تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 29

الموضوع: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (1)

    أيامـــاً معدودات


    الحمد لله
    الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً، وصلى الله على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد:
    ..


    فإن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان،
    وساعاتِ العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛

    فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجراً يزداد بها صرحُ مجدِك ارتفاعاً،
    ويقطع بها قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً.

    .
    فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجدُ الأسمى،ولقومك السعادةُ العظمى،
    وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى _ فَدعِ الراحةَ جانباً،
    واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛

    فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام،
    ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال،
    وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس.
    ..


    .
    ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال_عز وجل_ :
    ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) (الليل: 1- 2)
    وقال: ( وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (الضحى:1- 2)
    وقال: ( وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1- 2)

    ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوباً في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة.
    ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحاً في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة.
    ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالاً لحكمة الصوم، ولا لفضل الشهر،
    فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر،
    والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس.
    ..


    .
    ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة،
    فالله _عز وجل_ جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح.
    ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره.
    ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛

    فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام،ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور
    سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه،
    ..


    .
    وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سبباً في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه،
    وإن كان شاباً في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره، وبعده عن المنزل.
    ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛
    إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة، وتنفك روابطها.
    كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ،

    ومنها
    الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس،
    وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين،
    وتُلْقى على عقول خواء، وأفئدة هواء.

    ..


    .
    ومن آثارها:
    التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والآداب المرعية.
    ومنها:
    شيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين.
    ومنها:
    الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس، والهيئة، وقصات الشعر، وما إلى ذلك.
    ومنها:
    انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل، والسرقة، وتعاطي المخدرات ونحو ذلك.
    ومنها:
    الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات - لفرط جهله - يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن.
    .
    .
    وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛
    إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته، وسترها، وحيائها.
    بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه.

    ..



    .
    أيها الصائمون:
    ومن آثار السهر أن له آثاراً على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه كزَّةٌّ، وخلقُهَ سيئٌ؛
    وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها.
    ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى.
    أما النوم الكثير _ خصوصاً بالنهار_ فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛
    فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة.

    وبما أن أمرَه غالبُ ماله من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلِبَ على أمرهم،
    ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ ما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية،

    ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملا صالحاً.
    ..

    .
    فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام،
    وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛
    فيكونَ نهارُهم نشاطاً وإنتاجاً وإتقاناً، وتعاوناً على البر والتقوى.
    ويكونَ ليلُهم تهجداً، وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛
    ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين.
    اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات،
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    ..



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ



    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد
    (2)

    وكلوا واشربوا ولا تسرفوا


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإن للصيام آداباً كثيرةً، ومن تلك الآداب: أن يقتصدَ الصائمُ في طعامه وشرابه.

    ومما يلحظ على بعض الصائمين -بل على أكثرهم- أنهم يجعلون شهرَ رمضانَ موسماً سنوياً للموائد الزاخرة بألوان الطعام، فتراهم يُسرفون في ذلك أيّما إسرافٍ، وتراهم يتهافتون إلى الأسواق؛ لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة التي لا عهدَ لهم بأكثرها في غير رمضان.

    والنتيجة من وراء ذلك:
    إضاعةُ المال، وإرهاقُ الأبدان في كثرة الطعام، وثِقَلُ النفوس عن أداء العبادات، وإهدارُ الأوقات الطويلة بالتسوّق، وإعداد الكميّات الهائلة من الأطعمة التي يكون مصيرُها في الغالب صناديقَ الزِّبل.

    ..



    .
    إن هذا الاستعدادَ المتناهيَ الذي يقع فيه أكثر المسلمين لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب - مخالفٌ لأمر الله، منافٍ لحكمة الصوم، مناقضٌ لحفظ الصحة، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد.

    ولو كان هؤلاء متأدبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف من طعامهم وشرابهم، ولأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، و تفطير الصّوام المعوَزِين، ونحو ذلك.
    والغالب أن يكون لكل غنيٍّ مسرفٍ من هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والمساكين، وهم أحق الناس ببر الجار الغني، وإن لم يكن لهؤلاء الأغنياء جيرانٌ من هذا النوع فإنه يحسن صرفها في وجوه الخير.
    ..


    .
    ولو فعل الأغنياء المسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربةً عظيمة عند الله، ألا وهي الإحسان إلى المعدَمين، وللقيام بهذه الخصلة من الخير مزيّة في المجتمع؛ لأنها تقرب القلوبَ في هذا الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلَّهم بأنهم في شهر إحسان، ورحمة وأخوَّة.

    ثم إن الإنسان لو طاوع نفسَه في تعاطي الشهوات، و التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أقصى حد - لكانت عاقبةُ أمره شقاءً ووبالاً، ونقصاً في صحته واختلالاً، ولكانت الحميةُ في بعض الأوقات واجباً مما يأمر به الطبيب الناصح؛ تخفيفاً على الأجهزة البدنية، وادخاراً لبعض القوة إلى الكِبَر وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيراً منظماً للصحة.
    وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، فكيف يُقْلَبُ الأمر رأساً على عقب؟! ويجعلَ من شهر الصوم ميداناً للتوسع في الأكل والشرب؟!.
    ..



    .
    قال الله - عز وجل - : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ).
    قال بعض العلماء : " جمع الله بهذه الآيةِ الطبَّ كلَّه ".
    قال النبي " : " ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
    أيها الصوام: لا يخفى على عاقل ما للتوسع في المآكل والمشارب من عواقب وخيمة على دين المرء ودنياه زيادةً على ما مضى؛ فهو مما يورث البلادة، ويعوق عن التفكير الصحيح، وهو مدعاةٌ للكسل،وموجبٌ لقسوة القلب، وهو سببٌ لمرض البدن، وتحريك نوازع الشر، وتسلُّط الشيطان.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وقد ثبت عن النبي " أنه قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " رواه البخاري.
    ولاريب أن الدَّمَ يتولد من الطعام والشراب؛ ولهذا إذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان، ولهذا قيل: " فضيقوا مجاريَه بالجوع " .
    وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي تُفْتَحُ بها أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي تفتح بها أبواب النار، وصفِّدت الشياطين، فضعفت قوتُهم وعملُهم بتصفيدهم، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل: " إنهم قتلوا " ، ولا ماتوا، بل قال: "صفِّدوا" والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وَفْقِهِ " ا-هـ.

    قال لقمان - عليه السلام - لابنه: " يا بني! إذا امتلأت المعدة؛ نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقَعَدت الأعضاءُ عن العبادة "
    وقال عمر - رضي الله عنه -: " من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة ".
    وقال علي - رضي الله عنه -: " إن كنت بَطِناً؛ فعد نفسك زَمِناً ".
    وقال بعض الحكماء: " أقلل طعاماً، تحمدْ مناماً ".
    وقال بعض الشعراء:
    وكم من لقمةٍ منعت أخاها *** بـلذةٍ سـاعةٍ أكلاتِ دهرِ

    وكم من طالبٍ يسعى لأمر *** وفيه هلاكُه لو كان يدري


    وقال ابن القيم - رحمه الله -: " وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ، وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها؛ فمن وقي شرَّ بطنه؛ فقد وقي شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام " .
    إلى أن قال - رحمه الله -: " ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله - عز جل - وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ ، ووعده ، ومنَّاه ، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ؛ فإن النفس إذا شبعت تحركت، وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت - وخشعت وذلت " ا-هـ.

    بل إن الذين يتوسعون في المآكل لا يجدون لها لذةً كما يجدُها المقتصدون.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " فالذين يقتصدون في المآكل نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها؛ فإن أولئك إذا أدمنوها، وألِفُوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها " ا-هـ.
    ..


    .
    أيها الصائمون الكرام:
    إذا كان الأمر كذلك؛ فما أحرانا أن نجعل من شهرنا الكريم فرصةً لتوطين نفوسنا على الاعتدال في المآكل والمشارب؛ فالنفوسُ طُلَعةٌ لا ترضى بالقليل من اللذات؛ فإذا جاهدناها؛ انقدعت عن شهواتها، وكفَّت عن الاسترسال مع لذاتها ورغباتها، وإن من أحكم ما قالته العرب قولَ أبي ذؤيب الهذلي:

    والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها *** وإذا تُـرَدُّ إلى قليلٍ تقنع

    أما إذا استرسلنا معها، وأعطيناها كل ما تريد؛ فإنها ستقودنا إلى الغواية، وتنزع بنا إلى شر غاية.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ





    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد
    (3)

    رمضان شهر الفرح

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

    فإن الفرح مطلب مُلحٌّ، وغاية مبتغاة، وهدفٌ منشود، والناس كل الناس يسعى إلى فرح قلبه، وزوال همِّهِ وغمِّهِ، وتفرق أحزانه وآلامه.
    ولكنْ قَلَّ من يصل إلى الفرح الحقيقي، ويحصل على السعادة العظمى، وينجو من الآلام والأتراح.
    والحديث ههنا سيدور حول معنى الفرح، وأسبابه، وموانعه.

    وبعد ذلك نصل إلى معنى الفرح في الصيام، وكيفيةِ كونِ هذا الشهر الكريم شهرَ فرحٍ.
    أيها الصائم الكريم!
    الفرحُ لذةٌ تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولّدُ من إدراكه حالةٌ تسمى الفرح والسرور.

    كما أن الحَزَنَ والغَمَّ مِنْ فقد المحبوب، فإذا فقده تولد مِنْ فقده حالةٌ تسمى الحزَن والغم.

    .



    .
    والفرحُ أعلى نعيمِ القلب ولذتِه وبهجتِه، فالفرحُ والسرورُ نعيمهُ، والهمُّ والغمُّ عذابُه.

    والفرحُ بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينُةٌ وسكونٌ وانشراحٌ.

    والفرح لذةٌ وبهجةٌ وسرورٌ، فكل فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً.

    ولهذا كان الفرحُ ضدَّ الحزن، والرضا ضدَّ السخط، والحزنُ يؤلم صاحبَه، والسُّخط لا يؤلمه إلا إذا كان مع العجز عن الانتقام.
    .


    .
    ولقد جاء الفرح في القرآن على نوعين:

    مطلقٍ ومقيدٍ،

    فالمطلقُ جاء في الذم كقوله - تعالى -: ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )، وقوله:( إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ).

    والفرح المقيَّدُ نوعان - أيضاً - مقيَّدٌ بالدنيايُنْسِي فضل الله ومنته، وهو مذموم كقوله - تعالى - :( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ).

    والثاني فرحٌ مقيَّدٌ بفضل الله ورحمته:وهو نوعان - أيضاً - فضلٌ ورحمةٌ بالسبب، وفضل بالمسبِّب،

    فالأول كقوله - تعالى-: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )،

    والثاني كقوله - تعالى -: ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
    .




    .
    ولقد ذكر الله - سبحانه - الأمر بالفرح بفضله ورحمته عقيب قوله:

    ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

    ولا شيءَ أحقُّ أن يَفْرح به العبدُ من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظةَ وشفاءَ الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة: الهدى الذي يتضمَّن ثَلْجَ الصدور باليقين، وطمأنينةَ القلبِ به، وسكونَ النفسِ إليه، وحياةَ الروح به.

    والرحمةُ التي تجلب لها كلَّ خيرٍ ولذةٍ، وتدفع عنها كلَّ شرٍّ وألمٍ.

    والموعظةُ التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

    وشفاءُ الصدورِ المتضمنُ لعافيتها من داء الجهل، والظلمة، والغي، والسفه؛ تلك الأدواءُ التي هي أشدُّ ألماً لها من أدواء البدن.
    .


    .
    فالموعظةُ، والشفاءُ، والهدى، والرحمةُ هي الفرح الحقيقي، وهي أَجَلُّ ما يفرح به؛ إذ هو خيرٌ مما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها؛ فهذا هو الذي ينبغي أن يُفْرح به، ومَنْ فرح به، فقد فرح بأجلّ مفروحٍ به، لا ما يجمع أهل الدنيا فيها؛ فإنه ليس بموضع للفرح؛ لأنه عرضةٌ للآفات، وشيكُ الزوال، وخيمُ العاقبة، وهو طيفُ خيالٍ زار الصبَّ في المنام، ثم انقضى المنامُ، ووَلَّى الطيف، وأعقب مزاره الهجران.

    فالدنيا، لا تتخلص أفراحُها من أتراحِها وأحزانِها البتة، بل ما من فرحة إلا ومعها تَرْحةٌ سابقةٌ، أو مقارنة، أو لاحقة.

    ولا تتجرد الفرحةُ، بل لا بد من تَرْحة تقارنها؛ ولكن قد تقوى الفرحةُ على الحزن، فينغمر حكمُه وألمهُ مع وجودها وبالعكس.

    فالفرحُ بالله وبرسوله، وبالإيمان، وبالقرآن، وبالسنة، وبالعلم يُعَدُّ مِنْ أعلى مقامات العارفين، وأرفع منازل السائرين.
    وضدُّ هذا الفرحِ الحزنُ، الذي أعظم أسبابه الجهلُ، وأعظمُه الجهل بالله، وبأمره، ونهيه؛ فالعلمُ يوجب نوراً، وأنساً، وضدُّه يوجب ظلمةً، ويوقع في وحشة.
    .




    .
    ومن أسباب الحزن تَفَرُّقُ الهمِّ عن الله؛ فذلك مادةُ حزنه، كما أن جَمْعِيَّة القلب على الله مادةُ فرحِهِ ونعيمِه؛ ففي القلب شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حَزَنٌ لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دونَ أن يكون هو وحده مطلوبَهُ، وفيه فاقةٌ لا يسدُّها إلا محبتُه والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبداً.
    ولقد قرَّر العلماء العالمون بالله وبأمره هذا المعنى، وعلى رأس أولئك العلامةُ ابن القيم - رحمه الله -.
    .


    .


    أيها الصائمون!
    هذا هو الفرح الحق، وهذا هو فرح أهل الإيمان، لا فرحُ أهلِ الأشر والبطر والطغيان.

    هذا وإن للصائمين من هذا الفرح نصيباً غيرَ منقوص؛ كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: " وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ".
    .


    .
    قال ابن رجب - رحمه الله -:
    " أما فرحة الصائم عند فطره؛ فإن النفوسَ مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمها من مطعم، ومشرب، ومنكح؛ فإذا امتنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإن النفوسَ تفرح بذلك طبعاً؛ فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً.

    والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله - تعالى - حَرَّم على الصائم في نهار الصيام تناولَ هذه الشهواتِ، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرةَ إلى تناولها من أول الليل وآخره؛ فأحب عباد الله إليه أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين؛ فالصائمُ ترك شهواتِه في النهار تقرباً إلى الله، وطاعةً له، وبادر إليها بالليل تقرباً إلى الله، وطاعة له؛ فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه؛ فهو مطيعٌ في الحالين؛ ولهذا نُهِيَ عن الوصال؛ فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه ترجى له المغفرةُ، أو بلوغُ الرضوان بذلك ".

    إلى أن قال - رحمه الله -: " ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجة: " إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرد ".

    وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوّيَ على العمل كان نومُه عبادة.

    .



    .
    ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقَّف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله - تعالى -: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ).

    وقال ابن رجب - رحمه الله -:

    " وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدَّخراً ؛ فيجده أحوجَ ما كان إليه كما قال - تعالى - : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ).

    وقال - تعالى -: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ).

    وقال - تعالى -: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ) ا.هـ.

    اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان، والقرآن، والسنة، والعلم، والصيام..

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ



    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد

    (4)




    رمضان شهر الدعوة

    نحمدك اللهم أن هديتنا سُبُلَ الفلاح، ونستعين بك على إعلاء كلمة الحق والدعوة إلى الصلاح، ونصلي ونسلم على نبيك محمد الذي أنـزلت إليه قرآناً عربياً، وعلى كل من دعا إلى سبيلك مخلصاً تقياً.

    أما من زاغ عن الهدى،واتخذ من المضلين عضداً فإليك إيابه، وعليك حسابه، أما بعد:


    فإن الدعوة إلى الله لمن أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأعظم القربات. وإن شهرَ رمضانَ لفرصةٌ سانحةٌ، ومناسبة كريمة، وأرضٌ لنشر الدعوةِ خصبةٌ، ذلكم أن القلوب في رمضان تخشع لذكر الله، وتستعد لقبول المواعظ الحسنة، وتقوى بها إرادة التوبة.
    والحديث في هذه الليلة سيدور حول
    الدعوة إلى الله من حيث مفهومها، وفضائلها وآدابها، وما يدور في فلكها.
    .





    .
    أيها المسلمون الكرام:
    الدعوة إلى الله _عز وجل_ تشمل

    كلَّ ما يُقصد به رفعةُ الإسلام، ونشرُه بين الناس، ونفيُ ما علق به من شوائب، وردُّ كلِّ ما يغضُّ من شأنه، ويصرف الناس عنه.

    والدعوة إلى الله تشمل

    كلَّ قولٍ،أو فعل،أو كتابة،أو حركة،أو سكنة،أو خُلق، أو نشاط، أو بذل للمال، أو الجاه،أو أي عمل يخدم الدين، ولا يخالف الحكمة.
    ولا ريب أن العلم هو مرتكز الدعوة، وهو أساسها، ودليلها، وقائدها.

    ولكن الدعوة تحتاج مع العلم

    إلى كثير من الجهود التي مضى شيء منها؛ فكلٌّ يعمل على شاكلته، وقد علم كل أناس مشربهم.

    .




    .
    أيها الصائمون الكرام:
    لقد جاءت نصوص الشرع آمرةً بالدعوة، منوهةً بشأنها، محذرةً من التخاذل في تبليغها، مبينةً فضائلَها، والأجورَ المترتبةَ عليها.

    ولقد جاءت النصوص في ذلك الصدد على وجوه شتى، وصيغ متعددة.

    فجاءت بصيغة الأمر بالدعوة بصريح لفظها قال_تعالى_:

    (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (النحل: 125)

    وقال: (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) (الرعد: 36).

    وجاءت بصيغة الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر قال تعالى:

    (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).

    وجاءت بصيغة التبليغ قال الله _تعالى_:

    (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة: 67).

    وجاءت بصيغة النصح قال_عز وجل_:

    (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: 91).



    وجاءت بصيغة التواصي قال الله_تعالى_:

    (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3).



    وجاءت بصيغة الوعظ قال_سبحانه_:

    (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: 46).

    وجاءت بصيغة التذكير، قال الله_عز وجل_:

    (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55).

    وجاء بصيغة الإنذار،قال الله_تعالى_:

    (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) .

    وجاءت بصيغة التبشير قال _تبارك وتعالى_:

    ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: من الآية112)

    وجاءت بصيغة الجهاد قال _عز وجل_:

    (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) .

    وجاءت بصيغة التحذير من التولي عن الدعوة، ونصرة الدين قال _عز وجل_:

    (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (المائدة: من الآية54)

    .





    .
    أما فضائل الدعوة وثمراتها
    التي تعود على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة _ فلا تكاد تحصى، وأدلةُ الوحيينِ مليئةٌ بذلك، متضافرةٌ عليه.

    فالدعوة إلى الله

    طاعة لله، وإرضاءٌ له، وسلامةٌ من وعيده.

    والدعوةُ إلى الله

    إعزازٌ لدين الله، واقتداءٌ بأنبيائه ورسله، وإغاظةٌ لأعدائه من شياطين الجن والإنس، وإنقاذٌ لضحايا الجهل والتقليد الأعمى.

    والدعوةُ إلى الله
    سبب في زيادة العلم والإيمان، ونـزول الرحمة ودفع البلاء، ورفعه.

    وهي سبب لمضاعفة الأعمال في الحياة وبعد الممات، وسبب للاجتماع والألفة، والتمكين في الأرض.

    والدعوةُ إلى الله

    أحسنُ القول، فلا شيء أحسن من الدعوة إلى الله

    (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).

    وهدايةُ رجلٍ واحدٍ خيرٌ من الدنيا وما عليها،

    والدعاةُ إلى الله هم أرحمُ الناس، وأزكاهم نفوساً، وأطهرهم قلوباً،

    وهم أصحابُ الميمنة، وهم ورثة الأنبياء.
    .




    .
    أيها الصائمون الكرام:

    هناك صفات يحسن بالداعي إلى الله أن يتَّصف بها _سواء كانت دعوته فردية أم عامة_ فمن ذلك: العلمُ، والعملُ بالعلم، والإخلاصُ، والصبرُ، والحلمُ، وحسنُ الخلقِ، والكرمُ،والإيثا رُ، والتواضعُ، والحكمةُ، والرحمةُ، والحرصُ على جمع الكلمة على الحق.

    ومن الصفات التي يجمل بالداعي أن يتَّصف بها:
    الصفحُ الجميلُ، ومقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، والثقةُ بالله، واليقينُ بنصره، والرضا بالقليل من النتائج، والسعيُ للكثير من الخير.

    ومنها تجنبُ الحسدِ، وتجنبٌ استعجالِ النتائج، وتجنبٌ التنافس على الدنيا والانهماك في ملذاتها ومشاغلها.

    ومن آداب الداعي إلى الله أن يكون ملازماً للِّينِ والرفق، حريصاً على هداية الخلق، مستشعراً للمسؤولية ، قويَّ الصلة بالله، كثير الذكر والدعاء والإقبال على الله بسائر القربات.

    ومن آدابه: الحرصُ على مسألة القدوة، وأن يغتنم كل فرصة للدعوة، وألا يحتقر أي جهد في سبيلها مهما قل.

    ومن آدابه: أن ينـزلَ الناسَ منازلَهم، وأن يتحامى قدر المستطاع ما يسوؤهم، وأن يتحمل همَّهم، وألا يحمِّلهم شيئاً من همومه.

    ومن آدابه: تحسُّسُ أدواء المدعوين، ومعرفة أحوالهم.

    ومنها: البعدُ عن الجدال إلا في أضيق الحدود، وبالتي هي أحسن.

    ومنها: تعاهدُ المدعوين، وتشجيعُهم، وربطُهم بالرفقة الصالحة، ومراعاة الحكمة في إنقاذهم من رفقة السوء.

    ومنها: البدء بالأهم فالمهم، والبعد عن الانتصار للنفس.

    ومنها: تنويع وسائل الدعوة، فتارة بالموعظة، وتارة بالهدية، وتارة بالتوجيه غير المباشر وهكذا. ..

    ومنها: إظهار الاهتمام بالمدعو، ومعرفةُ اسمه، وإشعارهُ بأهميته، وإشغاله بما ينفعه.



    .





    .

    أيها الصائمون الكرام:

    هذه هي الدعوة إلى الله،وتلك فضائلها،وآداب أهلها؛ فحريّ بنا أن نكون دعاة إلى الله؛ كُلٌ بحسبه، فهذا بعلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، وهذا بجهده؛ لنحقِّقَ الخيرية ولنسلمَ من الوعيد.

    فيا طالب العلم

    هذا شهرُ رمضانَ فرصةٌ عظيمة للدعوة إلى الله، فهاهي القلوب ترق، وها هي النفوس تهفو إلى الخير،وتجيب داعي الله؛ فهلا استشعرت مسؤوليتك، وهلا استفرغت في سبيل الدعوة طاقتك وجهدك، وهلا أبلغت وأعذرت، ورفعت عن نفسك التبعة!!.




    ويا من آتاه الله بسطةً في المال:

    ألا تؤثر الدعوة إلى الله بجانب من مالك، فتساهم في كفالة الدعاة، وإعدادهم، وتشارك في طباعة الكتب النافعة،ونحو ذلك مما يدور في فلك الدعوة، ألا تريد أن تدخل في زمرة الدعاة إلى الله.



    ويا من آتاه الله جاهاً:

    ألا بذلته في سبيل الله، ألا سعيت في تيسير أمور الدعوة إلى الله؟.



    ويا أيها الإعلامي المسلم

    أيَّا كان موقِعُك ألا يكون لك نصيب في نشر الخير، والدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، والطرح البناء، أما علمت أنك ترسل الكلمةَ أو تعين على إرسالها، فتسير بها الركبانُ، وتبلغ ما بلغ الليل والنهار؟ أما علمت أن لك غُنْمَها، وعليك غُرْمَها؟

    ويا من حباه الله دراية ومعرفة بشبكة الاتصالات وما يسمى بالإنترنت،

    ألا جعلت من ذلك وسيلة لنشر الدعوة إلى الله؟ أليس من اليسير في حقك أن تبث الخير على أوسع نطاق، وبأقل مؤونة، ألست تخاطب العالم، وأنت منزوٍ في قعر بيتك؟ .

