيجوز أن يكون كان في إحرامه بعمرة الحديبية أو إحرامه بعمرة القضية, وكلاهما قبل الفتح, فيكون احتجامه وهو صائم منسوخاً بقوله بعد ذلك: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    ويؤيد هذا القول وجوه:
    447 - أحدها: ما روى أحمد, عن حجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً, فغشي عليه؛ فلذلك كره الحجامة للصائم». رواه أحمد.
    448 - وفي لفظ عن ابن عباس: أنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بالقاحة وهو محرم صائم, فوجد لذلك ضعفاً شديداً, فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجم الصائم». رواه الجوزجاني.
    449 - عن الحكم؛ قال: «احتجم رسول الله وهو صائم فضعف, ثم كرهت الحجامة للصائم».
    450 - وعن الشعبي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم, وتزوج الهلالية وهو محرم». رواه سعيد.
    وكان تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية في عمرة القضاء, فعلم أن احتجامه كان في عمرة القضاء, وذلك قبل الفتح, وقبل قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم».
    فهذا يبين أن الكراهة كانت بعد احتجامه محرماً.
    ويؤيد ذلك:
    451 - ما روى الجوزجاني: «أن ابن عباس كان يعد الحجام والمحاجم., فإذا غابت الشمس؛ احتجم بالليل».
    ولولا علمه بأن احتجام الصائم جائز؛ لما فعل ذلك.
    الثاني: لو كان هو المتقدم؛ للزم تغيير الحكم مرتين؛ [لأن الحجامة كانت غير محظورة, ثم نهى عنها؛ فإذا أذن فيها بعد ذلك؛ فقد غير الحكم مرتين]؛ بخلاف ما إذا كان الإِذن قبل النهي.

    الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم علموا أن النهي آخر الأمرين؛ كما تقدم عن ابن عمر وغيره, ولهذا رجعوا عن القول بالاحتجام إلى تركه, وأبو موسى وابن عباس كانا يكرهان الحجامة للصائم, وهما ممن رويا حجامة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم, بل عليهما مدار الحديث.
    الوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يخالف قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»؛ لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم, وفي لفظ للبخاري: «من وجع به» , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً في رمضان قط؛ لأن إحرامه بعُمرِهِ الثلاثة وبحجة الوداع في ذي القعدة, فيكون هذا الصوم تطوعاً, ثم كان مريضاً, والمريض يجوز له الفطر, ثم كان مسافراً؛ لأنه لم يكن محرماً مقيماً قط.
    فإذا كان الفطر جائزاً له في هذه الوجوه الثلاثة؛ فيكون قد احتجم, وإن أفطر بالحجامة؛ فإنه ليس في الحديث لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنه بقي على صومه, بل قد أفطر في رمضان لما أصاب أصحابه الجهد؛ فلأن يفطر في مرض أصابه بطريق الأولى.
    452 - [لما روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر»].

    وقد قيل: يجوز أن يكون ركَّب المحاجم نهاراً واحتجم ليلاً.
    453 - لما روى أبو بكر عن جابر: «إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي طيبة أن يأتيه ليحجمه عند فطر الصائم, وأمره أن. . .».
    454 - وأما حديث أبي سعيد؛ فقال: ابن خزيمة: قوله: «والحجامة للصائم»: إنما هو من قول أبي سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم, أدرج في الخبر.

    وقال عنه الآخر: الصحيح في هذا الخبر أنه منقطع غير متصل, والذي وصله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وعبد الرحمن ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه؛ لسوء حفظه للأسانيد؛ لأنه رجل صنعته العبادة والتقشف والموعظة, وليس من أحلاس الحديث الذي يحفظ الإِسناد.
    وقال أبو بكر: سمعت محمد بن يحيى يقول: هذا الحديث غير محفوظ عن أبي سعيد, ولا عن عطاء بن يسار, والمحفوظ عندنا حديث سفيان ومعمر.
    يعني: أنهما روياه عن زيد بن أسلم عن [رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
    ثم إن صح الحديث؛ فهو منسوخ بحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم».

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 391الى صــ 405
    (26)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام



    ويدل على ذلك أن فيه القيء والاحتلام, ومعلوم أنه لو استقاء أو استمنى؛ أفطر؛ فكذلك إذا احتجم, أو أنه محمول على ما إذا احتجم ساهياً [أو حُجم] بغير اختياره؛ [فإنه قرنه بالقيء والاحتلام, وهما يخرجان من المرء بغير اختياره]؛ فكذلك ما ذكر معهما ينبغي أن يكون كذلك.
    455 - وأما حديث أنس أن الرخصة بعد النهي؛ فضعيف.
    فإن في الذي جوده الدارقطني خالد بن مخلد: قال أحمد: له أحاديث مناكير, ولعل هذا من [أنكرها].

    456 - لأن أنساً ذكر أنهم كانوا يكرهون ذلك لأجل الجهد كما رواه البخاري, وهذه الكراهة باقية.
    457 - ولأن أحمد روى بإسناده, عن هشام بن محمد؛ قال: «كان أنس إذا شق عليه الدم في الصوم؛ أرسل إلى الحجام عند غروب الشمس, فوضع المحاجم, وإذا غربت شرط».
    ولو كان عنده إذن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يفعل مثل ذلك.
    ومخالفة البصريين له مع أنهم أصحاب أنس.
    وأن الكراهة بعد موت جعفر. . . .

    ثم من أصحابنا من سلك فيها مسلك التعبد الصرف, ورأى خروجها عن مسالك القياس, وجعلها موضع استحسان, فقدم فيه النص على القياس. وهذه طريقة ابن عقيل.
    ومنهم من سلك فيها ضرباً من التعليل.
    فقال القاضي: استدعاء شيء من بدنه نهى عنه نهياً يختص بالصوم فأفسد الصوم؛ كاستدعاء القيء, [وهو أن الاحتجام] استخراج ما به قوام البدن, فجاز أن يفطر به كاستخراج القيء والمني والمذي ودم الحيض.
    وهذا لأن الصائم لما مُنع من الأكل والشرب ليحصل حكمة الصوم التي هي التقوى؛ كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] , وللنفس على الإِنسان حق لا بد من رعايته؛ راعى الشرع جانب حق النفس وحفظ القوة؛ حسماً لمادة الغلو في الدين والمروق منه, وتحصيلاً لمصلحة الاغتذاء التي لا بد منها أيضاً.
    458 - فنهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
    459 - 460 - وأمر بتعجيل الفطر, وتأخير السحور.
    461 - وجعل أفضل الصيام صيام يوم وفطر يوم.
    462 - وقال: «لكنِّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني».
    463 - وقال: «من صام الدهر؛ فلا صام ولا أفطر».
    ومنه جماعة من أصحابه من تكثير الصيام؛ منهم:464 - عبد الله بن عمرو.
    465 - والنمر بن تولب.
    466 - والباهلي.
    وعاب على منْ قال: أما أنا؛ فأصوم لا أفطر.

    كل ذلك تعديلاً وأخذاً بخيار الأمور التي هي أوساطها.
    فإذا كان هذا مصلحة جليلة قد شهد الشرع بالاعتبار, وكان الصائم إذا خرج منه [القيء] خلا من الغذاء الذي هو مادته؛ فإذا استخرج منه الدم الذي به قوام بدنه, وإليه استحال الغذاء؛ ضعف بذلك, وإذا خرج منه المني الذي هو صفاوة الدم؛ ضعف أيضاً.
    وكذلك إذا خرج دم الحيض؛ منعه الشارع من استخراج هذه الأشياء لما منعه من استدخال ما يكون خلفاً منها وبدلاً عنها, وصار المقصود الأصلي من الصوم هو الكف عن الإِدخال, والكف عن الإِخراج تابع له ومطلوب في ضمنه.
    فأما ما غلب عنه المرء من هذه الأشياء؛ مثل أن يذرعه القيء, أو يرعف, أو يجرح جرحاُ بغير اختياره, أو يحتلم, ونحو ذلك؛ لم يفطر به.
    لأنه بمنزلة ما يدخل جوفه من الغبار والدقيق ونحو ذلك.
    ولأن امتناعه من هذه الأشياء لا يدخل تحت قدرته.
    وأما دم الحيض: فلما كان له أوقات معلومة يمكن الاحتراز عن الصوم فيها لا تتكرر دائماً؛ صار الامتناع [في] الصوم معه [في] جملة ما يقدر عليه الإِنسان.
    ولهذا إذا صار دم استحاضة, وهو الخارج عن الأمر المعتاد؛ لم يمنع صحة الصوم, وخرج عن هذا استخراج البول والغائط ونحوهما من وجهين:
    أحدهما: أن ذلك فضلة محضة, فليس هو من قياس البدن الذي يخاف أن يورث ضعفاً.
    الثاني: أن خروجه أمر طبيعي لا يمكن الاحتراز منه, وما كان من هذا الباب؛ لا يفطر؛ كذرع القيء والاحتلام وأولى.
    وهذا معنى حسن, وقد نبه عليه بعض الآثار المتقدمة
    إلا بذكر فرع المسألة.
    * فصل:
    ويفطر بالحجامة في جميع البدن. نص عليه.
    مثل أن يحتجم في يده أو ساقه أو عضده أو رأسه أو قفاه.
    وإن شرط بالمشرط ولم يخرج الدم؛ أفطر على ما ذكره ابن عقيل؛ فإنه قال: الحجامة نفس الشرط, يتعلق الإِفطار على الاسم.
    فعلى هذا الإِفطار يسبق الدم.

    وإن ركب المحاجم. . .؛ كما لو بل المحرم رأسه قبل التحلل ثم حلقه بعده.
    وعلى ذكره القاضي: لا بفطر. وهو أصح؛ لأن الحجامة هي الامتصاص أيضا؛ يقال: ما حجم الصبي ثدي أمه؛ أي: ما مصه.
    والحِجَام: ما يُجعل في خطم البعير لئلا يعض, يقال: حجمت البعير أو أحجمه: إذا جعلت على فِيْهِ حجاماً.
    فالقارورة تحجم الدم عن أن يسيل.
    وأيضاً؛ فإن الشرط أخص. . . .
    فإن شرط وأخرج الدم من غير محجمة يمتص بها, مثل الشرط في الأذن؛ فقياس المذهب الفكر بها؛ لأن وضع المحجمة على العضو لا أثر له في الفطر.

    ولهذا يجوز أن توضع المحاجم على العضو ويلين قبل غروب الشمس, ثم يقع الشرط بعد غروبها. قال أصحابنا: لأن التليين وتركيب المحاجم مقدمات.
    وأما الفصاد وجرح العضو باختياره وبط الدمامل ونحو ذلك؛ فقال أكثر أصحابنا منهم القاضي وابن عقيل: لا يفطر.
    لأنه لا نص فيه, ولا يمكن إثبات الحكم فيه قياساً؛ لجواز أن يكون في الحجامة معنى يختصه, ولأن الدم منه ما يخرج بنفسه وهو دم الحيض والاستحاضة والنفاس ومنه ما يخرج بالإِخراج.
    ثم الأول يفطر بعضه دون بعض, فيجوز أن يكون الثاني كذلك, وهو لا يبطل القياس المتقدم؛ لأن التعليل للنوع والجواز, فلا ينتقض بأعيان المسائل. . . .
    وقيل: يفطر الفصاد, وهذا أقيس. . . .
    وأما الجرح والاسترعاف؛ فلا يكاد العاقل يفعله بنفسه, فيحتمل. . . .
    وأما بط الدماميل والقروح؛ فتلك دماء فضلات لا يضعف خروجها.
    وأما الحاجم: فظاهر قول الخرقي هو ظاهر القياس فيه؛ فإن ما ذكرنا من المعنى مفقود فيه.
    لكن المذهب أنه يفطر؛ كما هو منصوص في الحديث؛ فإن الدلالة على فطرهما دلالة واحدة, ويلوح فيه أشياء:
    أحدها: أن الحجامة لما لم تمكن إلا من اثنين؛ جاز أن يجعل الشرع فعل أحدهما الذي لا يتم فطر الآخر إلا به فِطراً, وأن يجعل تفطير الصائم فطراً؛ كما قيل في الجماع, وهذا بخلاف الإِطعام والإِسقاء؛ فإن ذلك يمكن أن يكون من واحد, فليس فعل الآخر شرطاً في وجوده.
    467 - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً؛ فله مثل أجره؛ من غير أن ينقص من أجره شيء».
    فإذا كان المعين له على صومه بعشائه بمنزلة الصائم؛ جاز أن يكون المفسد لصومه بمنزلة المفطر.
    468 - وكذلك قوله: «من جهز غازياً؛ فقد غزا, ومن خلفه في أهله بخير؛ فقد غزا».
    وضد ذلك من صدَّ عن سبيل الله بالتثبيط عن الجهاد؛ فإنه بمنزلة المحارب لله ورسوله.
    469 - كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله في أمره».
    وخص الحاجم بهذا من بين [الطاعم] والمسقي؛ فإنه لو امتنع عن حجمه؛ لم يفطر؛ بخلاف المطعم والمسقي؛ فإنَّ أكْل ذلك وشربه غير منوط بفعل غيره. نعم يشبه هذا ما لو مكنت المرأة زوجها من أن يطأها دون الفرج, فأنزل هو, ولم تنزل هي. وطرد هذا أن منْ حجم من ليس بصائم لا يفطر, وهذا الوجه ليس بذاك. . . .
    ومنها: أن الحاجم إذا امتص المحجم بعد شرط العضو؛ جاز أن يسبق شيء من الدم إلى حلقه ولا يشعر به, والحكمة إذا كانت خفية؛ أقيمت المظنة الظاهرة مقامها؛ كالنوم مع الحدث, ولهذا لو امتص الحجم عند وضعه قبل الشرط؛ لم يفطر؛ كما جاء في الحديث: «أنه كان وضع المحاجم قبل الغروب, ثم شرط بعد الغروب». . . .

    فعلى هذا؛ لو شرط بدون مص مثل ما شرط الأذن, وقلنا. يفطر المشروط؛ فإن الشارط هنا لا يفطر, وكذلك الفاصد.
    ومنها: أن الحجامة في الأصل لما كانت إخراج دم, وهي من الصناعات الرديئة, ولهذا كره كسبها.
    الفصل السادس: أن منْ فعل هذه الأشياء ناسياً لصومه؛ لم يفطر.
    ولا يختلف المذهب في الأكل والشرب ونحوهما مما فيه القضاء فقط, وقد تقدم ذكر المباشرة. والله أعلم.
    وأما الحجامة إذا فعلها ناسياً.
    فالمنصوص أنه لا يفطر.
    قال حرب: قلت لأحمد: فاستحجم ناسياً؟ قال: لا شيء.
    وذكر ابن عقيل فيها وجهين:
    أحدهما: كذلك؛ لأنها ليست بأكثر من الأكل.

    الثاني: يفطر؛ لأن الفطر بها ثبت على خلاف القياس, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» , ولم يستفصل عن حال اللذين مرَّ بهما, وفي الاستقاء. . . .
    470 - والأصل في ذلك ما روى محمد بن سيرين, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم, فأكل أو شرب؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه». رواه الجماعة.
    وفي رواية أبي داوود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم؟ فقال: «الله أطعمك وسقاك».
    وفي هذا الحديث الدلالة من وجوه:
    أحدها: أنه أمره بإتمام الصوم تخصيصاً له بهذا الحكم بقوله: «من أكل أو شرب ناسياً» , فعلم أن هذا إتمامٌ لصوم صحيح, إذ لو كان المراد به وجوب الإِمساك؛ لم يكن بين العامد والناسي فرق.
    الثاني: أنه قال: «فليتم صومه» , وصومه هو الصوم الصحيح المجزئ.
    وقد أمر بإتمامه, فعلم أن الصوم الذي بعد الأكل تمام للصوم الذي قبله, ولو أراد وجوب الإِمساك [فقط]؛ لقال: فليتم صياماً, أو: فليصم بقية يومه. . . ونحو ذلك؛ كما قال لأهل عاشوراء.
    الثالث: أنه لم يأمره بالقضاء, وقد جاء مستفتياً له عما يجب عليه شاكّاً في الأكل مع النسيان؛ هل يفسد أو لا يفسد؟ ومعلوم أنه لو كان واجباً؛ لذكره,لم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
    الرابع: أنه علل أمره بالإِتمام بأن الله أطعمه وسقاه, ولو لم يكن مقصوده إتمام الصوم الصحيح؛ لم يصح التعليل بهذا؛ فإنه إذا أفسد الصوم في رمضان؛ وجب الإِمساك, وإن لم يكن الله أطعمه وسقاه بغير قصد من التعبد ولا إرادة؛ فلا بد أن يكون لهذه العلة أثر في هذا الحكم, ولا يكون لها أثراً؛ إلا أن يكون الصوم صحيحاً.
    الخامس: أنه قال: «الله أطعمك وسقاك»؛ تعليلاً وجواباً.
    ومعلوم أن إطعام الله وإسقاءه للعبد على وجهين:

    أحدهما: أنه خلق له الطعام والشراب والحركة التي بها يأكل ويشرب, وعلى هذا؛ فالعامد والناسي وجميع الخلق الله أطعمهم وسقاهم؛ كما قال إبراهيم {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79].
    وهذا المعنى لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قدر مشترك بين المتعمد والناسي, وهو بمنزلة قوله: أنت أكلت وشربت؛ فهي حكاية حال محضة.
    والثاني: أن يطعمه ويسقيه بغير قصد من العبد ولا عمد؛ كما في هذه الصورة؛ فإنه لو ذكر أنه صائم؛ لم يأكل ولم يشرب, لكن أنساه الله تعالى صومه, وقيض له الطعام والشراب, فصار غير مكلف؛ لأجل النسيان, فأضيف الفعل إلى الله تعالى قدراً وشرعاً, فسقط قلم التكليف عن هذا الفعل.
    وفعل الله تعالى لا يتوجه إليه تكليف؛ فإن إطعامه وإسقاءه لا يكون منهيًاً عنه, والمكلف لم يوجد منه ما يخفي عنه؛ فالصوم باقٍ بحاله.
    فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أطعمك وسقاك»: معناه: لا صنع لك في هذا الفعل, وإنما هو فعل الله فقط؛ فلا حرج عليك فيه ولا إثم؛ فأتمم صومك.
    471 - السادس: ما روي في لفظ: «إذا أكل الصائم أو شرب ناسياً؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه, ولا قضاء عليه». رواه الدارقطني وقال: إسناد صحيح كلهم ثقات.
    472 - وفي لفظ: «من أفطر يوماً في رمضان ناسياً؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة». رواه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق - وهو ثقة- عن الأنصاري.

    473 - وأيضاً: عن أم حكيم بنت دينار, عن مولاتها أم إسحاق: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتي بقصعة من ثريد, فأكلت معه, ومعه ذو اليدين, فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً, فقال: «يا أمّ إسحاق! أصيبي من هذا». فذكرت أني كنت صائمة, فتركت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لكِ؟». قلت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتمي صومك؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليك». رواه الإِمام أحمد وأبو بكر عبد العزيز.

    ولأن الصوم من باب الترك؛ فإن الواجب فيه الإِمساك عن المفطرات, وليس فيه فعل ظاهر يفعله, وإذا كان الفطر من باب المنهيات؛ فإن الإِنسان إذا فعل ما نهي عنه ناسياً أو مخطئاً؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى.
    474 - لقوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال الله تعالى: «قد فعلت».
    475 - ولقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان».
    فإذا لم يؤاخذ العبد بهذا الأكل؛ كان صومه باقياً على صحته, هذا هو الأغلب.
    وقد يستثنى منه مواضع تغلظ, مثل الحلق والتقليم وقتل الصيد في الإِحرام؛ لأنه من باب الإِتلاف, ومثل الكلام في الصلاة على رواية؛ لأنه بغير هيئة الصلاة, ولا يفرق في [مبطلاتها] بين العمد والسهو, ومثل الجماع في الصيام والإِحرام لتغلظ جنسه, ولأنه يشبه الإِتلاف, ولأنه لا يكاد يقع فيه النسيان؛ لكونه غير معتاد, وغير ذلك من الأحكام والأسباب, وإلا فالأصل ما قدمناه.
    فعلى هذا: لا فرق بين الأكل الكثير والقليل.
    الفصل السابع: أن من فعلها مكرهاً لم يفسد صومه أيضاً.

    وهو نوعان:
    أحدهما: أن لا يكون له فعل في الأكل والشرب ونحوهما, مثل أن يُفتح فوه [ويوضع] الطعام والشراب فيه, أو يُلقى في ماء فيدخل إلى أنفه وفمه, أو يرش عليه ماء فيدخل مسامعه, أو يُحجم كرهاً, أو يداوي مأمومة أو جائفة بغير اختياره, أو يجرح جرحاً نافذاً إلى جوفه بغير اختياره, ونحو ذلك.
    فهذا لا يفطر في المنصوص عنه الذي عليه أصحابه.
    قال في رواية ابن القاسم في الذباب يدخل حلق الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلق الآخر: وكل أمر غلب عليه؛ فليس عليه قضاء ولا غيره, وهذا كله سواء ذكر أو لم يذكر. قلت له: فرق بين مَنْ توضأ للفريضة وبين من توضأ للتطوع؛ فإنهم يفرقون بينهما. قال: هو سواء إذا لم يتعمد وإنما غلب عليه.
    وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر.
    والذي عليه أكثر أصحابنا الفرق بين أن يستكرهها على الوطء أو يستكرهها على الأكل والشرب.
    وخرَّج ابن عقيل رواية [أخرى] أن الإِكراه على الأكل والشرب يفطر كالاستكراه على الوطء.
    فأما الاحتلام وذرع القيء؛ فإنه لا يفطر قولاً واحداً.
    وأما إذا أكره على الأكل بالضرب أو الحبس أو الوعيد حيث يكون إكراهاً, حتى أكل بنفسه؛ فهل يفسد صومه؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي في «خلافه».
    أحدهما: لا يفطر أيضاً, وهو قول القاضي في «المجرد» وأبي الخطاب وغيرهما.
    الثاني: يفطر هنا, وهو قول ابن عقيل.

