بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مبحثٌ في ما يُروَى لعمرَ بنِ الخَطّاب رضي اللّه عنه:
(لَوْ عَثَرَتْ بَغْلَةٌ بِالعِراقِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْألَنِي اللَّهُ:
لِمَ لَمْ تُعَبِّدْ لَها الطَّريقَ يا عُمَر ؟!)
مُتَيَقِّظُ العَزَماتِ مُذْ نَهَضَتْ بهِ ... عَزَماتُهُ نَحوَ العُلَى لمْ يَقْعُدِ
وَيَكادُ مِن نُورِ البَصيرةِ أَنْ يَرى ... في يَوْمِهِ فِعْلَ العَواقِبِ في غَدِ[1]

الحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ،والصّ لاةُ والسّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالَمبنَ،نبيّ ِنا محمّد بنِ عبد اللّه، وعلى آلِه وصحبِه والتّابعين لهم بإِحسان.
وبعدُ،فَلِلّه دَرُّ عمرَ بنِ الخطّاب رضي اللّه عنه،فكَم له مِن المَعَزَّة في أنفُسِ المسلمين،وكَم له مِن القَبول بين مُحِبِّيهِ وشانِئِيه.
كيف لا ؟.وهو دعوةُ رسولِ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:(اللّهمَّ! أَعِزَّ الإسلامَ بأَحَبِّ الرّجلين إليكَ: أبي جَهل بنِ هشام أو عمرَ بنِ الخطّاب)[2].
مَن كان الشّيطانُ يَفرَقُ منه إذا لَقِيَه:(إنّ الشّيطانَ لَيَفْرَقُ منكَ يا عمر!)[3]،(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ)[4].
ومَن كان حَرِيّاً بقوله عليه الصّلاة والسّلام:(لو كانَ بَعدي نَبيٌّ لَكانَ عُمر)[5].
الصّحابيُّ المُحَدَّثُ المُلْهَم:(إنّه كانَ قد كانَ فيما مَضى قبلَكم مِن الأُمَم مُحَدَّثُون، وإنّه إنْ كانَ في أُمّتي هذه منهم؛فإنّه عمرُ بنُ الخطّاب)[6].
وهو إلى ذلك عَزمَةُ رسولِ صلّى اللّه عليه وسلّم على أُمّتِه لِاقتفاءِ سُنّتِه:(عليكُم بسُنّتِي وسُنّةِ الخلفاءِ الرّاشدينَ المَهدِيِّينَ بَعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ)[7].
فَلَطالمَا جَرى الحَقُّ والتَّنزيلُ على لِسانِه:(إنّ اللّهَ جعلَ الحقَّ على لسانِ عمرَ وقلبِهِ)[8].
ولا غَرْوَ في ذلك فقد كانَت عينا رسولِ صلّى اللّه عليه وسلّم في جاهليَّتِه[9] تَرصُدُه،وتَتَو سَّمُ فيه الخيرَ وتَرقُبُه،وبعدَ إسلامِه كانَ ذِراعَه الأَيِّدَ،مَن لم يُفارِقه في حَضَرٍ ولا سَفَرٍ،ولا سِلْمٍ ولا حَرْبٍ.
رضيَ اللّه عنه،فَواللّهِ ما ازدانَتِ الأُمّةُ الإسلاميّةُ - بعد الصِّدِّيق أبي بكر - بأفضلَ مِن عمرَ،فقد عُدَّ بحَقٍّ مِن عُظماء الأُمّةِ بل الإنسانيّةِ الّذين خَرَّجتهم مدرسةُ وَحْيِ السّماءِ بإشرافِ أشرفِ الأنبياءِ والرّسلِ الكِرامِ محمّدِ بنِ عبدِ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم .
هذا،وقد أُثِرتْ عنه مِن بَديع الأَقوال،وجَليل الأعمالِ ما لو كان مثلَه لِأُمّةٍ مِن الأُمَم إذاً لَفاخرَتْ به أهلَ الشّرق والغرب،ولَخلَّد َت مَآثِرَه تلك مَزبُورَةً بأحرف مِن نُور على طُروس مِن ذَهَب.
وها هو الإمامُ الجِهْبِذُ الشّهيرُ بابنِ الجَوزيّ عبد الرّحمن بن عليّ(ت:597هـ) يرقُم لنا من تِلكُم المَآثِر ورقاتٍ في كتابه الماتِع:(مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب)،بعدما كَسَرَه على ثمانين باباً،
والكتابُ عيِّنٌ فاحِصَةٌ،ونُبذة ٌ جامِعَةٌ،وشَذرَ ةٌ مِن سيرةِ ابنِ الخَطّابِ صالِحَةٌ،تَقِفُ بكَ على مَدى شُمُوخِ وعَظَمةِ هذه الشّخصيّةِ الفَريدةِ في عالَمِ البَشَر.
على أنّ ترجمتَه قد حَفَلَتْ بها كتبُ التّراثِ الإسلاميِّ،فيمك نُ مِن خِلالِها تَبيُّن مقدارِ تَأثيرِها في العالَـمَيْن: الإسلاميّ والغَربيّ.
وابنُ الخطّاب يَهولُكَ منه اسمُه إذا قرعَ الأسماعَ،ويَروع ُك منه مِثالُه إذا رُمْتَ تَبيُّنَ معناه،وإنّ الرّغبةَ في اسْتِجْلاءِ بعضٍ من هَديِه وسِيرتِه لَتَهجُم بكَ على رجلٍ فَذٍّ،فَكما تَحدو به إليكَ رحمتُه وعطفُه وتَواضُعُه،فإنّ حَزْمَه وعَزمَه وصَلابتَه في الحقِّ لَتَنأَى بكَ عنه أن تَطُولَكَ دِرَّتُه الّتي طالَما فَلَقَ بها أَنفُساً مارِدَة،وأَرواح اً عن الحقِّ شارِدَةً.
وبعدُ،فإنّي وهذا البُحَيث الكاشِفِ عن بعضٍ من الكَلِمِ الذّائعِ الصِّيتِ في القديم والحديث، والمأثورِ عن فاروقِ هذه الأُمّةِ عمرَ رضي اللّه عنه؛حتّى غدا بين النّاس مَضرَب المَثَل،لا أَبغي به سِوى استشراف الشّرفِ أن عَلِقتُ منه بسَبَب.
أَعني به ما رُوِيَ عنه - رضي اللّه عنه،ولم يُعزَ لغيرِه -،مِن مَقُولٍ عَلِقَ به،ثمّ استحالَ بعدَه قِسْطاطاً للعَدلِ،ومَنارا ً للحُكم:
(لو عَثَرَتْ بَغلَةٌ بأرضِ العراقِ؛لَخشيتُ أَنْ يَسألَني اللّهُ:لِمَ لمْ تُعبِّدْ لها الطّريقَ يا عُمر؟!).
والعلمُ محيطٌ بأنْ ليس كلُّ كلامٍ مُعْجِبٍ يُنحَلُه العُظماءُ ساغَ أن تُكَنّه مُستَودَعاتُ الصّدور،ولا أن تَرقُمَه اليَراعُ على القَماطِر والطُّروس،إذا تبيّن خُلْفُه !.
تتمّة المبحث / ينظر المرفق
الهوامش:


[1] - التّبصِرَة لابن الجوزيّ (1/382).
[2] - هداية الروّاة (5/ 402 رقم 5990)،وجاء في الصّحيحة (7/ 2/ 683 رقم 3225):(رواه ابن حبّان 2179/موارد،وله شواهد ذكرتُ بعضها في تخريج المشكاة " 6036/التّحقيق الثاني"،وقَوّاه الحافظ 7/ 48 بشواهده).
