تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: التربية الجسدية في مرحلة الطفولة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي التربية الجسدية في مرحلة الطفولة



    التربية الجسدية في مرحلة الطفولة (1)









    كتبه/ عصام حسنين


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فمِن المسئولية التربوية الملقاة على عاتق الأبوين: التربية الصحية الشاملة للجانب الإيماني والأخلاقي، والنفسي والاجتماعي، والفكري، والجنسي، والجسدي، وقد سبق الكلام عليها -والحمد لله-، إلا الجانب الجسدي، والذي نتناوله -إن شاء الله - في هذه المقالات.

    لقد عرَّفت منظمة الصحة العالمية التربية الصحية بأنها: "حالة كون الفرد سليمًا من الناحية البدنية والعقلية، والنفسية والاجتماعية، وليست مجرد خلو جسمه مِن المرض والعاهة".

    وقد أصبح هذا التعريف هو المعمول به بين الهيئات الصحية، ومعني ذلك: أن سلامة صحة الفرد تشمل الأنواع التربوية كافة متحدة يكمِّل بعضها بعضًا.

    وبالنظر في المقالات السابقة التي تناولت التربية من خلال الكتاب والسنة والواقع نجد استغناءً عن تربية غيرنا إلا ما يدور في فلكها، والحمد لله، وأن تعريف منظمة الصحية العالمية مسبوق بتعريف واعتناء الإسلام به، بل وبالتعريف قصور شديد إذ أهمل التربية الإيمانية التي هي أصل الأصول في التربية، ولأجلها خُلق الإنسان، وأهمل التربية الجنسية التي تحمي المجتمع من خطر حريتها المطلقة التي يدعون إليها مع علمهم بمخاطرها الصحية، وسنرى من خلال هذه المقالات -أيضًا-: كيف سبق الإسلام والمسلمون غيرهم في مجال التربية الصحية الجسدية.

    ولماذا قلنا: التربية الجسدية، ولم نقل: التربية البدنية؟

    لأن الجسد في اللغة هو: جسم الإنسان، أما البدن فهو: جسد الإنسان دون الرأس والأطراف (قاموس المعاني)، أي: أعم.

    - تبدأ التربية الجسدية في الإسلام منذ الحمل وحتى وضعه، وبعد وضعه تبدأ: الرضاعة الطبيعية: فعلى الوالدات إرضاع أولادهن حولين كاملين؛ إلا أن يرى الوالدان المصلحة في فطامه قبل ذلك، قال الله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) (البقرة: 233)، أي: "وعلى الوالدات إرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين لمَن أراد إتمام الرضاعة، فإن أراد الوالدان فطام المولود قبل انتهاء السنتين؛ فلا حرج عليهما إذا تراضيا وتشاورا في ذلك؛ ليصلا إلى ما فيه مصلحة المولود" (التفسير الميسر).

    وهذا خيرٌ عظيم للمولود، ينبغي للوالدين أن يحرصا عليه، ولا يقصِّرا فيه؛ فلا تنتقل الأم إلى الحليب الصناعي دون حاجة، ومما يزيد إيمان الوالدين بما شرعه الله الحكيم الخبير ما توصلت إليه الدراسات المعاصرة من فوائد الرضاعة الطبيعية.

    "فحليب الأم غذاء شامل للطفل حيث يحتوي على جميع المركبات الغذائية التي يحتاجها الطفل، بل حتى الأمهات اللواتي يعانين من سوء التغذية يكون الحليب لديهن كاملًا، عادة.

    وهي -الرضاعة الطبيعية-: حماية من الأمراض المعدية حيث يستمر التأثير الإيجابي للرضاعة حتى بعد فطام الطفل، فالطفل الذي رضع ستة أشهر على الأقل، أقل عرضة للإصابة بالأمراض المعدية والأمراض المزمنة عند الكِبَر، فهي حماية من مرض السمنة، و تقلل خطر الإصابة بالأمراض السرطانية، وتقلل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الجهاز الهضمي والتنفسي.

    ويكون الطفل أقل عرضة للإصابة بداء السكري من غيره.

    وقد أظهرت معظم الدراسات وجود علاقة بين الرضاعة، لمدة 6 أشهر على الأقل، وبين ارتفاع نسبة الذكاء وتقوية الأجهزة البصرية والسمعية في فترة الطفولة والمراهقة، كما أنها تعزز مناعة الطفل" (انتهى ملخصًا من "ويب طب").