    وينبغي أن يكون في جواز الفطر هنا روايتان؛ كالروايتين في جواز أكل الدم والميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر. والله تعالى أعلم.
    الفصل الثامن: أنه إنما اشترط أن يفعله عامداً ذاكراً لصومه.
    فالعامد خرج به المخطئ والمكره.
    فإذا فعل جاهلاً:
    فإما أن يجهل أن ذلك الوقت من نهار رمضان؛ مثل أن يعتقد أن ذلك اليوم ليس من رمضان, أو يعتقد أن الفجر لم يطلع؛ فإن هذا يفطر؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    وإما أن يجهل ذلك الشيء مفطر؛ فذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر.
    476 - 477 - لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] , ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطراً.

    لأن الجهل أشد عذراً من النسيان؛ فإن الناسي قد كان علم ثم ذكر, والجاهل لم يعلم أصلاً؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإِفطار؛ فالجهل أولى.
    ولأن الصوم من باب الترك, ومن فعل من نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة, فيكون وجود الفعل منه كعدمه؛ فلا يفطر؛ كالناسي.
    والمنصوص عن أحمد فيمن احتجم جاهلاً بالحديث: أنه يفطر.

    ولذلك ذكر القاضي [في مسألة تطيبه في الحج ناسياً] وغيره من أصحابنا: أن العالم بحظره والجاهل سواء؛ قال: لأن كل عبادة حظر فيها معنى من المعاني؛ فإن حكم العالم بحظره والجاهل به سواء.
    478 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالذي يحتجم, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» , ولم يكن يعلم أن ذلك منهي عنه.
    ولأن من أفطر جاهلاً؛ لم يقصد فعل [العبادة] التي أمر بها, فتبقى في عهدته حتى يقضيها؛ كمن ترك الصوم جاهلاً بوجوبه, أو ترك تبييت النية جاهلاً بأن اليوم من رمضان أو ناسياً؛ بخلاف من قصد الكف والإِمساك عن الطعام, ثم أكله ناسياً لصومه؛ فإن له نظراً صحيحاً, وفعله الذي صدر لا يقدح فيه.
    والصوم, وإن كان [تركاً, لكن يشبه] الأفعال من حيث وجوب النية فيه؛ بخلاف ترك جميع المحرمات؛ فإنه يكفي في عدم الإِثم عدم الفعل, وهنا لا بد من قصد الامتثال, فله شبه بالمأمورات من وجه, وبالمنهيات من وجه.
    ومن أمر بترك الأكل والشرب, فلم يقصد ذلك ولم يرده؛ لم يمتثل ما أمر به البتة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 406الى صــ 420
    (27)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام




    مسألة:
    وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار, أو مضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء, أو فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ لم يفسد صومه.
    في هذا الكلام فصول:
    أحدها: أن ما دخل إلى فم الصائم بغير اختياره لا يفطره.

    مثل أن يطير إلى حلقه غبار الطريق أو الذباب ونحو ذلك؛ فإنه لا يفطر به. نص عليه؛ لأنه مغلوب على ذلك, فأشبه الاحتلام وذرع القيء.
    فإن قصد جمعه [وابتلاعه, أي الغبار, ونحوه, أفطر]
    وإن اجتمع في فيه بغير قصد, فابتلعه بقصده؛ أفطر أيضاً. قاله أبو محمد.
    فإن اعتمد القعود في موضع يصيبه ذلك لحاجة, مثل أن يغربل الدقيق, أو يقعد عند منْ يغربله لحاجة, فدخل إلى فمه؛ لم يفطر. ذكر ابن عقيل.
    الفصل الثاني: إذا تمضمض أو استنشق ولم يزد على الثلاث ولم يبالغ, فسبقه الماء فدخل في جوفه؛ فإنه لا يفطر, سواء توضأ لفريضة أو نافلة. نص عليه.

    لأنه دخل بغير اختياره, فلم يفطره؛ كالذباب والغبار.
    ولأنه نوع لا يوجب الكفارة, فلا يفطر ما وقع بغير اختياره؛ كذرع القيء.
    فإن قيل: الفرق بينهما من وجهين:
    أحدهما: أنه هنا مختار في الفعل الذي يتولد منه الدخول, وهو قادر على تركه في الجملة؛ بخلاف الذباب.
    الثاني: المضمضة والاستنشاق من فعله, فإذا سبقه شيء إلى حلقه؛ كان ذلك لسوء فعله, فيفطر.
    قلنا: لا فرق فيما غلب عليه بين أن يفعل سببه أو لا يفعله إذا كان سببه مباحاً من غير كراهة؛ فإنه لو أخذ ينخل الدقيق, فطار إلى حلقه؛ لم يفطر, وذلك لأن الشرع إذا أذن له في السبب؛ لم يؤاخذه بما يتولد منه.
    ولهذا قلنا: سراية القَوَدِ غير مضمونة, وسراية التأديب والتعزير غير مضمونة؛ كسراية إقامة الحدّ.
    وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني؛ فإنه إذا أذن له في المضمضة والاستنشاق, وفعل ما أذن له فيه بحسب وسعه؛ لم يضمن ما تولد من ذلك؛ كالرائض إذا ضرب الدابة, ولأنه [لم يتعد] المشروع لم يضمنه؛ كبقايا ما بين الأسنان إذا دخل؛ فإن بالغ في الاستنشاق أو زاد على المرة الثالثة فدخل الماء إلى حلقه؛ فقد قال بعض أصحابنا: هو مكروه.
    والأشبه أنه محرم إن غلب على الظن دخوله إلى الجوف.
    قال أحمد في رواية عبد الله في الصائم تمضمض فغلبه الماء فدخل حلقه: لا شيء عليه إذا غلبه, أو تمضمض أكثر من ثلاث: فيعجبني أن يعيد ذلك اليوم.

    وذكر أبو الخطاب وغيره فيها وجهين:
    أحدهما: وجوب الإِعادة عليه. وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما.
    وقال ابن أبي موسى: إن دخل حلقَه الماءُ فيما زاد على الثلاث؛ أفطر قولاً واحداً.
    479 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً».
    480 - ولقوله: «الوضوء ثلاث؛ فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».
    فإذا فعل ما نهي عنه؛ لم يعف عن سرايته. . . .
    ولأنه لو لم يكن ما ينزل من المبالغة مفطراً؛ لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
    481 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أرأيت لو وضعت في فيك ماء ثم مججته؛ أكنت تفطر؟». قال: لا. قال: «فمه».
    فشبه القبلة بالمضمضة في أن كلاًّ منهما مقدمة لغيره؛ فإذا لم يحصل ذلك الغير؛ لم يؤثر, فيجب إذا حصل ذلك الغير أن يؤثر, والمضمضة مقدمة الأكل, والقبلة مقدمة الإِنزال, ولولا أنهما مستويان في الموضعين؛ لما حسن قياس أحدهما بالآخر, وكان يقال: المضمضة لا تفضي إلى الفطر بحال؛ بخلاف القبلة, لكن القبلة ليست مشروعة بحال, والمضمضة مشروعة في بعض المواضع, فما كان منها مشروعاً؛ خرج عن هذا القياس, فيبقى غير المشروع كالقبلة سواء.
    الثاني: لا يفطر؛ لأنه فعل مغلوب عليه, فلم يفطر؛ كالثالثة.
    فإن اغتمس في ماء, فدخل الماء حلقه أو أنفه أو أذنه, أو اغتسل فدخل فمه أو أذنه أو أنفه, وتمضمض لغير طهارة, فدخل الماء حلقه بغير اختياره؛فإن كان ذلك لطهارة مشروعة؛ مثل أن يغسل فمه من نجاسة به, أو يغسل غسلاً مشروعاً كالجنابة والجمعة؛ فهو كما لو سبقه الماء في المضمضة والاستنشاق.

    وإن وضع الماء في فمه للتبرد أو عبثاً [أو اغتسل عبثاً] أو اغتمس في الماء, أو أسرف في الاغتسال عبثاً؛ فكلامه يقتضي روايتين:
    أحدهما: يفطر. [والثانية: لا يفطر].
    فقد قال في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه؛ فليس عليه فضاء, ولا غيره, وسواء ذكر أو لم يذكر. قيل له: يفرق بين المتوضأ للفريضة ومن توضأ للتطوع؟ قال: هو سواء إذا لم يتعمد إنما غلب, وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر.
    فقد نص على أنه إذا تبرد من شدة الحر, فدخل أنفه أو فاه وهو مغلوب عليه؛ لم يفطر؛ لأنه دخل المفطر إلى جوفه بغير اختياره فلم يفطر؛ كما لو دخل في المضمضة والاستنشاق وما في معنى ذلك؛ لم يفطر. اهـ.
    ولأنه نوع من المفطرات, فلم يؤثر إذا وجد بغير قصد منه؛ كالقيء والاحتلام, وهذا بخلاف نزول الماء عن مباشرة؛ فإنه, وإن لم يقصد نزول الماء, لكن هو لا ينزل الماء إلا بالمباشرة؛ فإذا فعل المباشرة؛ فقد فعل السبب الذي [منه] يستنزل الماء.
    وأيضاً الابتلاع والازدراد في الغالب إنما يكون بقصده, ولا [مقصد] له في ذلك.
    [والسباحة]: لا تفطر.
    قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه.
    482 - ورووا عن مبارك عن الحسن: أنه كره أن يغوص في الماء, وقال: «إن الماء يدخل في مسامعه».
    وقال في رواية أبي الصقر: إذا استعط أو وضع على لسانه دواء, فدخل حلقه؛ فعليه القضاء.
    وقال في رواية حنبل: وقد يسأله عن الرجل يصوم, ويشتد عليه الحرّ؛ ترى له أن يبل ثوباً أو يصب عليه يتبرد بذلك ويتمضمض ويمجه؟
    483 - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم».
    وأما المضمضة؛ فلا أحب أن يفعله, لعله أن يسبقه إلى حلقه, ولكن يبل ثوباً ويصب عليه الماء.
    وسئل عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه؟ قال: «يرش على صدره أحب إليَّ».
    لأنه غير مأمور من الشرع بهذه الأشياء؛ فإذا فعلها؛ كان ضامناً لما يتولد منها من الفطر كما يضمن ما يتولد من ضرب الغير.
    ولأن مباشرته للسبب المقتضي لدخول هذه الأشياء إلى جوفه بغير أمر الشرع اختيار منه وقصد إذا لم يغلب على الظن دخول الداخل إلى جوفه.
    فأما إن غلب على ظنه؛ حرم عليه فعله وأفطر بما يتولد منه بلا تردد.
    ومن أصحابنا من فرق في هذه المواضع بين ما تدعو إليه الحاجة ويباح فعله من غير كراهة وما ليس كذلك, وما كان من هذه الأشياء لا حاجة إليه؛ فهو مكروه إن خيف حصول الفطر منه.
    فأما ما يحتاج إليه لغير الطهارة. . . .
    وأما الاغتسال ودخول الحمام؛ فلا بأس به إذا لم يخف الضعف من الحمام.
    قال في رواية ابن منصور: الصائم يدخل الحمام وإن لم يخف الضعف.
    وقال في رواية حنبل: لا بأس بالاغتسال من الحر.

    484 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام, ثم يغتسل ويصوم». متفق عليه.
    485 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر». رواه أحمد وأبو داوود.
    486 - قال البخاري: «وبل ابن عمر ثوباً, فألقاه عليه وهو صائم».
    487 - قال: وقال أنس: «إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم».
    488 - وعن ابن عباس: «أنه دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان». رواه أبو بكر.
    489 - وعن علي. . . .
    * فصل:
    وما يجتمع في فمه من الريق ونحوه إذا ابتلعه؛ لم يفطر ولم يكره له ذلك, سواء بلعه باختياره أو جرى إلى حلقه بغير اختياره, إذا كان الريق قد اجتمع بنفسه.
    لأن اجتماع الريق بنفسه أمر معتاد, وفي إيجاب التبصق مشقة عظيمة.
    فأما إن جمعه وابتلعه؛ فإنه يكره له ذلك.

    وهل يفطر؟ على وجهين خرَّجهما القاضي وابن عقيل وغيرهما على الروايتين في النخامة إذا استدعاها ثم ازدردها.
    أحدهما: يفطر. لأنه يمكن الاحتراز منه, فأشبه ما لو فصله عن فيه ثم ابتلعه.
    والثاني: لا يفطر. وهو ظاهر كلامه.
    فإنه نص على الفرق بين النخامة والبصاق إلا إذا ابتلعها, لا فرق بين أن يقتلعها من جوفه أو تخرج بنفسها ثم يزدردها عمداً.
    والريق لو اجتمع بنفسه ثم ابتلعه عمداً: لم يفطره قولاً واحداً.
    أو جمعه هو ليس مفطراً؛ لأن حصول المفطر في الفم لا يوجب الفطر, لم يبق إلا مجرد ازدرادها, وذلك أيضاً لا يفطر؛ كما لو اجتمعت بنفسها فازدردها عمداً.
    وإن أخرج لسانه وعليه ريق, فأبرزه عن شفتيه, ثم أعاده وابتلعه؛ لم يفسد صومه بذلك. قاله القاضي وابن عقيل وعامة أصحابنا.
    لأنه بلل متصل به, فلم يفطره؛ كما لو بقي في الفم.
    وحكي عن ابن عقيل: أنه يفطر.
    وهو غلط عليه, وإنما قال: فيمن أخرج ريقه إلى شفتيه, ثم ازدرده؛ أفسد لأنه. . . .
    وإن انفصل الريق عن فيه إلى ثوبه أو يده ونحو ذلك, ثم أعاده إلى فيه وازدرده؛ أفطر. ذكره بعض أصحابنا؛ لأنه يمكنه الاحتراز منه, ولأنه ابتلعه من غير فمه, فأشبه ما لو ابتلع غيره, حتى قال ابن عقيل وغيره: إن خرج ريقه إلى شفتيه ثم ازدرده؛ أفطر؛ لأنه صار مخرجه عن فمه [في حكم الظاهر].

    [وإن تعلق بخيط أو غيره. . .].
    وإن كان في فمه حصاة أو درهم, فأخرجه وعليه بلَلُ ريقه ثم أعاده وابتلع بعد ذلك ريقه:
    فقال ابن عقيل: يفطر بابتلاع الريق الذي كان على ذلك الجسم؛ بخلاف ما لو أخرج لسانه وعليه الدرهم ثم أعاده؛ لم ينبغ أن يفطر هنا.
    وقال غيره من أصحابنا: إن كان عليه من الريق كثيراً؛ أفطر, وإن كان يسيراً؛ لم يفطر؛ لأنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه, فلا تفطره؛ كآثار المضمضة والسواك الرطب.
    ومثل ذلك أيضاً لو أدخل إلى فيه حصاة مبلولة بماء أو نحوه, أو مص لسان غيره ونحو ذلك مما يكون عليه رطوبة يسيرة؛ ففيه الوجهان المذكوران.
    ولو تعلق بصاقه بخيط ونحوه, ثم أعاده إلى فمه؛ فينبغي أن يخرَّج على هذين الوجهين.
    وإن كان للخيط طعم:
    قال عبد الله: سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط؟ يعجبني أن يتبزق.
    وجعل بعض أصحابنا التبزق لما يجده من طعم الخيوط.
    والأظهر أن التبزق لما يصير على خيط من الريق, ثم يعود إلى فمه, ولأنه نص على أن وضع الدينار والدرهم في الفم لا بأس به ما لم يجد طعمه.
    وإن ابتلع نخامة من صدره أو رأسه؛ فإنه يكره.
    وهل يفطر؟ على روايتين:
    إحداهما: يفطر.
    قال في رواية حنبل: إذا تنخم الصائم ثم ازدرده؛ فقد أفطر, فإن بلع ريقه؛ لم يفطر؛ لأن النخامة تنزل من الرأس والريق من الفم, فبينهما فرق.
    ولو أن رجلاً تنخع من جوفه, ثم ازدرده؛ فقد أفطر؛ لأنه شيء قد بان منه, وكان بمنزلة من أكل شيئاً.
    ولا ينبغي أن يتنخع ويقلع من جوفه [بلغماً] أو غيره؛ إلا أن يغلبه أمر, فيقذفه ولا يزدرده؛ فقد نص على الفطر بنخامة الرأس والصدر, وجعل نخامة الصدر بمنزلة القيء لا يتعمد إخراجها إلا أن يغلب, وهذا لأنه خارج [من البطن] أمكن التحرز من عوده, فأفطر به؛ كالقلس والدم.
    والثانية: لا يفطر. قال ابن عقيل: وهي أصحهما.
    قال في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم؛ إلا أنه لا يعجبني أن يفعل.
    والنخاعة إذا كانت من الصدر ليس فيها طعام؛ فلا بأس, وإن استقاء حتى يخرج الطعام؛ فعليه القضاء.
    ونقل أبو طالب. . . .

    فقد نص على أن النخاعة لا يفطر ابتلاعها مطلقاً, وبيَّن أن التي تخرج من الصدر لا يفطر [بخروجها]؛ إلا أن يخرج الطعام فيكون قيئاً, وهذا. . . .
    وذكر ابن أبي موسى: أن الروايتين في نخامة الصدر, فأما التي من الرأس؛ فيفطر رواية واحدة, والفرق بينهما أن التي من الصدر بمنزلة البصاق؛ بخلاف التي من الرأس.
    فأما القلس إذا خرج ثم عاد بغير اختياره؛ لم يفطره, وإذا ابتلعه عمداً؛ فإنه يفطر, نص عليه في رواية صالح: إذا ابتلع القلس؛ أعاد صومه, وأما في الصلاة؛ فإن كان بقدر ما يكون في الأسنان؛ فأرجو أن لا يكون عليه قضاء الصلاة.
    قال القاضي: وظاهر هذا أنه لا فرق بين الصلاة والصيام, وكذلك لو جرح فمه فسال دمه, كذلك ما يبقى بين الأسنان من خبز ولحم أو سويق ونحو ذلك, إذا أمكنه أن يلفظه فابتلعه ذاكراً لصومه؛ أفطر, سواء كان قليلاً أو كثيراً.
    قال ابن أبي موسى: إن بقي بين أسنانه من طعام ما يعلم به ويقدر على لفظه فازدرده؛ أفطر, وإن كان لا يعلم به, فجرى به الريق عن غير قصد, ويقدر على لفظه, فازدرده؛ لم يفطر.
    وإن أصبح وهو في فيه, فلفظه؛ لم يفطر.
    فأما ما يجري به الريق وهو ما لا يتميز عن الريق؛ فإنه لا يفطر به؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة, وهو التبزق.
    وإذا تنجس فمه بالقيء أو الدم ونحوهما, أو بشيء من خارج, وابتلع ريقه؛ لم يفطر بابتلاع الريق, وإن كان نجساً؛ إلا أن يكون معه جزء من النجاسة يمكن لفظه؛ لأن ما يجري به الريق لا يفطر به؛ كأثر المضمضة وأثر الطعام؛ إلا أن يكون قد وضع النجاسة في فمه عمداً.
    * فصل:
    وما يوضع في الفم من طعام أو غيره لا يفطر؛ لأن المضمضة جائزة بالسنة المستفيضة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتمضمضون في وضوئهم وهم صيام.
    وقد قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً»؛ فأمره بالاستنشاق مع الصوم دون المبالغة فيه.
    وقد ضرب لعمر المثل بالمضمضة في أنها لا تفطر الصائم.

    490 - ولما روي. . .: «أن أسامة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم, وقد شج ودمه يسيل, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمص الدم من شجته».
    والدم محرم أكله, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم [بإدخاله] الدم إلى فمه بآكل ولا منهي عنه في هذا الحال.
    فكذلك الأشياء إذا دخلت فم الصائم لا تضره, لكن يكره ذلك إذا لم تدع إليه الحاجة؛ [لأن فيه حوماً حول الحمى].
    فأما إن كان لحاجة؛ مثل أن يذوق طعم القدر أو خلاَّ ونحوه مما يريد شراءه, أو يمضغ الخبز للصبي ونحو ذلك؛ ففيه روايتان:
    إحداهما: يكره.
    491 - قال في رواية حنبل: عن عكرمة, عن ابن عباس: «لا بأس أن يذوق الصائم الخل والشيء الذي يريد شراءه ما لم يدخل حلقه».
    492 - ومنصور عن الحسن: «أنه كان يمضغ الجوز والشيء لابنه, وهو صائم».
    قال أبو عبد الله: أحب إليَّ أن يجتنب الصائم ذوق الشيء, فإن فعل؛ لم يضره, ولا بأس به».
    وهو اختيار أبي الخطّاب.