ولفظُه في الصّحيحة (7/ 2/ 681 رقم 3225) مِن حديث عائشة رضي اللّه عنها أنّ النَّبيَّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:(اللَّهُمَّ! أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِعُمَرَ بن الخَطَّاب خَاصَّةً).
قال السُّيوطيّ في الدُّرَر المُنتَثرَة (ص53 رقم 32):(وقال ابنُ عساكر في الجمع بين اللّفظين:إنّه دَعا بالأوّل أوّلاً،فلَمّا أُوحيَ إليه أنّ أبا جهلٍ لن يُسلِمَ خَصَّ عمرَ بدُعائِه؛فأُجيب َ.وقد اشتّهرَ هذا الحديثُ الآنَ على الألسِنَة بلفظ:" ... بِأَحَبِّ العُمَرَيْنِ "، ولا أصلَ له في شيءٍ من طرقِ الحديثِ بعد الفَحصِ البالِغ.انتهى).
قال مُحقِّق الرّوض الأُنُف عبد الرّحمن الوكيل (3/ 272):(والرّوايةُ الجاريةُ على الألسِنَة،بأَحَ بِّ العُمَرين:لا أصلَ لها في شيءٍ من طرق الحديث،وهناك روايةق طيّبةُ المعنى عن عائشة:قالت:إنّما قال صلّى الله عليه وسلّم:اللّهُمَّ أعِزَّ بالإسلام،لأنّ الإسلامَ يُعِزُّ ولا يُعَزُّ»).
وقال السّخاويّ في المقاصد (ص88 رقم 168):(وما زعمَه أبو بكر التّاريخيّ من نقلِه عن عكرمة:أنّه سُئلَ عن قوله:اللّهُمَّ أَيِّدِ الإسلامَ،فقال: مَعاذَ اللهِ دينُ الإسلام أعَزُّ مِن ذلكَ،ولكنّه قال:اللّهمّ أَعِزَّ عمرَ بالدِّينِ أو أبا جهلٍ،فأَحسبه غيرَ صحيحٍ).
قال في تمييز الطيّب من الخبيث (ص33):(قلت:وأمّا ما يدورُ على الألسِنَة مِن قولِهم: اللّهُمَّ أَيِّدِ الإسلامَ بإحدى[كذا] العُمَرين، فلا أعلمُ له أصلاً،واللّهُ تعالى أعلمُ).
وفي مرقاة المفاتيح (11/ 191 - 192):(أقول:ليس فيما ورد من الحديث محذورٌ بل هو من قَبيل قولِه تعالى:" فَعَزّزناهما بثالِثٍ"[يس/14].أي قَوّينا الرّسولين وما أتيا مِن الدّين به،أو مِن بابِ قولِه صلّى اللّه عليه وسلّم:"زَيِّنُوا القرآنَ بأَصواتِكم" ...).
وفي الهادي والمهتدي (ص158):(والمرادُ بأَحَبِّ العُمَرين أفضلُهما عندَ الله،فإنّ اللهَ لا يحبُّ مَن كفرَ به،ولو كان لِكلٍّ منهما مَكانتُه في الجاهليّة،فإنّ مَن أسلمَ أَزكى وأفضلُ مِن الباقي عليها).
[3] - الصّحيحة (4/ 142 رقم 1609).
[4] - صحيح البخاريّ (6/ 491 رقم 3294 فتح).
[5] - الصّحيحة (1/ 2/ 646 رقم 327).
[6] - متّفق عليه (صحيح البخاريّ:7/ 193 رقم 3469 فتح) و (صحيح مسلم 8/ 15/ 166 نوويّ).
[7] - الصّحيحة (6/ 1/ 526 رقم 327).
[8] - صحيح سنن أبي داود (8/ 311 - 312 رقم 2623)،صحيح موارد الظّمآن (2/ 341 رقم 1831/ 2184).
[9] - جاهليّة عمر.