    فسبحان الذي أجراه في ثدي الأم غذاءً كاملًا يكفيه عن غيره، وسبحان الرزاق الذي يرزق كل ذي قوت قوته!

    - ومِن السُّنة: تحنيكه بالتمر، فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حنك ابنه إبراهيم لما ولد بتمرة، وكذا عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي طلحة، وكل ذلك ثابت في الصحيح.

    "والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به"، قاله ابن حجر، والأفضل أن تقوم به أمه.

    وهذا فيه فوائد عظيمة، قال الدكتور محمد علي البار: "إن مستوى السكر "الجلوكوز" في الدم بالنسبة للمولودين حديثًا يكون منخفضًا، وكلما كان وزن المولود أقل، كان مستوى السكر منخفضًا، وبالتالي فإنه في المواليد الخداج -وزنهم أقل من 2. 5 كجم- يكون منخفضًا جدًّا بحيث يكون في كثيرٍ من الأحيان أقل من 20 مليجرام لكل 100 ملليلتر من الدم، وأما المواليد أكثر من 2. 5 كجم، فإن مستوى السكر لديهم يكون عادة فوق 30 مليجرام، ويعتبر هذا المستوى (20 أو 30 مليجرام) هبوطًا شديدًا في مستوى سكر الدم.

    ويؤدي ذلك إلى الأعراض الآتية:

    1- رفض المولود الرضاعة.

    2- ارتخاء العضلات.

    3- توقف متكرر في عملية التنفس وحصول ازرقاق الجسم.

    4- اختلاجات ونوبات من التشنج.

    وقد يؤدي ذلك إلى مضاعفاتٍ خطيرةٍ مزمنةٍ، وهي:

    1- تأخر في النمو.

    2- تخلف عقلي.

    3- الشلل الدماغي.

    4- إصابة السمع أو البصر أو كليهما.

    5- نوبات صرع متكررة "تشنجات" (انتهى من مجلة إعجاز).

    - ومن التربية الصحية للطفل:

    العقيقة، وحَلْق شعره يوم سابعه، واختيار الاسم الحسن له، وختانه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال: (كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    وللعقيقة فوائد صحية عديدة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "قربان يتقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا. والمولود ينتفع بذلك كما ينتفع بالدعاء له، وتفك رهان المولود، فإنه مرتهن بعقيقته. قال الإمام أحمد: مرتهن عن الشفاعة لوالديه. وقيل: يطلق مِن أسر الشيطان فلا يتسلط عليه، ويمنعه من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده، وقَلَّ مَن يترك الذبح عنه إلا وهو في تخبيط من الشيطان".

    وأي تدبير صحي كهذا يعين على صلاح الطفل، وفك أسر الشيطان عنه، فالحمد لله.

    حلق الشعر:

    ويحلق شعره يوم سابعه، أما البنت فالراجح أنه لا يحلق شعرها، وهو مذهب الحنابلة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ غُلَامٍ) وهذا لا يطلق على الأنثى.

    ومن فوائد حلق شعره: "إماطة الأذى عنه، وإزالة للشعر الضعيف، فيخلفه شعر أقوى وأمكن مِن هذا الشعر، وأنفع للرأس، مع ما فيه من التخفيف عن الصبي، وفتح مسام الرأس ليخرج البخار منها بيسر وسهولة، وفي ذلك تقوية بصره وشمه وسمعه"، قاله ابن القيم -رحمه الله-.

    ويستحب التصدق بزنته فضة: فعن فاطمة -رضي الله عنها-: "أنها وزنت شعر الحسن والحسين فتصدقت بزنته فضة" (حسنه الهيثمي). وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا بأس أن يتصدق بوزن شعر الصبي"، يعني: من الفضة. وكل هذا شكراً لله -تعالى- على هبته.

    والتسمية:

    ويستحب اختيار الاسم الحسن له؛ كالأسماء المعبَّدة لله- تعالى-، وأسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وأسماء الصحابة والصحابيات، بعيدًا عن الأسماء المكروهة والمحرمة، ولا شك أن الاسم الحسن له أثر كبير في الصحة النفسية للطفل التي لها مردود بدني واجتماعي عليه.

    والختان:

    قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ -أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ- الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَا دُ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ) (متفق عليه).

