خطبة الحرم المكي - حلاوة الإيمان: معناها وأسبابها وبعض موانعــهــا


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 11 من جمادى الآخرة 1443هـ - الموافق 14 / 1 /2022م للشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد، متحدثًا فيها عن حلاوة الإيمان ومعناها وأسبابها، وبين في الخطبة أنَّ الدنيا تُقطَع بأقدام، ومَفاوِز الآخرة تُقطَع بقلوب، وإن في النفوس ركونًا إلى السهل والهينِّ، ونفورًا عن المكلِّف والشاقّ، والحازم يرفع نفسه إلى معالي الأمور، ويروضها حتى تألف جلائل المطالب، وتطمح إلى أعالي الذُّرَى، حتى إذا ما عرفت العزة نفرت من الذلة، وإذا ذاقَتْ لذةَ الروح استصغرَتْ لذةَ الجسد؛ {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}(الْإ ِسْرَاءِ: 19)، اللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، والفكر لا يُحَدّ، فإن لم تُشْغَل بالعظائم شُغِلَتْ بالصغائر، وإن لم تُستعمَل في الخير انصرفت إلى الشر؛ فسبحان مَنْ أشهَد بعضَ عباده جنتَه قبلَ لقائه، وفتَح لهم أبوابَها في دار العمل فآتاهم من رَوْحها، ونسيمها، وطِيبها، ما استفرَغ قُواهم بطلبها، والمسابَقة إليها، حتى قال بعض السلف: «إنه لَتمُرُّ بي أوقاتٌ أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لَفي عيشٍ طيِّبٍ»، نعم -حفظكم الله-، شتان بين مَنْ يُنعِّم بَدَنًا، ويُهلِك قلبًا، ومَنْ يُتعِب بَدَنًا ويُسعِد قلبًا، حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النارُ بالشهوات.

وتساءل الشيخ ابن حميد، ما الذي دعا هؤلاء الأخيار ليقولوا ما قالوا؟ وما الذي بعث فيهم هذه الهمم العالية؟ إنه استطعامهم بحلاوة الإيمان، واستلذاذهم بلذيذ العبادة، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «الإيمان له حلاوة، وطعم يذاق بالقلوب، كما تذاق بالفم حلاوة الطعام والشراب، والإيمان هو غذاء القلوب وقوتها، كما أن الطعام والشراب هو غذاء الأبدان وقوتها، والجسد يجد حلاوة الطعام والشراب عند صحته، فإذا سَقِمَ لم يجد حلاوةَ ما ينفعه، بل قد يستحلي ما يضرُّه، فكذلك القلب؛ يجد حلاوة الإيمان إذا سَلِمَ من مرض الأهواء المضلة، والشهوات المحرَّمة، وإذا مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه، من الأهواء والبدع والمعاصي والمنكرات» انتهى كلامه -رحمه الله.

معنى حلاوة الإيمان

وبين الشيخ معنى حلاوة الإيمان فقال: هو استلذاذ النفوس للطاعات، وتحمُّلها المشقات في رضا الله -عز وجل-، ورضا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإيثارها ذلك على عَرَض الدنيا، ذلك أن حلاوة الإيمان ولذة العبادة هي راحةُ النفس، وسعادةُ القلب، وانشراحُ الصدر عندَ القيام بالمطلوبات الشرعيَّة، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة من كل ما يحبه الله ويرضاه، وهي حلاوة عجيبة، تختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، وفيها قوة وفيها وضَعْف، ولها إقبال ولها إدبار، فسبحان مَنْ فاوَت بينَ الخلق في هِمَمِهم، حتى ترى بين الهمتينِ أبعدَ ما بين المشرقين والمغربين!

وأضاف، حلاوة الإيمان مفتاح الثبات على طاعة الله، ولذة العبادة -حفظكم الله- سر الصمود أمام الفتن.

لذات الدنيا ولذة العمل الصالح

لذاتُ الدنيا مصحوبةٌ بالمنغِّصات والمكدِّرات، ولذة العمل الصالح نقية خالصة، لذة الدنيا يعتريها الملل، ولذة العمل الصالح لا ملل فيها، بل كلما زاد من العمل الصالح زادت اللذة والسعادة، لذة الدنيا قد تُفَوِّت على العبد لذةَ الآخرة، ولذةُ العمل الصالح مُدرَكةٌ في الدنيا والآخرة.

الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان

وعن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان ولذة العبادة قال الشيخ ابن حميد: أول هذه الأسباب وأهمُّها تزكية النفس وتطهيرها؛ فمَنْ شَرِبَ من إناء متَّسِخ فلن يجد الحلاوةَ التي يَنشُدُها، ولو أنه نظَّفَه وطهَّرَه، ثم سكَب فيه الماءَ فسوف يجد الحلاوةَ الكاملةَ، والعذوبةَ التامةَ، والقلب الذي يتلبَّس بقاذورات المعاصي، وأدران الخطايا، وأوساخ الشهوات، لا يجد حلاوةَ الإيمان، وفي الحديث الصحيح: «ثَلَاثٌ *مَنْ *فَعَلَهُنَّ *فَقَدْ *طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وزكى نفسه» أخرجه أبو داود، وغيره، بسند صحيح، وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم : «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنتَ خير مَنْ زكَّاها، أنتَ وليها ومولاها» (رواه مسلم)، ويقول بشر بن الحارث -رحمه الله-: «لا يجد العبدُ حلاوةَ العبادة حتى يجعل بينَه وبينَ الشهوات حائطًا من حديد».

