مصلحة الدين تقوم بالتعليم لا بالتلقين


الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ


ما يسمعه الطالب من شيخه من ألفاظ واصطلاحات وأحكام -ولاسيما في البدايات-، تساهم في تكوين عقليته وتؤثر في تكوين تصوراته، حتى يشرع هذا الطالب في إنزال ما يسمعه على الواقع، ويبحث عن مثالها في الأعيان والأشخاص، ويكرر تلك الكلمات والاصطلاحات، فيعتاد عليها حتى تكون دندنته الكلامية وعاداته اليومية.

وقد لا يسمع الطالب من أستاذه إلا لفظ كافر، ومنافق، وفاجر، وضال، وطاغوت، ومبتدع، وفاسق، وظالم، وجاهل، ومتروك، ودجال، وكذاب، ومفتون، وحزبي، فيبحث الطالب البار بشيخه عن المثال العيني لهذه الاصطلاحات الجازمة في الواقع لإنزالها على الأشخاص والأعيان؛ ولو بالشبهة والظن ومن غير تورع ولا احتياط.

وبالمقابل قد يبتلى الطالب بأستاذ لا يسمع منه إلا لفظ الولي، والتقي، والمجاهد، والعالم، والعلامة، والمجدد، والشهيد، والمخلص، والصالح، والإمام الأكبر، وسجين الحق، فيبحث الطالب المفتون بشيخه عن مثال هذه الألقاب في الواقع؛ فينزلها على كل متكلم وعامل من غير أن يعلم الفرق بين أهل الاتباع وأهل التقليد، ولا بين أهل الحق وأهل الانحراف.

الخروج عن حد الاعتدال

وهذا الخروج عن حد الاعتدال يفضي - غالباً - إلى أمور خطيرة:

- أولها: اتصاف التلميذ -إلا ما رحم ربي- بالجفاء في الألفاظ والأحكام، أو بالغلو في الأعيان.

- وثانيها: يبقى التلميذ لا يحسن التنزيل، ولا يتقن التمثيل ولا يفقه في التأصيل؛ لا يجيد إلا صناعة النقد، أو المبالغة في الاعتذار والمدح حتى يصل إلى مرحلة التصادم مع الواقع والتنافر مع المجتمع والأشخاص.

- وثالثها: أن هذا الانفصام وذاك التناقض والإقصاء قد يفضيان بالطالب أيضاً بعد طول سنين إلى عُقد نفسية ومهاترات شخصية، وانحرافات فكرية، وأزمات أخلاقية؛ تدفع ثمنها الدعوة وتضيع بسببها مصالح الأمة.

والمطلوب من الشيوخ النبلاء والأساتذة الفضلاء الانتقال من تلقين الألفاظ إلى تعليم المعاني، ومن الاصطلاحات المفردة إلى الجمل الجامعة، ومن التربية على الحرف الواحد إلى التربية بالكلام الجامع، ومن التركيز على النوع الواحد إلى الاعتناء بالتقسيم الشامل...

التعليم الشرعي الواجب

فالتعليم الشرعي الواجب -وليس التلقين اللفظي الجامد- يقتضي من المعلم الربانيّ أن يبدأ مع الطلاب بذكر الإثبات والنفي ويرشدهم إلى الأوصاف الجامعة والحدود المانعة؛ فيعلم كل تلميذ أن: الإيمان ضد الكفر، والسنة ضد البدعة، والإيمان الصادق ضد النفاق، والصدق ضد الكذب، والتقوى ضد الفسوق، والظلم ضد العدل، والطاعة ضد المعصية، والجهل ضد العلم.

الذم والمدح والنفي والإثبات

مع الاعتناء بذكر القيود والاحترازات في الذم والمدح والنفي والإثبات، وعدم الإيغال في ذكر الأشخاص إلا في حدود المصالح والحاجات حتى يتربى الطالب على العدل والتفكر والتأمل، وعلى حمل المعاني والمقاصد والعلل عند البحث عن المثال العيني في الواقع، بعد أن انتظم منهجه على استعمال كلمات الثناء والذم بحسب الشروط والأسباب، وبعلم واعتدال وأدب مقرون بخشية وانكسار.


التربية الربانية للأجيال

فالشيخ العالم الفقيه يعتني بالتمثيل، ويجتهد في تقريب التأصيل بحسن التفصيل، ويجمع بين التخلية والتحلية، وبين التعريف والتصحيح، وبين تحري الحق ورحمة الخلق، ويفرق بين موجبات المدح وموجبات الذم وبين أسباب الرحمة وأسباب النقمة والعذاب؛ كما قال -تعالى-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}، وهذه هي التربية الربانية للأجيال، بلا تعميم ولا إطلاق ولا إقصاء ولا تهوين من الأخطاء.