حقيقة القبض في فقه المعاملات
لقمان عبد السلام
لا يعد القبض في فقه المعاملات شرطا من شروط البيع العامة أو ركنا من أركانه العامة، وإنما كان من تمام شرط الصفقة في بعض العقود وأثرا من آثارها ولوازمها.
وعليه ينقسم العقد من حيث تعلقه بالقبض إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عقد البيع الذى لا يصح إلا بالقبض
من أهم عقود البيوع القائمة على شرط التقابض:
1- عقد الصرف: له دخل في العقود التى لا تصح إلا بالقبض بل يحرم تأخير التقابض فيه، ومعنى الصرف في عرف الفقهاء: هو بيع الأثمان أو النقود بعضها ببعض سواء من جنس واحد أو من غيره، ومن ذلك الأوراق النقدية المعاصرة على اختلاف أنواعها.
وتحقق تقابض بين البدلين قبل الافتراق من جلس العقد أمر حتمي شرعا، وإلا يكون العقد باطلا.
قال ابن المنذر “وأجمعوا أن المتصارفين إذا تفرقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد”[1]
2- عقد السَّلَم : فإنه عقد رخص فيه تأجيل المثمن مع وجوب تعجيل الثمن، ومفاده أن قبض كامل الثمن في مجلس العقد -وهو رأس المال – لا بد أن يكون عاجلا وحالا، وإذا لم يتحقق القبض فلا ينعقد العقد.
ويوجد بعض العقود داخلة في هذا القسم كالمضاربة، والمساقاة، والمزارعة
القسم الثاني: العقود يشترط في لزومها وإتمامها القبض
لا يتم بعض العقود ولا يلزم إلا بالقبض، ومن ذلك:
1-عقد الرهن : فالجمهور على أن القبض شرط في لزوم الرهن، حيث لو تم العقد بين الراهن والمرتهن ولم يتم تسليم الرهن للمرتهن فللراهن حق الرجوع لأن العقد لم يدخل في مسمى الرهن الصحيح بعد، خلافا للمالكية ومن وافقهم، فإن الرهن عندهم يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض، ولذا يحظر على الراهن العودة عن تسليم الرهن، وإنما يجب عليه التسليم ولو بالإجبار إذا رفض، وكذا لو تم الاتفاق بين الراهن والمرتهن أصالة على بقاء الرهن بيد الراهن فلا بأس ويعتبر الرهن صحيحا ويترتب عليه أثره.
وعلى أية حال فإن الجميع اتفقوا على أن القبض شرط في الرهن من حيث العموم.
2-عقد الهبة: جاء عن أبى بكر الصديق أنه نحل عائشة رضي الله عنهما “جادَّ عشرين وسقاً …فلما حضرته الوفاة قال: فلو كنت جددته واحتزته كان لك وإنما هو اليوم مال وارث..”[2]
قال ابن عبد البر: في حديث عائشة هذا أن من شرط صحة الهبة قبض الموهوب لها قبل موت الواهب قبل المرض الذي يكون منه موته .[3]
3- عقد العارية: قال ابن رجب: “وأما العارية فلا تملك بدون القبض”[4]
وفي مجلة الأحكام العدلية: “القبض شرط في العارية فلا حكم لها قبل القبض” .
4- عقد القرض: لا يصح عقد القرض عند جمهور العلماء إلا بعد قبض العين المقرضة وتسليمها للمقترض.
5- عقد الوديعة: تقرر عند أهل العلم أن عقد الوديعة لا ينتهى عند الإيجاب والقبول بل لا بد من إثبات يد الوديع على الوديعة وهو أمر بدهي، وإلا فلا.
وهذه العقود الخمسة تطلق عليها العقود العينية، وهي من عقود التبرعات في أغلبية حقيقتها، وتصدق عليها قاعدة ” لا يتم التبرع إلا بالقبض” .
القسم الثالث: العقد الذى لا يشترط القبض فيه أصالة
هناك جملة من العقود تنعقد بمجرد الإيجاب والقبول دون اعتبار القبض في إنشائها واعتبارها، ومن هذه العقود:” عقد البيع المطلق- في غير الأموال الربوية – والإجارة والنكاح والوصية والوكالة والحوالةونحوها)[5] وهي عقود معتبرة بمجرد العقد ولا تفتقر إلى قبض المعقود عليه على صحيح من أقوال العلماء.
صفة القبض
الخلاصة في صفة القبض أن المرجع فيها هو العرف، وهذا قد يكون بالتخلية فيما لا ينقل، يعني تمكين المستحق به بإثبات يده عليه، وإزالة كل ما قد تعوق سبيل التمكين، وهذا أيضا بحسب العرف، كتسليم مفاتيح الدار مثلا أو تسليم صك الأرض وهكذا، فإذا حصل التسليم من هذا القبيل فإنه يعتبر قبضا، وتحصل صفة القبض بالنقل والتحويل فيما كان جزافا، أو بتناول اليد أو بالكيل فيما يكال وبالوزن فيما يوزن، لأنه لم يرد في الشرع ما يقتضى التقييد بوسيلة معينة في القبض بل جاء مطلقا ويكون عرف الناس وعاداتهم هي محكمة في ذلك.
قال الرافعي القزويني: الرجوع فيما يكون قبضاً إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال[6]
أهمية القبض وآثاره في العقود
صحيح أن القبض لا يتوقف عليه صحة بعض العقود ابتداء لكن له أثر جوهري في عامة العقود ولا سيما في البيع والرهن والإجارة والعارية كما هي مفصلة في كتب الفقه، إذ القبض هو ثمرة العقد التى يسعى إليها المتعاقدان والغاية منه، وتظهر آثاره من جهتين رئيسيتين:
الأولى: في انتقال الضمان بعد القبض
المقصود بانتقال الضمان: هو تحمل القابض مسؤولية أي عيب أو تلف يلحق بالعين المقبوضة دون التفات إلى سبب وقوع الحادثة، مثلا في البيع: إذا تم قبض المشتري للسلعة وإنه من حينه يصبح يده عليها يد الملك وينتقل إليه الضمان، وأما لو لم يقبض المبيع بسبب قائم من طرف البائع، فإن تبعات التلف أو العيب تبقى في ذمة البائع، ولكن إذا حصلت زيادة متولدة من المبيع في هذه الحالة فإنها للمشتري على الصحيح.
الثانية: في صحة التصرف
من أثر قبض المبيع حرية التصرف التام، حيث يحل للقابض أن يتصرف فيه كيف يشاء من بيع أو هبة أو رهن أو إجارة ونحو ذلك، وأما قبل القبض فإنه يمنع التصرف فيه مطلقا بإتفاق العلماء إذا كان في الطعام من حيث العموم، وأما ما عدا ذلك فإنهم مختلفون فيه بين صحته وعدمه نظرا لتحقيق مناط الأدلة المأثورة فيه، حتى قال أبو العباس ابن تيمية في تحريره لهذا الموضوع: “ولغموض مأخذ هذه المسائل كثر تنازع الفقهاء فيها “[7]، ومن أخذ بأي قول من أقوال أهل العلم بدليله وفقهه فلا لوم عليه كما هو شأن بقية المسائل الخلافية السائغة، إلا أن الذي لا شك في صحته من حيث الاختيار هو عدم التصرف في السلع قبل القبض مطلقا، لقول ابن عباس عاقبة حديث ” من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه [8]” : “وأحسب كل شيء مثله”.
وقد مال إلى هذا الاتجاء كثير من المحققين كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وعليه المجامع العلمية المعاصرة.
وعلى هذا، ينبغى تحري تمام القبض في كل بيع وعقد قبل التصرف فيه سدا للوقوع في محظورات العقود.
[1] الإجماع ص: 54
[2] رواه مالك في الموطأ (2783)
[3] الاستذكار 7/227
[4] القواعد لابن رجب ص: 79
[5] ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 30/231
[6]- فتح العزيز 8/442
[7] مجموع الفتاوى 29/403
[8] متفق عليه