إقامة فرائضِ الله باطنًا وظاهرًا

وتكون التزكيةُ بإقامةِ فرائضِ الله باطنًا وظاهرًا، ولزومِ السُّنة، مستعينًا بالله، متبرِّئًا من حوله وقوته، وأولُ ذلك توحيدُ الله -عز وجل-، والإخلاصُ له، وصدقُ التوكلِّ عليه، والاعتمادُ عليه، والاستعانةُ به، مع محبته ودوام ذِكرِه، والسكونِ إليه، والطمأنينةِ إليه، وإفرادُه بالحب والخوف، والرجاء والتوكل؛ فيكون -سبحانه- هو المستولي على هموم العبد، وعَزَماته، وإراداته، فمن تعلَّق قلبُه بربه وجَد لذةً في طاعته، وامتثال أوامره، لا تدانيها لذة، ومن قرت عينه بالله قرت منه كل عين، فمن قرَّت عينُه بالله قرَّت منه كلُّ عين، ومَنْ لم تقرَّ عينُه تقطَّعَت نفسُه عليه حسراتٍ.

التوبة من الذنوب

ومن التزكية أن يُجاهِد العبدُ نفسَه في التوبة من الذنوب، ويُكثِر التوبةَ والاستغفارَ، متبرِّئًا من حَوله وقوته، سائلًا ربَّه الإيمانَ والتوفيقَ والتسديدَ، والعبد كلما ازداد عبودية لله وافتقارًا ازداد لنفسه ازدراءً واحتقارًا، وتعلَّق قلبُه بربه وحدَه؛ ولهذا خاف مَنْ خاف من الصالحين النفاقَ على نفسه، يقول المطرِّف بن عبد الله بن الشخير: «لأَنْ أبيتَ نائمًا وأُصبِحَ نادمًا، أحبُّ إليَّ أن أبيت قائمًا وأُصبِحَ مُعجَبًا»، فالمعجَب لا يصعد له عمل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبِّحين المُدِلِّينَ، وأحبُّ القلوب إلى الله قلبٌ تمكَّن منه الانكسارُ، وملَكَه الافتقارُ، فهو ناكس الرأس بين يدَيْ ربه، لا يرفع رأسَه إليه حياءً وخجلًا.

الدعاء

ومن الوسائل العظيمة الجالبة للَّذة والحلاوة الدعاء؛ فهو السلاح الذي لا يَنبُو، وقد جاء في الحديث: «وأسالك نعيمًا لا ينفد، وقرةَ عينٍ لا تنقطع»(رواه أحمد).

قراءة القرآن بالتدبر

ولْيُكثِرِ العبدُ من قراءة القرآن بالتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ومداومة ذِكْر الله، وإيثار محابِّه على محابِّ النفسِ عندَ غلبة الهوى، ومشاهَدة بِرِّه، وإحسانه، وإكرامه، وإنعامه، واغتنام وقت السَّحَر، ووقت النزول الإلهي، ومجالَسة الأخيار والصالحين.

الاستغفار أعظم لذة في الدنيا

والمحبة العظيمة تُورِث شوقًا عظيمًا، وأعظم لذة في الدنيا أن تستغفر الله، كما أن أعظم لذة في الآخرة هي النظر إلى وجهه الكريم؛ ولهذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: «وأسألكَ لذةَ النظر إلى وجهِكَ الكريمِ، والشوقَ إلى لقائكَ»، يقول بعض السلف: «أطيبُ ما في الدنيا معرفةُ اللهِ ومحبتُه، وأطيبُ ما في الآخرة رؤيتُه»، وقال بعض الصالحين: «مساكينُ أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها. قيل له: وما أطيبُ ما فيها؟ قال: محبة الله، ومعرفته وذِكرُه».

موانع حلاوة الإيمان

ثم ذكر الشيخ ابن حميد الأسباب المانعة لحلاوة الإيمان فقال: إذا كانت هذه هي حلاوة الإيمان، وهذه أسباب تحصيلها وآثرها فاعلموا أن من موانع حصولها المعاصي والذنوب؛ فإن المعاصي حجاب غليظ يمنع إدراك حلاوةَ الإيمان، ولذةَ العبادة، لِمَا تُورِثه هذه المعاصي من قسوة وغلظة، وجفاء، حتى قال بعض السلف: «ما ضرَب الله عبدًا بعقوبة أعظمَ من قسوة القلب»، فرُبَّ شخص أطلَق بصرَه فَحُرِمَ نورَ البصيرة، أو أطلَق لسانَه فَحُرِم صفاءَ القلب، أو آثَر شبهةً في مَطعَمٍ فأظلَم صدرُه، وَحُرِمَ قيامَ الليل ولذةَ المناجاة»، يقول ذو النون -رحمه الله-: «وكما لا يجد الجسدُ لذةَ الطعام عند سَقَمِه، كذلك لا يجد القلبُ حلاوةَ العبادة مع الذنوب».


عقوبات عاجلة

ثم ختم الشيخ ابن حميد خطبته قائلاً: اعلموا أنَّ الغموم والهموم والأحزان والضيق قد تكون عقوبات عاجلة، والإقبال على الله، والإنابة إليه، والرضا به، وامتلاء القلب من محبته واللَّهَج بذِكره، والفرح والسرور بمعرفته هي ثواب عاجل وجنَّة مُعجَّلة، وعيش كريم، لا يدانيه عيش، وترك المعاصي والذنوب فيه حياة القلوب، فإذا حيت القلوبُ ذاق العبدُ حلاوةَ الإيمان، ولذة العبادة، فراقِبوا الله -رحمكم الله-، في جميع أعمالكم، وأخلصوا له، فمتى تحققت المراقبة حصل الأنس، فيا لَذة عيش المستأنسين! ويا لَخسارة المستوحشين!.