البيت


تراودني نفسي عن الكتابة عن هذه الأحرف الثلاثة (بيت)، وتُشرق حوله معانٍ عظيمة في نفسي تمتعني أحيانًا وتُشقيني أحايينَ، ولكن القلم والكلمات تَقصر عن استيعاب تلك المشاعر، حتى جاء الشتاء ورأيتُ تلك الوجوه الكالحة التي تُطل علينا من بين ثلوج المخيمات، ترقُب أملًا ميتًا، وتنتظر شمسًا غارت خلف جحود البشر وطمعِهم، كم آلَمتني أطرافهم المرتعدة، وشقَّ قلبي صراخُهم المخنوق في حناجر لم تعُد تعرف من قواميس الدنيا إلا الآه، تقولها في القرِّ والحر سواء، لم تعُد تَجود عقولهم بغيرها، وكأن ألسنتهم تثَّاقل عن الكلام مع الناس، أولئك الناس الذين غزَا قلبهم اليأسُ، وصُمَّت آذانهم عن صوت الوجع، وكذَّبوا الصدى، ولَوَوْا أعناقَهم يغتنمون لفحةً من حياة!

تجاهَلوا الخيم الممزقة؛ إما لعجزٍ حقيقي أو لطمعٍ، ونَهمِ جمع المال، وإما للبخل أو ضيق ذات اليد، فالنتيجة لدى هؤلاء الكَلْمى واحدة وهي جحود العالم لهم!

وكأن لسان حالهم يقول:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ

مُذْ رأيتُ ذلك الطفل البائس سبقتْ دموعي أحرفي، وسرتْ رعدةُ أطرافه في عروقي أنا، فضممتُ يدي إلى صدري أحتضن طيفه وأُدفئ بأنفاسي قلبَه الواجف وطرفه الراجف.

كم وَدِدتُ يا بني أن أمنحَك معطفي، وأُمسك كتفيك حتى تَثبُت وتنتصر على هزيم البرد الذي يقرصك!

ثم تذكَّرت أنه كان صاحب بيت، وكان ينعم فيه بالحب والدفء، كان يسعد بصوت الأب وحضن الأم، وجَلبة الإخوان والأصدقاء، والأهم لحاف الأمان! فجأة كل هذا أصبح مَحضَ ذكرى شاحبة، ربما لا يسمح له الواقع أن يسترجعها ولو خاطرًا أقربَ للخيال!

لا شك أنه كان يومًا مثلنا له بيت إذا فارقناه مكثتْ فيه أرواحنا تتلهف عودة البدن! فكيف بكم يا صغاري المشرَّدين بلا أهل ولا جدران وتحت سماء، لم تشهد لكم ذكرى واحدة من حياتكم التي كانت؟ كيف بكم!

يا إلهي، ألم يكن لهؤلاء المشردين بيت؟ ألم يتركوا فيه ضحكاتهم العالية وآمالهم الصاخبة؟ ألم يتركوا لوحاتهم التي نقشوا عليها مستقبلًا لم تكن به خيمة واحدة ولا كتلة ثلج جامدة ولا سحابة غاز خانقة! ألم يغادروا فيه الدمى؟ وطعم الحلوى وحضن الجدة! تبًّا لمن مزَّق لوحاتهم وهدم بيوتهم، وابتلع أحبابهم، وبقوا وحدَهم في مواجهة كتل الثلج بأجساد عارية، وسُحب الغاز برئة مكتومة! ولسان أخرس وقلب فصيح!

وزاد الجرح ملحًّا تنكَّر العالم لهم!
أعترف لكم يا صغاري.

أعترف أنني أشعر بالعجز، وليس لدي لكم مخرج، ولكني أؤمن أن الله يصنعكم على عينه، وأن الله لا يفعل شيئًا عبثًا حاشاه سبحانه، كل ما أستطيعه أن أدعو لكم، وأستسلم لذلك البرد الذي يسري في عروقي كلما نظرت لوجوهكم رغم المعطف والديباج الذي ألتحف به...

صغاري الكبراء: صبرًا صبرًا، حتمًا ستشرق شمسكم ويسري الدفء في أواصركم، وما أدراكم لعلَّ منكم أو من أصلابكم فرسان آخر الزمان الذي قال عنهم حبيب الله العليم الخبير: (هم خير فوارس الأرض يومئذ).

فتصبر بالله ابني الحبيب ولا تأمُل إلا في وجه ربك، ربما تتعجب من انقطاع الأمل في الأمة في هذه الفترة الكئيبة، ولكني أصل بك لأبعد من ذلك، هل تتخيل أنك أنت على ضَعفك ووَحدتك وقلة حيلتك وتشرُّدك على حدود البلدان، أنت أنت بهذه الحال أمل الأمة، أمل هذه الكثرة الكاثرة الناعمة بالدفء الجامعة للمال، التي تقطن البيوت، بله القصور، أنت أنت أملُها!

فدفء قلبك ورعاية ربك، تجعلك أنت الأمل، نحن من نعزِّي أنفسنا لا أنت، سيجبرك الله في علاه ما سلَّمت وصبرت غير راكعٍ إلا لجلاله! قدوتك نوح وموسى ويوسف ويونس ومحمد عليهم السلام، لا أكرم على الله منهم، ومع ذلك ذاقوا من أهوال الدنيا ما لا يحتمله إلا نبي مؤيَّد، ولكن انظر للعاقبة! تخيَّل قلبك وهو يسمع هذا العزاء الشافي: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4].


أو قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73]، وحتى ذلك الحين تصبر وتذكر دائمًا أن الله يصنَعك على عينه!
______________________________ _________________
الكاتب: أ. منى مصطفى