    والثانية: لا يكره.
    قال في رواية أبي الحارث: يمضغ للصبي الخبز في شهر رمضان ضرورة.
    وهذا قول أبي بكر وابن عقيل.
    وقال القاضي: إذا كان الشيء الذي يذوقه مما يتحلل إلى حلقه مثل الخل وغيره من الأشياء؛ منع من ذلك. [وإن كان ما لا يتحلل غالباً كالخبز والقثاء ونحو ذلك؛ جاز له ذلك]؛ فإن فعل, فوجد طعمه أو نزل إلى جوفه بغير اختياره:فقال أبو بكر: لا يضرُّه ما لم يبلعه أو يزدرده متعمداً, وعلى الغلبة لا قضاء عليه.
    وقال القاضي وأصحابه وغيرهم من أصحابنا: يفطر بنفس وجود الطعم, وإن ذاقه ثم لفظه؛ لأنه يُعلم أنه قد تحلل إلى حلقه منه شيء؛ بخلاف ما إذا لم يجد طعمه في حلقه, وبخلاف العلك الذي يصلب بالعلك؛ فإن الريق يتميز عنه ويأخذ الطعم منه, وهذه المذوقات لا يتميز الريق منها.
    وأكثر كلام أحمد على هذا, ورواية ابن القاسم توافق قول أبي بكر.
    فأما وضع ما لا طعم له؛ فلا يكره.
    قال في رواية المروذي: إذا وضع الصائم في فمه ديناراً أو درهماً وهو صائم؛ أرجو أن لا يكون به بأس؛ ما لم يجد طعمه, وما وجد طعمه لا يعجبني.
    قال ابن عقيل: وهذا عندي محمول على أجزاء ما يكون على الدينار من غبار وما شاكله, فأما الذهب؛ فلا طعم له في نفسه, ولو كان له طعم؛ فإنه لا يتحلل منه شيء إلى الفم.
    وإذا وجد طعم الدرهم والدينار؛ ففيه وجهان على ما ذكره القاضي.
    فأما ما يبقى في الفم من أجزاء الماء في المضمضة؛ فإنه لا يفطر بوصوله إلى جوفه, وإن أمكن الاحتراز عنه بالبصق, ولا يستحب إخراجه.
    فأما ما يبقى من أثر المذوق. . . .
    ويكره للصائم مضغ العلك, وهو الموميا واللبان, الذي كلما علكه؛ قوي وصلب ولم يتحلل منه شيء؛ لما تقدم من أنه لا حاجة إليه, وهو يحلب الفم ويجمع الريق فيه ويورث العطش, وجمع الريق وبلعه مكروه, ولا يفطر باجتماع هذا الريق وابتلاعه ما لم يجد طعم العلك. قاله القاضي وغيره من أصحابنا.
    وذكر ابن عقيل فيه الروايتين التي تقدمت فيمن جمع الريق وبلعه: فإن ابتلع الريق فوجد طعم العلك في حلقه؛ فقد قال أحمد فيما إذا وجد طعم الدينار: لا يعجبني. وهذا مثله, وفيه وجهان:
    أحدهما: أنه يفطر.
    قال القاضي: وهو ظاهر قوله: «لأنه وجد الطعم في حلقه» , فأفطر كما لو [وجد طعم الكحل] وأولى, ولأن الريق باختلاطه بالعلك وامتزاجه به صار بمنزلة شيء من خارج, فإذا بلعه؛ فقد بلع جسماً له طعم فيفطر؛ كما لو مزج ريقه بخل ثم بلعه.
    والثاني: لا يفطر.
    لأن الطعم عرض, وهو لم ينزل في حلقه شيء من الأجسام, وهو لا يفطر بهذا؛ كما لو وضع رجله في الماء فوجد بردها, كما لو لطخ رجله بالحنظل فوجد طعمه في فيه؛ فإنه لا يفطر.
    فأما الذي يتحلل منه أجزاء وهو يتفشى ويتهرأ بالعلك:
    فقال أصحابنا: لا يجوز له مضغه, ومتى مضغه فوجد طعمه في حلقه؛ أفطر. وقال ابن عقيل: يحرم مضغه ويفسد الصوم؛ لأنه ابتلع في صومه ما يقدر على التحرز منه.

    وقال غيرهما: يحرم؛ إلا إذا لم يبتلع ريقه.
    وقال غيره: هذا إذا لم يكن إليه حاجة, فأما مع الحاجة؛ فيجوز.
    وذكر القاضي: أنه لا يعلكه, ولم يكره؛ كما نص عليه أحمد في مضغ الجوز وغيره.
    وإذا كانت الحاجة إليه؛ ففي الكراهة الروايتان.
    وإذا وجد طعمه وأثره وبصاقه في فيه؛ فعلى الوجهين:
    فإن مضغ هذا العلك, فنزل في حلقه منه شيء؛ أفطر؛ لأنه أجزاء منه؛ فهو كما لو جعل في [فمه] طعام, فذاب ونزل في حلقه.
    وإن وجد الطعم, ولم يتيقن نزول الأجزاء؛ أفطر أيضاً. قاله أبو الخطاب.
    وهو مقتضى قول القاضي؛ لأن طعم هذه العلك لا ينفصل عن أجزائها؛ فإنها تختلط بالريق وتمتزج به.

    وهل يكره السواك الرطب؟ على روايتين:
    إحداهما: يكره. نقلها الأثرم, فقال: لا يعجبني السواك الرطب.
    والثانية: الرطب واليابس سواء.
    قال في رواية ابن هانئ: أرجو؛ أي: سواء كان الرطب واليابس للصائم.
    وهو اختيار أبي بكر.
    وأما ابتلاع ريق الغير؛ فإنه يفطر أيضاً فيما ذكره أصحابنا.
    493 - واعتذروا عما روي عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها». رواه أحمد وأبو داوود.
    فإنه قد روي عن أبي داوود: أنه قال: هذا إسناد ليس بصحيح.
    وإنه يجوز أن يكون المصُّ في غير وقت التقبيل, وأن يكون قد مصه ولم يبتلعه.
    وحمله بعضهم على أن البلل الذي على لسانها لم يتحقق انفصاله إلى فيه ودخوله إلى جوفه لقلته, فلم يفطر على إحدى المقدمتين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 421الى صــ 435
    (28)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام





    الفصل الثالث: إذا فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ فإنه لا يفسد صومه.
    أما القيء والاحتلام: فمن غير خلاف.
    وأما إذا فكر فأنزل: فقد تقدم أن فيها وجهين:
    وإذا قطر في إحليله: لم يفطر بمجرد ذلك, وكذلك لا يفسد صومه لو أنزل بغير شهوة؛ كالذي يخرج منه المني أو المذي لغير شهوة.

    * فصل:
    وقال الأثرم: قضية المباشرة شبيهة بقضية القبلة, فالقبلة إذا خاف الصائم أن ينتشر؛ اجتنبها, وإذا أمن ذلك؛ فلا بأس بها, وذلك أن ينتشر فيمذي فيجرح صومه.
    ولا يباشر الصائم النساء لشهوة. قاله ابن أبي موسى.
    وهل هو محرم أم مكروه؟
    ولفظه: ولا تقرب النساء بجماع ولا مباشرة في نهار الصوم ولا قبلة إذا كان شديداً شابّاً شبقاً يخاف على نفسه.
    فأما مباشرتها لغير شهوة؛ مثل أن يمس يدها لمرض ونحوه؛ فلا يكره؛ كما لا يكره في الإِحرام والاعتكاف.
    وقال ابن عقيل: المباشرات دون الفرج مثل القبلة واللمس والمعانقة والمصافحة لشهوة: إن كان من الشيخ الهرم الذي لا تحرك القبلة منه ساكناً؛ فلا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة, وإن كان شابّاً؛ كره له ذلك, وأثم بفعله.

    فأما القبلة: فإن كانت تحرك شهوته بأن يكون شابّاً؛ كرهت له القبلة. قال بعض أصحابنا: كراهة تحريم. وكذلك ذكر ابن عقيل وأبو الحسين.
    وقال بعضهم: إذا كان ذا شهوة مفرطة؛ بحيث يغلب على ظنه أنه ينزل معها؛ حرمت كما يحرم [عليه] الاستمناء, وإن لم ينزل معه, وإلا؛ كرهت ولم تحرم.
    وإن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته؛ فعلى روايتين:إحداهما: لا بأس بها.
    قال في رواية أبي داوود: إذا كان لا يخاف؛ فإذا كان شابّاً؛ فلا.
    وقال في رواية ابن منصور وقد سئل عن الصائم يقبل أو يباشر: أما المباشرة شديدة, والقبلة أهون.
    والثانية: يكره مطلقاً.
    قال في رواية حنبل: وقد سئل عن القبلة للصائم, فقال: لا يقبل, وينبغي له أن يحفظ صومه, والشاب [ينبغي له] أن يجتنب ذلك؛ لما يخاف من نقض صومه.
    وهذه الكراهة كراهة تحريم فيما ذكره القاضي وابنه أبو الحسين.
    لأن الله سبحانه قال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. . .} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].
    والمباشرة أن تلاقي البشرة للبشرة على وجه الاستمتاع, وهو أعم من الجماع.
    وقد مُدَّ إباحة ذلك إلى تبين الفجر, يدل على ذلك أنه قال في الاعتكاف: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} , وعم ذلك المباشرة بالوطء والغمز والقبلة, وكذلك قوله في آية الحج: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} , [والرفث الجماع ومقدماته].
    وآية الصيام قد ذكر فيها الرفث [والمباشرة] , ولأن كل عبادة حرمت من الوطء؛ حرمت مقدماته؛ كالإِحرام والاعتكاف, ولأن المباشرة والقبلة من دواعي الجماع؛ فلا يؤمن أن يقترن بها إنزال مني أو مذي, أو أن تدعو إلى الازدياد والإِكثار, فيفضي إلى الجماع.
    - فإن سلمة بن صخر رأى بياض ساق امرأته, فدعاه ذلك إلى جماعها.
    ومن نصر هذه الرواية؛ قال: إن تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم كان من خصائصه.
    494 - لما روت عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم, ويباشر وهو صائم, وكان أملككم لإِربه». متفق عليه.

    وفي رواية لمسلم: «في شهر رمضان».
    والرواية الأولى اختيار أبي موسى والقاضي وأصحابه.
    495 - لما روي عن امسلمة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم». متفق عليه.
    وعن عمرو بن أبي سلمة: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له: «سل هذه (لأم سلمة»). فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. فقال: يا رسول الله! قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله؛ إني لأتقاكم لله وأخشاكم له». رواه مسلم.
    [وتكرار] النظر مكروه لمن تحرك شهوته بخلاف من لا تحرك شهوته.
    وقيل: لا يكره بحال.
    496 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له, وأتاه آخر فنهاه عنها؛ فإذا الذي رخص له شيخ, وإذا الذي نهاه شاب». رواه أبو داوود.
    مسألة:
    «ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً؛ أفطر».
    هذه المسألة لها صورتان:
    إحداهما: أن يأكل معتقداً بقاء الليل, فتبين له أنه أكل بعد طلوع الفجر.

    والثانية: أن يأكل معتقداً غروب الشمس لتغيم السماء ونحو ذلك, فتبين أنه أكل قبل مغيبها, وفي كلا الموضعين يكون مفطراً, سواء في ذلك صوم رمضان وغيره, لكن إن كان في رمضان؛ لزمه أن يصوم بقية يومه [حتى لو جامع فيه لزمته الكفارة وعليه القضاء. هذا نصه في غير موضع ومذهبه]
    وإن كان في قضاء رمضان؛ جاز له الخروج منه, والأفضل إتمامه وقضاؤه.
    وإن كان في غير رمضان؛ لم يلزمه المضي فيه؛ سواء كان نفلاً أو نذراً معيناً أو صوم متتابع؛ كصوم كفارة الظهار والقتل, ولا ينقطع تتابعه بالأكل فيه بعد ذلك, هكذا ذكر. . . .
    وذلك لأن الله تعالى يقول: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
    وهذا أكل بعد أن تبين بياض النهار من سواد الليل أو لم يتم صيامه إلى الليل.

    497 - لما روى علي بن حنظلة عن أبيه؛ قال: كنا مع عمر بن الخطاب في شهر رمضان, فلما غابت الشمس فيما يرون؛ أفطر بعض الناس, فقال رجل: يا أمير المؤمنين! هذه الشمس بادية. فقال: «أعاذنا الله من شرك, ما بعثناك راعياً للشمس». ثم قال: «من أفطر منكم؛ فليصم يوماً مكانه».
    498 - وعن بشر بن قيس؛ قال: «كنا عند عمر بن الخطاب في عيشة رمضان, وكان يوم غيم, فجاءنا سويق, فشرب, وقال لي: أتشرب؟ فشربت, فأبصرنا بعد ذلك الشمس, فقال عمر: لا والله؛ ما نبالي أن نقضي يوماً مكانه».
    499 - وعن زيد بن أسلم, عن أخيه, عن أبيه: «أن عمر بن الخطاب أفطر, فقالوا له: طلعت الشمس. فقال: خطب يسير, قد كنا جاهلين». رواهن سعيد.
    ورواه مالك, عن زيد بن أسلم, عن أبيه: «أن عمر أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم, رأى أن قد أمسى وغابت الشمس, فجاءه رجل, فقال: يا أمير المؤمنين! قد طلعت الشمس. فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير, وقد اجتهدنا».
    قال مالك: يريد بذلك القضاء, ويسير مؤنته وخفته فيما نرى. والله أعلم.
    قال أحمد في رواية الأثرم: إذا تسحر وظن الفجر لم يطلع فشرب, ثم علم أنه طلع؛ يقضي يوماً مكانه, ومن أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت. يذهب إلى القضاء؛ على حديث زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه عن عمر بن الخطاب؛ قال: قضاء يوم يسير.
    يقول: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , فيقضي إذا أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت.
    500 - وعن مكحول: أن أبا سعيد الخدري سئل عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلاً, وقد طلع الفجر؟ فقال: «إن كان في شهر رمضان؛ صام يومه ذلك وعليه قضاء يوم مكانه, وإن كان من غير شهر رمضان؛ فليأكل من آخره؛ فقد أكل من أوله».

    501 - وعن يحيى الجزار؛ قال: سئل ابن مسعود عن الرجل يتسحر وهو يرى [أنه ليل] , وقد طلع الفجر؟ قال: «من أكل من أول النهار؛ فليأكل من آخره». رواهن سعيد.
    فقد اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على إيجاب القضاء مع الجهل؛ لأنه أفطر في جزء من رمضان يعتقده وقت فطر, فلزمه القضاء؛ كما لو أفطر يوم ثلاثين من شعبان, فتبين أنه من رمضان.
    والفرق بين هذا وبين الناسي: أنه قد كان يمكنه الاحتراز؛ لأنه أكل باجتهاده, فتبين خطأ اجتهاده؛ بخلاف الناسي؛ فإنه لا يمكنه الاحتراز.
    مسألة:
    وإن أكل شاكّاً في طلوع الفجر؛ لم يفسد صومه, وإن أكل شاكّاً في غروب الشمس؛ فسد صومه.
    هذا منصوص أحمد وأصحابه.
    قال حرب: قيل لأحمد: رجل يتسحر وقد طلع الفجر؟ قال: إذا استيقن بطلوع الفجر؛ أعاد الصيام, وإن شك؛ فليس عليه شيء أرجو.

    إلا أن القاضي ذكر في بعض المواضع: أنه لو أكل يظن أن الفجر لم يطلع؛ كان عليه القضاء, وإن كان الأصل بقاء الليل؛ احتياطاً؛ كما لو أكل وظن أن الشمس غربت.
    وكذلك ذكر ابن عقيل في بعض المواضع: من خاف طلوع الفجر؛ يجب عليه أن يمسك جزءاً من الليل؛ ليتحقق له صوم جميع [النهار] , وقاس عليه يوم [الإِغمام].
    وذكر ابن عقيل في موضع آخر: أنه إذا أكل ثم شك هل طلع الفجر أو غربت الشمس؟ ولم يبين له يقين الخطأ؛ فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يتيقن وجود سبب القضاء.
    والمذهب الذي ذكراه في سائر المواضع وذكره عامة الأصحاب كالمنصوص؛ لأن الأصل بقاء النهار؛ فإذا أكل قبل أن يعلم الغروب؛ فقد أكل في الوقت الذي يحكم بأنه نهار, وإذا أكل قبل أن يتبين الفجر؛ فقد أكل في الوقت الذي يحكم بأنه ليل, ولأن الله سبحانه قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ فمن أكل وهو شاك؛ فقد أكل قبل أن يتبين له الخيط الأبيض.
    ولأن الأكل مع الشك في طلوع الفجر جائز, والأكل مع الشك في الغروب غير جائز؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى, وإذا فعل الجائز؛ لم يفطر؛إلا أن يتبين له الخطأ.
    وإن غلب على ظنه طلوع الفجر:
    فقال بعض أصحابنا: هو كما استيقنه؛ لأن غلبة الظن في مواقيت العبادات تجري مجرى اليقين.
    وظاهر قول أحمد وابن أبي موسى: أنه ما لم يتيقن طلوعه؛ فصومه تام.
    وإن غلب على ظنه غروب الشمس؛ جاز له الفطر.
    وقياس قول القاضي في الصلاة. . . .

    * فصل:
    [الوقت] الذي يجب صيامه من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب قرص الشمس؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
    502 - وعن سهل بن سعد؛ قال: «أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} , ولم ينزل: مِنَ الْفَجْرِ} , فكان رجال إذا أرادوا الصوم؛ ربط أحدهم في رجليه الأبيض والخيط الأسود, ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} , فعلموا إنما يعني الليل والنهار» أخرجاه.
    503 - وعن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ عمدت إلى عقالين؛ عقال أبيض وعقال أسود, فوضعتهما تحت وسادتي, فجعلت أقوم الليل فلا يتبين لي, فلما أصبحت؛ ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «إن وسادك لعريض, إنما هو بياض النهار من سواد الليل». رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
    504 - وعن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا, حتى يستطير هكذا». قال: يعني: معترضاً. رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
    ولفظ أحمد وأبي داوود والترمذي: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال, ولا الفجر المستطيل, ولكن الفجر المستطير في الأفق».
    وفي لفظ لأحمد: «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر (أو: يطلع) الفجر».
    505 - وعن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه يؤذن (أو قال: ينادي) بليل؛ ليرجع قائمكم, ويوقظ نائمكم, وليس الفجر أن يقول هكذا, ولكن يقول هكذا (يعني: الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل»). رواه الجماعة إلا الترمذي.
    وفي رواية صحيحة: «ليس أن يقول هكذا (وضم يده ورفعها) , ولكن يقول هكذا (وفرق بين السباتين»).
    506 - وعن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هما فجران؛ فأما الفجر الذي كأنه ذنب السرحان؛ فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه, وأما المستطير الذي يأخذ الأفق؛ فبه تحل الصلاة ويحرم الصيام». رواه أبو داوود في «مراسيله».
    507 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أقبل الليل, وأدبر النهار, (وفي لفظ: وغابت الشمس)؛ أفطر الصائم».

    508 - وعن عبد الله بن أبي أوفى؛ قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان, فلما غابت الشمس؛ قال: «يا بلال! انزل فاجدح لنا». فقال: يا رسول الله! إن عليك نهاراً. قال: «انزل فاجدح». فنزل, فجدح, فأتاه به, فشرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم (وأشار بأصبعه قبل المشرق»). رواه الجماعة إلا ابن ماجه والترمذي.
    [وفي رواية ابن عيينة عن الشيباني عن ابن أبي أوفى؛ قال: «انزل فاجدح لي». قال: الشمس يا رسول الله! قال: «انزل فاجدح». فجدح له فشرب. قال: فلو نزا أحد على بعيره لرآها (يعني: الشمس) , ثم أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده قبل المشرق, فقال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا؛ فقد أفطر الصائم»].
    * فصل:
    والسنة تعجيل الفطور لقوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
    509 - وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا غربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم».
    510 - «وأمر بلالاً لما غربت الشمس أن ينزل فيجدح لهم السويق».

    511 - وعن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». رواه الجماعة إلا أبا داوود والنسائي.
    512 - وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إن أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً». رواه أحمد واحتج به, وللترمذي حسن غريب.
    513 - وعن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون». رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه, ولفظه: «لا يزال الناس بخير».
    514 - وعن سعيد بن المسيب؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا إفطارهم, ولم يؤخروا تأخير أهل المشرق». رواه مالك وسعيد.
    515 - وعن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل تعجيل فطره وتأخير سحوره؛ فإن الله جاعل لكم من سحوركم بركة». رواهما سعيد.

    516 - وعن أبي عطية الهمداني؛ قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رحمها الله, فقلنا: يا أم المؤمنين! رجلان من أصحاب محمد, كلاهما لا يألوا عن الخير, أحدهما يعجل الإِفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله. قالت: كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: «يعجل المغرب والإِفطار, والآخر يؤخر المغرب والإِفطار». وفي رواية: «والآخر أبو موسى». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن صحيح.
    517 - وعن مورق العجلي, عن أبي الدرداء؛ قال: «ثلاث من أخلاق الأنبياء: التبكير بالإِفطار, والإِبلاغ في السحور, ووضع اليمين على الشمال في الصلاة». رواه سعيد.
    ويستحب التعجيل إذا غاب القرص مع بقاء تلك الحمرة الشديدة, ويستدل على مغيبها باسوداد ناحية المشرق.
    وإذا تيقن أو غلب على ظنه مغيبها؛ جاز له الفطر, وليس عليه أن يبحث بعد ذلك. قاله أصحابنا.

    فأما مع الشك؛ فلا يجوز له الفطر, والاختيار أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب.
    ويتخرج على قول القاضي في مواقيت الصلاة أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب إذا لم يحل بينه وبين الشمس حائل؛ لأنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس, وكذلك على عهد عمر.

    518 - وعن ابن عباس؛ قال: «إذا تسحرت, فقلت: إني أرى ذاك الصبح؛ فكل واشرب, وإن قلت: إني أظن ذاك الصبح؛ فكل واشرب, وإذا تبين لك؛ فدع الطعام, وأما الإِفطار؛ فلا تنظر إلى الشمس؛ فإن الشمس يواريها الجبال والسحاب, ولكن انظر إلى الأفق الذي يأتي منه الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم؛ فإذا رأيت الليل؛ فافطر». رواه سعيد.

