خطبة الحرم المكي - الإيمــــــــــ ـان باليـــــــــــ ــوم الآخر نجاة من كل كرب


مجلة الفرقان









جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ: 4/6/1443 الموافق: 7/1/2022 للشيخ بندر بليلة، بعنوان: ( الإيمان باليوم الآخر نجاة من كل كرب)؛ حيث بين الشيخ أن هناك حقيقة مُسلَّمة، واعتقادا جازما، وركيزة من ركائز الإيمان؛ تلكم هي الإيمان باليوم الآخر، إنه الإيمان بكل ما أخبَر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، مما يكون بعد الموت، وما أعدَّ الله للطائعين من ثواب، وللعاصين من عقاب، قال -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (الْبَقَرَةِ: 177)، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}(النِّس َاءِ: 136)، وسأل جبريلُ -عليه السلام- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر، وبالقَدَر خيرِه وشرِّه»(أخرجه مسلم).

أهمية الإيمان باليوم الآخر

ثم أكد فضيلته أن بالإيمان باليوم الآخر يتبيَّن المؤمن المصدق، من الكافر المكذِّب؛ إذ هو إيمان بالغيب، واطراح للشك والريب، بسم الله الرحمن الرحيم: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(الْ بَقَرَةِ: 1-3)، وحين أنكَر المشركون اليوم الآخِر وارتابوا فيه وقالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}( الْمُؤْمِنَونَ: 35-37)، ردَّ اللهُ -تعالى- عليهم، وكشَف ضلالَهم، وأقام عليهم الحجة بمجيء اليوم الآخِر، وبيَّن الحكمةَ منه، فقال -سبحانه-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتعالى- اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}(الْم ُؤْمِنَونَ: 115-116)، وقال -تعالى-: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التَّغَابُنِ: 7)، وقال -سبحانه-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(النَّ حْلِ: 38-40)، وعاب -سبحانه- عليهم نسيانَهم له، وجزاهم على ذلك بنسيانه لهم، ودخولهم النار، وفَقدِهم النصيرَ، فقال: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}(الْج َاثِيَةِ: 34).

اليوم الآخِر له رَوعٌ ورهبة

وقد وصف الشيخ بندر بليلة اليوم الآخِر بأنه يوم له في رَوعِ العبدِ رَوعٌ، وفي جوانحه منه رهبة، فهو يوم التناد، وهو يوم الحسرة، ويوم التغابن، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(ا لْمُطَفِّفِينَ: 6)، يوم يُبعثَر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تُزلزَل الأرضُ زلزالَها، وتُخرِج الأرضُ أثقالَها.

من مهام الرسل دعوتهم لأقوامهم للإيمان باليوم الآخِر

وقد أشار إمام الحرم إلى أن من مهام الرسل -عليهم السلام- مع أقوامهم دعوتهم إلى الإيمان باليوم الآخِر وبيان أحواله وأهواله، ذلك أن تذكُّره أمارة خير وهدى، والغفلة عنه نذير سوء وردًى، إن أول قَدَمٍ يضعُها العبدُ في ميدان اليوم الآخر هي بموته ثم قبره، وفي القبر الافتتان والامتحان، فيُكرَم فيه أو يُهان، يُوفَّق المؤمن ويُكرَم، ويُخذَل الكافر ويُجرَّم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنه قد أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ *تُفْتَنُونَ *فِي *الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا»
(أخرجه البخاري ومسلم) ثم أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فقال -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولَ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا تَلَيْتَ، وَلَا اهْتَدَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ»
(رواه الإمام أحمد).


القبر إما نعيم وإما عذاب

ثم تطرق فضيلته إلى أن في القبر النعيم أو العذاب، وبعدَه البعث وقيام الساعة، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}(الْح َجِّ: 7)، ثم تعاد الأرواح إلى الأجساد، وتتشقق الأرض عنهم كما تتشقق عن النبات، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}(ق: 44)، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(فُصِّلت: 39)، فإذا كان ذلك قامت القيامة الكبرى، وخرج الناس من قبورهم لرب العالمين حُفاةً عُراةً غُرلًا، فتدنو منهم الشمس، ويغشاهم العرق، وتُنصَب الموازينُ لوزن الأعمال، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}(الْم ُؤْمِنَونَ: 102-103)، وتُنشَر صحائفُ الأعمال، فآخِذٌ كتابَه بيمينه، وآخِذٌ كتابَه بشماله أو من وراء ظهره، قال -سبحانه-: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الْإِس ْرَاءِ: 13-14)، ثم يُحاسِب اللهُ الخلقَ، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، ويقر بها وهو يرجو رحمة الله.

حال الكافر والمنافق يوم القيامة

وأمَّا الكافر والمنافق فربما أقر بها، وربما جادل عنها، إلا أن الله -سبحانه- ينطق منه السمع والبصر والجوارح بما اقترَف واجترَح، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} (فُصِّلَتْ: 21-24)، ثم تُرفَع لهم النارُ، فيُحشَرون إليها ويتساقطون فيها.

حال المؤمن يوم القيامة

ثم أبرز إمام الحرم حال المؤمن يوم القيامة بقوله: وأمَّا المؤمنون فيتأخرون ليَرِدُوا الحوضَ الكريمَ، حوضَ نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم - ماؤه أشد بياضًا من اللَّبَن، وأحلى من العسل، آنيتُه عددُ نجوم السماء، طولُه شهرٌ، وعرضُه شهرٌ، مَنْ يشرب منه شربة لا يظمأ بعدَها أبدًا. ثم يوافيهم الصراط المنصوب بين الجنة والنار، يعبرونه على قدر أعمالهم، يتقدمهم الأنبياء والمرسَلون، وهم يقولون لهوله وشدته: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، ثم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصُّ لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا دخلوا الجنة، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزُّمَرِ: 73-75).

الإيمان باليوم الآخر يورث العبد صلاحا

وأكد الشيخ بليلة أنَّ الإيمانَ باليوم الآخِر وأهواله وأحواله يُورِث العبدَ صلاحًا في عمله، وزكاء في نفسه، واستقامةً في سيرته، فلا يرتكب المحرَّمات، ولا يُقارِف الموبقاتِ، ولا يُفرِّط في سعادته الأبدية الأخروية، ويستبدل بها أدنى ما يكون من لذة مما هي سحابةُ صيفٍ، أو خيالُ طيفٍ


أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ

إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ

إن الدنيا في إدبار، والآخرة في إقبال، وإنَّ أسمى غاية يطمح إليها المؤمنُ أن يَثقُل في اليوم الآخِر ميزانُه، وحينَها تُزَفّ له البشرى، ويحمد السرى، ثم المصير إلى دار الخلد والنعيم، بمنة الجواد البَرّ الكريم.