نظرية السلم الاجتماعي من خلال تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة


بدت علامات احتمال تأثر الجبهة الداخلية حين حاصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وكانت الأوسُ صوتَها الإعلامي، ومن جانب أن بني قريظة كانت مواليهم؛ وعلى حد ما قاله الإمام ابن اسحاق رحمه الله تعالى: "فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت"[1]، وإذ كانوا يعنون عفوه صلى الله عليه وسلم عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وكيما يخمد فتنة المنافقين، وإذ كان عبدالله بن أبي هذا هو الناطق الإعلامي لهم، ولكن عفوه - وما عُهد عنه - قد كان أسبق أيضًا، وحين لم يجد لذلكم ثقبًا إلا ولجه صلى الله عليه وسلم.

وفي ظل هذه الأجواء كان نبينا صلى الله عليه وسلم أوعى، ولما يمكن أن تتأثر به جبهته الداخلية، لكن فطنته صلى الله عليه وسلم كانت أولى وأسبق، وإنما حرصه على السلام الاجتماعي كان أبدى وأوفق.

كان تواثب الأوس حوله صلى الله عليه وسلم بادرة احتمال شقاق، وإذ يمكن تأثيره على سلامة الجبهة الداخلية، ولو من باب الاحتمالات - وكما أنف - لكنه صلى الله عليه وسلم أخمد الفتنة في محلها، وحين قابلها بحكمته وحلمه صلى الله عليه وسلم، ومن أول ابتدائها ومن مهدها.

إن براعة الراعي تكون وحين يجمع صفوف أمته خلفه، وبمحبته ووده، لا بسيفه ونبله، وهذا ما تبدى واضحًا، حين بادرة الأوس لمواليهم بني قريظة!

«يا معشر الأوس، ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم»؟[2]، هذا عرض نبوي بلاغي هادئ، ليس مصحوبًا بصخب السيف والرمح، ولأثرهما الغائر في مشاعر الشعوب.

وهذا نداء لطيف حاذق حانٍ، ليس مشوبًا بقوة سيف مصلت، ولأن السلم الاجتماعي غاية هذا الدين أبدًا.

وهذا معلم الناس الخيرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يحكِ تاريخه أنه رفع سيفه إلا على جبهات القتال الخارجية، ولأن السيف إنما كان خصيصًا لحرب أعداء الملة؛ نشرًا للدين ودفاعًا عن حَوزته.

وهذه نظرية السلم الاجتماعي في ديننا، غاية في الإلف، وأوسع مدى في التأثير وإلهاب الجماهير.

إن السلم الاجتماعي هو مهمة الراعي الأولَى، ولأنه بها يضمن التفاف رعيته حوله، بل ويذودون دونه، وما أشد حاجته إليهم، وحين يناديهم يومًا!

وإذ قدم نبينا صلى الله عليه وسلم درسًا في السلام الاجتماعي، وحين نادى الأوس مهدْهِدًا مشاعرهم، ومستجيشًا ضمائرهم، وليعين حكمًا منهم هم أنفسهم في بني قريظة، وهذا تحريك لمشاعر الولاء أعلاه، وهذا داعٍ من دواعي طمأنتهم أقصاه.

وإذ كان يمكنه صلى الله عليه وسلم إسكات صوت الأوس يومهم هذا، ولكنه ومن بعده لن يطيقوا ثلمًا في السلم الاجتماعي، كانوا هم غارسو غراسه الأول.

إنه حين استلهب نبينا صلى الله عليه وسلم مشاعر الأوس، قالوا: بلى، وهكذا حين يتحسس القائد مشاعر رعيته، وأحاسيسهم الداخلية، ليأخذ منهم أوفى مما يمنحهم.

وإذ قال سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وحين وقع اختيار نبينا صلى الله عليه وسلم له في مسألة التحكيم في بني قريظة: «قد آن لسعد ألَّا تأخذه في الله لومة لائم» [3]، وهذا صواب ودقة القائد؛ لأنه وإن حافظ على سلمه الاجتماعي، لكن حد الله أوفق وأولى، وإذ كان التوفيق بينهما أوفى وأدعى.

وهذا بيان سعد، ولمن أتى بعده، أن يحسن بلاغه عن ربه تعالى، فإن مسألة التحكيم غاية في مقدماتها ونتائجها.

وفيه تقديم الحازم، وتفضيل الجازم، وأولوية الحاسم، وخاصة في مصالح الأمة العليا؛ وانظر قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

وهذه وجهة ولي الله، وحين يكون التعبيد له تعالى من حواليه كله، فيضمن معه التجرد، ويؤمن دونه الحيود.

إن التعامل مع مصالح الأمة العليا يعوزه قوم متجردون من هوًى، ويلزمه طاقة من إخلاص، تقودهم قودًا إلى تقوى الله تعالى، فعلًا وتركًا.

وبهكذا أعلن سعد، وحين استجمعت الأوس عليه، ظانين محاباة، وملتمسين ميلًا، وهكذا القاضي لا يرعوي لصخب إعلامي، ولا يتأثر بهمس الجماهير.

«قد آن لسعد ألَّا تأخذه في الله لومة لائم»، هذا إعلان عام، في حسن سير عملية التقاضي، فلا يتأثر القاضي بصخب إعلامي، أو هوًى شخصي، أو دعم شعبوي.

وإذ حد سعد مسيرة التقاضي في عبارة أوجز من الإيجاز نفسه، وحين كانت وجهته لله وحده، نظرًا مستقيمًا.

وإذ كان يمكن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم في بني قريظة، لكنه أراد أن يترك في الأمة مساحة، تعلم من خلالها إكرامه لها، وأنها محط عنايته وثقته معًا.

وإذ كان يمكن لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يحكم في بني قريظة غير أوسي، لكن ذلك أدعى قبولًا، وهذا فن إداري؛ وانظر قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وإذ وكما قيل: أهل مكة أدرى بشعابها.

إن قيادة الأمم توفيق رباني إنشاءً، وفن إداري سببًا، وهذا ما تبدى واضحًا في مسألة التحكيم في بني قريظة، وحين انتدب نبينا صلى الله عليه وسلم سعدًا أوسيًّا، تقديرًا لمشاعر الأوس، وهذا تلمس الراعي لحاجات الرعية، ومشاعرها ورعايتها، وجعلها محطَّ أنظاره، ومن حيث لا تصادم نصًّا، ولا تخالف هديًا.

إن انتداب سعد بن معاذ الأوسي، في تحكيم بني قريظة، برهان أن يكون القاضي ملمًّا بأعراف الخصوم، ومن بينهم، وهذا فن في العدالة، سبق به ديننا!

إن عوارًا في سير عملية التقاضي، وحين يحكم أبناء الشرق في قضية أبناء الغرب؛ نظرًا في نصوص، وإذ تبدو أمامهم جامدة، وحين كانت منبتة الصلة بعادات الناس الحاكمة، وهم إذ يجهلونها.

وهذا موجب النعي عليه بالبطلان المطلق لا النسبي.

إن مراعاة عادات الناس الحاكمة، وحين لا تعارض نصًّا أعلى، وهو القرآن أو السنة، هو أدب التقاضي الحميد، وحين استلهمناه من تحكيم سعد بن معاذ؛ أوسيًّا يعرف شعاب الأوس، ويدرك ما يعمل فيهم عمله، أو يترك فيهم أثره، إلفًا اجتماعيًّا، وثيق الصلة بمسألة التقاضي، وحين إنزال النصوص منازلها، وحين إيقاعها مناطًا للحكم؛ كيما تلقى قبولًا لدى الخصوم، وإذ إنها وإن تنزلت من السماء من علٍ، إلا أنها كانت تراعي حاجات الناس، وما ينفعهم فتأتي به، وما يضرهم فتنأى بهم عنه، وهذه مسألة غاية في الأهمية بمكان، وحين كان شرعه تعالى المنزل يحكي وكأنما نزل ومن بينهم، ويكأنه يعرفهم عرفًا، وهذا ما يتسق تمامًا مع ربوبيته ورحمته تعالى للعالمين سبحانه.

إنه لا تعارض بين عادات الناس الحاكمة، وحين كانت مدلولات اللغة لديهم ضابطة أمام القاضي، وهو إذ يعمل نص الوحيين في المسألة، وهذا فن قاضويٌّ.

إن حكمًا قضائيًّا صدر، وإذ كان حاله أنه منبت الصلة بعادات الناس الحاكمة، فإنما يكون وأمره هكذا معيبًا، يعرضه للبطلان المطلق، ولا يصححه إلا حكم آخر صدر، ومن كونه كان وثيق الصلة بعادات الناس الحاكمة، وإذ عرف مدلولات ألفاظهم وأعرافهم فيها.

وإنه ما كانت لتخطئه صلى الله عليه وسلم اختياراته، وحين تربى سعد بن معاذ على مائدة نبوته صلى الله عليه وسلم، وإذ كان صواب حكمه موفورًا، وعدل قضائه مأجورًا، لكنه فن مراعاة عادات القوم، وإذ أكرر أنه لا تصادم بين ذلك ونص كريم، بل لحمة واحدة متآلفة، متضامة، متجانسة، غير متباينة، أو متعارضة، أو متخالفة.

ولا ننسى أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه قاضي قضية التحكيم في بني قريظة، قد تم حمله على حمار، وقد كانت هنالك إبل، وقد كانت هنالك خيول، وهذا تواضعه رضي الله تعالى عنه، وإذ قد تربى على مائدة التواضع الأولى، مائدة مدرسة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ولسنا نغادر هذا المكان إلا ذكرًا وتذكيرًا بهكذا دور لعبه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، وحين أصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين، وحين كان علمًا على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ وحين قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث: ((اسْتَقْبَلَ – واللَّهِ - الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بكَتَائِبَ أمْثَالِ الجِبَالِ، فَقالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: إنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّي حتَّى تَقْتُلَ أقْرَانَهَا، فَقالَ له مُعَاوِيَةُ وكانَ واللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أيْ عَمْرُو، إنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، مَن لي بأُمُورِ النَّاسِ؟ مَن لي بنِسَائِهِمْ؟ مَن لي بضَيْعَتِهِمْ؟ فَبَعَثَ إلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِن قُرَيْشٍ مِن بَنِي عبدِشَمْسٍ: عَبْدَالرَّحْمَ نِ بنَ سَمُرَةَ، وعَبْدَاللَّهِ بنَ عَامِرِ بنِ كُرَيْزٍ، فَقالَ: اذْهَبَا إلى هذا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عليه، وقُولَا له: واطْلُبَا إلَيْهِ، فأتَيَاهُ، فَدَخَلَا عليه، فَتَكَلَّمَا وقالَا له، فَطَلَبَا إلَيْهِ، فَقالَ لهما الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: إنَّا بَنُو عبدِالمُطَّلِبِ قدْ أصَبْنَا مِن هذا المَالِ، وإنَّ هذِه الأُمَّةَ قدْ عَاثَتْ في دِمَائِهَا، قالَا: فإنَّه يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وكَذَا، ويَطْلُبُ إلَيْكَ ويَسْأَلُكَ قالَ: فمَن لي بهذا؟ قالَا: نَحْنُ لكَ به، فَما سَأَلَهُما شيئًا إلَّا قالَا: نَحْنُ لكَ به، فَصَالَحَهُ، فَقالَ الحَسَنُ: ولقَدْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرَةَ يقولُ: رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ والحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إلى جَنْبِهِ، وهو يُقْبِلُ علَى النَّاسِ مَرَّةً وعليه أُخْرَى، ويقولُ: إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللَّهَ أنْ يُصْلِحَ به بيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ))[4].

وهذا حدث مشهور، وحين تنازل الحسن بن علي لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وذلك جمعًا للكلمة، ووحدة للصف، وحقنًا للدماء، وحفاظًا على سلامة الجبهة الداخلية للمسلمين، هدفًا منشودًا، وغرضًا محمودًا.

ولسنا نغادر مكاننا هذا إلا بيانًا آخر ضافيًا، وحين ذكروا أن فضًّا لنزاع نشب بين طائفتين من المؤمنين، وإنما كان فضه بالعصي والنعال، لا بالسيف ولا بالنبال.

وهذا تأويل حسن لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

فعن أنس بن مالك: ((قِيلَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو أتَيْتَ عَبْدَاللَّهِ بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معهُ - وهي أرْضٌ سَبِخَةٌ - فَلَمَّا أتَاهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: إلَيْكَ عَنِّي، واللَّهِ لقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ منهمْ: واللَّهِ لَحِمَارُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِاللَّهِ رَجُلٌ مِن قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ واحِدٍ منهما أصْحَابُهُ، فَكانَ بيْنَهُما ضَرْبٌ بالجَرِيدِ والأيْدِي والنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنَّهَا أُنْزِلَتْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [5].
وشاهده قوله: ((فَكانَ بيْنَهُما ضَرْبٌ بالجَرِيدِ والأيْدِي والنِّعَالِ)).
ومع أنهم كانوا يملكون المنجنيق والسيوف والنبال، ولكنها أمة مرحومة، ومن سنيها الأولى، وما نطمح أن يكون في عهودها الآخرة أيضًا.


[1] تاريخ الطبري، الطبري، ج: 2/ 248.
[2] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري، ج: 3/ 720.

[3] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري، ج: 3/ 720.
[4] صحيح البخاري: 2704.
[5] صحيح البخاري: 2691.
______________________________ ____________________
الكاتب: محمد السيد حسن محمد