    519 - وعن قيس بن أبي حازم؛ قال: أتى عمر بن الخطاب بشراب عند الإِفطار, فقال لرجل عنده: «اشرب لعلك من المسوفين؛ سوف سوف».
    520 - وعن سعيد؛ قال: قال عمر: «عجلوا الفطر, ولا تنطعوا تنطع أهل العراق».
    521 - وعن [أيمن] المكي: أنه نزل على أبي سعيد الخدري, فرآه يفطر قبل مغيب القرص. رواهن سعيد.
    وهذا محمول على القرص الأحمر لا على نفس قرص الشمس.
    522 - وعن مجاهد؛ قال: كنت آتي ابن عمر بشراب للفطر, وكنت أخفيه من الناس لتعجيل الإِفطار. وفي رواية: كان يدعو بالشراب وهو صائم, فآخذ في نفسي من سرعة ما يشرب.
    523 - وعن رجل: «أن ابن عمر كان يدعو بالشراب وهو صائم, فيغمزه ابنه أن لا تعجل حتى يؤذن المؤذن, ففطن له ابن عمر, فقال: ويلك! أترى هذا أفقه في دين الله مني». رواهن سعيد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 436الى صــ 450
    (29)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام






    ويستحب أن يفطر قبل الصلاة:
    لأن التعجيل إنما يحصل بذلك, ولأنه أقرب إلى جمع الهم في الصلاة, ولأن الفصل بين زمن الصوم وغيره مشروع [إذا كان الإِمساك في غير زمان الصوم غير مشروع] , ولهذا استحب الفطر يوم الفطر قبل الصلاة؛ كما يدل عليه حديث بلال.

    524 - وكما [جاء] عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلي, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر قبل الصلاة, وكذلك في حديث عمر وأبي سعيد وابن عمر
    525 - وعن عبد الرحمن بن عبيد؛ قال: حضرنا الإِفطار عند علي في رمضان, فقال: «ابدؤوا فاطعموا؛ فإنه أحسن لصلاتكم». رواه سعيد.
    526 - وعن ابن عباس وطائفة: أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة.
    527 - وقد روي عن مالك, عن ابن شهاب, عن حميد بن عبد الرحمن: أنه أخبره: «أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب, ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا, ثم يفطرا بعد ذلك في رمضان».
    ورواه معمر, عن ابن شهاب, عن حميد بن عبد الرحمن: «أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب في رمضان قبل أن يفطرا».
    وينبغي له أن يفطر على خلوفه:

    528 - لما روى المسيب بن رافع: «أن أبا هريرة كان يكره للصائم عند فطره أن يتمضمض ثم يمجه».
    وفي رواية: أنه قال في مضمضة الصائم عند الإِفطار: «يزدرده ولا يمجه». رواهما سعيد.
    لأنه أثر العبادة فلم يضيعه.
    ويستحب له الفطر على رطب, فإن لم يكن فعلى تمر, فإن لم يكن فعلى ماء:
    هكذا قال أصحابنا.
    529 - لما روى أنس بن مالك؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي, فإن لم تكن رطبات فتمرات, فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء». رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وقال: حديث حسن, والدراقطني وقال: هذا إسناد صحيح.
    530 - وعن سلمان بن عامر الضبي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفطر أحدكم؛ فليفطر على تمرات, فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح, وفي رواية للنسائي: «فإنه بركة».
    531 - وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يفطر على الرطب ما دام الرطب, وعلى التمر إذا لم يكن رطب, ويختم بهن, ويجعلهنَّ وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً». رواه الشافعي في «الغيلانيات».
    ويستحب أن يدعو عند فطره. . . .
    532 - عن مروان بن سالم؛ قال: رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف, وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر؛ قال: «ذهب الظمأ, وابتلت العروق, وثبت الأجر إن شاء الله تعالى». رواه أبو داوود والنسائي والدارقطني, وقال: إسناد حسن.
    533 - وعن معاذ بن زهرة: أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر؛ قال: «اللهم! لك صمت, وعلى رزقك أفطرت». رواه أبو داوود.
    534 - وعن ابن عباس؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر؛ قال: «اللهم! لك صمنا, وعلى رزقك أفطرنا؛ فتقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم». رواه الدارقطني.
    قال القاضي: المستحب له أن يدعو عند إفطاره:

    535 - بما روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إذا صام أحدكم, فقُدَِّم عشاؤه؛ فليذكر الله عز وجل, وليقل: اللهم! لك صمت, وعلى رزقك أفطرت, سبحانك وبحمدك, اللهم! تقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم».
    536 - وعن الربيع بن خيثم: أنه كان إذا أفطر؛ قال: «الحمد لله الذي أعانني فصمت, ورزقني فأفطرت». رواه سعيد.
    * فصل:
    والسحور سنة, وكانوا في أول الإِسلام لا يحل لهم ذلك.

    537 - قال البراء بن عازب: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً, فحضر الإِفطار, فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي, وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً, فلما حضر الإِفطار؛ أتى امرأته, فقال: أعندك طعام؟ قالت: لا, ولكن انطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل, فغلبته عينه, فنام, جاءته امرأته, فلما رأته؛ قالت له: خيبة لك! فلما انتصف النهار؛ غشي عليه, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] , ففرحوا بها فرحاً شديداً, ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}».

    538 - وعنه أيضاً؛ قال: «لما نزل صوم رمضان؛ كانوا لا يقربون النساء رمضان كله, وكان رجال يخونون أنفسهم, فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ. . .} الآية [البقرة: 187]».
    رواهما البخاري.
    539 - قال البراء بن عازب: «كانوا إذا أكلوا لم يأكلوا إلا أكلة حتى يكونوا من الغد. قال: فعمل رجل من الأنصار في أرض له, فجاء, فقامت امرأته تبتاع شيئاً, فغلبته عيناه, فقام, فأصبح وهو مجهود, فنزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]». رواه أحمد في «الناسخ و [المنسوخ]».
    540 - وعن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ يعني بذلك أهل الكتاب,[وكان] كتابه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح ما بينه وبين أن يصلي العتمة أو يرقد؛ فإذا صلى العتمة ورقد؛ منع ذلك إلى مثلها من القابلة, فنسختها هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. . .} الآية [البقرة: 187]». رواهما أحمد في «الناسخ والمنسوخ».

    وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى أن الأكل والشرب والنكاح كان مباحاً إلى أن يرقد أو يصلي العشاء.
    541 - وقال ورقاء: عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: «كانوا يصومون, فإذا أمسوا؛ أكلوا وشربوا وجامعوا, فإذا رقد أحدهم؛ حرم ذلك كله إلى مثلها من القابلة, وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك, فخفف الله عنهم, وأحل لهم الطعام والشراب والجماع قبل النوم وبعده في الليل كله».

    542 - وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس؛ في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}: «وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء؛ حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة, ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء, منهم عمر بن الخطاب, فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ. . .} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}؛ يعني: انكحوهن, {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}؛ يعني بياض الفجر من سواد الليل, والرفث هو النكاح».

    543 - وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ قال: «كتب عليهم إذا نام أحدهم ولم يطعم؛ شيئاً إلى القابلة, وحرم عليهم الرفث إلى نسائهم ليلة الصيام الشهر كله, فرخص الله لكم, وهو اليوم عليهم ثابت». رواه أحمد.
    544 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحروا؛ فإن في السحور بركة». رواه الجماعة إلا أبا داوود.
    545 - وعن أبي هريرة مثله. رواه أحمد والنسائي.
    546 - وعن ابن مسعود. رواه النسائي.
    547 - وعن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السحور بركة؛ فلا تدعوه, ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين». رواه أحمد.
    قال بعض أصحابنا: وكل ما حصل منه أكل أو شرب؛ حصلت به فضيلة السحور؛ لقوله: «ولو على جرعة ماء».
    والأشبه: أنه إن قدر على الأكل؛ فهو السنة.
    548 - وعن عمرو بن العاص؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
    549 - وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين».
    550 - وعن سعيد بن عبد الله بن أبي هند؛ قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده قبضة من تمر, فقال: «نعم؛ سحور المسلم التمر».
    551 - وعن راشد بن سعد؛ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السحور؟ فقال: «ذاك الغذاء المبارك».
    552 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل, وبأكل السحر على صيام النهار». رواهن سعيد.
    والسنة تأخيره.
    553 - لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطور». رواه أحمد.
    وعن مكحول. . . .

    554 - وعن أنس عن زيد بن ثابت؛ قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية».
    رواه الجماعة إلا أبا داوود.
    ويجوز له أن يأكل ما لم يتبين طلوع الفجر, وإن أكل شاكّاً فيه من غير كراهة, لكن يستحب تركه إذا شك في طلوع الفجر, قاله كثير من أصحابنا.
    قال أصحابنا: فإن شك في الفجر؛ فالاحتياط أن لا يأكل.
    فإن أكل ولم يتيقن طلوعه؛ فصومه صحيح, وإن غلب على ظنه طلوعه؛ لم يجز الأكل, فإن أكل؛ قضي؛ لأن غالب الظن في المواقيت كاليقين.
    وأما الجماع؛ فيكره مع الشك.
    قال أحمد في رواية أبي القاسم: الجماع في السحر. . . في وقت ليس هو مثل الأكل, الأكل أخف وأيسر, وأخاف عليه من الجماع لا يسلم.
    وقال في رواية أبي داوود: إذا شك في الفجر؛ يأكل حتى يستيقن طلوعه؛ قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

    وقال في رواية يوسف بن موسى: تأخير السحور حتى يعترض الفجر, فإذا كان الطول ناحية القبلة؛ فذلك هو الكاذب, وإذا كان هكذا وأبعد ومدَّ يده باع؛ فذلك هو الصادق.
    وقال في رواية حنبل وقد ذكر حديث عدي بن حاتم: ولكن بياض النهار وسواد الليل.
    قال أبو عبد الله: إذا طلع؛ [فهو] وقت لا يأكل ولا يشرب؛ فجعل الله عز وجل الفجر علماً وفصلاً بين الليل والنهار.

    فقد نص على أنه إذا طلع الفجر الصادق؛ حرم الأكل والشرب.
    ونص في رواية حرب والأثرم وغيرهما: أنه إذا تبين أنه أكل بعد طلوع الفجر؛ أفطر. وهذا هو المذهب.
    555 - وقال في رواية عبد الله: عن سواد بن حنظلة, عن سمرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنكم من السحور أذان بلال, ولا الصبح المستطير في الأفق».
    556 - وقال: عن قيس بن طلق بن [علي] , عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الفجر الأبيض المعترض ولكنه الأحمر».
    وهذا يدل على جواز الأكل إلى ظهور الحمرة, وقد جاءت الأحاديث تدل على مثل.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان


    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 451الى صــ 465
    (30)
    المجلد الاول
    كتاب الصيام






    557 - كما روت عائشة وابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن لكم ابن أم مكتوم». متفق عليه.
    وفي رواية لأحمد والبخاري: «فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر». قال ابن شهاب: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت.

    فقد أجاز الأكل إلى حين يؤذن ابن أم مكتوم, مع قوله: «إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» , ومعلوم أن من أكل حين تأذينه؛ فقد أكل بعد طلوع الفجر؛ لأنه لا بد أن يتأخر تأذينه عن طلوع الفجر ولو لحظة.
    558 - وعن أبي سلمة, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته». رواه أبو داوود بإسناد جيد.
    ومعلوم أنه أراد النداء الثاني الذي أخبر أنه بعد طلوع الفجر.
    559 - وعن قيس بن طلق, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا, ولا يهدينكم الساطع المصعد, وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر». رواه أبو داوود والترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه وقد اعتمده أحمد.

    560 - وعن حذيفة؛ قال: كان بلال يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر, وإني لأبصر مواقع نبلي. قلت: أبعد الصبح؟ قال: «بعد الصبح؛ إلا أنها لم تطلع الشمس». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح.
    561 - وعن حكيم بن جابر؛ قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر, فقال: الصلاة. فذهب ثم رجع, فقال: الصلاة. ثم ذهب ثم رجع, فقال: يا رسول الله! لقد أصبحنا. فقال: «يرحم الله بلالاً, لولا بلال؛ لرجونا أن يرخص لنا إلى طلوع الشمس». رواه سعيد وأبو داوود في «مراسيله».
    562 - وعن مسروق؛ قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم, إنما يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.
    563 - وعن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن حذيفة؛ قال: «خرجت معه في رمضان إلى الكوفة, فلما طلع الفجر؛ قال: هل كان أحد منكم آكلاً أو شارباً؟ قلنا: أما رجل يريد الصوم؛ فلا. فقال لكني. ثم سرنا, حتى إذا استبطأته بالصلاة, فقال: هل كان منكم أحد آكلاً أو شارباً؟ قلنا: أما رجل يريد الصوم؛ فلا. قال: لكني, فنزل فتسحر ثم صلى».
    564 - وعن حبان بن الحارث؛ قال: «أتيت عليّاً وهو معسكر بدير أبي موسى, فوجدته يطعم, فقال: ادن فاطعم. قال: قلت: إني أريد الصيام. قال: وأنا أريد الصيام: قال: فطعمت معه, فلما فرغ؛ قال: ابنَ التياح! أقم الصلاة».
    والصحيح الأول, وأنه إذا دخلت الصلاة؛ حرم الطعام؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.
    [فمنه أدلة:
    أحدها: قوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}] , ولو كان المراد به انتشار الضوء؛ لقيل الخيط الأحمر؛ فإن الضوء إذا انتشر ظهرت الحمرة.
    الثاني: أن الخيط الأبيض يتبين منه الأسود بنفس طلوع الفجر, فينتهي وقت جواز الأكل والشرب حينئذ.
    الثالث: تسميته لبياض النهار وسواد الليل بالخيط الأبيض والخيط الأسود دليل على أنه أول البياض الذي يبين في السواد مع لطفه ودقته؛ فإن الخيط يكون مستدقاً.
    الرابع: قوله: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: دليل على أنه يتميز أحد الخيطين من الآخر, وإذا انتشر الضوء؛ لم يبق هناك خيط أسود.
    وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي: «إنما هو بياض النهار وسواد الليل» , فعلم أنه أول ما يبدو البياض الصادق يدخل النهار, كما أنه أول ما يقبل من المشرق السواد يدخل الليل.
    وأيضاً؛ فإنهم كانوا أولاً يربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود, فنزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ لرفع هذا التوهم.
    ثم إن عديّاً رضي الله عنه جعل تحت وسادته عقالين أبيض وأسود, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن وسادك لعريض» , وهو كناية عن عرض القفا الذي يكنى به عن قلة الفهم.

    وفي رواية: أنه قال له: «يا ابن حاتم! ألم أقل لك: من الفجر, إنما هو بياض النهار وسواد الليل».
    فهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم: أن الانتظار إلى أن يتبين مواقع النبل وينتشر الضوء حتى يتبين العقال الأبيض من الأسود غير جائز, وأن بعض المسلمين كان قد غلط أولاً في فهم قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ثم نزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} , وغلط بعضهم في فهمها بعد ذلك.
    وأيضاً قوله: «ولكن يقول هكذا» وفرق بين السبابتين. وقوله: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل في الأفق».
    وفي لفظ: «نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر (أو: يطلع) الفجر»:
    دليل على أنه متى ظهر البياض المعترض المنتشر الذي به ينفجر الفجر؛ فقد حرم الطعام.
    وقد بين ذلك قوله: «وأما الذي يأخذ الأفق؛ فهو الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام». فبين أن الذي به تحل الصلاة ويحرم الطعام.
    وأما حديث حذيفة ومسروق:
    ففيهما ما يدل على أن عامة المسلمين كانوا على خلاف ذلك.
    والحديث المرفوع يحتمل أحد شيئين:
    أحدهما: أن تلك الليلة كانت مقمرة, فكان يبصر مواقع النبل لضوء [القمر] , فاعتقد أنه من ضوء النهار, وهذا يشتبه كثيراً في الليالي التي يقمر آخرها, وتقدم ذكر أحمد ونحو هذا.

    قال حرب: سألته؛ قلت: رجل يأكل بعد طلوع الفجر في رمضان وهو لا يعلم؟ قال: يعيد يوماً مكانه. قلت: فالأحاديث التي رويت في هذا, وذكرت له حديث حذيفة؟ قال: إنه ليس في الحديث أن الفجر كان قد طلع.
    الثاني: أن يكون هذا منسوخاً, وكان هذا في الوقت الذي كان رجال يربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود, ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, حتى نزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} , ويكون هذا كان الواجب عليهم كما فهموه من الآية, ثم نسخ ذلك بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ}.
    وكذلك قوله في الحديث المرسل: «لولا بلال؛ لرجونا أن يرخص لنا إلى طلوع الشمس»: دليل على أن التحديد بالفجر لم يكن مشروعاً إذْ ذاك.
    وأما حديث: «فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» , وقوله: «إذا سمع أحدكم النداء والإِناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته»؛ فقد قال أحمد في الرجل يتسحر فيسمع الأذان؛ قال: يأكل حتى يطلع الفجر. فهو دليل على أنه لا يستحب إمساك جزء من الليل, وأن الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: داخلة في المغيَّى؛ بخلافها في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , ولهذا جاءت هذه بحروف (حتى) , ولا ريب أن الغاية المحدودة بـ (حتى) تدخل فيما قبلها؛ بخلاف الغاية المحدودة بـ (إلى).

    قال أحمد في رواية الميموني في رجل أخذ في سحوره, ثم نظر إلى الفجر: فإن كان قد أكل بعد طلوعه؛ فعليه القضاء, وإن لم يعلم أنه أكل بعد طلوع الفجر؛ فليس عليه شيء.
    قال القاضي: وظاهر هذا من كلامه أن الأكل إذا اتصل عند طلوع الفجر؛ لم يضره, ولم يؤثر في النية.

    لكن الذي ذكر القاضي في «خلافه» وغيره من أصحابنا: أنه يجب الإِمساك قبل طلوع الفجر؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب, ولا يتم صوم جميع النهار إلا بصوم آخر جزء من الليل, ولهذا وجب عليه غسل جزء من الرأس يستوعب الوجه, وغسل رأس العضد يستوعب المرفق.
    وإما إذا شك في طلوع الفجر؛ فيجوز له الأكل؛ لقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. . .} , والشاك لم يتبين له شيء, ولحديث ابن أم مكتوم وأبي هريرة, وقد تقدم عن ابن عباس قوله: «إذا تسحرت فقلت: إني أرى ذلك الصبح؛ فكل واشرب. وإن قلت: إني أظن ذلك الصبح؛ فكل واشرب, وإذا تبين لك؛ دع الطعام».

    565 - وعن أبي الضحى؛ قال: جاء إلى ابن عباس, فسأله عن السحور, فقال رجل من جلسائه: حتى تشك. فقال ابن عباس: «إن هذا لا يقول شيئاً, كل ما شككت حتى لا تشك».
    566 - وعن عطاء؛ قال: قال ابن عباس لرجل: «طلع الفجر؟». قال: لا. فقال لآخر: «طلع الفجر؟». قال: نعم. قال: «اختلفتما اسقني». رواهما سعيد.
    والشك تارة يكون مع رعايته للفجر؛ فلا يدري أطلع الضوء أم لا؟ وتارة لاختلاف المخبرين به, وتارة لكونه في موضع محجوب عن الفجر وليس عليه أن يبحث.
    567 - عن أبي قلابة؛ قال: قال أبو بكر الصديق وهو يتسحر: «يا غلام! أجف الباب لا يفجأنا الصبح». رواه سعيد.

