وقفات... مع شهر رجب!









كتبه/ أحمد حمدي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الوقفة الأولى: شهر رجب مِن الأشهر الحرم، أي مِن الأزمنة التي لها حُرمة عند الله، قال -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة:36)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) (متفق عليه).

وهو شهر تتأكد فيه الطاعات والسنن والمستحبات، وخاصة ونحن على أعتاب شهر رمضان، قال أحد السلف: "رجب شهر البذر، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر جني الثمار". وكان السلف يدعون الله ستة أشهر قبْل رمضان: "اللهم بلغنا رمضان".


وقد ورد في الأثر -وإن كان فيه ضعف-: "صم مِن الحرم واترك.، صم مِن الحرم وأترك"، كذلك في الأشهر الحرم يغلظ ويقبح فيها الذنوب والمعاصي والكبائر؛ لقوله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) (التوبة:36)، كما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

الوقفة الثانية: شهر رجب يكثر فيه البدع والمحدثات، مثل: العتيرة الرجبية، والعمرة الرجبية، وصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة تصلى بيْن المغرب والعشاء ليلة أول جمعة مِن شهر رجب، والذبيحة الرجبية، والاحتفال بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين مِن شهر رجب، ويكون الاحتفال بالطعام والشراب والأمسيات والأشعار أو بالأذكار والصلوات التي لم ترد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) (رواه مسلم وأحمد والنسائي).

وكما قال أحد السلف: "ما لم يكن يومئذٍ دينًا؛ فليس اليوم بدين". وقيل أيضًا: "كل خير في اتباع مَن سلف، وكل شر في ابتداع مَن خلف"، وليس في الدين بدعة حسنة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (رواه مسلم)، فلا يختص شهر رجب بعبادةٍ معينةٍ عن سائر الشهور.

الوقفة الثالثة: غزوة تبوك حدثت في فصل الصيف في العام التاسع مِن الهجرة بيْن المسلمين، وكان عددهم ثلاثون ألف ضد الغساسنة والروم عند تبوك في شمال شبه الجزيرة العربية على بعد قرابة 700 كم مِن المدينة، ولم يحدث قتال، ونُصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرعب مسيرة شهر، وسُميت بغزوة العسرة، وبعدها دخلت الوفود في دين الله أفواجًا مِن كل أنحاء شبه الجزيرة العربية في نفس العام عندما شاع خبر انتصار المسلمين على أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت وهي الروم.

ونزلت في أحداث الغزوة سورة براءة "سورة التوبة"، وكان في هذه الغزوة أحداث عظام، ودروس مستفادة، مثل: بذل بالمال، فقد أنفق أبو بكر -رضي الله عنه- ماله كله، وعمر -رضي الله عنه- أنفق نصف ماله، وعثمان -رضي الله عنه- جهَّز جيش العسرة بتسعمائة مِن الإبل بأحلاسها وأقتابها وألف دينار ذهب، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ) مَرَّتَيْنِ. (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

وكذلك المشقة الشديدة في حرِّ الصيف مع بعد المسافة، وقوة وعتاد وعدة العدو، وهم الروم، وقد أينعت ثمار المدينة وفتنة الدنيا، وقلة الزاد والراحلة حتى كان يتعاقب تسعة عشر رجل على بعيرٍ واحدٍ، قال -تعالى-: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة:42).

وظهرت في هذه الغزوة كثيرٌ مِن خصال النفاق حتى سُميت سورة براءة بسورة الفاضحة أو الكاشفة أو المنافقون أو المقشقشة، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما زال الله -عز وجل- يقول في السورة: ومنهم... ومنهم... حتى ظننا أنها لن تترك أحدًا! قال -تعالى-: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة:75)، وقال: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ? قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ) (التوبة:61)، وقال: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58)، وقال: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).


كان عدد هؤلاء المنافقون بضع وثمانون علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ببعضهم وذكرهم لحذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-، كاتم سر النبي -صلى الله عليه وسلم- في جيش قوامة ثلاثون ألف، وقال -تعالى-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة:47).