الوفاء بالعهد








الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

هذا نداء إيماني ما أحوجنا إليه! وكيف لا؟ وهو الذي يأتي على جرح من جروحنا، ويخاطب عيباً من عيوبنا، يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة: من الآية1)

والعقود هي العهود التي بيننا وبين الله، والتي بيننا وبين الناس.

وقد أمر الله -تعالى- بالوفاء بالعهد والوعد، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(الإسراء: من الآية34). أي: مسئولاً عن الوفاء به.

وقد جعل الله الوفاء بالعهد أول صفات العقلاء، فقال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:19-20)

وجعله أخص خصائص الفئة المؤمنة، حيث قال في معرض وصفهم (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8)

هذا وأعظم العهود وأجلها عهد العبودية الذي أخذه الله علينا ونحن كأمثال الذر في ظهر أبينا آدم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي).

أخي: إن سَيِّد الموفين بعهدهم هو الله -تعالى- (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)(التوبة: من الآية111).

ومن ساداتهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الذي ظل على الوفاء حتى إذا توفاه الله -تعالى- وفى عنه خليفته أبو بكر -رضي الله عنه-، فعن جابر -رضي الله عنه-قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو جاء مال البحرين أعطيناك كذا وكذا، فلم يجئ هذا المال حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فلما استخلف أبو بكر نادى في الناس: من كان له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدة أو دين فليأتنا فأتيته فأعطاني موعود رسول الله، وأحسن الوفاء)

فتأمل كيف سوى أبو بكر بين الوعد والدين، وقديماً قالوا: وعد الحر دين عليه.

ولقد كان بعض القضاء يلزمون بالوعد ديانة وقضاء، وكان رسول الله يتعوذ بالله -تعالى-، لا أقول من خلف الوعد بل من الأسباب المفضية إليه، فقد كان يكثر أن يقول قبل أن يسلم من صلاته: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فسئل عن علة تعوذه مراراً من الدين، فقال: (إن العبد إذا غرم "استدان" أثم حدث فكذب ووعد فأخلف)

ومن ساداتهم الكريم بن الكريم إسماعيل بن إبراهيم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) (مريم:54)

ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي لما حضرته الوفاة قال: أشهدكم أني زوجت ابنتي من فلان، وذلك لأني أعطيته شبه وعد بذلك آنفاً، وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق.

فثلث النفاق والثلث كثير- خلف الوعد، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)

ومنهم أنس بن النصر: ذلك الرجل الذي غاب عن بدر، فقال لئن أراني الله -تعالى- مشهداً آخر ليرين ما أصنع. فلما كانت غزوة أحد أخذ يبحث عن الشهادة في مظانها، ولم تهدأ نفسه -رضي الله عنه- حتى نالها وبه بضعة وثمانون جرحاً.

يقول أنس بن مالك: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23)

أخي الكريم لقد كان فئام من أهل الجاهلية على جاهليتهم وشركهم يأبى أحدهم أن يعطي الناس عهداً ولا يتلفظ معهم بوعد لماذا؟ خشية ألا يفي. ومن ثم يكن عاراً عليه يُعيَّر به أبد الدهر.

عباد الله: ما أخطر العهود والمواثيق، ولكن كأن الذين يتفلتون من وعودهم كأنهم لم يسمعوا بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3)

كأنهم لم يعلموا أن خلف الوعد خصلة شيطانية يهودية نفاقية كفرية (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ)(إبراهيم: من الآية22)

وقال -تعالى- في شأن يهود: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100)

وقال عن إخوانهم المنافقين: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (التوبة:57-77)

وقال عن الكافرين: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (لأنفال:55-56)

أخيراً: يا له من دين لو أن له رجال!!

كيف لا وهو الدين الذي استحث أبناءه على الوفاء حتى مع ألد الأعداء، يقول الله -تعالى-: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58)

وقد جاء أبو جندل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاراً بدينه من قريش إبان صلح الحديبية، فرده رسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (إنا قد أعطينا القوم عهداً وأعطونا، وإنه لا يحل في ديننا الغدر)


وصلى الله على النبي، وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
منقول