    * فصل:
    ويكره الوصال الذي يسميه بعض الناس: الطي. نص عليه في رواية المروذي والأثرم.
    قال في رواية حنبل: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفطر على تمرات أو شربة ماء, فيستحب له أن يفطر على تمرات أو ماء, ولا يعجبني أن يواصل,نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
    [عن ثابت] , عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل, فواصل ناس من الناس, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «لو مد لي الشهر؛ لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم, إني لست كهيئتكم, إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني».
    568 - وابن الزبير كان يواصل من الجمعة إلى الجمعة؛ لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
    569 - قالت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: أردت أن أصوم يومين متواصلة, فنهاني عن ذلك, وقال: إنما يفعل ذلك النصارى, صوموا كما أمركم الله؛ فإذا كان الليل فأفطروا.
    570 - وعن أبي العالية: أنه قال في الوصال في الصيام, فعابه, ثم قال: قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}؛ فإذا جاء الليل؛ فهو مفطر, فإن شاء أكل, وإن شاء ترك. رواهما سعيد.
    571 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال, فقالوا: إنك تفعله. فقال: «إني لست كأحدكم, إني أظل يطعمني ربي ويسقيني».
    572 - وعن أنس نحوه.
    573 - وعنه قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان, فواصل ناس من المسلمين, فبلغه ذلك, فقال: «لو مد لنا الشهر؛ لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم, إنكم لستم مثلي (أو: لست مثلكم) , إني أظل يطعمني ربي ويسقين». متفق عليهما.
    574 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إياكم والوصال». فقيل: إنك تواصل. قال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين, فاكلفوا من العمل ما تطيقون». متفق عليهما.
    575 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قال: نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم, فقالوا: إنك تواصل. فقال: «إني لست كهيئتكم, إني يطعمني ربي ويسقين». أخرجاه.
    576 - وعن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ى تواصلوا؛ فأيكم أراد أن يواصل؛ فليواصل حتى السحر». قالوا: إنك تواصل يا رسول الله! قال: «لست كهيئتكم, إني أبيت لي مطعم يطعمني وساقٍ يسقيني». رواه البخاري.
    [وتفسيره] في أظهر الوجهين: أن الله يغذيه بما يغنيه عن الأكل والشرب المعتاد من العلم والإيمان؛ لقوله: «أظل عند ربي» , وذاك إنما يكون بالنهار, ولو أكل الأكل المعتاد بالنهار؛ لأفطر, [ولأنه بيَّن] أنه يواصل, ولو كان يأكل؛ لم يكن مواصلاً.
    وأطلق أصحابنا الكراهة, وهذه كراهة تنزيه فيما ذكر أصحابنا؛ لأن أصحاب رسول واصلوا بعد نهيهم, ولو فهموا منه التحريم؛ لما استجازوا أن يعصوا الله ورسوله, بل فهموا أنه نهى رحمة ورفقاً بهم, فظنوا أن بهم قوة على الوصال, وأنهم لا حاجة بهم إلى الفطر, فغضب صلى الله عليه وسلم من هذا الظن المخطئ, ولأنه مجرد ترك الأكل بغير نية الصوم على وجه لا يخاف معه التلف ولا ترك واجب, ومثل هذا لا يكون محرماً.
    فإن واصل إلى السحر؛ جاز له من غير كراهة لما تقدم.
    وتعجيل الفطر أفضل لما تقدم أيضاً.
    وقد روى حنبل عن أحمد: أنه واصل بالعسكر ثمانية أيام, ما رآه طعم ولا شرب حتى كلمه في ذلك, فشرب سويقاً, لما طلبه المتوكل.
    فقال أبو بكر: قوله: ما أكل فيها ولا شرب: يحتمل أنه ما رآه أكل ولا شرب, ويكون قد أكل وشرب بحيث ر يراه. قال: لأن أحمد لا يرى أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى المروذي عنه أنه كان إذا واصل؛ شرب شربة ماء. . . .

    * فصل:
    فإن أكل أو شرب ما يرويه وإنْ قل؛ خرج عن حكم النهي.
    قال القاضي وابن عقيل: وهو مقتضى ما ذكره المروذي عن أحمد: أنه كان إذا واصل؛ شرب شربة ماء.
    * فصل:
    وصيام الدهر منهي عنه.
    577 - قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فسر مسدود قول أبي موسى:«من صام الدهر؛ ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها». فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك» وما فيه من الأحاديث.
    وهو إن سرد الصوم يدخل فيه الأيام المنهي عن صيامها: يوم العيدين, وأيام التشريق, وإذا ترك ذلك؛ لم يكن صائماً للدهر المنهي عنه.
    هكذا قال أحمد في رواية صالح: إن صام رجل وأفطر أيام التشريق والعيدين؛ رجوت أن لا يكون بذلك بأس, وليس بصائم الدهر.
    وقال في رواية حنبل: إذا أفطر العيدين. . . فليس ذلك صوم الدهر.
    578 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هن أيام عيد, وأيام أكل وشرب».
    قال: ويعجبني أن يفطر منه أياماً.
    قال القاضي: وظاهر قوله: الأفضل أن يفطر مع هذه الأيام الخمسة أياماً أخر لا بعينها, أفضل من سردها بالصيام, فإن سرد لم يكن منهياً عنه.
    وقال أبو محمد: عندي أن صوم [الدهر] مكروه, وإنْ لم يصم هذه الأيام, فإن صامها؛ فقد فعل محرماً. . . .
    وهذا في شهر رمضان أعظم لحرمة الشهر.
    قال ابن أبي موسى: ينبغي له أن يحفظ لسانه وجوارحه ويعظم من شهر رمضان ما عظم الله تعالى.

    * فصل:
    وما كان مكروهاً أو محرماً من الأقوال والأعمال في غير زمن الصوم؛ [ففيه] أشد تحريماً وكراهة.
    فيجب على الصائم أن يحفظ صومه من قول الزور والعمل به, ويجتنب الغيبة والرفث والجهل وغير ذلك من خطايا اللسان, وينبغي له أن يترك من المباح ما لا يعنيه من الألفاظ.
    قال أصحابنا: يستحب للصائم أن ينزه صيامه عن اللغو والرفث والكذب والنميمة والمشاتمة والمقاتلة وعن كل لفظ لا يعنيه.
    قال أبو عبد الله في رواية حنبل: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري, ويصون صومه.
    579 - كانوا إذا صاموا؛ قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا.
    والغيبة تكره للصائم؛ فلا يغتاب أحداً, ولا يعمل عملاً يجرح به صومه, ولا تفطر الغيبة للصائم.
    ولذلك قال في رواية. . . .
    ونقل عنه حرب التوقف في الفطر بالغيبة, فقال: قلت لأحمد: الرجل وهو صائم يعيد الصوم؟ قال: لا أدري كيف هذا وأمسك عنها, وقال: ما أدري.

    580 - وذكر أن عبد الرحمن بن مهدي كان يأمر بالوضوء من الغيبة.
    581 - وقال إسحاق بن راهوية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور في صيامه؛ فليس له من صيامه شيء».
    582 - وقال عدة من أهل العلم من التابعين: إن الكذب يفطر الصائم, والغيبة كذلك؛ لقوله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

    583 - وعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». رواه الجماعة؛ إلا مسلم وابن ماجه.

    584 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث يومئذٍ ولا يصخب؛ فإن شاتمه أحد أو قاتله؛ فليقل: إني امرؤ صائم, والذي نفس محمد بيده؛ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر؛ فرح بفطره, وإذا لقي ربه؛ فرح بصومه». متفق عليه.
    اللهم اغفر لي وارحمني.
    *******
    انتهى المجلد الأول من كتاب الصيام
    ويليه
    المجلد الثاني
    وأوله باب صيام التطوع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان



    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 545الى صــ 555
    (31)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (1)


    باب صيام التطوع
    مسألة:
    أفضل الصيام صيام داوود عليه السلام, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
    هذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, و
    هو لفظ الإِمام أحمد.
    قال في رواية صالح: «أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داوود عليه السلام, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً».
    585 - وذلك لما روى عمرو بن أوس, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داوود, وإن أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً». رواه الجماعة إلا الترمذي.

    586 - وعن سعيد وأبي سلمة: أن عبد الله بن عمرو قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومنَّ الليل ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الذي تقول ذلك؟». فقلت له: قد قلته بأبي أنا وأمي يا رسول الله! قال: «فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر, ونم وقم, وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر». قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يوماً وأفطر يومين». قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يوماً وأفطر يوماً؛ فذلك صيام داوود عليه السلام, وهو أعدل الصيام (وفي رواية: هو أفضل الصيام»). قال: قلت: فإني أطيق أفضل م
    ن ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أفضل من ذلك». وفي رواية: قال عبد الله بن عمرو: ولأن أكون قبلت الثلاثة أيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أهلي ومالي. رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.

    وفي رواية عن أبي سلمة [عنه]؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك تصوم النهار وتقوم الليل؟». قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تفعل؛ صم وأفطر؛ ونم وقم؛ فإن لجسدك عليك حقّاً, وإن لعينك عليك حقّاً, وإن لزوجك عليك حقّاً, وإن لزورك عليك حقّاً, وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام؛ فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها؛ فإن ذلك صي
    ام الدهر». فشدَّدت فشدد عليَّ. قلت: يا رسول الله! إني أجحد قوة. قال: «صم صيام نبي الله داوود لا تزد عليه». قلت: وما كان صيام داوود؟ قال: «نصف الدهر». وكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
    587 - وعن أبي المليح بن أسامة, عن عبد الله بن عمرو؛ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له صومي, فدخل عليَّ, فألقيت وسادة من أدم حشوها ليف, فجلس على الأرض, وصارت الوسادة بيني وبينه, وقال: «أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «خمساً». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «سبعاً». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «تسعاً». قلت: يا رسول الله! قال: «إحدى عشرة». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صوم فوق صوم داوود, شطر الدهر, صم يوماً وأفطر يوماً». أخرجاه.

    مسألة:
    وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم.
    588 - هذا لفظ الحديث الذي رواه أبو هريرة؛ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل». فقيل: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شهر الله المحرم»
    . رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
    ويحتمل معنيين:
    أحدهما: أن يكون اسم جنس, وأن يكون مختصّاً بالش
    هر الذي هو الحول. . . .
    وهذا في أفضل الصيام لمن يصوم شهراً واحداً, والأولى أفضل الصيام لمن يصوم صوماً دائماً في كل وقت. . . .

    * فصل:
    وجاء في صوم الأشهر الحرم مطلقاً.
    589 - ما روي عن أبي السليل, عن مجيبة الباهلي, عن أبيه أو عمه؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله! أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. قال: «فما لي أرى جسمك ناحلاً؟». قال: يا رسول الله! ما أكلت طعاماً بالنهار ما أكلته إلا بالليل. قال: «من أمرك أن تعذب نفسك؟». فقلت: يا رسول الله! إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر ويوماً بعده». قلت: إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر ويومين بعده». قلت: إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر الحرم». رواه الخمسة إلا الترمذي, وهذا لفظ ابن ماجه.
    ولفظ أبي داوود: عن أبي السليل, عن أبي مجيبة الباهلية, عن أبيها أو عمها: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته, فقال: يا رسول الله! أما تعرفني؟ قال: «ومن أنت؟». قا
    ل: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول. قال: «فما غيَّرك وقد كنت حسن الهيئة؟». قال: ما أكلت طعاماً منذ فارقتك إلا بليل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم عذبت نفسك». ثم قال: «صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر». قال: زدني؛ فإن في قوة. قال: «صم يومين». قال: زدني. قال: «صم ثلاثة أيام». قال: زدني. قال: «صم من الحرم واترك, صم من الحرم واترك, صم من الحرم واترك». وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.

    * فصل:
    ويكره إفراد رجب بالصوم.
    قال أحمد في رواية حنبل: يفطر في رجب ولا يشبه برمضان.
    وقال في روايته: من كان يصوم السنة؛ صامه, وإلا؛ فلا يصومه متوالياً.
    590 - وقال في رواية ابن الحكم: يروى في صوم رجب عن عمر أن
    ه كان يضرب على صوم رجب.
    591 - وابن عباس قال: لا يصومه؛ إلا يوم أو أيام.
    وقال: يروى عن وبرة, عن خرشة بن الحر, عن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يضرب على صوم رجب».
    وإن صامه رجل؛ أفطر فيه يوماً أو أياماً بقدر ما لا يصومه كله.
    592 - وروي عن أبي بكرة: «أنه دخل على أهله, فرأى عندهم سلالاً جُدداً وكيزاناً, فقال: ما هذا؟ قالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان؟! فأكفأ السلال وكسر الكيزان».

    593 - وذلك لما روى داوود بن عطاء, حدثني زيد بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, عن سلمان, عن أبيه, عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب». رواه ابن ماجه.
    قال أحمد: لا يُحدث عن داوود بن عطاء بشيء.
    واعتمد أحمد على ما روي عن وبرة عن خرشة بن الحر: «أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوا عن طعامه حتى يضعوا فيه, ويقول: إنما هو شهر كانت الجا
    هلية يعظمونه».
    594 - وعن عطاء, عن ابن عباس؛ قال: «لا تتخذوا رجب عيداً ترونه حتماً مثل شهر رمضان, إذا أفطرتم اليوم قضيتموه». رواهما سعيد.
    وروى أحمد عن خرشة؛ قال: «رأيت عمر يضرب أيدي المترجِّبين حتى يضعوها في الطعام, ويقول: كلوا؛ فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية».
    595 - وعن ابن عمر: أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب؛ كرهه, وقال: «صوموا منه وأفطروا».
    وعن ابن عباس نحوه.
    وعن أبي بكرة: «أنه دخل على أهله وعندهم سلالاً جدد وكيزان, فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان؟ فألقى السلال وكسر الكيزان». رواهن أحمد.
    596 - عن حصين بن أبي [الحر]؛ قال: أتيت عمران بن حصين لحاجة وأنا صائم, فدعا بطعام, فقلت
    : إني صائم. فقال: لا تصومن يوماً تجعله صوم عليك حتماً ليس شهر رمضان».
    597 - وقال إبراهيم: «كانوا يكرهون أن يوقتوا شهراً معلوماً أو يوماً معلوماً أن يصوموه». رواهما سعيد.
    قال أبو حكيم وغيره: إذا صام قبله أو بعده؛ لم يكره, وإنما يكره إفراده بالصوم.

    مسألة:
    وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة.
    . . . قال أصحابنا: «ويستحب صوم عشر ذي الحجة».
    وفي الحقيقة المعنى صوم تسع ذي الحجة, وآكدها يوم التروية وعرفة.
    598 - وعن حفصة؛ قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ص
    يام عاشوراء, والعشر, وثلاثة أيام من كل شهر, والركعتين قبل الغداة». رواه أحمد والنسائي.
    وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع من
    ذي الحجة, ويوم عاشوراء, وثلاثة أيام من كل شهر؛ أول اثنين من شهر وخميس». رواه أحمد وأبو داوود والنسائي.
    599 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة, يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة, [وقيام كل ليلة منها بليلة القدر». رواه الترمذي وابن ماجه, وفيه ضعف].
    600 - وقد روي عن عائشة؛ قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط». رواه الجماعة إلا البخاري.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان




    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 556الى صــ 565
    (32)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (2)

    مسألة:
    ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال؛ فكأنما صام الدهر.
    وجملة ذلك أن إتباع رمضان بست من شوال مستحب, نص عليه أحمد في غير موضع, وقال في رواية الأثرم: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه, عن أبي أيوب وجابر وثوبان: «م
    ن صام ستّاً من شوال؛ فكأنما صام السنة كلها».
    فالصيام بعد الفطر من أوله إلى آخره؛ لأن ستة أيام بشهرين, وشهر بعشرة أشهر.
    601 - وذلك لما روى أبو أيوب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان, ثم أتبعه ستّاً من شوال؛ فذلك صيام الدهر». رواه الجماعة إلا البخاري.

    ويقال: هو من حديث سعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت عن أبي أيوب.
    وقد رواه أبو داوود والنسائي من حديث صفوان بن سليم عن عمر بن ثابت أيضاً.
    602 - وعن جابر؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام رمضان وستّاً من شوال؛ فكأنما صام السنة كلها». رواه أحمد.
    603 - وعن ثوبان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من ص
    ام رمضان وستة أيام بعد الفطر؛ كان تمام السنة, ومن جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها». رواه ابن ماجه.
    604 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك صيام الدهر» , و «كان كصيام الدهر»: هو مثل قوله لعبد الله بن عمرو: «صم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر».
    605 - وكذلك قوله في حديث أبي قتادة: «ثلاثة أيام من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله».
    وذلك أن صيام الدهر وهو استغراق العمر بالعبادة, وذلك عمل صالح, لكن لما فيه من صوم أيام النهي والضعف عن ما هو أهم منه؛ كره؛ فإذا صام ستة مع الشهر الذي هو ثلاثون؛ كتب له صيام ثلاث م
    ئة وستين يوماً؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها, وكذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم, فحصل له ثواب من صام الدهر من غير مفسدة, لكنْ بصومه رمضان, ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر؛ حصل له ثواب صيام الدهر بدون رمضان, ويبقى رمضان له زيادة.
    606 - وهذا كما قال الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات: «هي خمس, هي خمسون؛ لا يبدل القول [لديّ]

    فهي خمس في العمل وخمسون في الأجر.
    وكان أحمد ينكر على من يكرهها كراهة أن يلحق برمضان ما ليس منه؛ لأن السنة وردت بفضلها والحض عليها, ولأن الإِلحاق إنما خيف في أول الشهر؛ لأنه ليس بين رمضان وغيره فصل, وأما في آخره؛ فقد فصل بينه وبين غيره بيوم العيد, وكان نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد وحده دليلاً على أن النهي مختص به, وأن ما بعده وقت إذن وجواز, ولو شاء؛ لنهى عن أكثر من يوم؛ كما قال في أول الشهر: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين».
    وسواء صامها عقيب الفطر أو فصل بينهما, وسواء تابعها أو فرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأتبعه بست من شوال» , وفي رواية: «ستّاً من شوال» , فجعل شوالاً كله محلاً لصومها, ولم يخصص بعضه من بعض, ولو اختص ذلك ببعضه؛ لقال: «ستّاً من أول شوال أو من آخر شوال» , وإتباعه بست من شوال يح
    صل بفعلها من أوله وآخره؛ لأنه لا بد من الفصل بينها وبين رمضان بيوم الفطر, وهو من شوال, فعلم أنه لم يرد بالإِتباع أن تكون متصلة برمضان, ولأن تقديمها أرجح, [رجحه] كونه أقرب وأشد اتصالاً, وتأخيرها أرجح؛ لكونه لا يلحق برمضان ما ليس منه, أو يجعل عيد ثان كما يفعله بعض الناس, فاعتدلا.


    مسألة:
    وصوم عاشوراء كفارة سنة, وعرفة كفارة سنتين.
    607 - الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن معبد الزِّمَّاني, عن أبي قتادة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة, وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية». رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داوود.
    وفي لفظ: «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله, فلما رأى غضبه؛ قال: رضينا بالله ربّاً وبالإِسلام ديناً وبمحم
    د نبيّاً».
    وفي لفظ: وبيعتنا بيعة, نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله.
    فجعل عمر يردد الكلام حتى سكن غضبه, فقال عمر: يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر (أو قال: لم يصم ولم يفطر»). قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال:
    «ويطيق ذلك أحد؟!». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: «ذلك صوم داوود عليه السلام». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله, وصيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله [والسنة التي بعده, وصيام يوم عاشوراء أحتسب الله أن يكفر السنة التي قبله]».
    وفي رواية: أنه سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «فيه
    ولدت, وفيه أنزل عليَّ».
    وفي رواية:" «والخميس».
    رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
    فصل:
    ولا يستحب صومه لمن بعرفه
    قال أحمد في رواية حنبل: يستحب صيام عرفة ها هنا, وأما بعرفة؛ فلا, يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفطر, وقال: «لا يصام يوم عرفة بعرفة, وعرفة صيامها كفارة سنتين؛ سنة ماضية , وسنة مستقبلة». ورواه عبد الله عن أبيه.

    608 - وعن أبي الخليل, عن أبي قتادة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كفارة سنتين».
    609 - ورواه عكرمة عن أبي هريرة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة». رواه الخمسة إلا الترمذي.
    610 - وذلك لما روي عن ميمونة: «أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف, فشرب منه والناس
    ينظرون».
    611 - وعن أم الفضل: «أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه بلبن, فشرب وهو يخطب الناس بعرفة».
    متفق عليهما.
    612 - وعن ابن عمر: «أنه سئل عن صوم يوم عرفة, فقال: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه, [ومع أبي بكر] فلم يصمه, ومع عمر فلم يصمه, ومع عثمان فلم يصمه, وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه». رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن.
    613 - ورواه النسائي, عن أبي [السوار]؛ قال: «سألت ابن عمر عن صوم يوم عرفة فنهاني». ولم يرفعه.
    فإن صامه؛ فظاهر كلامه أنه يكره.
    614 - لأنه قال: لا يصام.
    واحتج بالنهي لما روى عكرمة عن أبي هريرة؛ قال: «نهى رسول الله صلى الل
    ه عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات». رواه الخمسة إلا الترمذي.
    فقد احتج به أحمد؛ لأن الصوم يضعفه عن الدعاء والذكر الذي هو مقصود التعريف.
    ولأن الحاج مسافر قد رخص له القصر والجمع. . . .
    ولأن هذا يوم عيد في ذلك المكان.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان




    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 566الى صــ 575
    (33)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (3)


    615 - وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه عقبة بن عامر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام, وهي أيام أكل وشرب». رواه الخمسة إلا ابن ماجه, وقال الترمذي: حسن صحيح.
    فأما صومه للمتمتع الذي لا يجد الهدي آخر الثلاثة. . . .
    وقال القاضي: الاختيار له, والفضل أن يفطر ولا يقف بعرفة صائماً.

    * فصل:
    وأما صوم يوم عاشوراء؛ فقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: إنه يكفر السنة الماضية.
    فإن قيل: إنما أمر بصيامه قبل رمضان؛ فأما بعد رمضان؛ فهو يوم من الأيام.
    616 - بدليل ما روى علقمة: أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء, فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن اليوم يوم عاشوراء. فقال: «قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان, فلما نزل رمضان؛ ترك؛ فإن كنت مفطراً؛ فأطعم». أخرجاه.
    ولمسلم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومهم قبل أن ينزل رمضان, فلما ن
    زل رمضان تركه».
    617 - وعن عبد الله؛ قال: ذكرنا يوم عاشوراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم كان يصومه أهل الجاهلية؛ فمن أحب منكم أن يصومه؛ فليصمه, ومن كرهه؛ فليدعه».
    618 - وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان, فلما فرض رمضان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عاشوراء يوم من أيام الله؛ فمن شاء صامه» , وكان ابن عمر لا يصومه؛ إلا أن يوافق صيامه. متفق عليه.
    619 - وعن جابر بن سمرة؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء, ويحثنا عليه, ويتعاهدنا عنده, فلما فرض رمضان؛ لم يأمرنا ولم ينهنا عنه, ولم يتعاهدنا عنده». رواه أحمد ومسلم.
    قلنا: استحباب صومه ثابت بعد رمضان لحديث أبي قتادة المقدم.
    620 - ولما روى معاوية بن أبي سفيان؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا يوم عاشوراء, ولم يكتب عليكم صيامه, وأنا صائم؛ فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه.
    وفي رواية سفيان عن الزهري, عن حميد, [عن معاوية بن أبي سفيان؛ قال]: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام هذا اليوم».

    وهذا خطاب يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه, ولم يؤكد عليهم صيامه, وهذا إنما يكون بعد فرض شهر رمضان؛ لأن ما قبل شهر رمضان كان مؤكداً.
    ومعاوية لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة يوم عاشوراء إلا وهو مسلم؛ لأنه قبل ذلك كان بم
    كة, والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, وإنما أسلم بعد الفتح, وقد فرض قبل ذلك بست سنين.
    وحديث ابن عباس الآتي ذكره صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه قبل موته بعام.
    (وأما هذه الأحاديث) معناها أن التوكيد الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد في صومه نسخ شهر رمضان, ولم يؤكد شأنه بعد الهجرة؛ إلا عاماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول, فأدركه عاشوراء من السنة الثانية, وفرض رمضان تلك السنة فلم يجئ عاشوراء آخر إلا ورمضان فرض.
    وقد اختلف هل كان هذا التوكيد إيجاباً؟

    فقال القاضي: لا يعرف عن أصحابنا رواية بأن صوم عاشوراء كان فرضاً في ذلك الوقت. قال: وقياس المذهب أنه لم يكن مفروضاً؛ لأن من شرط صيام الفرض النية من الليل, والنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنية من النهار.
    وذكر هو وأصحابه وأبو حفص البرمكي وغيرهم أنه لم يكن مفروضاً؛ احتجاجاً بحديث معاوية المتقدم, وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ أكل بإمساك بقية اليوم, ولم يأمرهم بالقضاء, ولو كان واجباً لأمرهم بالقضاء؛ كما يجب القضاء على مَنْ أكل يوم الشك ثم قامت البينة بأنه رمضان.

    والتزموا على هذا أن الإِمساك بعد الأكل في يوم شريف فيه فضل يكون قربة كما يكون الإِمساك في اليوم الواجب واجباً.
    واعتذروا عما ورد من النسخ بأن المنسوخ تأكيد صيامه وكثرة ثوابه؛ فإنه كان قبل رمضان أوكد وأكثر ثواباً منه بعد رمضان.
    وذكر بعض أصحابنا عن أحمد: أنه كان مفروضاً.
    وهو الذي ذكره أبو بكر الأثرم؛ قال في «ناسخ الحديث ومنسوخه»: وقد روي من أكثر من عشرين وجهاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصوم عاشوراء. وذكر الأحاديث الأخر. قال: وهذا عندنا من الناسخ والمنسوخ, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّد صومه في أول الأمر قبل نزول شهر الصوم, حتى أمرهم بأن يتموا بقية يومهم, وإن كانوا قد أكلوا, وإنما يفعل ذلك في الفريضة, ثم جاءت الأحاديث لما بين أن ذلك كله كان قبل شهر رمضان, فلما فرض في شهر رمضان؛ كان ما سواه تطوعاً.
    ومما يؤكد ذلك حديث معاوية؛ ففيه وفيما اشتهر من الأحاديث بيان نسخ إيجاب صوم عاشوراء, وفيه أيضاً بيان أن النسخ لم يكن على تركه ألبتة, ولكن على أنه صار تطوعاً, وهو اختيار أبي محمد, وهو أشبه.

    621 - وهذا لما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن أذن في الناس أن من كان أكل؛ فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل؛ فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء». متفق عليه.
    والأمر يقتضي الإِيجاب, خصوصاً في الصوم؛ فإنه لم يكن يأمر بصيام التطوع، وإنما يرغب فيه ويحض عليه, ثم أذانه بذلك في الناس أذاناً عاماً وأمره للآكل بصوم بقية يومه توكيد ومبالغة لا يكون مثله لصوم مستحب.
    622 - وعن هند بن أسماء؛ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي من اسلم, فقال: «مُرْ قومك؛ فليصوموا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء؛ فمن وجدته منهم قد أكل أول يومه؛ فليصم آخره». رواه أحمد.
    623 - وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها؛ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى [الأنصار] التي حول المدينة: «من كان أصبح صائماً؛ فليتم صومه, ومن كان أصبح مف
    طراً؛ فليتم بقية يومه». فكنا بعد ذلك نصومه, ونصومه صبياننا الصغار منهم, ونذهب إلى المسجد, فنجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام؛ أعطيناها إياه حتى يكون عند الإِفطار». أخرجاه.
    وفي لفظ. . . .

    624 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل قرية على أربع فراسخ (أو قال: فرسخين) يوم عاشوراء, فأمر من أكل أن لا يأكل بقية يومه, ومن لم يأكل أن يتم بقية صومه». رواه أحمد.
    625 - وعن محمد بن صيفي؛ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء, فقال: «أصمتم يومكم هذا؟». فقال بعضهم: نعم. وقال بعضهم: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم هذا». وأمرهم أن يؤذنوا أهل العوالي أن يتموا بقية يومهم.

    626 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه, فلما قدم المدينة؛ صامه وأمر بصيامه, لما فرض رمضان؛ قال: «من شاء ص
    امه, ومن شاء تركه». متفق عليه.
    627 - وعن أبي موسى؛ قال: كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم». [متفق عليه.
    وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء؛ يتخذونه عيداً, ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم»].
    628 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فرأى اليهود تصوم عاشوراء, فقال: «ما هذا؟». فقالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى عليه السلام. فقال: «أنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه.
    629 - وعن ابن عباس أيضاً: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم, ولا شهراً إلا هذا الشهر (يعني: رمضان
    »). متفق عليهما.
    فقد بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي أمر بصيامه ووكده, وجعلوا في نفسه كفضل رمضان, وأخبروا أن ذلك كان قبل أن يفرض رمضان, ولما فرض رمضان؛ لم يأمر به, وبينوا أنه كان يصومه بعد فرض رمضان ويأمر بذلك أمر استحباب.
    630 - ويدل على أنهم قصدوا ترك صومه وجوباً ما روى علقمة؛ قال: «أتيت ابن مسعود ما بين رمضان إلى رمضان, ما من يوم إلا أتيته فيه, فما رأيته في يوم صائماً؛ إلا يوم عاشوراء».
    وقد تقدم عنه أنه ترك صومه.

    631 - وقال الأسود بن يزيد: «لم أر رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا بالكوفة آمر بصوم عاشوراء من علي والأشعري». رواهما سعيد.
    ومعلوم أن هذا التوكيد لا يليق بمستحب؛ لأن يوم عرفة أفضل منه؛ فإنه يكفر سنتين, ومع هذا فلم يؤمر به, فثبت أن ذلك [إنما هو لوجوبه إذْ ذاك, ولأنه صلى الله عليه وسلم صامه أولاً بناء على اعتيادهم صومه قبل الإِسلام؛ كما ذكرت عائشة, وموافقة لموسى عليه السلام في صومه؛؛ لأنا أحق به من بني إسرائيل؛ كما ذكر أبو موسى وابن عباس, ثم نسخ التشبيه بأهل الكتاب في صومه صوم يوم آخر.
    وأما حديث معاوية؛ فهو متأخر بعد فرض رمضان, وإذ ذاك لم يكن واجباً بالاتفاق.
    632 - وأما كونه لم يأمر بالقضاء؛ فقد روى قتادة, عن عبد الرحمن بن مسلمة, عن عم
    ه: أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «صمتم يومكم هذا؟». قالوا: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم واقضوه». رواه أبو داوود والنسائي.
    ثم إنما لم يأمر بالقضاء لأن الوجوب إنما ثبت بالنهار. . . .


    * فصل:
    وعاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.
    والسنة لمن صامه أن يصوم تاسوعا معه.
    قال في رواية الميموني وأبي الحارث: من أراد أن يصوم عاشوراء؛ فليصم التاسع والعاشر؛ إل
    ا أن يشكل الشهر, فيصوم ثلاثة أيام, ابن سيرين يقول ذلك.
    وقال في رواية الأثرم: أنا أذهب في عاشوراء أن يصام يوم التاسع والعاشر, حديث ابن عباس: «صوموا التاسع والعاشر».
    وقال حرب: سألت أحمد عن صوم عاشوراء؟ فقال: يصوم التاسع والعاشر.
    633 - وذلك لما روى ابن عباس؛ قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله؛ صمنا يوم التاسع
    ». قال؛ لم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم وأبو داوود.
    وفي لفظ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (يعني: يوم عاشوراء»). رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان





    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 576الى صــ 585
    (34)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (4)




    643 - وعن الحكم بن الأعرج؛ قال: «انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم, فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟ فقال: إذا رأيت الهلال المحرم؛ فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً. قلت: هكذا كان محمد يصو
    مه. قال: نعم». رواه مسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
    ومعنى هذا والله أعلم: صم التاسع والعاشر كما ذكره الإِمام أحمد عنه رواه سعيد وغيره.
    635 - [وما روى عمرو بن دينار] , سمع عطاء, سمع ابن عباس يقول: «صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود».
    636 - وعن شعبة مولى ابن عباس؛ قال: «كان ابن عباس يصوم عاشوراء في السفر,
    ويوالي بين اليومين؛ فرقاً أن يفوته». رواه حرب.
    637 - عن إسماعيل بن علية؛ قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح [أن ابن عباس كان يقول: يوم عا
    شوراء يوم التاسع. فقال ابن نجيح:] إنما قال ابن عباس: «أكره أن يصوم يوماً فارِداً, ولكن صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً».
    رواه داوود بن عمرو عنه.

    638 - وعن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: «أنه كان يصوم يومين لعاشوراء احتياطاً أن لا يفوته». رواه أبو زرعة الدمشقي عن أبي صالح عن معاوية بن صالح عنه.
    639 - يحقق ذلك ما روى. . . عن ابن عباس؛ قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاش
    وراء العاشر من المحرم». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
    640 - وقد روى داوود بن علي, عن أبيه, عن جده ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء, وخالفوا فيه اليهود, صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً».
    [رواه أحمد وسعيد ولفظه: «صوموا يوماً قبله أو بعده»].
    فإن صام عاشوراء مفرداً؛ فهل يكره؟
    قال بعض أصحابنا: لا يكره. . . .
    والأشبه بكلامه أنه يكره:
    لأنه أمر بصوم اليومين لمن أراد صوم عاشوراء, وأخذ بأثر ابن عباس,
    وابن عباس كان يكره إفراده, ويأمر بصوم اليومين مخالفة لليهود.

    ولأنه إفراد يوم يعظمه غير أهل الإِسلام, فكره؛ كإفراد النيروز والمهرجان.
    ولأن التشبه بأهل الكتاب مكروه, وقطع التشبه بهم مشروع ما وجد إلى ذلك سبيل؛ فإذا صيم وحده؛ كان فيه تشبيه بأهل الكتاب. . . .
    قال أبو الخطاب: ويستحب صوم عشر المحرم, وآكدها تاسوعا وعاشوراء. . . .


    * فصل:
    قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: سمعنا في الحديث: «من وسع على عياله يوم عاشو
    راء؛ أوسع الله عليه سائر سنته».
    قال ابن عيينة: قد جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيراً.
    641 - وقال في رواية صالح: ابن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم ابن المنتشر - قال أبي: ثقة صدوق - أنه بلغه: «من وسع على عياله يوم عاشوراء؛ وسع الله عليه سائر سنته».
    642 - وقد روي في حديث مرفوع من حديث أيوب, عن سليمان بن مينا, عن رجل, عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وسع على أهله يوم عاشوراء؛ وسع الله عليه سائر
    سنته». رواه حرب.
    643 - وروى أيضاً من حديث إبراهيم بن علقمة, عن عبد الله؛ مثله مرفوعاً, و
    قال: هذا حديث منكر.
    وقال: سئل أحمد عن هذا الحديث «من وسع على أهله يوم عاشوراء»؟ فلم يره شيئاً.
    مسألة:

    ويستحب صيام أيام البيض.
    وجملة ذلك أنه يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فإنها تعدل صوم الدهر, ويستحب أن يكون يوم الاثنين والخميس, وأفضل ذلك أن يكون من أوسطه, وهي أيام البيض.
    قال حرب: سمعت أحمد يقول: من صام ثلاثة أيام من الشهر فقد صام الشهر ك
    له. يقول بتوكيد.
    644 - وقال في رواية عبد الله, [عن] عبد الملك بن قتادة بن ملحان, عن أبيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة, وأربع عشرة, وخمس عشرة».
    قيل له: فصيام ثلاثة أيام من كل شهر يصام من أول الشهر؟ قال: «نعم, ولكن يك
    ون قصده لهذه».
    وقال في رواية عبد الله, [عن] هنيدة الخزاعي, عن أمه؛ قالت: دخلت على أم سلمة, فسألتها عن الصيام؟ فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والخميس». . . .
    645 - وذلك لما تقدم عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه و
    سلم قال له: «صم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر». متفق عليه.
    646 - وتقدم أيضاً عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر». رواه مسلم وغيره.

    وتقدم أيضاً قوله للباهلي: «صم ثلاثة أيام من كل شهر». . . .
    647 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ قال: أوصاني خليلي بثلاث لن أدعهن. . . .
    648 - وعن أبي هريرة مثله.

    649 - وعن معاوية بن قرة, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر [وقيامه]». رواه أحمد.
    650 - وعن أبي العلاء بن الشخير, عن رجل من بني أقيش؛ قال: معه كتاب للنبي صلى الله عليه وسلم, ويقال: اسمه النمر بن تولب؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«من سره أن يذهب كثير من وحر صدره؛ فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من
    كل شهر». وفي رواية: «صيام ثلاثة أيام من الشهر يذهبن وحر الصدر». رواه أحمد والنسائي وفيه قصة رواها أبو داوود.
    651 - وعن أبي نوفل بن أبي عقرب, عن أبيه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ع
    ن الصوم؟ فقال: «صم يوماً من كل شهر». فاستزاده قال: بأبي وأمي إني أجدني أقوى؛ فزدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أجدني قويّاً, إني أجدني قويّاً». فما كاد أن يزيده, فاستزاده, فقال: «صم يومين من كل شهر». قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إني أجدني قويّاً, فما كاد أن يزيده, فلما ألحَّ عليه؛ قال: «صم ثلاثة أيام من كل شهر». رواه أحمد والنسائي.
    652 - وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: «نعم». فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: «لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم».
    رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

    وقد تقدم عنه من رواية حفصة وغيرها أنه لم يكن يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
    653 - وعن عبد الله؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل [هلال] , وقلما كان يفطر يوم الج
    معة». رواه الخمسة وقال الترمذي حسن غريب. إلا أن أبا داوود لم يذكر إلا صوم الثلاثة, وابن ماجه لم يذكر إلا صوم الجمعة.
    654 - وعن هنيدة الخزاعي, عن أمه؛ قالت: دخلت على أم سلمة, فسألتها عن الصيام؟ فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر, أولها الاثنين والخميس». رواه أبو داوود, وذكره أحمد.
    655 - وقد تقدم من حديث هنيدة, عن امرأته, عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم نحو ذلك.
    656 - وعن حفصة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عل
    يه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى». رواه أبو داوود والنسائي.
    وإنما اختيرت البيض.
    657 - ولما روي عن أبي ذر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة؛ فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة». رواه أحمد والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان




    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 586الى صــ 595
    (35)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (5)




    658 - وعن [قتادة] بن ملحان العبسي؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة, وأربع عشرة, وخمس عشرة, وقال: «هي كهيئة الدهر». رواه الخمسة إلا الترمذي, واحتج به أحمد. وفي لفظ: «أن يصوم الليالي البيض»؛ أي: بصيام أيام الليالي البيض؛ كما قال: «وأتبعه بست»؛ [أي: بأيام من
    ست].
    659 - وعن موسى بن طلحة: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيام يصومهن؟ فقال: «أين أنت من البيض؟». رواه سعيد.
    قال القاضي: قيل: إنما سميت البيض لأن ليلها كنهارها يضيء بالقمر جميع ليلها, والجيد
    أن يقال: أيام البيض لأن البيض صفة لليالي البيض [أي: أيام الليالي البيض] , وهذا جاء في الحديث وكلام أكثر الفقهاء.
    ووقع في كلام بعضهم ابن عقيل وأبي الخطاب: الأيام البيض, فعدوه لحناً؛ لأن كل الأيام بيض.
    660 - وقيل: سُميت البيض؛ «لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته». رواه أبو الحسن التميمي في كتاب «اللطف».
    مسألة:

    والاثنين والخميس.
    هذان اليومان يستحب صومهما من بين أيام الأسبوع؛ لأن أعمال العباد تعرض فيها؛ كما استحب صوم شعبان؛ لأن أعمال العباد تعرض فيه:
    661 - 662 - لما تقدم عن أم سلمة وحفصة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يصوم الثلاثة يوم الاثنين والخميس».
    663 - وتقدم أنه لما سئل عن صوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه, وأنزل عليَّ فيه
    ». رواه مسلم.
    664 - وعن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس». رواه الخمسة إلا أبا داوود, وقال الترمذي: حديث حسن.
    665 - وعن أبي سعيد المقبري, عن أسامة بن زيد؛ قال: قلت: يا رسول الله! إنك تصوم لا تكاد
    تفطر, وتفطر لا تكاد تصوم؛ إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما, الاثنين والخميس؟ قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين, فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». رواه أحمد والنسائي.

    وفي رواية عن عمر بن الحكم بن ثوبان, عن مولى قدامة بن مظعون, عن مولى أسامة بن زيد: أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له, فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس, فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس, وسئل عن ذلك؟ فقال: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس». رواه أحمد وأبو داوود والنسائي.

    666 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس, فقيل له, فقال: «إن الأعمال تعرض في كل اثنين وخميس, فيغفر الله لكل مسلم؛ إلا المتهاجرين؛ يقول الله تعالى: أخروهما». رواه أحمد وابن ماجه والترمذي, وقال: «تعرض الأعمال كل اثنين وخميس, فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». حديث حسن غريب.
    * فصل:

    قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال: ليس في الصوم رياء.
    قال القاضي: وهذا يدل على فضيلة الصوم على غيره؛ لأن الرياء لا يدخله؛ لأنه إمساك ونية, وهذا المعنى لا يصح إظهاره, فيقع الرياء فيه. . . .


    مسألة:
    والصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء أفطر, ولا قضاء عليه.
    وجملة ذلك أن منْ شرع في صيام التطوع؛ فإنه يجوز الخروج منه ولا قضاء عليه, لكن المستحب أن يتمه وأن يقضيه إذا أفطر. . . .
    وهل يكره فطره لغير حاجة؟ وهل يستحب فطره مع الحاجة؟ وهل يقضي مع الح
    اجة؟
    قال ابن أبي موسى: من أفطر في تطوعه عامداً؛ فالاحتياط له أن يقضيه من غير أن يجب ذلك؛ فعلى هذا لا يستحب له القضاء إذا أفطر بعذر, بل يكون بمنزلة صوم مبتدأ, [والأول].
    وقال في رواية الأثرم فيمن أصبح صائماً متطوعاً فبدا له فأفطر يقضيه؟ قال: إن قضاه فحسن
    , وأرجو أن لا يجب عليه.
    وقال حرب: سئل أحمد قيل: ما تقول فيمن نوى الصيام من الليل, ثم أصبح فأفطر؟ قال: إن قضى فهو أحب إليَّ, وإلا؛ فليس عليه شيء.
    وسئل عن رجل صام تطوعاً, فأراد أن يفطر: أعليه قضاء أم لا؟ قال: إذا كان من نذر أو قضاء رمضان يقضي, وإلا فلا.
    وكذلك نقل ابن منصور. . . .

    وهذا هو المذهب.
    وروى عنه حنبل: إذا أجمع على الصيام من الليل, فأوجبه على نفسه, فأفطر من غير عذر؛ أعاد ذلك اليوم.
    فاختلف أصحابنا في هذه الرواية:

    فقال القاضي: هذا محمول على صوم النذر دون التطوع, وقد صرح به في مسائل حنبل, فقال: إذا كان [نذراً]؛ قضى وأطعم لكل يوم مسكيناً, وإن كان. . . .
    وقال غيره: يحمل ذلك على استحباب القضاء دون إيجابه؛ ليوافق سائر الروايات, وأقرها طائفة رواية.
    قال أبو بكر عبد العزيز: تفرد حنبل بهذه الرواية, وجميع أصحابنا على أن لا قضاء عليه, وبه أقول.

    وهذه طريقة ابن البناء وغيره, وهي أصح؛ لأن أحمد فرق بين الأمر بالإِعادة وبين المعذور وغيره, وقضاء النذر لا [يختلف] , ولم يتعرض لوجوب الكفارة, ولو كانت نذراَ؛ لذكر الكفارة.

    ووجه ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
    وهذا يعم إبطالها بعد إكمالها وفي أثنائها؛ فإن ما مضى من الصوم والصلاة والإِحرام ونحوها عمل صالح يثاب عليه؛ بحيث لو مات في أثنائه؛ أجر على ما مضى أجر من قد عمل لا أجر من قصد ونوى, وإذا كان عملاً صالحاً؛ فقد نهى الله عن إبطاله
    .
    667 - وعن شداد بن أوس؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية». قال: قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك بعدك؟ قال: «نعم؛ أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً, ولكن يراؤون بأعمالهم, والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً, فتعرض له شهوة من شهواته, فيترك صومه». رواه أحمد وابن ماجه من حديث رواد بن الجراح, عن عامر بن عبد الله, عن الحسن بن ذكوان, عن عبادة بن نسي, عن شداد بن أوس.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان



    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 596الى صــ 605
    (36)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (6)




    668 - وعن الزهري, عن عروة, عن عائشة؛ قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين, فعرض لنا طعان اشتهيناه, فأكلنا منه, فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبدرتني إليه حفصة, وكانت ابنة أبيها, فقالت: يا رسول الله! إن كنا صائمتين, فع
    رض لنا طعام اشتهيناه, فأكلنا, فقلنا: «اقضيا يوماً آخر مكانه». رواه أحمد والنسائي والترمذي [من حديث] جعفر بن برقان الزهري, وقال الترمذي: وروى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفص هذا الحديث عن الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة.
    669 - قال: وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن [سعد] وغير واحد من الحفاظ, عن الزهري, عن عائشة؛ مرسلاً, ولم يذكر فيه عروة, وهذا أصح.
    670 - وروي بإسناده عن ابن جريج؛ قال: سألت الزهري, فقلت: أحدثك عروة عن عائشة؟ فقال: لم أسمع من عروة في هذا شيئاً, ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض منْ سأل عائشة عن هذا الحديث.

    ورواه أحمد والنسائي من حديث سفيان بن حسين عن الزهري.
    ورواه النسائي أيضاً, من حديث صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري؛ قال: وصالح بن أبي الأخضر ضعيف في الزهري وفي غير الزهري, وسفيان بن حسين وجعفر بن برقان ليسا بقويين في الزهري, ولا بأس بهما في غير الزهري, ثم روا
    ه مرسلاً من حديث معمر ومالك وعبيد الله بن عمر.
    ورواه عن سفيان؛ قال: سألوا الزهري وأنا شاهد: أهو عن عروة؟ قال: لا.
    ورواه سعيد عن سفيان بن عيينة [فثنا الزهري؛ قال: قالت عائشة: فذكره, وفيه: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: «صوما يوماً مكانه». قال سفيان: فسألت الزهري: عن عروة؟ فغضب وأبى أن يسنده.
    671 - قال سعد: ثنا عاطف بن خالد, عن زيد بن أسلم؛ قال: قالت عائشة: مثله, وقال لنا: «صوما مكانه ولا تعودوا».
    وفي حديث مالك وغيره: أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين.

    672 - وعن ابن الهاد, عن زميل مولى عروة, عن عروة بن الزبير, عن عائشة؛ قالت: أهدي لحفصة طعام, وكنا صائمتين, فأفطرنا, ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلنا: يا رسول الله! إنا أهديت لنا هدية, واشتهيناها, فأفطرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما, صوما يوماً آخر». رواه أبو داوود والنسائي وقال: زميل ليس بالمشهور. وقال البخاري: لا يعرف لزميل سماعاً عن عروة, ولا تقوم به الحجة.

    673 - وعن جرير بن حازم, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة, عن عائشة: نحوه. رواه النسائي وقال: هذا خطأ.
    وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن يحيى عن عمرة عن عائشة: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين»؟ فأنكره و
    قال: مَنْ رواه؟ قلت: جرير. فقال: جرير يحدث بالتوهم, وأشياء عن [قتادة] يسندها جرير بن حازم باطلة.
    674 - وعن سعيد بن جبير: «أن حفصة وعائشة أصبحتا صائمتين تطوعاً, فأفطرتا, فأمرهما رسول الله أن يقضياه». رواه سعيد.
    675 - وعن أنس بن سيرين؛ قال: «صمت يوماً, فأجهدت, فأفطرت, فسألت ابن عمرو وابن عباس؟ فأمران
    ي أن أقضي يوماً مكانه». رواه سعيد.
    676 - وعن محمد بن أبي حميد, عن إبراهيم عن عبيد؛ قال: صنع أبو سعيد الخدري طعاماً, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فقال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنع لك أخوك, وتكلف لك أخوك؛ أفطر وصم يوماً مكانه». رواه الدارقطني وقال: هذا مرسل.

    ورواه حرب وقال: «كل وصم يوماً مكانه إن أحببت».
    وقد تكلم في محمد بن أبي حميد.

    677 - وعن ابن عيينة, عن طلحة بن يحيى, عن عائشة بن طلحة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فقربت له حيساً, فأكل منه وقال: «إني كنت أريد الصيام, ولكن أصوم يوماً مكانه». رواه عبد الرزاق عنه.
    ورواه الدارقطني, ولفظه: قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «إني أريد الصيام». و
    أهدي إليه حيس, فقال: «إني آكل وأصوم يوماً مكانه».
    قال الدارقطني: لم يروه بهذا اللفظ غير ابن عيينة عن محمد بن عمرو بن العباس الباهلي, ولم يتابع على قوله: «وأصوم يوماً مكانه» , ولعله شبه عليه, والله أعلم, لكثرة من خالفه عن ابن عيينة.

    ورواية عبد الرزاق التي ذكرناها تدل على خلاف قول الدارقطني.
    فهذا الحديث غايته أن يكون مرسلاً.

    لكن قد أرسله الزهري وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير, وعمل به الصحابة, والمرسل إذا تعدد مرسلوه وعمل به الصحابة؛ صار حجة بلا تردد, وقد أسند من غير حديث الزهري كما تقدم.
    ولأنها عبادة, فلزمت بالشروع فيها ووجب القضاء بالخروج منها لغير عذر؛ كالحج, ولأن الشروع في العباد
    ة التزام لها, فلزم الوفاء به كالنذر.
    يحقق التماثل: أن الله تعالى قال في آية الصوم: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] كما قال في آية الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].

    فإذا كان عليه إتمام ما دخل فيه من الحج والعمرة؛ فكذلك عليه إتمام ما دخل فيه من الصيام.
    فعلى هذه الرواية: إنما تقضى إذا أفطر لغير عذر.
    فأما إن أفطر لعذر من مرض أو سفر ونحو ذلك؛ فلا إعادة عليه.

    وإن أفطر لكون الصوم مكروهاً, مثل أن يفرد يوماً بالصوم. . . .

    678 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام؛ فإن كان مفطراً؛ فليطعم, وإن كان صائماً؛ فليصل».
    ولو كان الأكل جائزاً؛ لبينه, ولاستحبه في الدعوة.
    679 - ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصومن امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه».
    ولو كان التفطير جائزاً؛ لم يكن في شروعها في الصوم عليه ضرر.
    والأول المذهب:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان






    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 606الى صــ 615
    (37)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (7)




    680 - لما روى شعبة, عن جعدة, عن أم هانئ وهي جدته.
    وفي لفظ: قال شعبة: كنت أسمع سماك بن حرب يقول: أحد بني أم هانئ حدثني, فلقيت أنا أفضلهما, وكان اسمه جعدة, وكانت أم هانئ جدته, فذكره عن جدته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها, فدعا بشراب فشرب, ثم ناولها فشربت, وقالت: يا رسول الله! أما إني كنت صائمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه
    , إن شاء صام, وإن شاء أفطر».
    وفي رواية: قلت له: سمعته من أم هانئ؟ قال: لا. حدثنيه أبو صالح وأهلنا عن أم هانئ.
    رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: في إسناده مقال.

    وفي رواية لأحمد والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح.
    ورووه أيضاً من حديث سماك بن حرب, عن ابن أم هانئ
    , عن أم هانئ.
    وفي لفظ: سمعه منها.
    وفي لفظ: عن هارون ابن بنت أم هانئ أو ابن ابن أم هانئ عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شراباً, فناولها لتشرب, فقالت: إني صائمة, ولكن كرهت أن أرد سؤرك. فقال: «إن كان قضاء من رمضان؛ فاقضي يوماً مكانه, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن شئت فلا تقضي».
    قال النسائي: اختلف فيه على سماك, وسماك ليس ممن يعتمد علي
    ه إذا انفرد بالحديث.
    ورواه أحمد وأبو داوود: عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث, عن أم هانئ؛ قالت: لما كان يوم الفتح؛ فتح مكة؛ جاءت فاطمة, فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأم هانئ عن يمينه. قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب, فناولته
    فشرب منه, ثم ناوله أم هانئ فشربت منه, فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها: «أكنت تقضين شيئاً؟». قالت: لا. قال: «فلا يضرك إن كان تطوعاً».
    فقد عاد الحديث إلى إسنادين:

    أحدهما: رواته أهل بيت أم هانئ عنها, رواه عنهم شعبة وسماك, ولم ينفرد به سماك.
    والثاني: رواته عبد الله بن الحارث.
    وأهل البيت [عدة] نفر, منهم أبو صالح؛ فروايتهم أوكد من رواية الواحد, ورواية ذريتها عنهم دليل
    على ثقتهم وأمانتهم.
    فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح في رمضان, ولا يجوز أن تكون صائمة في رمضان عن قضاء ولا تطوع.
    681 - قيل: «النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة ليلة بعد الفتح, وهذه ا
    لأيام كلها تسمى أيام الفتح». . . . .
    ولا يجوز أن يعتقد أنها أفطرت ناسية؛ لأنها أخبرت أنها كانت صائمة, وإنما كرهت أن ترد سؤر النبي صلى الله عليه وسلم, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن التطوع لا قضاء فيه بحال, وأنه إن كان قضاء من رمضان؛ فعليها القضاء, ولأنه لم يقل: فالله أطعمك وسقاك.
    682 - وأيضاً [روى] طلحة بن يحيى, عن عائشة بنت طلحة, عن عائشة؛ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فقال: «هل عندكم من شيء؟». فقلنا: لا. فقال: «فإني إذاً صائم». ثم أتانا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس. ف
    قال: «أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً». فأكل. رواه الجماعة إلا البخاري.

    زاد النسائي: ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء حبسها».
    وفي لفظ له: قال: «يا عائشة! إنما بمنزلة من صام في غير رمضان أو في قضاء رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله, فجاد منها بما شاء فأمضاه, وبخل منها بما شاء فأمسكه».
    وفي رواية لمسلم؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة! هل عندكم شيء؟». قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء. قال: «فإني إذاً صائم». قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور). قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: أهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور) , وقد خبأت لك شيئاً. قال: «ما هو؟
    ». قلت: حيس. قال: «هاتيه». فجئت به, فأكل, ثم قال: «قد كنت أصبحت صائماً». قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث, فقال: ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء أمسكها.
    والحيس: تمر وسمن وأقط يطبخ.
    قال الشاعر:

    التمر والسمن جميعاً والقط الحيس إلا أنه لم يختلط
    فهذا نص في جواز الإِفطار بعد إِجماع الصيام.
    683 - وعن عكرمة؛ قال: قالت عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «هل عندكم شيء؟». فقلت: لا. فقال: «إني إذاً أصوم». ودخل يوماً آخر, فقال: «هل عندكم شيء؟». قلت: نعم. قال: «إذاً أطعم, وإن كنت فرضت الصوم». رواه الدارقطني وقال أيضاً: إسناد حسن صحيح.

    684 - وعن أبي جحيفة؛ قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء, فزار سلمان أبا الدرداء, فرأى أم الدرداء متبذلة, فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء, فصنع ل
    ه طعاماً, فقال: كل؛ فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام, ثم ذهب يقوم, فقال: نم. فلما كان من آخر الليل؛ فقال: قم الآن. فصلَّيا, فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً, ولنفسك عليك حقّاً, ولأهلك عليك حقّاً؛ فأعط لكل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان». رواه البخاري.
    فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان على تفطير أبي الدرداء و
    لم يأمره بالقضاء.
    685 - وعن سالم؛ قال: صنع عطاء طعاماً, فأرسل إلى سعيد بن جبير, فأتاه, فقال: إني صائم. فحدثه بحديث سلمان أنه أفطر أبا الدرداء, فأفطر. رواه البغوي.

    686 - وعن عمرو, عن سعيد؛ قال: «لأن أضرب بالخناجر أحب إليَّ من أن أفطر من تطوع بالنهار». رواه سعيد البغوي.
    فقد رجع سعيد إلى حديث سلمان هذا, وهو ممن روى حديث عائشة وحفصة.
    687 - وعن جويرية بنت الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة, فقال لها: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟». قالت: لا. قال: «فأفطري». رواه الجماعة إلى مسلماً وابن ماجه والترمذي.
    688 - ورواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو.
    إلا أن هذين الحديثين إنما يدلان على الفطر في موضع يكون الصوم مكروهاً؛ كإفراد يوم الجمعة, وسرد الصوم الذي يضعف به حقوق أهله, ونحو ذلك.

    وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في شهر رمضان هو وأصحابه وهو مسافر بعد أن أصبحوا صياماً لما كان جائزاً لهم ترك الصوم؛ فلن يجوز الفطر في صيام التطوع أولى وأحرى.
    وأيضاً؛ فإنه إجماع ذكرناه عن سلمان وأبي الدرداء.
    689 - وعن الحارث, عن علي؛ قال: «إذا أصبحت وأنت تريد الصيام؛ فأنت بالخيار: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت؛ إلا أن تفرض الصيام عليك من الليل». [يعني والله أعلم بالنذر]

    690 - وعن عبد الله: «متى أصبحت وأنت تريد الصوم؛ فأنت على خير النظرين: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت».
    وفي رواية عنه؛ قال: «أحدكم بأخير الفطرين ما لم يأكل أو يشرب».
    691 - وعن عكرمة, عن ابن عباس؛ قال: «الصائم بالخيار: إن شاء صام, وإن شاء أفطر».
    692 - وعن عطاء, عن ابن عباس؛ قال: «إذا صام الرجل تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, وإذا دخل في صل
    اة تطوعاً, ثم شاء أن يقطعها؛ قطعها, وإذا طاف بالبيت تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, غير أنه لا ينصرف إلا على وتر خمساً أو ثلاثاً أو شوطاً, وإذا أخرج الرجل صدقة تطوعاً, ثم شاء أن يحبسها؛ حبسها».
    693 - وعن ابن عمر: أنه أصبح صائماً, ثم أتى بطعام, فأكل, فقيل له: ألم تكن صائماً؟ فقال: «لا بأس به؛ ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان». رواهن سعيد.
    694 - وعن جابر: «أنه كان لا يرى [بالإِفطار] في صيام التطوع بأساً». رواه الشافعي.
    وأيضاً؛ فإن الرجل إذا أصبح صائماً؛ لم يوجد منه إلا مجرد النية والقصد, والنية المجردة لا يجب بها شيء.
    695 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به».
    يبقى الفرق بينه وبين الإِحرام وبين أن يتكلم بالنية أو لا يتكلم بها.
    ولأنها عبادة يخرج منها بالإِفساد, فلم يجب قضاؤها إذا أفسدها؛ كالوضوء, وكما لو صام يعتقد أن عليه فرضاً؛ فإنه بخلافه, وعكسه الإِحرام؛ فإنه لا يخرج منه بالفساد. . . .
    ولأنه إذا كان له أن لا يفعل؛
    كان له أن يخرج منه قبل الإِتمام. . . .
    وأما قوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]؛ فإنه ما لم يتم فليس بعمل.
    وأما الأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء إن كانت صحيحة؛ فإنما هو أمر استحباب, وبيان أن الصوم لم يفت, وأن المفطر إذا صام يوماً مكان هذا اليوم؛ فقد عمل بدل ما ترك.
    696 - وهذا كما قضت عائشة عمرة بدل العمرة التي أدخلت عليها الحج وصارت قارنة.
    وكما قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه حتى لا يعتقد المعتقد أن المتطوع إذا أفطر؛ فقد بطلت حسنته على وجه لا يمكن تلافيه؛ كالمفطر في رمضان ونحوه.

    ويدل على ذلك أشياء:
    أحدها أن الرواية المسندة قال فيها: «لا عليكما صوما مكانه يوماً» , مع إخبارهما أنهما أكلتا بشهوة ولم يفطرا لعذر.
    وبقوله: «لا عليكما»؛ أي: لا بأس عليكما, ولو كان الفطر حراماً والقضاء واجباً؛ لكان عليهما بأس.
    ثانيهما: أن في رواية سفيان عن الزهري: أنهما لما أخبرتاه؛ تبسم النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كانتا قد أذنبتا؛ لغضب أو لبيَّن لهما أن هذا حراماً؛ لئلا يعودا إليه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان





    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 616الى صــ 625
    (38)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (8)



    وأما قوله: «ولا تعودا»؛ فهي رواية مرسلة, ثم معناها - والله أعلم - لا تعودا إلى فطر تريدان قضاؤه؛ فإ
    ن إتمام الصيام أهون من التماس القضاء, وهذا لما رأى حزنهما على ما فوتاه من الصوم؛ قال: فلا تفعلاه شيئاً تحزنا عليه.
    وثالثهما: أن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحيس: أنه قال: «إني آكل وأصوم يوماً مكانه» , ولولا أن الخروج جائز والقضاء مستحب؛ لما أفطر.

    ورابعهما: أن في حديث المدعو إلى طعام أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر وصم يوماً مكانه». وفي رواية: «إن أحببت» , ولو كان القضاء واجباً؛ لما قيل هذا.

    وخامسها: أن ابن عمر وابن عباس قد أمرا بالقضاء, وصح عنهما جواز الإِفطار لغير عذر, فعلم أن ذلك أمر استحباب.
    697 - فروى يوسف بن ماهك؛ قال: «وطئ ابن عباس جارية له وهو صائم, فقال: إنما هو تطوع وهي جارية اشتهيتها».
    698 - وفي رواية عن سعيد بن جبير؛ قال: «دخلنا على ابن عباس صدر النهار فوجدناه صائماً, ثم دخلنا فوجدناه
    مفطراً, فقلنا: ألم تك صائماً؟ قال: بلى, ولكن جارية لي أتت عليَّ, فأعجبتني, فأصبتها, وإنما هو تطوع, وسأقضي يوماً مكانه, وسأزيدكم: إنها كانت بغيّاً فحصنتها, وإنه قد عزل عنها». قال سعيد بن جبير: «فعلمنا أربعة أشياء في حديث واحد». رواهما سعيد.
    وأما حديث شداد بن أوس إن صح؛ فيشبه - والله أعلم - أن يكون ذلك فيمن يعتاد أبداً الصوم ثم تركه لشهوته؛ فإن هذا مكروه.
    ويحتمل أن يكون تفسير الشهوة الخفية من جهة بعض الرواة مدرجاً في الحديث.
    يدل على ذلك ثلاثة أشياء.
    أحدها: أن الشهوة الخفية قد فسرها أبو داوود وغيره بأنها حب الرئاسة, ولو كان تفسيرها مرفوع
    ا؛ لما أقدموا على ذلك.
    الثاني: أن تفسيرها بحب الرئاسة أشبه؛ لأن حب الرئاسة يكون في الإِنسان, ويظهر الأعمال الصالحة ولا نعلم أن مق
    صوده درك الرئاسة.
    الثالث: أن الأكل شهوة ظاهرة؛ فإنه إن لم تكن هي الشهوة الظاهرة؛ لم يكن لها شهوة ظاهرة.
    الرابع: أن قرانه بالرياء دليل على أنه أراد ما هو من جنسه, والذي هو من جنسه هو حب الشرف لا أكل الطعام. والله تعالى أعلم.
    * فصل:

    في المواضع [التي يكره فيها الفطر أو يستحب أو يباح]
    قال القاضي: يكره الخروج من الصوم والصلاة لغير عذر. . . .
    وقال في رواية أبي الحارث في رجل يصوم التطوع فيسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر؛ قال:
    699 - يروى عن الحسن: أنه يفطر, وله أجر البر وأجر الصوم إذا افطر.

    وقال في رواية عبد الله: إذا نهاه أبوه عن الصوم؛ ما يعجبني أن يصوم إذا نهاه, ولا أحب لأبيه أن ينهاه؛ يعني: في التطوع.
    وقال في رواية يوسف بن موسى: إذا أمره [أبواه]؛ لا يصلي إلا المكتوب
    ة. قال: يداريهما ويصلي.
    وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: فإن دعاه والداه وهو في الصلاة؟
    700 - قال: قد روى ابن المنكدر؛ قال: «إذا دعتك أمك وأنت في الصلاة؛ فأجبها, وإذا دعاك أبوك؛ فلا تجبه».
    وفي موضع آخر: قلت: تدعوه أمه وهو في الصلاة. قال: يروى عن ابن المنكدر أنه قال: «إن كان في التطوع؛ فليجبها».

    * فصل:
    ومن تلبس بصيام رمضان أو بصلاة في أول وقتها أو بقضاء رمضان أو بقضاء الصلاة أو بصوم نذر أو كفارة؛ لزمه المضي فيه, ولم يكن له الخروج منه؛ إلا عن عذر؛ بخلاف المتلبس بالصوم في السفر؛ فإن العذر المب
    يح للفطر قائم. . . .
    مسألة:
    وكذلك سائر التطوع؛ إلا الحج والعمرة؛ فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما.
    فيه مسألتان:

    أحدهما: أن سائر التطوعات من الصلاة والطواف والاعتكاف والهدي والأضحية والصدقة والعتق: إذا شرع فيه؛ [فالأولى] أن يتمه, وإن قطعه؛جاز ولا قضاء عليه, وإن قضاه بعد قطعه؛ فهو أحسن.
    هذا الذي عليه أصحابنا, وقد أفتى أبو عبد الله بما ذكره عن ابن المنكدر إذا دعته أمه وهو في الصلا
    ة إن كان في التطوع؛ فليجبها.
    وقال أحمد في رواية الأثرم وقد سئل عن الرجل يصبح صائماً متطوعاً: أيكون بالخيار؟ والرجل يدخل في الصلاة: أله أن يقطعها؟ فقال: الصلاة أشد لا يقطعها, فإن قطعها وقضاها؛ فليس فيه اختلاف.
    قال القاضي: ظاهر هذا أنه لم يوجب القضاء, وإنما استحبه؛ لأنه يخرج من ا
    لخلاف.
    وقال غير القاضي: هذه الرواية تقتضي الفرق بين الصلاة والصيام, وأن الصلاة تلزم بالشروع.
    وهذا الفرق اختيار أبي إسحاق والجوزجاني.
    لأن الصلاة ذات إحرام وإحلال, فلزمت بالشروع كالحج.

    701 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير, وتحليلها التسليم».
    وهذا يعم جميع الصلوات, ويقتضي أنه ليس له أن يتحلل منها إلا بالتسليم؛ كما ليس له أن يفتتحها إلا بالطهور, ولا أن تحرم بها إلا بالتكبير.
    ويؤيد الفرق: أنه لو أمره أحد أبويه بالفطر في صومه التطوع؛ أجابه, ولو دعاه أحدهما في صلاة التطوع؛ أجاب الأم ولم يجب الأب. . . .

    المسألة الثانية: إذا أحرم بحجة أو عمرة؛ لزمه المضي فيها, ولا يجوز له أن يقصد الخروج منها, ولو نوى الخروج منها ورفضها؛ لم يخرج بذلك.
    [ولو أفسدها؛ لزمه المضي فيها, وإتمام ما أفسده, وعليه قضاؤها من العام المقبل إن كانت] حجة, وعل الفور إن كانت. . . , حتى لو دخل فيها يعتقدها واجبة عليه بنذر أو قضاء ونحو ذلك, ثم تبين أنها ليست عليه؛ لزمه المضي فيها, ومتى أفسدها؛ كان عليه القضاء. . . .
    والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
    702 - وفي حرف عبد الله: «إلى البيت».
    وقد أجمع أهل التفسير إلى أنها نزلت عام الحديبية, لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحرم هو وأصحابه
    بالعمرة, وساقوا الهدي, فصده المشركون, فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمر فيها بإتمام الحج والعمرة, ويذكر شأن الإِحصار.
    وهذا أمر بالإِتمام لمن دخل متطوعاً؛ لأن الحج لم يكن قد فرض بعد؛ فإن الآية نزلت سنة ست, والحج إنما فرض بعد فتح مكة.
    ثم إن الله تعالى أمر بالإِتمام مطلقاً, فدخل فيه كل منشئ للحج والعمرة, بخلاف الآية التي فيها إتمام الصيام؛ فإنها تفارق هذه من وجهين:
    أحدهما: أنه قال في أولها: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. . .} , واللام هنا لتعريف الصيام المعهود الذي تقدم ذكره, وهو صيام رمضان, ثم قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , فعاد الكلام إلى الصيام المتقدم الذي كان الأكل والنكاح في ليلته محظوراً بعد النوم, ثم أبيح, وهذا صفة صيام الواجب.
    نعم؛ سائر الصيام لا يتم إلا بذلك على سبيل التبع والإِلحاق.

    الثاني: أن قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}: أمر بأن يكون إتمام الصيام إلى الليل, وبيان لكون الصوم لا يتم إلا بالإِمساك إلى الليل, فتفيد الآية أن من أفطر قبل الليل؛ لم يتم الصيام, وهذا حكم شامل [يجمع] أنواع الصوم, ثم ما كان واجباً كان الإِتمام فيه إلى الليل واجباً, وما كان مستحبّاً كان مستحبّاً, وما كان مكروهاً كان مكروهاً, وما كان محرماً كان محرماً؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] , وهو أمر بأن يكون حكمه بما أنزل اتلله لا أمر بنفس الحكم؛ بخلاف آية الحج والعمرة؛ فإنه أمر بإتمامهما, فيكون نفس الإِتما
    م مأموراً به, وهنا الإِتمام إلى الليل هو المأمور به, وفرق بأن يكون الأمر بنفس الفعل أو بصفة في الفعل؛ فإنه لو قال: [صل] بوضوء, أو: صلِّ مستقبل القبلة, ونحو ذلك؛ كان أمراً بفعل هذا الشرط في الصلاة لا أمراً بنفس الصلاة.
    والفرق بين الحج والعمرة من وجوه:أحدها: أن الحج والعمرة يمضي في فاسدها ولا يخرج منهما بالإِفساد ولا بقطع النية, وغيرهما ليس كذلك.

    فإن قيل: الصوم القضاء والمنذور والكفارة والصلاة في أول الوقت يخرج منها بالفساد مع وجوب إتمامها.
    قيل: الصوم المتعيِّن مثل شهر رمضان والنذر المعين إذا أفطر لزمه المضي في فاسده, وأما غيره؛
    فإنه حين إفساده يمكن إنشاؤه صحيحاً, فلم يكن حاجة إلى المضي في فاسده.
    الثاني: أن الكفارة تجب في إفساد فرضهما ونفلهما بخلاف الصوم.
    الثالث: أنه لو دخل فيهما معتقداً. . .


    مسألة:
    ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين؛ يوم الفطر ويوم الأضحى.
    703 - وذلك لما روى أو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر». متفق عليه.
    وفي لفظ لمسلم: «لا يصلح الصوم في يومين».
    وفي لفظ للبخاري: «لا صوم في يومين: الفطر والأضحى».

    704 - وعن ابن عمر نحوه. متفق عليه.
    705 - 706 - وعن عائشة وأبي هريرة نحوه. رواهما مسلم.
    707 - وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر؛ قال: «شهدت العيد مع عمر بن الخطاب؛ فقال: يا أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن صيام هذين العيدين».
    وفي رواية: «اليومين الفطر والأضحى: أما أحدهما؛ فيوم فطركم من صيامكم, وأما الآخر؛ فيوم تأكلون فيه من نسككم». رواه الجماعة.
    708 - وعنه أيضاُ؛ قال: شهدت عليّاً وعثمان رضي الله عنهما في يوم الفطر والنحر يصليان ثم ينصرفان يذكران الناس. قال: وسمعتهما يقولان: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين». رواه أح
    مد والنسائي.
    ولا يجوز صوم يومي العيدين عن كفارة ولا قضاء ولا نذر في الذمة.
    فإن نذر صوم يوم أحد العيدين قصداً؛ انعقد نذره موجباً لكفارة يمين في إحدى الروايات. نص عليه في رواية حنبل بناء على أنه نذر معصية, وموجب نذر المعصية كفارة يمين.
    وفي الأخرى: عليه مع الكفارة قضاء يوم. نص عليه في رواية أبي طالب, وهو. . .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان





    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 626الى صــ 635
    (39)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (9)



    مسألة:
    ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه أرخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي.
    709 - الأصل في ذلك ما روي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى». رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

    710 - وروى كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق, فناديا: «أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأيام منى أيام أكل وشرب». رواه مسلم.
    711 - وعن أبي مرة مولى أم هانئ: «أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص, فقرب إليهما طعاماً, فقال: كل. قال: إني صائم. فقال عمرو: كل؛ فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها ونهى عن صيامها». قال مالك: وهي أيام التشريق. رواه مالك في «الموطأ» وأبو داوود.

    712 - وعن عمر ن سليم, عن [أمه]؛ قالت: بينما نحن بمنى, إذا علي بن أبي طالب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب؛ فلا يصومها أحد». رواه أحمد والنسائي.
    713 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عب
    د الله بن حذافة السهمي أن يركب راحلة أيام منى, فيصيح في الناس: «لا يصومن أحد؛ فإنها أيام أكل وشرب». رواه أحمد.
    714 - وعن عبد تالله بن حذافة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب». رواه النسائي والإِسماعيلي في «صحيحه».
    واحتج به أحمد:

    قال في رواية المروذي: أيام التشريق قد نُهي عن صيامها.
    ويروى عن سليمان بن يسار, عن عبد الله بن حذافة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق: إنها أيام أكل وشرب».


    * فصل:
    وأما المتمتع إذا لم يجد الهدي, ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر؛ فهل يصوم أيام التشريق؟ على روايتين.
    إحداهما: يجب عليه صومها. وهي اختيار الشيخ.
    715 - لما روي عن ابن عمر وعائشة؛ قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن يجد الهدي». رواه البخاري.
    وفي رواية عن ابن عمر؛ قال: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة, فإن لم يجد هد
    ياً ولم يصم؛ صام أيام منى».
    وعن عائشة مثله. رواه البخاري.
    والثانية: لا يصومها. قال ابن أبي موسى: وهي أظهرهما لعموم النهي, ولأنها أيام النهي,
    فلم تصم عن واجب ولا غيره؛ كيومي العيدين.
    وذكر الخرقي والقاضي وأصحابه وغيرهم الروايتين في صومهما عن جميع الواجبات من النذر والقضاء والكفارات؛ كفارات الأيمان ونحوها, وكفارات الحج؛ كالمتمتع إذا لم يجد الهدي.

    * فصل:
    ويكره صوم يوم الشك في حال الصحو. رواية
    واحدة.
    واختلف أصحابنا هل هي كراهة تنزيه أو تحريم على وجهين:

    أحدهما: أنها كراهة تحريم. قاله ابن البناء وغيره.
    والثاني: كراهة تنزيه, وهو ظاهر قول القاضي.
    وكذلك الإِمساك في نهاره, وسواء صامه عن رمضان أو صامه تطوعاً أو أطلق النية؛ إلا أن يوافق عادة مثل إن كانت عادته صوم يوم الاثنين نذراً [قال القاضي] أو كان سرد الصوم؛ فلا يكره له. . . .

    فإن صام عن قضاء أو نذر أو كفارة:
    فقال القاضي وابن البناء: لا يكره؛ كما لو وافق عادة, مثل ما قلنا في الجمعة, وكذلك يوم [الإِغمام] إذا قلنا: لا يصام من رمضان. ذكره ابن الجوزي.

    وقال بعض:. . . يكره صومه عن فرض غير رمضان الحاضر, ويحرم
    عن رمضان أو عن تطوع لم يوافق عادة.
    وقال أبو حكيم: لا يجوز صوم يوم الشك تطوعاً, ولا عن فرض.
    قال في رواية الأثرم إذا لم يكن علة؛ قال: يصبح عازماً عل الفطر.
    وقال في روايته: ليس ينبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء م
    ن سحاب ولا غيره.
    وقال في رواية المروذي, وقد سئل عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك؟ فقال: هذا إذا كان صحواً؛ لم يصم, فأما إن كان في السماء غيم؛ صام.
    ونقل عنه أبو داود الشك على ضربين:

    فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر, والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر.
    وأما إذا وافق عادة؛ فأخذه أصحابنا من كراهة إفراد الجمعة.
    فعلى هذا؛ لو نذر صوم السنة كلها؛ دخل فيه يوم الشك.

    وقال ابن عقيل: لا يدخل فيه يوم الشك؛ كالأيام الخمسة.
    وهذا يقتضي المنع منه مفرداً أو مجموعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك مطلقاً, ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين إلا أن يوافق عادة.
    وقد روى أحمد بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: لو صمت السنة كلها؛ لأفطرت اليوم الذي يشك فيه.
    والشك إذا تقاعد الناس أو تشاغلوا عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته فاسق؛ فأما مع عدم ذلك؛ ف
    هو من شعبان. قاله في «الخلاف».
    وابن عقيل وأبو حكيم قال: لا يكون شكّاً مع الصحو؛ إلا أن [شهد] برؤيته فاسق, فترد شهادته, فيوقع في قلوب الناس شكّاً أو يتتارك الناس رؤية الهلال, فيصبحون لا يعلمون هل هو من رمضان أو شعبان.
    وإذا كانت السماء مطبقة بالغيم بحيث لا يجوز رؤية الهلال, وقلنا: لا يصام؛ فهو يوم شك على ظاهر كلامه.

    وذكر في «المجرد»: أنه شك أيضاً؛ لجواز أن يجيء الخبر بالرؤية من مكان آخر.
    وقال ابن الجوزي: إذا كانت السماء مصحية؛ فشعبان موجود حقيقة وحكماً, ولم يوجد شك ولا شبهة.
    وإذا تراءاه الناس فلم يروه:
    فقال ابن الجوزي: لم يُسمِّ أحد ذلك يوم شك.
    فعلى هذا يجوز صومه تطوعاً.

    والصواب أنه يوم شك؛ لإِمكان الرؤية في مكان آخر.
    وقال أبو محمد: ليس لهم صيام آخر يوم من شعبان مع الصحو بحال؛ إلا أن يوافق عادة,
    أو يكون صائماً قبله أياماً.

    * فصل:
    ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين.
    716 - لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
    [لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين]؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً؛ فليصمه». رواه الجماعة.
    فأما حديث عمران ومعاوية. . . .

    فأما استقباله بالثلاثة؛ فالمشهور في المذهب أنه لا بأس به.
    وقال بعض أصحابنا: لا يستحب الصوم بعد منتصف شعبان إلا لمن قد صام قبله.

    717 - لما روى العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن. وقال النسائي: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء.
    وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث:
    قال حرب: سمعت أحمد يقول في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛
    فلا صوم إلا رمضان»؛ قال: هذا حديث منكر. قال: وسمعت أحمد يقول: لم يحدث (يعني: العلاء) حديثاً أنكر من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فلا صوم إلا رمضان» , وأنكر أحمد هذا الحديث, وقال: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث عن سهيل, ورواية محمد بن يحيى الكحال هذا الحديث ليس بمحفوظ, والمحفوظ الذي يروى عن أبي سلمة [عن أم سلمة]: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان ورمضان.
    واعتمد في رواية عبد الله على حديث أبي هريرة المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين»؛ فإن مفهوم هذا الحديث يجوز التقدم بالثلاثة.
    ولأنه إنما كره التقدم خشية أن يزاد في الشهر ويلحق به ما ليس منه, وهذا أكثر ما يقع في اليوم واليومين, فأما الثلاثة؛ فلا يقع فيها لبس. والله أعلم.
    فأما صيام اليوم واليومين قبل رمضان قضاء أو نذراً أو كفارة. . . .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان






    شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
    تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
    من صــ 636الى صــ 645
    (40)
    المجلد الثانى
    كتاب الصيام
    (10)


    * فصل:
    ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين.
    716 - لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «[لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين]؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً؛ فليصمه». رواه الجماعة.
    فأما حديث عمران ومعاوية. . . .

    فأما استقباله بالثلاثة؛ فالمشهور في المذهب أنه لا بأس به.
    وقال بعض أصحابنا: لا يستحب الصوم بعد منتصف شعبان إلا لمن قد صام قبله.
    717 - لما روى العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن. وقال النسائي: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء.
    وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث:

    قال حرب: سمعت أحمد يقول في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فلا صوم إلا رمضان»؛ قال: هذا حديث منكر. قال: وسمعت أحمد يقول: لم يحدث (يعني: العلاء) حديثاً أنكر من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فلا صوم إلا رمضان» , وأنكر أحمد هذا الحديث, وقال: كان عبد الرح
    من بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث عن سهيل, ورواية محمد بن يحيى الكحال هذا الحديث ليس بمحفوظ, والمحفوظ الذي يروى عن أبي سلمة [عن أم سلمة]: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان ورمضان.
    واعتمد في رواية عبد الله على حديث أبي هريرة المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين»؛ فإن مفهوم هذا الحديث يجوز التقدم بالثلاثة.
    ولأنه إنما كره التقدم خشية أن يزاد في الشهر ويلحق به ما ليس منه, وهذا أكثر ما يقع في اليوم واليومين, فأما الثلاثة؛ فلا يقع فيها لبس. والله أعلم.

    فأما صيام اليوم واليومين قبل رمضان قضاء أو نذراً أو كفارة. . . .
    * فصل:
    ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم.
    718 - لما روى محمد بن عباد بن جعفر؛ قال: «سألت جابر بن عبد الله: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم». متفق عليه.

    وفي رواية للبخاري: «أن ينفرد بصومه».
    719 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة؛ إلا وقبله يوم, أو بعده يوم». رواه الجماعة إلا النسائي.
    وفي رواية لمسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي, ولا تخصوا يوم الجمعة بص
    يام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم».
    وفي رواية لأحمد: «يوم الجمعة يوم عيد, ولا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم؛ إلا أن تصوموا قبله أو بعده».
    720 - وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على جويرية يوم جمعة وهي صائمة, فقال لها: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «تصومين غداً؟». قالت: لا. قال: «فأفطري».

    721 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده». رواه أحمد.
    واحتج به في رواية حنبل, فقال عكرمة عن ابن عباس: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده». قال أبو عبد الله: ولا أحب لرجل أن يتعمد صيامه, فإن وافق نذراً؛ صامه؛ لأن هذا أسهل من العيدين,
    ولا يخصه رجل بصيام.
    فأما يوم الفطر ويوم النحر؛ فهما مخصوصان بالنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في صومهما, وقد استثنى في يوم الجمعة, فقال: «إلا رجل كلن يصوم صوماً فليصمه».
    فأما إن لم يقصده بعينه, بل صام قبله يوماً [أو] بعده يوماً, أو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ [فإنه يصوم]
    يوم الجمعة دون ما قبله وما بعده, لكن في جملة أيام, أو أراد أن يصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء, فكان يوم جمعة ونحو ذلك؛ لم يكره؛ فإن النهي إنما هو عن تعمده بعينه: كما قال في رواية حنبل.

    وقال في رواية الأثرم, وقد سئل عن صيام يوم الجمعة, فذكر حديث النهي أن يفرد, ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه؛ فأما أن يفرد؛ فلا. فقيل له: فإن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, فوقع فطره يوم الخميس وصومه الجمعة وفطره السبت, ف
    صام الجمعة مفرداً؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة, وإنما كره أن يتعمد, وهذا لم يتعمد.
    وقال أيضاً في رواية إبراهيم, وقد سأله عن صوم الجمعة, وهو يوم عرفة, ولا يتقدمه بيوم ولا يومين؟ فقال: لا يبالي, إنما أراد يوم عرفة, وإنما نهى عن صوم عرفة بعرفات.

    وهذا لما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في صومه إذا صام قبله أو بعده.
    ولأنه جعل أفضل الصيام صيام داوود, ومعلوم أن من صام يوماً وأفطر يوماً؛ صام يوم الجمعة, وكذلك من صام يومين وأفطر يوماً, أو من صام يوماً وأفطر يومين.

    وقد تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قلما كان يفطر يوم الجمعة».
    لأنه كان يصوم الخميس فيصله بالجمعة.
    ولا يكره صوم وحده عن فرض من قضاء أو نذر ونحو ذلك. قاله القاضي.
    فأما صومه بعينه؛ فينبغي أن يكون مكروهاً.

    فإن صام معه يوماً من أيام الأسبوع, لا يليه, مثل الاثنين والأحد ونحو ذلك. . . .

    * فصل:
    ويكره إفراد يوم السبت بالصيا
    م عند أكثر أصحابنا.
    قال الأثرم: قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت ينفرد به؛ فقد جاء فيه حديث الصماء, وكان يحيى بن سعيد يتقيه, وأبى أن يحدثني به, وسمعته من أبي عاصم.
    وقال في رواية الأثرم, وقد سأله عن صيام يوم السبت بغير فرض؟ فقال: قد جاء فيه الحديث: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم».
    وعنه ما لا يدل على أنه لا يكره.
    قال في رواية الأثرم: قد جاء في صيام يوم السبت ذاك الحديث مفرد, حديث الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يحيى يتقيه.
    وهذا يدل على توقفه عن الأخذ به؛ لأن ظاهر
    الحديث خلاف الإِجماع.
    ولذلك قال الأثرم في «مختلف الحديث»: جاء هذا الحديث ثم خالفته الأحاديث كلها, وذكر ال
    أحاديث في صوم المحرم وشعبان, وفيهما السبت, والأحاديث في إتباع رمضان بست من شوال, وقد يكون فيها السبت, وأشياء كثيرة توافق هذه الأحاديث. وقد روي عن السلف أنهم أنكروه: فروى أبو داود عن ابن شهاب: أنه كان إذا ذُكر له أنه نهي عن صيام يوم السبت؛ يقول ابن شهاب: هذا حديث حمصي. وعن الأوزاعي؛ قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر (يعني: حديث ابن بسر في صوم يوم السبت). قال أبو داود: قال: مالك: هذا [كذب]. وقال أبو داوود: هذا الحديث منسوخ.
    ووجه الأول:

    722 - ما روى ثور بن يزيد, عن خالد بن معدان, عن عبد الله بن بسر السلمي، عن أخته الصماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم, وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة (وفي لفظ: إلا لحاء عنب أو عود شجرة)؛ فليمصه». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن.
    وقد رواه أحمد والنسائي من وجوه أخرى عن خالد عن عبد الله بن بسر.
    723 - ورواه أيضاً عن الصماء, عن عائشة. وإسناده إسناد جيد.
    وقول أبي داوود: وهو منسوخ: يدل على جودة إسناده.
    724 - ورواه أحمد من حديث ابن لهيعة؛ قال: ثنا موسى بن وردان, عن عبيد الأعرج؛ [قال: حدثتني جدتي]: أن
    ها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت وهو يتغدى, فقال: «تعالي فكلي». فقالت: إني صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: «كلي؛ فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك».
    وإنما حُمل على الإِفراد؛ لأن في حديث جويرية وغيره: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟». قالت: لا.
    فعلم أن صومه مع الجمعة لا بأس به.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •