خطورة الاستشراف للفتن


اللجنة العلمية في الفرقان


في محاضرة للشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر -حفظه الله- تكلم فيها عن خطورة الاستشراف للفتن، وبين أنه ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ -أي تهلكه- وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» يوضحه زيادة ثبتت في الحديث نفسه في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ - الفتنة - فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ» قال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قال: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» كررها ثلاثاً -صلوات الله وسلامه عليه.

وأضاف، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من الخوض في الفتن والدخول في غِمارها والاستشراف لها أحاديث عديدة يوصي فيها - صلى الله عليه وسلم - أن يكون العباد «أحلاس البيوت» وأن يكون «عبدَ الله المقتولَ وليس القاتل»، وأن يكون «خير ابني آدم» في أحاديث عديدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر فيها أمته من الاستشراف للفتن والبروز لها والخوض في غمارها؛ لأنها هلكة وضرر على العبد في دنياه وأخراه ولا يحمدُ صاحبها العاقبة بل يجني على نفسه وعلى غيره.

الموفق من شرح الله صدره للحق

ثم بين الشيخ البدر أن الأحاديث الواردة في هذا الباب لا يوفَّق للعمل بها والاعتصام بما دلت عليه إلا من شرح الله صدره للحق والهدى، ويسر الله سبيله للزوم هدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، أما من أشرب قلبه الفتنة فإنه لا يقيم لهذه الأحاديث وزناً ولا يرفع بها رأساً ولا يرى لها قيمة، روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح إلى حُميد بن هلال -رحمه الله- أنه روى عن رجل كان من الخوارج ثم تاب وترك طريقتهم، قال ذلك الرجل: دَخَلُوا - أي: الخوارج - قَرْيَةً فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَقَالُوا لَمْ تُرَعْ - أي ليس هناك ما يخيف أو يبعث إلى الخوف والقلق - قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي، قَالُوا أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ نَعَمْ، قَالوا: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُحَدِّثُنَاهُ؟ قَالَ نَعَمْ؛ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَر: «فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، قَالَ فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ»، قَالُوا: أَأَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَالَ دَمُهُ - ابن صحابي ويحدِّثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقيموا وزناً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لم يكتفوا بذلك فذهبوا إلى بيته، وَبَقَرُوا بطن أُمِّ وَلَدِهِ.

عندما يُشرَب القلب بالفتنة

وهكذا عندما يُشرَب القلب بالفتنة ويَستشرف لها تُتلى على الإنسان آيات الله ووحيه وتنزيله، وتتلى عليه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يُبالي ولا يرفع بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأسا؛ ولهذا جاء في أحاديث ما يدل على أن الفتن إذا برزت وظهرت يلتبس أمرها على كثير من الناس؛ ولهذا يقال: فتنة عمياء، ويقال: فتنة صماء؛ لأن أكثر الناس يعمى عليهم أمرها ولا يستبين لهم شأنها؛ فيخوضون في غمار الفتن ثم لا يحمدون العاقبة ويندمون فيما بعد أشد الندم؛ ولهذا أيضا كان الأئمة -رحمهم الله من سلف الأمة- يحذرون العباد من الفتن ويدعون الناس إلى التأمل في عواقب الأمور «انظروا في عاقبة أمركم»، «اصبروا»، «لا تُريقوا دماءكم ولا دماء المسلمين» إلى غير ذلكم من الوصايا المأثورة والحكم المشهورة والكلمات العظيمة المأثورة عن السلف الصالح رحمهم الله.

الفتنة في زمن التابعين

ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين أتى نفر من الصلحاء إلى طلق بن حبيب -رحمه الله- وقالوا: قد وقعت الفتنة فبم نتقيها ؟ قال: اتقوها بتقوى الله، قالوا: أجمِل لنا التقوى ؟ قال: «تقوى الله: العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله».

الاعتصام بحبل الله المتين

وعندما يلزم عبدُ الله المؤمن سنة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ويعتصم بحبل الله المتين وبصراطه المستقيم ويُبعد نفسه عن الأهواء والبدع تتحقق نجاته بإذن الله، قال مالك -رحمه الله-: « السنة سفينة نوح فمن ركِبها نجا ومن تركها غرِق «؛ ولهذا كان متأكدَاً على كل مسلم ومتعيّنا في حق كل مؤمن أن يؤمِّر السنة على نفسه، وأن يحكِّم كتاب الله في شأنه ولاسيما في الأمور الكبار والقضايا الخطيرة التي تمس أمن الأمة وخوفها، وعندما يُعوِّل الناس وعامة المؤمنين على الأئمة الأكابر والعلماء الراسخين أهل البصيرة في دين الله والدراية بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمنون بإذن الله من العِثار، قال الله -تعالى-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(النساء :83 ).

الواجب على العبد إذا ماجت الفتن

والواجب على عبدِ الله إذا ماجت الفتن وبرزت أن يُقبِل على الله بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن؛ فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»، وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ».

الدعاء عند وقوع الفتن

والدعاء لنفس الإنسان خصوصا ولقرابته وذويه ولإخوانه المؤمنين عموما بالنجاة من الفتن فيه بإذن الله سلامة الأمة وسلامة المجتمعات؛ فإن الدعاء مفتاح كل خير والخيرات كلها بيد الله والتوفيق كله بيد الله، فما أحسن عباد الله أن يَكثُر لجوء العبد إلى الله -عز وجل- بالدعاء والسؤال والطلب أن يعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن! وقد صح في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ».

قلة الدراية بالكتاب والسنة

هذا وعندما يفشو في الناس الجهل وتقِل الدراية بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتضعف المعرفة بهدي السلف الصالح من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وعندما تُصاب القلوب بغلبة الأهواء وتُبتلى بالاستشراف للفتن، ترى في الناس حُلولاً للمشكلات وعلاجات للأحداث ليست مستمدة من كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل إذا تأملت في نشأة تلك الحلول وموردها وجدتها مأخوذة من الغرب الكافر ومن أعداء دين الله -جل وعلا- ولا أصل لها في كتاب الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا فإن الواجب على المؤمن أن يحكِّم الكتاب والسنة ولا يستعجل، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «إنها ستكون أمورٌ مشتبهات فعليكم بالتؤدة؛ فإنك أن تكون تابعاً في الخير خير من أن تكون رأساً في الشر»، وثبت في سنن ابن ماجة من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ».

الجرأة السافرة على الأحكام

إن ما يُدعى إليه من بعض أصحاب الفتن من مظاهرات واعتصامات وتجمهرات وتكثرات إما بكتابات أو توقيعات أو كلمات تنشر على الملأ، فيها تحريض أو غيرُ ذلك من الأمور الملتوية كل ذلكم أمور مستوردة لا يستطيع واحد من أهل تلك المسالك أن يستدل على أعماله بكتاب ناطق أو سنة ماضية، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: «العلم كتاب ناطق أو سنة ماضية أو لا أدري»، أما هذه الجرأة السافرة على الأحكام والمسارعة في استيراد حلول لا أصل لها ولا أساس في دين الله فهذا كله جناية من فاعله على نفسه وعلى أمته، وشريعة الله جاءت بالضوابط الواضحة في طريقة التعامل بين الحاكم والمحكوم، وكيف تُعالج الأخطاء؟ وكيف تُتجنب الفتن؟ وكيف تُصلح الأمور؟ فمن سار في إصلاحه على ضوء كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حقق لنفسه ولغيره الخير، وأما من سِوى هؤلاء فإنما يهلكون أنفسهم وغيرهم.