    وعن فوائد ختان الذكور قال الدكتور "محمد البار": "إن ختان الأطفال المواليد (أي: خلال الشهر الأول من أعمارهم) يؤدي إلى مكاسب صحية عديدة، أهمها:

    1- الوقاية من الالتهابات الموضعية في القضيب: الناتجة عن وجود القلفة، ويسمَّى ضيق القلفة، ويؤدي إلى حقب البول، والتهابات حشفة القضيب وهذه كلها تستدعي إجراء الختان لعلاجها، أما إذا أزمنت فإنها تعرض الطفل المصاب لأمراض عديدة في المستقبل، مِن أخطرها: سرطان القضيب.

    2- التهابات المجاري البولية: أثبتت الأبحاث العديدة أن الأطفال غير المختونين يتعرضون لزيادة كبيرة في التهابات المجاري البولية. وفي بعض الدراسات بلغت النسبة 39 ضعف ما هي عليه عند الأطفال غير المختونين، وفي دراسات أُخرى كانت النسبة عشرة أضعاف، وفي دراسات أُخرى تبيَّن أن 95 بالمائة من الأطفال الذين يعانون من التهابات المجاري البولية هم من غير المختونين، بينما كانت نسبة الأطفال المختونين لا تتعدى 5 بالمائة.

    3- الوقاية من سرطان القضيب: قد أجمعت الدراسات على أن سرطان القضيب يكاد يكون منعدمًا لدى المختونين، بينما نسبته لدى غير المختونين ليست قليلة، ففي الولايات المتحدة فإن نسبة الإصابة بسرطان القضيب لدى المختونين صفر بينما هي 2. 2 من كل مائة ألف من السكان غير المختونين، وبما أن أغلبية السكان في الولايات المتحدة هم من المختونين فإن حالات السرطان هناك في حدود 750 إلى ألف حالة كل سنة ولو كان السكان غير مختونين لتضاعف العدد إلى ثلاثة آلاف حالة.

    4- الأمراض الجنسية: لقد وجد الباحثون أن الأمراض الجنسية التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي (غالبًا بسبب الزنا واللواط) تنتشر بصورة أكبر وأخطر لدى غير المختونين، وخاصة: الهربس، والقرحة الرخوة، والزهري، والكانديدا، والسيلان، والثآليل الجنسية" (انتهى ملخصًا).


    يتبع -إن شاء الله-.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: التربية الجسدية في مرحلة الطفولة

    التربية الجسدية في مرحلة الطفولة (2)

    الاعتدال في الطعام والشراب








    كتبه/ عصام حسنين


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فإن مما ينبغي أن يعوِّد عليه الأبوان طفلهما: الاعتدال في الطعام والشراب، كما أمرنا الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولمنافعه العظيمة، فقد جمع الله -تعالى- الطب كله في نصف آية، فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).

    وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَة) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).

    والسرف: هو الإسراف ومجاوزة الاعتدال. والمَخِيلة: هو الاختيال والكبر.

    (وَلَا تُسْرِفُوا) أي: في كثرة الأكل. وعنه -أي: عن كثرة الأكل- يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير، فإن تعدَّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه.

    وقال ابن زيد: معنى (وَلَا تُسْرِفُوا): لا تأكلوا حراما.

    وقيل: من الإسراف: الأكل بعد الشبع، وكل ذلك محظور.

    وقال لقمان لابنه: "يا بني لا تأكل شبعًا فوق شبع، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله".

    وسأل سمرة بن جندب عن ابنه: "ما فعل؟ قالوا: بَشِم البارحة -بشِم مِن الطَّعام: أكثر من تناول الطّعام حتّى بشِم. قاموس المعاني- قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه!".

    فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكَّن الظمأ، فمندوب إليه عقلًا وشرعًا؛ لما فيه مِن حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يُضعف الجسد ويُميت النفس، ويُضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل.

    - وليس لمَن منع نفسه قدر الحاجة حظّ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.

    - وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام. وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان، والأسنان والطعمان.

    قال ابن عاشور: "فَالنَّهْيُ عَنِ السَّرَفِ نَهْيُ إِرْشَادٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، بِقَرِينَةِ الْإِبَاحَةِ اللَّاحِقَةِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32)؛ وَلِأَنَّ مِقْدَارَ الْإِسْرَافِ لَا يَنْضَبِطُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ يُوكَلُ إِلَى تَدْبِيرِ النَّاسِ مَصَالِحَهُمْ".

    - ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها:

    أن يكون الرجل أصح جسمًا، وأجود حفظًا، وأزكى فهمًا، وأقل نومًا، وأخف نفسًا.

    وفي كثرة الأكل كظ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل.

    وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.

    وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بيانًا شافيًا يغني عن كلام الأطباء، فقال: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

    قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة، لعجب من هذه الحكمة.

    ويذكر: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين -ابن واقد-: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله -عز وجل-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا). فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عوّدته -قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قاله غير واحد من أئمة الحديث" (الطب النبوي)- فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًّا!".

    وروي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: "لو استعمل الناس هذه الكلمات يعني من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ)؛ لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات -المستشفيات-، ودكاكين الصيادلة!".

    وفي الإحياء: "ذُكِرَ هذا الحديث يعني تقسيم البطن أثلاثًا لبعض الفلاسفة فقال: ما سمعت كلامًا في قلة الأكل أحكم من هذا!".

    ولا شك أن أثر الحكمة فيه واضح، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنها أسباب حياة الحيوان.

    وقال الحارث بن كلدة: "الذي قتل الذرية، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام، قبل الانهضام".

    وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها، والقناعة بالبلغة.

    - قال الخطابي -رحمه الله-: "معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ): أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه، ويبقي من زاده لغيره، فيقنعه ما أكل".

    وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته.

    قال حاتم الطائي: "يذم بكثرة الأكل فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك، نالا منتهى الذم أجمعا" (انتهى بتصرفٍ من تفسير القرطبي - تفسير ابن كثير - التحرير والتنوير - غذاء الألباب).

    قال الدكتور عبد الجواد الصاوي: "وجه الإعجاز في الحديث: الإفراط في الطعام والشراب شر وخطر على صحة الإنسان. ولقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان في عبارة بليغة موجزة هي: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)".

    وهكذا عرف هذا الشر بيقين في هذا العصر، بظهور الأمراض الخطيرة المهلكة للإنسان الناتجة بسبب الإفراط في تناول الطعام، وذلك بعد تقدم وسائل الفحص والتشخيص الطبي الدقيق الذي أفضى لمعرفة حقيقة هذا الشر، وبينما كان علماء المسلمين يحذرون الناس من أخطار التخمة وكثرة الأكل عبر خمسة عشر قرنًا؛ استنادًا لحديث نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ كان غيرهم يعتقدون أن كثرة الأكل مفيدة غير ضارة، ويتسابقون في ملء البطون بالطعام والشراب؛ ففي إنجلترا يتحدث الطبيب (تشين) (1671 ـ 1743م) عن عقيدة البروتستانت في الإفراط في الطعام والشراب، فيقول:" لست أدري ما عليه الأمر في البلدان الأخرى، ولكن نحن البروتستانت لا نعتبر الإفراط في تناول الطعام مؤذيًا ولا ضارًّا، حتى إن الناس يحتقرون أصدقاءهم الذين لا يملؤون بطونهم عند كل وجبة طعام!

    وبعد أن أدرك هذا الطبيب من بين جميع الأطباء المعاصرين له أخطار كثرة الأكل، حمَّل الأطباء المسؤولية في عدم إرشاد الناس لهذه الأخطار فقال: والأطباء لا يدركون أنهم المسؤولون أمام المجتمع وأمام مرضاهم بل أمام الخالق؛ لأنهم يشجِّعون الناس على الإفراط في الطعام والشراب؛ ذلك لأنهم بهذا يعملون على تقصير آجال كثير من مرضاهم" (آلان كوت. الصوم الطبي النظام الغذائي الأمثل).

    ولم ينتبه علماء أوروبا إلى هذه الأخطار إلا في عصر النهضة، فأخذوا يطالبون الناس بالحدِّ من الإفراط في تناول الطعام، وترك الانغماس في الملذات والشراب؛ فهذا أحدهم (لودفيك كارنارو) من البندقية يحذِّر أمته من هذه الأخطار، حيث كان مما قال: "يا إيطاليا البائسة المسكينة! ألا ترين أن الشهوة تقود إلى موت مواطنيك أكثر من أي وباء منتشر أو حرب كاسحة؟!"، "إن هذه المآدب المشينة والتي هي واسعة الانتشار اليوم، لها من النتائج الضارة ما يوازي أعنف المعارك الحربية"، "لذلك يجب علينا ألا نأكل إلا بقدر ما هو ضروري لتسيير أجسامنا بشكل مناسب"، "وإن أية زيادة فيما نتنـاولــه من كميــات الطعام تعطينا سرورًا آنيًّا، ولكن علينا في النهاية أن ندفع نتائج ذلك مرضًا، بل موتًا في بعض الأحيان!".

    ولعل اكتشاف أمراض السمنة وأخطارها المهلكة وعلاقة ذلك بالشراهة وكثرة الأكل، يجعلنا نزداد يقينًا بعظم القاعدة الذهبية في حفظ الصحة البشرية المتمثلة في ترشيد الأكل والشرب والتي أرشد إليها قول الله -تعالى-: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلا تُسْرِفُوا)".

    الإعجاز العلمي في حديث الثلث:

    ومما نأسف له أن كثيرًا مِن المسلمين قد أضاعوا هذا الهدي الكريم؛ فظهرت عليهم التخمة، وعبوا من ملاذ الدنيا؛ مما أثر سلبًا على صحتهم ونشاطهم، بل وأولادهم أيضًا، فعودة عودة إلى خير الهدي؛ هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى نسعد في الدنيا، ونفوز ونفلح في الآخرة.


    فيستعمل الأبوان الكريمان هذا الهدي الكريم في طعامهما وشرابهما حتى يكون راسخًا عندهما، يأخذه عنهما أطفالهم؛ لأنهما موضع نظرهم، والحسن عندهم ما حسناه، والقبيح ما قبحاه، والحذر مِن أسباب البدانة التي هي أصل الداء، مع تعويدهم آداب الطعام والشراب التي سبق الكلام عنها في مقال التربية الأخلاقية والاجتماعية.

    وللحديث بقية -إن شاء الله-.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: التربية الجسدية في مرحلة الطفولة

    التربية الجسدية في مرحلة الطفولة (3)

    النظافة







    كتبه/ عصام حسنين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فإن مما ينبغي أن يعوَّد عليه الطفل منذ إدراكه: نظافة بدنه، وثيابه، ومكانه، وفنائه.

    فيُعلَّم ويُعوَّد كيفية الطهارة بعد قضاء حاجته، ويتابع على ذلك متابعة صارمة لا تهاون فيها، وأن يستنزه من بوله، وأن يغسل أي بول نزل على ثوبه أو بدنه، حتى يشب على ذلك؛ لأن عامة عذاب القبر من البول كما أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولما فيه من الفوائد الصحية له؛ فإن السبيلين (القبل والدبر) اللذين منهما تخرج نفايات الجسد تحتوي على قدرٍ هائلٍ مِن الكائنات الدقيقة، والسموم الضارة، وسمَّاها الشارع نجاسات، وقد وُجِد أن إهمال نظافة الشرج والأعضاء التناسلية، قد يكون سببًا في إصابتها بمرض السرطان.

    ولقد بدأ الغرب النصراني -الذي شعار دينه: ترك الاستنجاء من البول!- في مطلع النصف الثاني من هذا القرن، يطبِّق بعض هذه السنن؛ لما وجد فيها مِن فوائد صحية، وجعل يدعو إلى ذلك؛ لما ثبت لديه من فائدة الاستنجاء الوقائية من الأمراض؛ حيث أثبتت إحدى الدراسات في كلية الطب جامعة مانشستر: أن البكتريا تنفذ من ثماني طبقات من ورق التواليت إلى اليد، وتلوثها أثناء عملية التخلص من بقايا البراز.

    وقد ندرك حجم الخطر إذا علمنا: أن الجرام الواحد من البراز في الشخص السليم؛ يحتوي على مائة ألف مليون جرثومة، وفي المريض بمرض التيفويد؛ قد يحتوي الجرام الواحد خمسة وأربعين مليونًا من بكتريا التيفويد، أما في مريض الدسنتاريا أو الكوليرا؛ فمن المستحيل إحصاء أعداد الجراثيم؛ لكثرتها الهائلة.

    الطب الوقائي:

    - كذلك يجب أن يعوّد نظافة ثيابه وحسن مظهره، قال -تعالى-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4).

    - وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الجُودَ، فَنَظِّفُوا -أُرَاهُ قَالَ- أَفْنِيَتَكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني في المشكاة).

    - وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على غسل الثياب وتنظيفها، فعن جابرِ بنِ عبدِ الله، قال: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: (أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ) وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ: (أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    - قال القاسمي -رحمه الله-: "الوساخة مذمومة، مضرة بالصحة، تولّد القمل، وتسبب الأمراض الجلدية: كالجرب، والجذام، والقرع؛ دع عنك ما تسببه من الروائح الكريهة، والمنظر القبيح للمرء، واجتناب قربه، واستقذار مخالطته، فيلزم أن يتعهد الجسمَ بالغسل والاستحمام، أما غسل الأطراف ففي كل يوم مرارًا (أي: في الوضوء)" (جوامع الآداب، ص 83).

    فضلًا عن الفوائد النفسية للطهارة؛ لكونها عبادة لله الخالق العظيم، وتعود بالنفع على جهاز المناعة فتقويه، وتزداد لديه المقاومة لكثيرٍ مِن الأمراض والعلل التي تهدد حياة الإنسان.

    السواك:

    ومِن التربية الجسدية: أن يعود الطفل العناية بأسنانه، وطيب رائحة فمه؛ لئلا يؤذي نفسه، ولا غيره من الناس، أو الملائكة؛ فإنها تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.

    ومن أفضل ما يعوَّد عليه في ذلك -مع جواز استخدام الفرشاة- السواك، الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وقال أيضًا: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ) (متفق عليه)، وكان -صلى الله عليه وسلم- مولعًا به في جميع أحايينه. وقد اتفق العلماء على أنه سنة مؤكدة. قاله ابن قدامة.

    وأما عن فوائده الطبية:

    "ذكر بعض الأطباء: أن الألياف الطبيعية الطرية بالسواك هي أفضل بكثيرٍ للثة والأسنان من الألياف الصناعية لفرشاة الأسنان المتعارف عليها، كما أن المواد المطهرة التي يحتويها قد تتفوق في كثيرٍ مِن الأحيان على ما تحتويه معاجين تنظيف الأسنان.

    ومِن أهم فوائده:

    - تبييض الأسنان وتنظيفها.

    - مكافحة الجراثيم والبكتيريا.

    - تقوية اللثة ومحاربة التهاباتها.

    - يمنع الترسبات والتكلسات" (ويب طب).

    - ويعوَّد نظافة مكانه وفناء بيته، وقد كان تنظيف الطرق، عادة مطردة عند الصحابة -رضوان الله عليهم- ونقلوها إلى التابعين؛ فعن محمد بن سيرين -رحمه الله- قال: "لَمَّا قَدِمَ أبو موسى الْأَشْعَرِيُّ الْبَصْرَةَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ لِأُعَلِّمَكُمْ سُنَّتَكُمْ، وَإِنْظَافَكُمْ طُرُقَكُمْ" (أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" بإسنادٍ صحيحٍ). والأفنية: جمع الفناء، وهي الساحة أمام البيت.

    - ويعوَّد أن يحافظ على نظافة الطريق، وإن احتاج لقضاء حاجته ولم يجد مرحاضًا؛ فليتقِ المواطن التي تؤذي الناس وتستجلب لعنتهم: كالآبار والعيون والأنهار، والطريق المسلوك، وظل الناس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَالظِّلِّ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).

    - ويعوَّد بالطريقة العملية أن يلقي الزُّبالة (قُمامة البيوت وكُناستها وأوساخها) في صندوق الزبالة، وإن كان بيده منديل ونحوه مما يريد التخلص منه، فليحتفظ به حتى يلقيه في سلة المهملات.

    - فما أعظم هذا الدين! فلو قام كل بيت بذلك، وشاركهم صبيانهم في هذه السنة الغائبة؛ لكان درسًا تربويًّا عظيمًا لهم، ولو اجتمع أطفال الحي على تنظيف حيهم لكان سلوكًا اجتماعيًّا راسخًا في نفوسهم يستخدمونه في مدرستهم، وفي أماكن تواجدهم فيما بعد.


    - وليعلم المعجبون بالغرب الذين يريدون تغريب مجتمعات المسلمين مفتونين بما هم عليه الآن: أن العيب والتخلُّف في بُعدنا عن تعاليم ديننا، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فليُلقِ أحدنا لخياله العنان؛ ليرى كيف ستكون أوطاننا إن التزمنا بهذا الهدي النبوي الكريم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •