سلامة الإنسان في حفظ اللسان


منطق الإنسان يُنبئ عمَّا يتحلَّى به مِن صِدق إيمان، وحياء جميل، وكرامة خُلق، ومُثل عُليا، والمراد باللسان القول.

وأصلُه جارحةُ الكلام، وقد تُكني العربُ باللسان عن الكلمة. كما قال الأعشى:
إنِّي أَتَتْني لسانٌ لا أسرُّ بها ♦♦♦ مِن عَلْوَ لا عجَبٌ منها ولا سخرُ

وفي المجاز: فلان يتكلَّم بلسان الله؛ يعني: بحجَّة الله وقرآنه وسُنَّة رسوله، وفلان حُلو اللسان؛ يعني: طيِّب الكلام، لا يتكلَّم إلا بما هو أمْر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو شكر لله وثناء على الناس. وقد ورد في القرآن. في دعاء نبيِّ الله إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].

يعني ثناءً حسنًا، وخلدًا، ومكانة بين الأمم التي ستأتي مِن بعدي، فأجاب اللهُ دعوته فلا يصلِّي أحدٌ على النبيِّ محمد عليه السلام آخر الأنبياء، إلا ويُصلِّي ويُسلِّم على نبيِّ الله إبراهيم. في التشهد حين يؤدِّي الصَّلوات لله رب العالمين.

وينبغي على العاقل أن يحفظ لسانه، ويتخيَّر ألفاظه حتى لا يقع في المهالك؛ لأنه كما يَستُر الثوبُ الجسدَ، كذلك اللسان يستر عقلَ الإنسان، وكثيرًا ما تسبَّبت فلتاتُ اللسان في الهلاك للإنسان، يقول ابنُ جبير: يَنبغي أن يَحفظ الإنسانُ لسانه كما يَحفظ الجفنُ إنسانَه؛ فَرُبَّ كلمة تُقال تحدث عثراتٍ لا تُقال. كم كسَت فلتاتُ الألسنة الحِداد مِن ورائها ملابس الحداد.

ومعنى الألسنة الحِداد. الكلام الشديد، والتطاول على الناس، والتكلُّم في أعراضهم. وقد ورد هذا في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]؛ يعني: آذوكم بكلام شديد، والسلق: هو الأذى بسلاطة اللسان. ومنه قول الشاعر:
ولقد سَلَقْنا هَوَازِنًا ♦♦♦ بِنَوَاهِلٍ حتى انحنَيْنَا

وحفظ اللسان مِن الصمت عن النطق بقبيح الكلام الذي يجلب غضب الله عز وجل فرض عين على كل مسلم ومسلمة؛ لأنه مِن الإيمان، كما جاء في السُّنَّة النبوية فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». (رواه البخاري، ومسلم).

وقديمًا قالت الحكماء. في الصمت السلامة، وفى التكلُّم الندامة. وإذا كان الكلام مِن فضَّة فالسكوت مِن ذهب.

وعلى العاقل أنْ يربأ بنفسه عن مواقف الاعتذار؛ فلا يُطلق العنان للسانه يتكلَّم أيَّ كلام حتى لا يَجُرَّ على نفسه الوبال، ويضع نفسه في مواقفَ حرجة. وفي الأمثال السائرة: لسانك حصانك، إنْ صُنته صانك، وإن أطلقتَه أهانك. وما أحسن قول الشاعر:
احفظْ لسانَك أيها الإنسانُ ♦♦♦ لا يلدغنَّك إنه ثعبانُ

وجاء في السُّنَّة النبوية. عن أم حبيبة رضي الله عنها، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «كلُّ كلام ابن آدم عليه، لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله تعالى». (رواه الترمذي).

وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إذا أصبح ابنُ آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّر اللسان فتقول: اتَّقِ الله فينا فإنما نحن بك؛ فإنِ استقمتَ استقمنا، وإنِ اعوججتَ اعوججنا» (رواه الترمذي)، ومعنى تكفر اللسان؛ أي: تخضع وتذلُّ له بالقول نصحًا وتحذيرًا، فنجاة الإنسان في حفظ لسانه عن التكلُّم بما يُغضب الله والناس.
وكثرة الكلام القبيح البذيء تميتُ القلبَ، وتجعل الصدأ يعلوه، والقسوة والنفاق يحلَّان فيه؛ فيبعد عن ربه، وينسى دينه وتعاليم نبيه، ويملُّ سماعَ الطيِّب مِن القول، ويحبُّ البذاءة والتطاول على الناس، وقد نهي الدِّينُ الإسلاميُّ مُعتنقيه، وشدَّد عليهم بأساليب شتَّى عن البُعد عن السفاهة وقُبح الكلام، وأمَرَهم بألا يقعوا في المهالك، ويخسروا الدنيا والآخرة إذا لم يبتعدوا عن الصفات الرديئة، التي تُورث العدواة والكراهية والحقد وتفشي الفساد في المجتمع. والله تبارك وتعالى يريد لبعاده أن يتصفوا ويتحلَّوا بمكارم الأخلاق، وصِدق اللسان.

ولذلك جاء الإسلام ناهيًا عن كل صفات رديئة تُفسد حياة الإنسان، وتهدم مجتمعهم، وتفتُّ في عضُدهم، وتشتِّت شملهم؛ فنهى عن الغيبة:
وهي ذكْر الناس بما يكرهون: قال تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12]، فاغتياب الإنسان في حياته كأكل لحمه بعد مماته، وقد كرهتم وأنِفْتم ونفرتم من أكل لحمه بعد وفاته. فاكرَهوا التكلُّم في حقه، وامتنِعوا عن إيذائه بألسنتكم في حياته.

والرسول عليه السلام يقول لأصحابه: «أتدْرون ما الغيبة»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول. قال: «إنْ كان فيه ما نقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه». (رواه مسلم، وأبو داود) ؛ أي: رميته بالبهتان؛ وهو الباطل، وذلك ظلم يجلب سخط الله.

ونهى عن النميمة:
وهي السعي بين الناس بالكلام بقصد الوقيعة بينهم:
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11]؛ يعني: لا تطع كثيرَ الحلِف؛ لأنه كذَّاب مهين حقير وضيع، ضعيف القلب، سليط اللسان، يغتاب الناس، ويمشي ويسعى بالفساد في المجتمع، وفي صحيح مسلم، عن حذيفة؛ أنه بلغه أن رجلًا ينمُّ الحديث، فقال. سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا يدخل الجَنَّةَ نمام».

وقال الشاعر في ذم النمام:
ومَولًى كَبيتِ النَّمْل لا خيرَ عنده ♦♦♦ لمِوَلاه إلَّا سعْيه بنميمِ

كما نهي عن أن يكون للإنسان لسانين؛ يعني: صاحب وجهين؛ يَلقَى كلَّ طائفة بما يُرضيها، ويُظهر لها أنه معها ومخالف لغيرها، وهذا مِن صفات المنافقين الذين قال فيهم القرآن الكريم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، وفي السُّنَّة النبوية قال عليه السلام: «مَن كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان مِن نار». (رواه أبو داود).

والأمام علي رضي الله عنه يقول: (إنَّ لسان المؤمن مِن وراء قلبه. وإنَّ قلب المنافق مِن وراء لسانه. لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدَبَّره في نفسه. فإنْ كان خيرًا أبداه. وإنْ كان شرًّا واراه. وإنَّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه). ولقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»؛ يعني: أن لسان الإنسان تابع لاعتقاده؛ فإنْ كان مؤمنا نطق بالصدق والحق وقال ما اعتقده القلب. وإنْ كان منافقًا قال ما ينال به غرضَه الخبيث؛ لأن لسانه تابعٌ لقلبه المريض المملوء نفاقًا وكذبًا وحقدًا وقبحًا وبذاءة.

وما أحسنَ قولَ الإمام علي:
ولا خير في ودِّ امرئٍ متلوِّنٍ ♦♦♦ إذا الريحُ مالت مالَ حيثُ تميلُ

ونهى الإسلامُ عن التطاول على الناس باللسان؛ بالسَّبِّ والقذف، وتوجيه الكلام القبيح الذي يعيب الناسَ ويؤلمهم، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر؛ إلا ارتدَّت عليه إنْ لم يكُن صاحبُه كذلك». (رواه البخاري، ومسلم). حتى الجماد والحيوان نهى الرسولُ المسلمين عن سبابها. فقد ورد في السُّنَّة النبوية: أنَّ رجلًا في عهد النبي عليه السلام: رَفَعَت الريحُ رداءه عن جسمه فلعَنَها؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تَلعنْها فإنها مأمورة، وإنَّ مَن لعَن شيئًا ليس له بأهلٍ رَجَعَت اللعنةُ عليه» (رواه أبو داود، والترمذي)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم في صفات المؤمنين: «ليس المؤمنُ بالطعَّان، ولا باللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء». (رواه الترمذي).

ونهى اللهُ عز وجل عن تتبُّع عورات الناس؛ لأن مَن يبحث عن عورة أخيه المسلم ويُفشيها فإنَّ الله يكشف ستْرَه ويفضحه جزاء له على تتبُّع عوارات الآخرين.

عن أبي برزة الاسلمي؛ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يا معشر مَن آمَن بلسانه، ولم يدخل الإيمانُ قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنَّ مَن اتَّبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومَن يتبع الله عورته يفضحه في بيته». (رواه أبو داود).


نسأل الله عز وجل طهارة قلوبنا ونفوسنا، وصيانة ألسنتنا؛ حتى نكون من عباده الصالحين الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه؛ إنه سبحانه وتعالى نعْم المولى، ونعْم المعين.
______________________________ ______________________________ ______
الكاتب: محمود طنطاوي