    ويا أيتها المرأة المسلمة

    ألا تسعين جاهدة في نشر الخير في صفوف النساء بما تستطيعين؟.

    ويا أيها المسلمون عموماً:

    ألا نتعاون جميعاً في سبيل الدعوة إلى الله، ألا نجعل من شهرنا هذا ميداناً لاستباق الخيرات، ألا نتعاون في نصح الغافلين، وتذكير الناسين، وتعليم الجاهلين؟!.

    (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).



    اللهم اجعلنا من أنصار دينك، ومن الدعاة إلى سبيلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ



    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد



    (5)




    الصوم والإخلاص

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، أما بعد:

    فإن حديث هذه الليلة سيدور حول فضيلة الإخلاص، وأثرِ الصوم في اكتسابها.

    وقبل الدخول في أثر الصوم في اكتساب الإخلاص يحسن الوقوفُ عند الإخلاص من حيث مفهومُه، وأهميتُه.
    .


    .
    معاشر الصائمين:
    أصل الإخلاص في اللغة:

    مادة خَلُصَ، والخالص: هو مازال عنه شوبُه بعد أن كان فيه.

    والإخلاصُ في الشرع:

    هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه.

    ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه -عز وجل- فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم،أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم،وقضائه م حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها: إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص.

    ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.

    بل لا يذهب بالإخلاص-بعد ابتغاء وجه الله-أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثاراً طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس،وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.
    هذا هو مفهوم الإخلاص.

    أما أهميته
    فيكفي أنه شرط لقبول العبادة؛ فالعبادة تقوم على شرطين هما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول-صلى الله عليه وسلم-قال الله-تعالى-:(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

    وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله-تعالى-: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً، فأشرك فيه غيري -فأنا منه بريء، وهُوَ للذي أشرك"رواه مسلم.



    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- متحدثاً عن الإخلاص وفضله وأهميته:
    "بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان،وهو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب رحى القرآن الذي تدور عليه رحاه".



    إلى أن قال-رحمه الله-:

    "قال -تعالى- في حق يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

    فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.

    ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها.

    فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي قلبه-انقهر بلا علاج"ا-هـ.

    معاشر الصائمين
    هذا هو مفهوم الإخلاص، وذلك شيء من أهميته وفضله.

    هذا وإن للصيام أثراً عظيماً في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غيرُ وجه الله-جل وعلا-.



    ذلكم أن الصائم يصوم إيماناً واحتساباً، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله -تعالى- وأيُّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا الدرس؟

    روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".



    قال ابن حجر -رحمه الله- قوله:

    "إيماناً": أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، و"احتساباً": أي طلباً للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه" ا-هـ.

    وفي البخاري-أيضاً-من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لخُلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها".



    قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث:
    "قوله:"يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي" هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ "وإنما يذر شهوته" الخ... ولم يصرح بنسبته إلى الله، للعلم به، وعدم الإشكال فيه".

    وقال -رحمه الله-:

    "وقد يفهم من صيغة الحصر في قوله: "إنما يذر"الخ... التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصُّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُخمة لا يحصل للصائم الفضلُ المذكور" ا-هـ
    .
    معاشر الصائمين:

    هكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص؛ فالصومُ عبادةٌ خفيةٌ، وسِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه.

    بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها.

    ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال، وأحمد الخلال إن لم يكن أعظمها وأحمدها.

    ثم إن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه -فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.

    والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية.

    وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.

    ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.

    أيها الصائمون:
    قد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص.

    والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى.

    ولا تبالغُ إذا قلت:
    إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة.

    قال ابن تيمية -رحمه الله-:
    "وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه؛ فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،ويخاف ضد ذلك. بخلاف القلب الذي لم يُخْلِص لله؛ فإن فيه طلباً،وإرادةً،و حباً مطلقاً؛ فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيمٍ مرَّبِهِ عطفه وأماله" ا-هـ.



    معاشر الصائمين:
    إذا أخلص المسلمُ صيامه لله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك داعياً له لأن يخلص لله في شتى أموره، وكافة أحواله، وسائر أيامه، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ سائرِ الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات، والذي يُتَقَرَّبُ إليه بالصيام هو الذي يُتَقَرَّبُ إليه بسائر الأعمال.

    وهكذا يفيد المسلمُ هذا الدرسَ العظيمَ من شهر الصوم.
    ولقد وقف الحديث في الدرس الماضي عند أثر الإخلاص على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة؛ فإليكم جملة من تلكم الآثار التي تعود بالخير على الأفراد والجماعات.
    أيها الصائمون:

    الإخلاصيرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال -بالإخلاص- يكون كبيراً، وقليلها يكون كثيراً.

    والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءاً، أو حياءاً من الناس لابد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمنُ العزلِ-فلا يبالي أن يدع العدل جانباً.

    ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعياً إلى الأهواء.

    ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته.

    أيها الصائمون:
    الإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان،ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة.

    وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:"سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله" إلى أن قال: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

    حكى أشعبُ بنُ جبيرأنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل، وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أجْرِي عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيَّاً، فقلت من أمرك؟، قال: لا أخبرك، قلت: إنَّ هذا معروفٌ يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرَك.

    قال أشعب بن جبير: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبدالله بن عمر بن عثمان، فحفل له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا

    -والله-صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك.
    فهذا فاعلُ خيرٍ من وراء حجاب.
    أيها الصائم:
    لعلك لا تجد أحداً يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار.

    وإذا وصفتَ أحداً بالإخلاص أو عدمه فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة.

    ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دِلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن.

    وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير.

    وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرِجٍ تنير لهم السبيل.

    أيها الصائمون:

    الإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ، فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه.

    والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة.

    والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عرض الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهباً.

    والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق.

    والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة،وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه.

    والإخلاص
    يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة.

    والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاءًا لشخص أو طائفة.
    .


    .
    أيها الصائمون:

    هذه بعض مآثر الإخلاص الذي ينميه الصوم في نفوسنا؛ ويبعثنا إلى أن نخلص لله في جميع أعمالنا، وشتى أحوالنا.

    فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص،وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اللهم ارزقنا الإخلاص في ما نأتي وما نذر، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد

    (6)


    رمضان شهر البر
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

    فإن رمضانَ شهرُ البرِّ، وموسمُ الخير ، وميدان التنافس.

    وإن من أعظم البرِّ، وأجل القربات، برَّ الوالدين ، ذلكم أن حقَّ الوالدين عظيم، ومنزلتهما عالية في الدين؛ فَبِرُّهما قرينُ التوحيد، وهو من أعظم أسباب دخول الجنة، وهو مما أقرته الفطر السوية، واتفقت عليه الشرائع السماوية.

    وهو خلق الأنبياء،ودأب الصالحين،وهو سبب في زيادة العمر، وسعة الرزق، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر، وطيب الحياة.

    وهو _أيضاً_ دليل صدق الإيمان،وعلامة حسن الوفاء،وسبب البر من الأبناء.

    وفي مقابل ذلك فإن عقوق الوالدين ذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر، فهو قرين للشرك،وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل، ودخول النار في الأخرى.

    وهو جحودٌ للفضل، ونكرانٌ للجميل، ودليلٌ على الحمق والجهل، وعنوانٌ على الخسة، والدناءة، وأمارةٌ على حقارة الشأن وصَغرِ النفس.

    ولعظم حق الوالدين تظاهرت نصوص الشرع آمرةً ببرهما والإحسان إليهما، ناهيةً عن عقوقهما والتقصير في حقهما، قارنة حقوقهما بحق الله_تعالى_.

    قال الله_عز وجل_: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً)(النساء: من الآية36).



    وقال:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً)(الأنعام: من الآية151).

    وقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)(الإسراء: 23-24)

    الوفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: سألت رسول الله " أي العمل أحب إلى الله_تعالى_؟ قال:=صلاة على وقتها + قلت ثمَّ أي؟ قال:بر الوالدين

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_ عن النبي " قال: =الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس رواه البخاري.

    ومع عظم تلك المكانة للوالدين إلا أننا نرى عقوقهما قد تفشّى، وأخذ صوراً عديدةً، ومظاهر شتى؛ فمن ذلك إبكاؤهما وتحزينُهما،ونهر ُهما وزجرُهما، والتأففُ والتضجر من أوامرهما، والعبوسُ وتقطيبُ الجبينِ أمامهما.

    ..
    .
    ومن صور العقوق

    احتقارُ الوالدين، والنظر إليهما شزراً، والإشاحةُ بالوجه عنهما إذا تحدثا، وقلةُ الاعتداد برأيهما، وإثارةُ المشكلات أمامهما.

    ومن ذلك _عياذاً بالله_

    شتمُ الوالدين، وذمُّهما عند الناس، والتخلي عنهما وقت الحاجة أو الكبر، والتبرؤُ منهما، والحياءُ من ذكرهما والنسبة إليهما.

    ومن صور العقوق

    الإثقالُ على الوالدين بكثرة الطلبات، والمكثُ طويلاً خارجَ المنزل إلى ساعات متأخرة من الليل، أو النوم خارج المنزل دون علم الوالدين بمكان الولد، خصوصاً إذا كان صغيراً.

    ومن صور العقوق

    المتناهية بالقبح لعنُ الوالدين، والتعدي عليهما بالضرب، وإيداعُهما دورَ الملاحظة.

    ومن صور العقوق

    هجرُ الوالدين، والبخلُ عليهما، وتركُ نصحهما، والسرقةُ من أموالهما، والأنينُ وإظهارُ التوجُّع أمامهما.

    ومن أقبح صور العقوق

    -إن لم تكن أقبحها- تمني زوالِهما، وقَتْلُهما، والتخلصُ منهما، رغبةً في الميراث، أو رغبة في التحرُّر من أوامر الوالدين؛ فيا لشؤم هذا، ويا لِسوادِ وجهه، ويا لِسوءِ سوء مصيره إن لم يتداركه الله برحمته.

    هذه بعض صور العقوق، وتلك بعض مظاهره؛ فما أبعد الخير عن عاق والديه، وما أقرب العقوبة منه، وما أسرع الشر إليه.

    وهذا أمر مشاهد محسوس يعرفه كثير من الناس، ويرون بأم أعينهم، ويسمعون قصصاً متواترة لأناس خذلوا وعوقبوا بسبب عقوقهم لوالديهم.

    قال الأصمعي: أخبرني بعض العرب أن رجلاً كان في زمن عبد الملك بن مروان، وكان له أب كبير، وكان الشابُّ عاقاً بأبيه، وكان يقال للشاب منازل فقال الأب الشيخ الكبير:
    جَزَتْ رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ *** جزاءً كما يستنجزُ الدَينَ طالبُه

    تَرَبَّت حتى صار جعداً شمردلاً *** إذا قام ساوى غاربَ الفحلِ غاربُه
    تظلَّمني مالي كذا ولوى يدي *** لوى يدَه اللهُ الذي لا يغالبُه

    وإني لداعٍ دعوةً لو دعوتُها *** على جبل الريان لانْهَدَّّ جانِبُه
    فبلغ ذلك أميراً كان عليهم، فأرسل إلى الفتى؛ ليأخذه، فقال له أبوه الشيخ: اُخْرُجْ من خلف البيت، فسبق رُسَلَ الأمير، ثم ابتلي الفتى بابن عقَّه في آخر حياته، واسم الولد خليج فقال منازل فيه:


    تظلمني مالي خليجٌ وعقني *** على حين كانت كالحَنيِّ عظامي

    تخيَّرتُه وازددته ليزيدني *** وما بعضُ ما يزدادُ غيرُ عرامِ
    لعمري لقد ربَّيته فرحاً به *** فلا يفرحنْ بعدي امرؤٌ بغلام
    فأراد الوالي ضرب الابن، فقال للوالي: لا تعجل هذا أبي منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه:

    جزت رحمٌ بيني وبينَ منازلٍ *** جزاءً كما يستنجز الدَّينَ طالبُه

    فقال الوالي: يا هذا عَقَقْتَ وعُقِقْتَ

    وقال الأصمعي:حدثني رجلُ من الأعراب، وقال: خرجت أطلب أعقَّ الناس؛ فكنت أطوف بالأحياء،حتى انتهيت إلى شيخٍ في عنقه حبلٌ يستقي بدلو لا تطيقه الإبلُ في الهاجرة، والحرِّ الشديد، وخلفه شابٌّ في يده رُشاءٌ _أي حبل_ من قِدٍّ ملوي (والقِدُّ هو السوط) وهو يضرب الشيخ الكبير بالقدِّ، وقد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله بهذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه مِنْ مَدِّ هذا الحبل حتى تضربه؟.

    قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيراً.
    قال: اسكت؛ فهكذا كان يصنع بأبيه، وكذا كان أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعقُّ الناس.

    ثم جُلت حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيلٌ فيه شيخٌ كأنه فَرْخٌ، فكان يضعه بين يديه في كل ساعة،فيطعمه كما يُطعَمُ الفرخ، فقلت من هذا؟ قال: أبي وقد خرف وأنا أكفله، قلت: هذا أبر الناس.
    ..


    .
    الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه، ومُذِلِّ من عصاه، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فقد عَلِمنا في الحديث الماضي عِظَم حق الوالدين، والترغيبَ في برهما، والترهيبَ من عقوقهما.

    ومر شيءٌ من مظاهر العقوق وصورِه؛ فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللب أن يبر والديه،وأن يتجنَّب عقوقهما؛ لينال الخيرَ والبركةَ في العاجل،وليحظى بالثواب الجزيل والعطاءِ غيرِ المجذوذ في الآجل.

    أيها الصائمون:

    هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا مع الوالدين سلوكها؛ لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما؛ لنرضيَ بذلك ربنا، وتنشرحَ صدورنا، وتطيبَ حياتنا، وَتُيَسَّرَ أمورُنا، ويبارك لنا في أعمارنا، ويبسَط لنا في أرزاقنا.
    فمما يجدر بنا سلوكه مع الوالدين طاعتُهما، واجتنابُ معصيتهما في غير مخالفة لأمر الله.

    ومن ذلك الإحسانُ إليهما،وخفضُ الجناح لهما،والبعدُ عن زجرهما.

    ومن صور البرِّ

    الإصغَاءُ إلى الوالدين، وذلك بالإقبال عليهما إذا تحدثا، وتركِ مقاطعتهما أو منازعتهما الحديث أو تكذيبهما.

    ومن الآداب مع الوالدين التلطُّلفُ بهما، والفرحُ بأوامرهما، والحذر من التأفف والتضجر منهما.

    ومن ذلك_أيضاً_التودّ دُ لهما، والتحبُّب إليهما، والجلوس أمامهما بأدب واحترام، وتجنُّبُ المنَّة في الخدمة أو العطية.
    ومن صور البر

    مساعدةُ الوالدين في الأعمال، والبعدُ عن إزعاجهما وقتَ راحتهما، أو تكديرِ صفوهما بالجلبة، ورفعِ الصوت، أو بالأخبارِ المحزنة.

    ومن ذلك تجنُّبُ الشجارِ، وإثارةِ الجدل أمامهما، وذلك بالحرص على حل جميع المشكلات مع الإخوة أو الزوجةِ أو أهل البيت عموماً، بعيداً عن أعين الوالدين إلا إذا اقتضت الحكمةُ والمصلحةُ إشراكَهما في الأمر.

    ومن صور البر
    تلبيةُ نداءِ الوالدين بسرعة، والاستئذان عليهما حال الدخول عليهما وإصلاحُ ذات البين إذا فسدت بين الوالدين، والحرصُ على التوفيق بينهما وبين الزوجة، وتعويد الأولاد على برهما.

    ومن صور البر تذكيرُ الوالدين بالله، ونصحُهما بالتي هي أحسن.
    ومن برهما _أيضاً_

    الاستئذانُ منهما، والاستنارةُ برأيهما، والمحافظةُ على سمعتهما، والبعدُ عن لومهما وتقريعهما.

    ومن ذلك فهمُ طبيعة الوالدين، ومعاملتهما بمقتضى ذلك.

    ومن البر بهما

    كثرةُ الدعاءِ والاستغفار لهما، وصلةُ الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإنفاذ عهدهما، والتصدُّق عنهما.

    ومما يعين على بر الوالدين

    أن يستعينَ الإنسانُ بالله،وأن يستحضر فضائلَ البر، وعواقبَ العقوق، وأن يستحضر فضل الوالدين، وأن يضع نفسه موضعهما، وأن يقرأ سير البارين بوالديهم.

    ..

    أيها الصائمون:
    هاهو بر الوالدين، وهذه هي الآداب التي يجدر بنا مراعاتها معهما،وتلك أسباب تعين على البر،فما أحرانا بمراعاة تلك الأمور، وما أجدرنا، بالأخذ بها، وإليكم معاشر الصائمين بعضَ النماذجِ من قصص البر:

    هذا إسماعيل بن إبراهيم _عليهما السلام_ يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية، وذلك عندما قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).

    فما كان من ذلك الولد الصالح إلا أن قال: ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102).

    وقد ورد أن إبراهيم _عليه السلام_ لما تيقَّن مما رأى في منامه قال لابنه: يا بني خُذِ الحبلَ والمُديةَ، وانطلق بنا إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا بهِ في شعب ثبير أخبره بما أمره الله به، فلما أراد ذبحه قال له: يا أبت اشدد رباطي؛ حتى لا أضطرب، واكْفُفْ ثيابك؛ حتى لا يصيبَها الدَّمُ فتراه أمي، واشحذ شفرتك، وأسرع في السكينِ على حلقي؛ ليكون أهونَ علي، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني.

    قال إبراهيم:نعم العونُ أنت يا بني، ثم أقبل عليه، وهما يبكيان، ثم وضع السكينَ على حلقه، فلم تحزَّ، فشحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر فلم تقطع.

    فقال الابن عند ذلك:يا أبتِ كُبَّني على وجهي؛ فإنك إن نظرت إلى وجهي رحمتني، وأدركتك رِقَّةٌ تحول بينك وبين أمر الله _تعالى_ وأنا لا أنظر إلى الشفرة؛ فأجزع.

    ففعل إبراهيم ذلك، ووضع السكين على قفاه،فانقلب السكين، وسلبت منها خاصيتها، ونودي ( أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا )(الصافات: الآية 104).
    ..

    .
    وإليكم أيها الصائمون صوراً مشرقة في البر من سير السلف الصالح،

    تدل على شدة اهتمامهم ببر الوالدين.

    فهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في بيت آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها وقال:السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فتقول:وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيراً، وتقول:ورحمك الله كما بررتني كبيراً.

    وهذا ابنُ عمرَ _رضي الله عنهما_ لقيه رجل من الأعراب بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.

    قال ابنُ دينارٍ:فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير.

    فقال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ:إن أبا هذا كان وُدَّاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله يقول: إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولدٍ أهلَ ودِّ أبيه.رواه مسلم وأبو داود.

    وهذا أبو الحسن عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب -وهو المسمى بزين العابدين وكان من سادات التابعين_ كان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أُمَّك؛ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها.

    وقال هشام بنُ حسان: حدثتني حفصةُ بنتُ سيرين قالت، كانت والدة محمد بن سيرين حجازية، وكان يعجبها الصِّبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيدٌ صَبَغَ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، وكان إذا كلمها كالمصغي.
    وعن بعض آل سيرين قال:ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع.

    وعن ابن عون أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
    وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟ أيشتكي شيئاً قالوا: لا، ولكن هكذا يكون عند أمه.

    وروى جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خدَّه على الأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قَدَمَكِ على خدي.
    وعن ابن عون المزني أن أمه نادته،فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين.

    وقيل لعمرَ بن ذرٍّ:كيف كان بر ابنك بك؟ قال ما مشيت نهاراً قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته.

    وهذا بُندارُ المحدثُ قال عنه الذهبي: جمع حديث البصرة، ولم يرحل؛ براً بأمه.

    وقال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بنداراً يقول:أردت الخروج _يعني الرحلة لطلب العلم_ فمنعتني أمي، فأطعتها، فبورك لي فيه.

    وكان طلق بن حبيب من العلماء العباد، وكان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها.

    وقال عامر بن عبد الله بن الزبير:مات أبي، فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه.

    اللهم اجعلنا من الأتقياء الأبرار، ومن المصطفين الأخيار إنك أنت الرحيم الكريم الغفّار.



    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ



    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد



    (7)


    رمضان فرصة لترك التدخين




    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإن التدخينَ وباءٌ خطير، وشرٌ مستطيرٌ، وبلاءُ مدمرٌ.

    وقد وقع في شَرَكِه فِئامٌ من الناس، وكثيرٌ مِنْ أولئك يملكون قلوباً حية، وعواطفَ للإسلامِ قوية، إلا أنهم بلوا بالتدخين.
    وأكثرُ هؤلاءِ لا يكابرونَ في ضررِ التدخين، ولا يشكُّون في أثرهِ وحرمتهِ، بل تراهم يؤمِّلونَ في تركهِ، ويسعونَ للخلاصِ منهُ؛ فلهؤلاءِ حقٌّ على إخوانهم أن يعينوهم، ويأخذوا بأيديهم خصوصاً في هذا الشهر الكريم.
    .
    معاشر الصائمين:

    لو توجَّهنا بالسؤال إلى كلِّ مدخنٍ وقلنا له: " لماذا تدخن؟ "

    لأجابوا إجاباتٍ مختلفةً؛ فَمِنْ قائلٍ: أدخن إذا ضاق صدري؛ كي أروِّح عن نفسي، ومِنْ قائلٍ: أدخن كي أتسلى في غربتي، وبُعدي عن أهلي، إلى قائلٍ: أدخن إذا سامرت زملائي؛ ليكتمل فرحي وأنسي، إلى قائل: أدخنُ؛ لأتخلصَ من القلقِ، والتوترِ، والغضبِ، إلى قائل: أدخنُ مجاملةً للرفاقِ، إلى قائلٍ: أدخنُ لفرطٍ إعجابي بفلانٍ من الناسِ، فهو يدخنُ وأنا أتابعةُ، واعملُ على شاكلتهِ، إلى مسكينٍ يقولُ: تعلقتُ بهِ منذُ الصِّغرِ فعزَّ عليَّ تركهُ، إلى مكابرٍ عنيدٍ يقول: أدخن لقناعتي بجدوى التدخين؛ فلا ضررَ فيه، ولا عيبَ، ولا حرمة.

    هذه - تقريباً - هي الأسبابُ الحاملةُ على التدخين؛ فإذا كانَ الأمرُ كذلك، فاسمح أيها الأخُ المدخن بالحوار معكَ مدة ًيسيرةً؛ عسى أن نصل إلى نتيجة مُرْضِيَةٍ.
    .


    .
    أخي الحبيب:

    ألستَ مقتنعاً من حُرْمِةِ التدخين، ومن أثرهِ البالغ؟ ألا تفكر جاداً في تركهِ إلى غيرِ رجعة؟ ستقول: بلى، ولكن آملُ أن أزدادَ قناعةً بضررِ التدخين، وإمكانيةِ تركه، ويقالُ لكَ: إليكَ ما تريد، فأعِر سَمْعَك قليلاً، وأَصْغِِ فؤادك لما يقال:


    أولاً:أيها الحبيب: تذكر قبلَ كل شيء أنك عبدٌ لله، وأكْرِم بها من عبودية، فعبوديتُكَ لله تحررُكَ من كلِّ شيء حتى من نفسِكَ التي بين جَنْبَيك، فتصبحُ حراً طليقاً عبداً لربٍّ واحدٍ لا لأربابٍ متفرقين.




    وإن مقتضى عبوديتك لله أن تُطيعَه فلا تعصيَه، وذلك عنوان فلاحك وسعادتك، إذا تقررَ هذا عندك، فتذكر أن الدخانَ خبيثٌ، وأنه تبذيرٌ وإسرافٌ، وأنه قتلٌ للنفس، وإلقاءٌ باليد إلى التهلكة، وأنه إيذاء للمسلمين؛ فهل هذه الأمور من طاعةِ الله، أو من معصيتِه؟

    ثانياً: التدخين يبعث على النفور منك، ومن مجالستك، بل والسلام عليك؛ لأن رائحتك لا تشجع على شيء من ذلك.

    ثالثاً: التدخين قد يتسبب في حرمانك من نعمة الذرية؛ فهو يضعف النسل، ويضعف القدرة الجنسية، بل وربما قاد إلى العقم.



    رابعاً: وإذا رزقت بأولاد فربما تعرضوا للتشويه، ونقص النمو، وزيادة العيوب الخلقية؛ فللتدخين أثرٌ بالغٌ على صحة أولاد المدخن.

    خامساً: وإذا رزقت أولاداً فلا شك أنك ترغب في صلاحهم واستقامتهم ورجولتهم، وإذا كنت مدخناً ربما كانت النتيجةُ عكسَ ذلك؛ فربما تسببت في إغوائهم، وانحرافهم؛ لأنهم مُوْلَعُون بمحاكاتك وتقليدك.

    سادساً: التدخين قد يَصْرِفُك عن برِّ والديك، وصلةِ أرحامك؛ لأنك تخشى عِلْمَهم بأنك تدخن؛ فلهذا تتحاشى قُربَهم، وتألفُ البعدَ عنهم؛فأي خير يرجى من عمل يتسبب في عقوق والديك وقطيعة أرحامك؟



    سابعاً: بالتدخين تساهم في خذلان أمتك،ودعم أعدائها الذين يحاربونها ليل نهار.




    وبفضل جهدك قد غدوت لصانعي تلك السموم السود خَيْرَ معين

    تَحْبوهم المال الذي لولاه لم يجدوا السبيل لكيد هذا الدين
    ثامناً: بالتدخين تُقصِّر عمرك، وتهدد حياتَك بالفناء؛ فمعظم وفيات العالم الصناعي إنما هي بسبب التدخين؛ حيث يموت سنوياً في العالم بسبب التدخين وحده مليونان وخمسمائة ألف شخص؛ فالدخان يجلب لك الموت العاجل، فضلاً عن أن سنواتِ العمرِ الأخيرةَ تكون معاناةً من الأثر السييء للدخان.

    وقد أجمعت البحوث العلمية على أن السجائر هي من كبرى المهلكات التي تصيب الإنسان بالعجز، وتهدده بالفناء.

    تاسعاً: الدخان يحرمك السعادة الحقة، ويوهمك بالسعادة المزيفة؛ و إلا كيف يَسْعَدُ الإنسان وحياتُه مليئةٌ بالأسقام مهددةٌ بالأخطار.

    عاشراً: التدخين يؤثر على عقلك، ويضعف تفكيرَك، ويورثك البَلادَة، وهذا مشاهد في الطلاب وغيرهم، ولقد أجريت تجارب لاختبار الذكاء بين طلاب المدارس فتبين بشكل واضح أن المدخنين أقل ذكاءًا ومقدرةً على الفهمِ من غيرهم ممن لا يدخنون.


    الحادي عشر: من أضرار التدخين: التدخين يعرضك للجلطة، وتصلُّب الشرايين، وموت الفجأة.



    الثاني عشر: التدخين يؤذي عينيك أيما أذى، فهو يزيد من احتمال إصابتها بالماء الأزرق، ومرض إعتام العيون، كما أنه يؤدي إلى التهاب الجفون، وتَحسُّسِها،بل ويؤدي إلى التهاب عَصَب الأبصار والعَمى.


    الثالث عشر: التدخين يثلم مروءتَك، ويُنْقِص من قدرك، ويدل على ضعف إرادتك.

    الرابع عشر: التدخينُ يثقِلُ عليك العبادةَ، ويدعوك لمخالطة الأشرار والأراذل، ويزهِّدك بالأكابر، والأخيار، والأفاضل.

    الخامس عشر: التدخين يوهن قواك، ويضعف قدرتَك، ويورثك الخمول والكسل.

    السادس عشر: لا يكاد عضوٌ من أعضاء المدخن يسلم من أضرار التدخين.

    السابع عشر: التدخين سببٌ رئيسٌ للسرطان بأنواعه المتعددة؛ فهو سبب لسرطان الرئة، والحنجرة، والشفة، والبلعوم، والمريء، والبنكرياس، والمثانة، والكُلى.
    الثامن عشر: التدخين يتسبب في تسوس الأسنان، واصفرارها، واسودادها، ويتسبب في التهاب اللِّثَةِ، وتقرُّحات الفمِ واللسانِ، وتشويهِ الشفاه، ووسخ الأسنان.

    التاسع عشر: التدخين يسبب الربوَ، وضيقَ النَّفسَ، والسعالَ، والبصاقَ، وضَعفَ كفاءةِ الرئة،وسوءَ الهضم، وتليّفَ الكبدِ، والسكتةَ الدماغيةَ، والذبحةَ الصدريةَ، وإصابةَ شرايينِ المخِّ بالتصلّب، ويسبب الغثيانَ، والإمساكَ المزمنَ، والصداعَ، والأرقَ، والفشلَ الكُلويَّ،وضعفَ السمعِ، وفقدانَ حاسةِ الشم أو إضعافَها، وضعفَ الجهاز المناعي، والاستعدادَ للإصابة بأمراض خطيرة، وزيادةَ أمراض الحساسية، والتهاباتِ الجلدِ، وقُرْحَة المعدة، والاثني عشرَ.

    العشرون: أن المدخنين -كغيرهم- عُرضَة لسائر الأمراض، ولكنها تزداد لديهم، وتتضاعف بسبب التدخين.


    .




    .
    أيها الحبيب:

    ألم تقتنع بعد؟
    أليس فيما مضى ذكره عِبْرةٌ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ ستقول -كعادتك- بلى، ويقال لك: متى ستقلع عن التدخين إذاً؟ ستقول: غداً، أو بعد غدٍ، أو بعد ذلك سأحاول الإقلاع عن التدخين.

    إذاً لعلك لم تقتنع بما قيل سابقاً، بل ستستمر على التدخين، ولن تقلع عنه؟ ستقول: لا، عفواً، إنني مقتنعٌ تمامَ الاقتناع بما مضى ولكن يصعب عليّ ترك التدخين، وأخشى ألا أستمر على تركه.
    إذاً ما الحل أيها الحبيب، هل نقف معك أمام طريق مسدود؟ ونرضى منك أن تواصل التدخين حتى يهوي بك في مكان سحيق؟ ستقول: لا يا أخي لم يصل الأمر إلى هذا الحد.

    إذاً ما العمل؟ ربما تقول: لعلي أسلك طريقاً آخر؛ كي أنجو من أضرار التدخين؛ حيث سأتحول عن التدخين إلى الغليون أو الشيشة، فلعلها أقل ضرراً أو أهون خطراً.

    ويقال لك: ما أنت - والحالة هذه - إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

    أما علمت أن ما مضى ذكرُه من أضرار التدخين ينطبق على الشيشة والغليون ونحوها.

    ربما تقول: إذاً سأنتقل إلى نوع خفيف من السجائر ذاتِ المحتوى المنخفض من النيكوتين والقطران؛ فحنانيك بعض الشر أهون من بعض.



    ويقال لك: إن هذه خُدعةٌ كبرى قد ثبت ضررها وعدم جدواها وذلك لما يلي:



    - أن ذلك سببٌ لتدخينِ أكبرِ عددٍ من السجائر.

    - وأن المدخنين في هذه الحالة يسحبون عدداً أكبر من الأنفاس من السيجارة الواحدة.

    وأنهم يستنشقون الدخان بعمق، ويحتفظون به أطول فترة ممكنة، ليعوضوا نسبة النيكوتين التي فقدوها.
    -وكل ذلك يؤدي إلى امتصاص المزيد من النيكوتين والقطران، ويحدث هذا بطريقة لا إرادية ودون أن يشعر بها المدخن؛ فكيف تلجأ إلى هذا الحل إذا؟
    .


    .
    كان الحديث الماضي يدور حول أضرار التدخين، والحديث ههنا سيكون حول السبل المعينة على تركه، فيا أيها المدخن: ربما تقول بعد ذلك: لقد أعيتني الحيل، وضاقت بي السبل، ولم أستطع ترك التدخين.

    ويقال لك:لا ما أعيتك الحيل،ولا ضاقت بك السبل، فلكل داءٍ دواءٌ، ولكل مُعْضِلةٍ حلٌ، وما من قُفْلٍ بلا مفتاح وإلا فما هو بقفل.

    تقول ما
    هو الحل؟


    ويقال لك:

    أن تقلع عن التدخين فوراً، وان تهجره بلا رجعة.

    ستقول بزفرة، ولهفة، وأمل، وشوق، كيف الوصول إلى ذلك السبيل، وكيف النجاة من هذا الداء الوبيل؟ وما العلاج الناجع، والدواء النافع، من هذا السم الزعاف الناقع؟



    يقال لك حينئذٍ:

    أيها الحبيب، كلّ ما تريده ستجده طالما بحثت عنه، وسعيت له سعيه، وطرقت أبوابه،وأخذت بأسبابه، فأعِرْ سمعك، وافتح قلبك، فستجد -إن شاء الله- ما يشفي عِلَّتك، ويروي غُلَّتك، فمِمَّا يعينك على ترك التدخين ما يلي:
    أولاً: استحضار أضرار التدخين، واستحضار حرمته في الدين.

    ثانياً: التوبة النصوح؛ فتب إلى ربك،وعد إلى رشدك،قبل أن يُتْلِف التدخين جسدك، وقبل أن يفجأك الموتُ على غِرَّةٍ منك، فأقدم غير هيَّاب، ولا وَجِل، ولا متردد، وإياك والتأجيلَ؛ فإن التأجيل ذنبٌ يجب أن تتوب منه.


    ثالثاً: استعن بالله وفوّض أمرك إليه، والتمس إعانته ولطفه، وتضرع إليه بالدعاء، واسأله بصدق وإخلاص وإلحاح أن يعينك على ترك التدخين.





    رابعاً: أقبل على الله بالمحافظة على الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقبل على الله بالصيام؛ فإنه علاج نبوي يهذّب النفس، ويسمو بالخلق، ويقوي الإرادة، ويعين على محاربة الهوى، وأقبل على كتاب ربك؛ ففيه الهداية للتي هي أقوم، وأكثر من ذكر الله -عز وجل- ففيه الطمأنينة والسكينة، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن الشيطان هو الذي يزيِّن لك المعصية؛ فإذا استعذت بالله من الشيطان بصدق، أعاذك الله منه.
    خامساً: استحضر الثمرات الحاصلة بترك التدخين.

    سادساً: تذكّر أن مَنْ ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، وأن العِوَضَ أنواع مختلفة، وأجل ما تعوَّض به: الأنس بالله، ومحبته، وطمأنينة القلبِ بذكره.



    سابعاً: تذكّر الأجرَ المترتبَ على ترك التدخين؛ فكما أن ثوابَ الطاعةِ الشاقة أعظمُ مما لا مشقة فيه، فكذلك ثوابُ تركِ المعصية إذا شقَّ وعَظُمَ.



    ثامناً: وتذكّر أنك بترك التدخين تنقذ نفسك من ضرر محقق.

    تاسعاً: تذكّر لذة الانتصار على النفس،ومخالفة الهوى؛فإن تلك اللذةَ أعظمُ من لذة كاذبة عابرة.



    عاشراً: قارن بين لذة التدخين -إذا كان فيه من لذة- بالضرر البالغ الذي يحصل من جرَّائه،حينئذٍ يتبين لك الغبن،فكيف-إذاً-تُقْدِمُ على لَذَّةٍ وهميةٍ سريعةِ الزوال يكون بعدها هلاكك وعطبك؟1

    الحاديَ عشر: مما يعين على ترك التدخين: العزيمةُ الصادقةُ، والإرادة القوية، التي هي عنوان عظماء الرجال.




    الثانيَ عشر: الصبر؛ فالذي يريد ترك التدخين قد يجد مشقة كبرى خصوصاً في بداية الأمر؛ فالإقلاع عن التدخين ثقيل على النفس،ولكنه ليس متعذِّراً ولا مستحيلاً، والصعوبةُ في تركهِ تَكْمُنُ في ضغط العادة، ولأن كثيراً من المدخنين -وخصوصاً المُفَرِطين منهم- يشعرون بالكآبة في الأسابيع التالية لإقلاعهم عن التدخين، إلى جانب معاناة الرغبة الشديدة في التدخين؛ ذلك أن نتائجَ تركِ التدخين ربما تتضمن الخمولَ،وشدة َالتوترِ، وسرعةَ الغضبِ، والقلقَ، والنومَ المتقطعَ، وصعوبةَ التركيزِ الذهنيِّ، وأعراضاً أخرى في المعدة والأمعاء، مع انخفاض في الدم، ومعدل النبض العام.
    ومع هذا فبعض تلك النتائج قد يكون نفسياً فقط،وقد لا تظهر تلك الأعراض إذا كانت العزيمةُ صادقةً، والإرادةُ قويةً.

    ثم إن تلك المشقة لا تزال تَهُوْنُ شيئاً فشيئاً إلى أن يألف المدخن ترك التدخين.

    قال ابن القيم -رحمه الله- : " إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد مَنْ تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليُمْتَحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على ترك المشقة قليلاً استحالت لذة"اهـ-.

    فيا أيها الحبيب تجرَّع مرارةَ الصبر، وغُصَصَ الحرمان في البداية؛ لتذوق الحلاوة، وتحصل على اللذة الحقيقية في النهاية.





    والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقَتُه لكنْ عواقِبُهُ أحلى من العسل
    واعلم أن الصَّابرَ معان من الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "ومن يتصَبَّرْ يُصَبِّره الله ".
    واستحضر أن الصبرَ عن التدخين أسهلُ بكثيرٍ مما يوجبه التدخين، فإنه يورث ألماً، وعقوبةً، وهمًّا، وغمًّا، وندامةً، وذلاً، وضررًا - كما مرَّ-.

    الثالت عشر: من الأمور المعينة على ترك التدخين:الحذرُ من اليأس،فقد تحاول تركَ التدخين مرةً أو أكثر فلا تفلح، وقد تتركه فترةً ثم ترجع إليه مرةً أخرى؛ فربما قادك ذلك إلى اليأس، وربما ألقى الشيطانُ في قلبك أنْ لا سبيل إلى ترك التدخين، وأنَّ كلَّ محاولةٍ منك ستبوء بالإخفاق؛ فإياك أن يَدِبَّ هذا الشعورُ إليك، أو أن يجد منفذاً إلى قلبكَ، بل حاول مرةً بعد أخرى، ولا تيأسنَّ مهما حاولت وأخفقت، فلعلك إن أخفقت مراتٍ نجحت في آخر المطاف، بل من الناس من ينجح في أول محاولة جادة.


    الرابعَ عشرَ: البعد عن رفقة السوء، وعن كل ما يذكر بالتدخين،من فراغٍ، ورؤية مدخنين، أو شم دخان.

    الخامسَ عشَر: لا تلتف إلى هؤلاء؛ فقد تبتلى بأناس يخذِّلونك إذا رأوك همَمَتَ بترك التدخين، فربما عوَّقوك، ووضعوا العراقيلَ والصعوباتِ في طريقك، فلا تلتفت إلى هؤلاء، بل أدِرْ ظهرَك لهم، وتوكل على ربك، واستشعر روح التحدي والإصرار، وستصل إلى غايتك بإذن الله.

    السادس عشرَ: وإذا ضَعفتْ نفسك عن ترك التدخين فوراً، و لم تستطع أن تهجره مباشرة بلا رجعه -فلا أقل من أن تتدرج، وتمضي في طريقك لِتركه، فتقلل من شربه، إلى أن تتركه بالكلية، ومما يعينك على ذلك أن تدع المجاهرة في شربه؛ لأن المجاهرة تقودك إلى شربه في كل مكان.

    ومن ذلك أن تمكث في أماكن تعينك على ترك التدخين كأن تجالس الأخيار والصالحين، وأن تتردد على الوالدين، وعلى من تستحيي من التدخين أمامهم؛ فذلك يبعدك، ويسليك عن التدخين إلى أن تعتاد تركه والسلوَّ عنه.

    السابع عشر: عرض الحال على من يعين، سواءً كان طبيباً ناصحاً، أو من تتوسم فيه الخير والصلاح، والنصح، فستجد عنده ما يعينك على الخروج من مأزقك.



    وأخيراً نسأل الله أن يعينك، وأن يهديك لأرشد أمرك، وأن يحبب إليك الإيمان، ويزينه في قلبك، وأن يكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلك من الراشدين.

    وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد


    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (8)


    رَمَضَانْ شَهَر التَوْبَة

    الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله والأصحاب، أما بعد:
    فإن التوبةَ وظيفةُ العمرِ، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، وأولُ منازلِ العبودية، وأوسطها، وآخرها.
    وإنَّ حاجتَنا إلى التوبة ماسّةٌ، بل إنَّ ضرورتنا إليها مُلِحَّة، فنحن نذنب كثيراً، ونفرّط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوبَ، وينقّيها من رَيْن المعاصي والذنوب.
    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:

    التوبة هي: تركُ الذنبِ علماً بقبحه،وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود التائبُ إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركُه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها.

    أيها الصائمون الكرام:لقد فتح الله _بمنِّه وكرمه_ بابَ التوبة؛ حيث أمر بها، ووعد بقبولها مهما عظُمت الذنوب.

    قال_تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(الزمر:54).

    وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى:25) .

    وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:110) .



    وقال في شأن النصارى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73) .

    ثم قال_جلّت قدرته_محرضاً لهم على التوبة: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة:74) .

    وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحُفَر لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10) .

    .



    .
    قال الحسن البصري رحمه الله:(انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة). ا هـ.

    بل إنه_عز وجل_حذّر من القنوط من رحمته فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53) .

    قال ابن عباس_رضي الله عنهما_: (من أيّس عبادَ الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله_عز وجل_).
    .



    .
    أما فضائلُ التوبةِ وأسرارُها، وبركاتُها فمتعددةٌ،متنوعة ٌ،متشعبةٌ؛ فالتوبة سبب الفلاح، وطريق السعادة، وبالتوبة تكفّر السيئات، وإذا حسُنت بدّل الله سيئاتِ صاحِبها حسنات.

    وعبوديةُ التوبةِ من أحبِّ العبوديات إلى الله، والله_تبارك وتعالى_يفرح بتوبة التائبين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للهُ أفرحُ بتوبة العبد من رجل نـزل منـزلاً، وبه مهلكة، ومعه راحلتُه عليها طعامُه وشرابُه، فوضع رأسَهُ، فنام نومةً، ثم رفع رأسَهُ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلتُه؛ حتى اشتد عليه الحرُّ والعطشُ، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع، فنام نومةً، ثم رفع رأسه؛ فإذا راحلتُه عنده) رواه البخاري ومسلم.

    ولم يجيء هذا الفرحُ في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُ هذا الفرح لا يعبر عنه.
    .



    .
    ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثاراً عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة؛ فتوجب له المحبةَ، والرقّةَ، واللطفَ، وشكرَ اللهِ، وحمدَه، والرضا عنه، فَرُتِّب له على ذلك أنواعٌ من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يـزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضْها أو يفسدْها.
    ومن تلك الآثار: حصولُ الذلِ،والانكسار ِ،والخضوعِ لله، وهذا أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة _وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة_ فالذلُّ، والانكسارُ روحُ العبوديةِ، ولبُّها، ولأجل هذا كان الله_عز وجل_عند المنكسرةِ قلوبُهم،وكان أقربَ ما يكون من العبد وهو ساجد؛لأنه مقامُ ذلِّ وانكسار، ولعل هذا هو السِّرُ في استجابةِ دعوة المظلوم والمسافر والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعةَ المظلومِ تُحْدِثُ عنده كسرةً في قلبه،وكذلك المسافر يجد في غربته كسرةً في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سَوْرةَ النَّفْسِ السَّبُعية الحيوانية كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله.
    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:

    ومع عظم شأن التوبة وعظيم بركاتها إلا أن هناك أخطاءً يقع فيها كثير من الناس في باب التوبة؛ وذلك ناتج عن الجهل، أو التفريط، وقلة المبالاة.

    وإليكم نبذةً مختصرةً عن تلك الأخطاء على سبيل الإجمال؛ إذ المقام لا يسمح بالإطالة، وذكرِ الأدلة، والتفصيل في الأقوال.

    فمن تلك الأخطاء ما يلي:

    أولاً: تأجيل التوبة:
    فيجب على العبد_والحالة هذه_ أن يتوب من ذنبه، وأن يتوب من تأجيل التوبة.

    ثانياً: الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه:

    فهناك ذنوبٌ خفيةٌ، وهناك ذنوبٌ يجهل العبد أنها ذنوبٌ، ولا ينجي من ذلك إلا توبةٌ عامةٌ مما يعلمه من ذنوبه ومما لا يعلمه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) رواه البخاري في الأدب المفرد.

    ثالثاً: ترك التوبة مخافةَ الرجوع للذنب

    أو خوفاً من لمز الناس، أو مخافة سقوط المنـزلة، وذهاب الجاه والشهرة: وهذا خطأ يجب تلافيه؛ فعلى العبد أن يعزم على التوبة، وإذا رجع إلى الذنب فليجدد التوبة مرة أخرى وهكذا، وعليه أن يدرك أنه إذا تاب عوّضه الله خيراً مما ترك.



    رابعاً: التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة رب العالمين:

    وهذا خطأ عظيم، فكما أن الله غفور رحيم فإنه شديد العقاب،( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: من الآية147).

    خامساً: توبة الكذابين:
    الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً لمرض،أو عارض، أو مناسبة أو خوف،أو رجاء جاه، أو خوف سقوطه، أو عدم تمكُّن، فإذا أتتهم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم؛ فهذه توبة الكذابين، وليست بتوبة في الحقيقة.

    ولا يدخل في ذلك من تاب، فحدثته نفسه بالمعصية، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها، فندم وتاب؛ فهذه توبة صادقة، كما لا يدخل في ذلك الخطَرَاتُ ما لم تكن فعلاً متحققاً.





    سادساً: الاغترار بإمهال الله للمسيئين:
    وهذا من الجهل، ومما يصد عن التوبة، قال صلى الله عليه وسلم:( إذا رأيت الله_عز وجل_يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج)ثم تلا قوله_عز وجل:(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:44-45) . أخرجه أحمد ورجاله ثقات.

    قال ابن الجوزي رحمه الله:( فكـلُ ظالمٍ معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كلُّ مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله_تعالى_: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)(النساء: من الآية123). وربما رأى العاصي سلامة بدنه، فظن أنْ لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة).

    وقال:(الواجبُ على العاقل أن يحذرَ مغبةَ المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبةُ، وربما جاءت مستعجلة).

    وقال: (قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلمُ، والعاقلُ من إذا فعل خطيئةً بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يُمهل).


    سابعاً: من الأخطاء في التوبة، اليأس من رحمة الله، واليأس من التوبة:

    فبعض الناس إذا تمادى في الذنوب، أو تاب مرة أو أكثر ثم رجع إلى الذنب مرة أخرى_ أيس من رحمة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

    اللهم إنا نسألك التوبة النصوح، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ




    خواطر رمضانية
    محمد إبراهيم الحمد


    (9)




    رَمَضَانْ شَهَر الصِلَة


    الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:


    فإن رمضان شهر البر والصلة، وشهر التعاطف والمرحمة، فالقلوب تلين لذكر الله، والنفوس تستجيب لداعي الله، فلا ترى من جَرَّاء ذلك إلا أعمالاً زاكيات، وقرباً من ربّ الأرض والسماوات.

    ولعل الحديث ههنا يدور حول صلة الرحم، وفضلها، والأمور المعينة عليها، لعل نفوسنا تنبعث إلى الصلة، وإلى مزيد منها، وتُقْصِر عن القطيعة، وتنأى عن أسبابها.
    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:

    لقد تظاهرت نصوص الشرع في عظم شأن الصلة، وفضلها، والتحذير من قطيعتها، قال _تبارك وتعالى_:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)(النساء: من الآية1) .

    وقال_عز وجل_:(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22-23) .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) رواه البخاري ومسلم، وقال سفيان في روايته: (يعني: قاطع رحم).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى: قال فذلكِ لكِ)رواه البخاري ومسلم.

    .


    .
    وهكذا يتبين لنا عظمُ شأن الصلة، وأنها شعار الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنها سبب في بسط الرزق وطول العمر، وأنها تجلب صلةَ الله للواصل.

    ثم إنها من أعظم أسباب دخول الجنة،وهي من أسباب تيسير الحساب،وتكفير الذنوب، وتعمير الديار، ودفعِ ميتة السوء.

    وهي مما اتفقت عليه الشرائعُ السماوية، وأقرته الفطرُ السوية، كما أنها دليل على كرم النفس، وسعة الأفق، وطيب المنبت، وحسن الوفاء.

    وصلة الرحم مدعاةٌ لرفعةِ الواصل، وسببٌ للذكر الجميل، وموجبةٌ لشيوع المحبة، وعزة المتواصلين.
    .


    .
    أيها الصائمون:

    صلةُ الأرحامِ ضدُّ القطيعة، وهي كنايةٌ عن الإحسان للأقربين من ذوي النسب، والأصهارِ.

    وتكون بزيارتهم،وتَفَق ُّدِ أحوالهم،والسؤال ِ عنهم،والإهداءِ إليهم، والتصدُّق على فقيرهم، والتلطفِ مع وجيههم وغنيهم، وتوقيرِ كبيرهم، ورحمةِ صغيرهم.

    وتكون باستضافتهم، وحسن استقبالهم، وإعزازهم،ومشارك تهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم.
    وتكون الصلة بالدعاء للأرحام، وسلامة الصدر لهم، والحرص على نصحهم، ودعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإصلاح ذات البين إذا فسدت.

    وهذه الصلة تستمر إذا كانت الرحم صالحةً مستقيمةً أو مستورةً.
    أما إذا كانت الرحمُ كافرةً أو فاسقةً فتكون بالعِظَةِ والتذكير، وبذلِ الجهد في ذلك.
    فإذا أعيته الحيلة في هدايتهم كأن يرى منهم عناداً، أو استكباراً، أو أن يخاف على نفسه أن يتردى معهم، ويهوي في حضيضهم _فَلْينأَ عنهم، وليهجرْهُمُ الهجرَ الجميل الذي لا أذى فيه بوجه من الوجوه، وليكثرْ من الدعاء لهم بالهداية.

    وإن صادف منهم غرة، أو سنحت له لدعوتهم فرصةٌ فليُقْدِمْ، وليُعِدْ الكرَّة بعد الكرة.
    .



    .
    أيها الصائمون:

    ومع عظم شأن الصلة، إلا أن كثيراً من الناس مضيعون لهذا الحق، مفرِّطون فيه؛ فمن الناس من لا يعرف قرابَته بصِلة لا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالخلق، تمضي الشهور، وربما الأعوام وهو ما قام بزيارتهم، ولا تودد إليهم بصلة أو هدية، ولا دفع عنهم حاجة أو ضرورة أو أذية، بل ربما أساء إليهم، وأغلظ في القول لهم.
    ومن الناس من لا يشارك أقاربَه في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يتصدَّق على فقرائهم، بل تجده يقدم عليهم الأباعدَ في الصِّلات والصدقات.

    ومِنَ الناس مَنْ يصل أقارِبَهُ إن وصلوه، ويقطعهم إن قطعوه، وهذا _في الحقيقة_ ليس بواصل، وإنما هو مكافئٌ للمعروف بمثله، وهو حاصل للقريب وغيره، والواصلُ _حقيقة_ هو الذي يتقي الله في أقاربه، فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه.
    ومن مظاهر القطيعة: أن تجد بعض الناس _ممن آتاه الله علماً ودعوة_ يحرص على دعوة الأبعدين، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقربين، وهذا لا ينبغي؛ فالأقربون أولى بالمعروف، قال الله _عز وجل_:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214).



    .


    .
    وإذا أمعنا النظر في أسباب قطيعة الأرحام وجدنا أنها تحدث لأسباب عديدة تحمل على القطيعة.

    فمن تلك الأسباب: الجهلُ بعواقب القطيعة، والجهل بفضائل الصلة.

    ومنها ضعفُ التقوى،والكبرُ، فبعضُ الناس إذا نال منصباً رفيعاً،أو حاز مكانة عالية، أو كان تاجراً،أو مشهوراً تكبر على أقاربه، وأَنِفَ من زيارتهم، والتودد إليهم.

    ومن أسباب القطيعة:الانقطاعُ الطويلُ الذي يقود إلى الوحشة، واعتياد القطيعة.

    ومنها: العتابُ الشديدُ، فبعضُ الناس إذا زاره أحدٌ من أقاربه؛ أمطر عليه وابلاً من التقريع والعتاب على تقصيره في حقه، وإبطائه في المجيء إليه؛ ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص، وتُوجَد الهيبةُ من المجيء إليه.

    ومن أسباب القطيعة: التكلفُ الزائدُ، فهناك مِنَ الناس مَنْ إذا زاره أقاربه تكلَّف لهم أكثر من اللازم، وخسر الأموالَ الطائلةَ، وقد يكون _مع ذلك_ قليلَ ذاتِ اليد.

    ومن هنا تجد أن أقاربه يُقْصِرُون عن المجيء إليه، خوفاً من إيقاعه في الحرج.
    وفي مقابل ذلك تجدُ مَنْ إذا زاره أقاربهُ لم يهتمَّ بهم، ولم يصغ لحديثهم، وتراه لا يفرح بمقدمهم، ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرود؛ مما يقلل رغبتهم في زيارته.

    ومن الأسبابِ الحاملةِ على القطيعةِ: الشحُّ والبخلُ، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً بَعُد من أقاربه، حتى لا يرهقوه بطلباتهم المتنوعة.

    و من أعظم أسباب القطيعة: تأخيرُ قِسْمَةِ الميراث؛ فقد يكون بين الأقارب ميراثٌ لم يقسم، إما تكاسلاً منهم، أو قلةَ وفاقٍ فيما بينهم، وكلما تأخر قسم الميراث شاعت العداوة، وكثرت المشكلات، وزاد سوءُ الظن، وحلَّت القطيعة.

    ومن أسباب القطيعة: الشركة بين الأقارب؛فكثيراً ما يشترك الإخوة أو غيرهم من الأقارب في مشروع أو شركة ما، دون أن يتفقوا على أسس ثابتة، ودون أن تقوم الشركة على الوضوح والصراحة،بل تقوم على المجاملة، والحياء، وإحسان الظن.

    فإذا زاد الإنتاج، واتَّسعت دائرة العمل؛ دبّ الخلافُ، وساد البغي، ونـزغ الشيطان، وحدث سوءُ الظن، خصوصاً إذا كانوا من قليلي التقوى والإيثار، أو كان بعضهم مستبداً برأيه، أو كان أحد الأطراف أكثرَ جدية من صاحبه.
    ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة، وربما وصلت بهم الحال إلى الخصومات في المحاكم؛ فيصبحون سُبَّةً لغيرهم: (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(صّ: من الآية24).

    ومن أسباب القطيعة: الاشتغالُ بالدنيا، والطلاقُ بين الأقارب إذا لم يكن بإحسان، وبعدُ المسافة، والتكاسلُ عن الزيارة.


    وقد يكون التقاربُ في المساكن بين الأقارب مسبباً للقطيعة بسبب ما يكون من التزاحم على الحقوق، وبسبب ما يحدث بين الأولاد من مشكلات قد تنتقل إلى الوالدين.

    ومن الأسبابِ الحاملةِ على القطيعة: قلةُ التحمُّل، وقلةُ الصبرِ على الأقارب، ونسيانُهم في الولائم والمناسبات، فقد يُفَسَّر هذا النسيانُ بأنه تجاهلٌ واحتقار، فيقود ذلك الظن إلى الصرم والهجر.
    .



    .
    أيها الصائمون:

    فقد مرّ بنا _سالفاً_ حديث عن صلة الرحم وفضلها، وعن قطيعة الرحم، وصورها، والأسباب الحاملة عليها.
    والحديث ههنا إكمال لما مضى، حيث سيدور حول
    الأسباب المعينة على صلة الرحم؛

    فهناك آداب يجدر بنا سلوكها مع الأقارب، وهناك أمور تعين على الصلة.

    فمن ذلك: التفكرُ في الآثار المترتبة على الصلة؛ فإن معرفَة ثمراتِ الأشياء، واستحضارَ حُسْنِ عواقبها من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتَمثُّلها، والسعي إليها.

    وكذلك النظرُ في عواقب القطيعة، وتأمُلُ ما تجلبه من همٍّ، وغمٍّ، وحسرةٍ، وندامة، ونحوِ ذلك، فهذا مما يعين على اجتنابها، والبعد عنها.

    ومما يعين على الصلة: الاستعانةُ بالله، وسؤالُه التوفيقَ، والإعانةَ على صلة الأرحام.

    ومما يحسن سلوكه مع الأقارب: مقابلةُ إساءتهم بالإحسان، فهذا مما يبقي على الود، ويحفظ ما بين الأقارب من العهد، ويهون على الإنسان ما يلقاه من شراسة الأقارب؛ وقد أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعونني، وأُحْسِنُ إليهم ويسيئون إليّ، وأَحْلُم عنهم ويجهلون عليّ.

    قال: (لئن كنت كما قلت؛ فكأنما تسفهم الملّ) رواه مسلم.

    قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: (وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكلَ الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثمُ العظيمُ في قطيعتهِ، وإدخالِهم الأذى عليه.


    وقيل معناه: إنك بالإحسان إليهم تخزيهم، وتحقِّرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك، وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف الملّ.

    وقيل:ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم؛ والله أعلم) أ_هـ.

    فهذا الحديث عزاءُ لكثير من الناس ممن ابتلوا بأقارب شرسين، يقابلون الإحسانَ بالإساءة، وفيه تشجيعٌ للمحسنين على أن يستمروا على طريقتهم المثلى؛ فإن الله معهم، وهو مؤيدهم، وناصرهم، ومثيبهم.
    ومن جميل ما قيل في هذا المعنى قولُ المقنّعِ الكنديِّ يصف حالَه مع قرابته:
    وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا

    إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم *** قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا
    وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ *** وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا

    ولا أَحْمِل الحقدَ القديمَ عليهمُ *** وليس رئيسُ القومِ مَنْ يَحْمِلُ الحقدا
    وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجداً *** وإن قلّ مالي لم أكَلّفْهمُ رِفْدا
    ومما يحسن فعله مع الأقارب:أن يقبل الإنسانُ أعذارَهم إذا أخطأوا واعتذروا.

    ومن جميل ما يذكر في ذلك ما جرى بين يوسف _عليه السلام_ وإخوته، فلقد فعلوا به ما فعلوا، وعندما اعتذروا قَبِلَ عُذْرَهُم، وصَفَحَ عنهم الصفحَ الجميلَ، فلم يقرِّعْهم، ولم يوبِّخْهم، بل دعا لهم، وسأل الله المغفرة لهم.
    بل يحسن بالإنسان أن يصفح عن أقاربه، وينسى معايبهم ولو لم يعتذروا، فهذا دليل سمو النفس، وعلو الهمة.

    ومن جميل ما يذكر في ذلك قول القائل:

    وحَسْبُكَ من ذلٍّ وسوءِ صنيعةٍ *** مناواةُ ذي القربى وإن قيل: قاطعُ

    ولكنْ أواسيه وأنسى عيوبَه *** لِتُرْجِعَهُ يوماً إليَّ الرواجعُ
    ولا يستوي في الحكِم عبدانِ: *** واصلٌ وعبدٌ لأرحامِ القرابةِ قاطعُ



    ومما يحبب الإنسان لقرابته، ويدنيه منهم تواضُعُه ولينُ جانبه
    مَنْ كان يَحْلُم أن يسودَ عشيرةً *** فعليه بالتقوى ولينِ الجانب

    ويغضَّ طرفاً عن مساوي من أسـا *** منهم ويحلم عند جهل الصاحب
    ومما يجمل فِعْلُه مع الأقارب: بذلُ المستطاعِ لهم من الخدمة بالنفس، أو الجاه، أو المال، وأن يدعَ المنةَ عليهم، ومطالبتَهم بالمثل،فالواصل ليس بالمكافئ،والعاق لُ الكريمُ يوطِّن نفسَه على الرضا بالقليل من الأقارب؛ فلا يستوفي حقه كاملاً، بل يقنع بالعفو وباليسير، حتى يستميلَ بذلك قلوب أقاربه، ويُبْقي على مودتهم.
    إذا أنت لم تستبق ودّ صحابةٍ *** على دَخَنِ أكثرتَ بثَّ المعايبِ

    ثم إن الأقارب يختلفون في أحوالهم،وطباعهم ، ومنازلهم؛ فمنهم من يرضى بالقليل؛ فتكفيه الزيارةُ السنوية، والمكالمةُ الهاتفية، ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه، والصلة بالقول، ومنهم من يعفو عن حقه كاملاً، ويلتمس المعاذير لأرحامه، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة، وبالملاحظة الدائمة؛ فمعاملتهم بهذا المقتضى تعين على الصلة، واستبقاء المودة.

    ومما يغري بالصلة تركُ التكلف مع الأقارب،ورفعُ الحرج عنهم،وتجنبُ الشدة في عتابهم، فإذا علموا بذلك عن شخص قريب لهم انبعثوا إلى زيارته، وصلته.
    .


    .
    ومن أجملِ الآدابِ التي ينبغي سلوكُها مع الأقارب تَحَمُّلُ عتابِهم، وحَمْلُه على أحسن المحامل، فهذا أدب الفضلاء، ودأب النبلاء ممن تمت مروءتهم، وكملت أخلاقهم، وتناهى سؤددهم، ممن وسِعوا الناس بحلمهم، وحسن تربيتهم، وسعة أفقهم؛ فإذا عاتبهم أحدٌ من الأقارب، وأغلظ عليهم؛ لتقصيرهم في حقه _لم يثرّبوا عليه، ولم يُجاروه في عتابه، بل يتلطّفون به، ويحملون عتابه على المحمل الحسن؛ فيرون أن هذا المعاتبَ محبٌ لهم،حريصٌ على مجيئهم،ويشعرونه بذلك، ويشكرونه، ويعتذرون إليه، حتى تَخِفَّ حِدَّتُه، وتهدأ ثورته؛ فبعضُ الناس يُقَدِّر ويحب، ولكنه لا يستطيعُ التعبيرَ عن ذلك إلا بكثرة اللوم والعتاب.
    والكرامُ يحسنون التعامل مع هؤلاء،ولسانُ حالهم يقول: لو أخطأت في حُسْنِ أسلوبك ما أخطأتَ في حسن نيتك.

    ومما يَحسن سلوكُه مع الأقارب: أن يعتدل الإنسانُ في مزاحه مع أقاربه، وأن يتجنَّب الخصامَ، وكثرةَ الملاحاةِ والجدالَ العقيمَ معهم؛ ذلك أن مجالسَ الأقاربِ كثيرةٌ، واجتماعاتِهم عديدةٌ متكررةٌ، واللائق بالعاقل أن يداريَهم، وأن يبتعدَ عن كلِّ ما مِنْ شأنهِ أن يكدرَ صفو الودادِ معهم.

    وإذا اشَعُرَ بأن واحداً من الأقارب قد حَمَل في نفسه مُوْجِدَةً أو موقفاً _فليبادر إلى الهدية؛ فالهدية تجلب المودة، وتكذِّب سوء الظن، وتستل سخائمَ القلوب.
    ومما يعين على الصلة: أن يستحضر الإنسانُ أن أقاربَه لُحْمَةٌ مِنْه؛ فلا بد له منهم، ولا فِكَاكَ لـه عنهم، فعزُّهم عزٌّ له، وذُلُّهم ذلٌّ له، والرابح في معاداة أقاربه خاسر، والمنتصر مهزوم.



    ومما يحسن بالإنسان أن يحرص عليه كلَّ الحرص تَذَكُّرُ قراباته في المناسبات والولائم.
    ومن الطرق المجدية: أن يسجِّل أسماء أقارِبِه، وأرقامَ هواتِفهم، ثم يحفظها عنده؛ حتى يستحضرهم جميعاً، ويتصلَ بهم إما مباشرة،أو عبر الهاتف، أو غير ذلك.

    ثم إذا نسي أحداً منهم فليذهبْ إليه، وليعتذرْ منه، ولْيَسْعَ في تطييب قلبه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

    ومما يحسن بالأقارب:أن يَسْعوا إلى إصلاح ذات البين،إذا فسدت بين بعضهم، وأن تكونَ لهم اجتماعاتٌ دوريةٌ سنويةً كانت أو شهريةً، أو نحو ذلك، وأن يكون هناك دليل خاص،يحتوي على أرقام هواتف القرابة، يقوم بعض الأفراد بإعداده، وطبعه وتوزيعه؛ فهذا الصنيع يعين على الصلة، ويذكر المرء بأقاربه، إذا أراد السلام عليهم، أو دعوتهم.

    ومما يحسن فعلُه في هذا الصدد، أن يكون للقرابة صندوقٌ تُجْمَع فيه تبرعاتُ الأقارب واشتراكاتهم، ويشْرِفُ عليه بعض الأفراد، فإذا ما احتاج أحدٌ من الأسرة مالاً لزواج، أو نازلة أو غير ذلك _قاموا بدراسة حاله، ورفدوه بما يستحق؛ فهذا مما يولد المحبة بين الأقارب.

    ومما يحسن بالأقارب إذا كان بينهم ميراثٌ أن يعجِّلوا قِسْمَتَهُ؛ حتى يأخذ كلُّ واحدٍ نصيبَه، لئلا تكثر المطالباتُ والخصومات، ولأجل أن تكون العلاقةُ بين الأقارب خالصةً صافيةً من المكدارت.

    وإذا كان بين بعض الأقارب شَرِكة في أمر ما؛ فليحرصوا كلَّ الحرص على الوئام التام، والاتفاق في كل الأمور، وأن تسودَ بينهم روحُ المودةِ، والإيثارِ، والشورى، والرحمةِ، والصدقِ، وأن يحبَّ كلُّ واحدٍ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كلُّ طرفٍ ما له وما عليه.
    كما يحسن بهم أن يناقشوا المشكلاتِ بمنتهى الوضوح، والصراحة بعيداً عن المجاملة والمراوغة،والمو اربة، وأن يحرصوا على الإخلاص في العمل، وأن يتغاضى كلٌّ منهم عن صاحبه.

    ويجمل بهم أن يكتبوا ما يتفقون عليه، فإذا كانت هذه حَالَهم أيسَ الشيطان منهم، وسادت بينهم المودة، ونـزلت عليهم الرحمة، وحلَّت عليهم بركات الشركة.
    وأخيراً: يراعى في صلة الأرحام أن تكون الصلةُ قربةً لله، خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون تعاوناً على البر والتقوى، لا يقصد بها حمية الجاهلية.

    اللهم اجعلنا من الواصلين، وأعذنا من القطيعة يا رب العالمين.
    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ


    (10)



    رَمَضَانْ شَهَر السَخَاءِ والجُوُد


    الحمد لله الكريم الوهاب، والصلاة والسلام على من أنـزل إليه خير كتاب، أما بعد:




    فإن رمضانَ شهرُ الجود، وشهر السخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها،( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: من الآية9).

    ولقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
    هكذا وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب: من الآية21).
    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:
    للصدقة والسخاء فضائلُ، لا تُحصى كثرة؛ فالصدقة تطفئ غضبَ الرب، وتدفعُ ميتةَ السوء، وتدل على الإيمان بالله، والثقة به، وإحسان الظن به _عز وجل_.

    والصدقة دليل على الرحمة، والشعور بالآخرين، كما أنها سبب لتيسير الأمور، وتفريج الكربات، وإعانة الرب _جل وعلا_ فالله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه.
    والصدقة مدعاة لزيادة المال، ونـزول الخيرات، وحلول البركات، وهي سبب للاستظلال في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، كما أن لها تأثيراً في دفع البلايا.

    قال ابن القيم رحمه الله: (وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر، أو ظالم، بل من كافر، وهذا أمر معلوم عند الناس، وأهل الأرض مُقِرُّون بذلك)ا_هـ.

    والصدقة تشرح الصدر، وتفرح النفس.

    قال ابن القيم رحمه الله: (المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لهـا صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره.

    ولو لم يكن في الصدقة إلا هـذه الفائدة لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها، والمبادرة إليها).

    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:

    ومن فضائل الصدقة: أنها سبب للخلف من الله _ عز وجل_قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من يوم يصبح فيه العباد، إلا وملكان ينـزلان فيقول أحدهما:اللهم أعط منفقاً خلفاً،ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

    ثم إن للسخاء أثراً في صيانة الأعراض، ونباهة الذكر، وائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء.
    وللسخاء أثرٌ في القضاء على كثير من الأخلاق المرذولة، كالحسد من الفقراء للأغنياء، وكالكبر من الأغنياء على الفقراء.

    وللسخاء أثرٌ في ستر العيوب، قال الشافعي رحمه الله:



    وإنْ كثرت عيوبُكَ في البرايا *** وَسرَّك أن يكون لها غطاءُ

    تَسَتَّرْ بالسخـاء فكلُّ عيبٍ *** يُغَطِّيه كما قيل السخـاءُ
    .



    .

    ثم إن السخيَّ قريبٌ من الله، ومن خلق الله، ومن الجنةِ، والبخيلُ بعكس ذلك.

    والسخاءُ مُتَّصِل بفضائلَ أخرى؛ فالسخيُّ في أغلب أحواله يأخـذ بالعفو، ويتحلّى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، ويؤدي حقوقَ الناسِ من تلقاء نفسه.
    ولتجدنّ السخيَّ بحق متواضعاً، لا يطيش به كبر، ولا تستخفه خيلاء، ولتجدنَّه أقربَ الناس إلى الشجاعة وعزة النفس؛ وإنما يخسر الإنسانُ الشجاعةَ والعزةَ بشدَّة حرصه على متاع الحياة الدنيا.

    ولقد جَرَتْ سُنةُ اللهِ بأن السخيَّ بحقٍّ يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبتُه إلا الرعايةَ من الله والكرامة؛فلما كان رحيماً بالفقراء،والمسا كين،والمحتاجين، حريصاً على إسعادهم، وإدخال السرور والبهجة على نفوسهم_ كان جزاؤه من جنس عمله.

    هذا، وإن السخاء ليس مقتصراً على بذل المال فحسب، بل إن مفهومَه أوسعُ، وصورَهُ أعمُّ وأشمل.
    .



    .
    فمن صور السخاء: أن يكونَ للإنسان دَيْنٌ على آخر؛ فيطرحَه عنه، و يُخْلِيَ ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه، دون عناء ولا تعب.

    كان قيسُ بنُ سعدِ بنِ عبادة _رضي الله عنهما- من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مالٌ فهو منه في حِل؛ فما أمسى حتى كُسِرتْ عتبةُ بابِه من كثرة من عاده.

    ويدخل في قبيل الأسخياء مَنْ يستحق على عمل أجراً؛ فيترك الأجر من تلقاء نفسه.

    ويدخل في قبيلهم مَنْ يسعى في قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهـم، فعـن الحسن رحمه الله قال: (لأنْ أقضيَ حاجةَ أخٍ لي أحبُّ إلي من أن أعتكفَ سنة).

    وقيل لابن المنكدر رحمه الله:(أي الأعمال أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، وقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان).

    وقال الشافعي رحمه الله:

    وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رجلٌ *** تُقضى على يدهِ للناسِ حاجاتُ


    .



    .
    ويدخل في السخاء سخاوة الإنسان بجاهه؛ بحيث يبذله في سبيل الخير، والشفاعات الحسنة: من إحقاق حق، ونُصْرِة مظلوم، وإعانة ضعيف، ومَشْيٍ مع الرجل إلى ذي سلطان، قال_تعالى_: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)(النساء: من الآية85).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا)رواه البخاري ومسلم.

    ومن السخاءِ سخاءُ الإنسان برياسته؛ فيحمله سخاؤه على امتهانها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.

    ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ براحته، ووقته، ونصحه؛ في سبيل نفع الناس.

    ومن أعلى مراتبِ السخاء سخاءُ الإنسان بالعلم؛ فذلك أشرف من السخاء بالمال.

    ومن السخاءِ سخاءُ الإنسانِ بِعرِضه؛ بحيث يعفو ويصفح عمن ناله بسوء.. مر الشعبيُّ رحمه الله بقوم يذكرونه بسوء، فتمثَّل بقول كُثَيِّر عزةَ:

    هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ *** لِعَزَّةَ من أعراضنا ما استحلتِ

    أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً *** لدينا ولا مقليةً إن تقلَّتِ
    .



    .
    وفي هذا السخاءِ من سلامة الصدر،وراحة القلب،والتخلُّص من معاداة الخلق ما فيه.

    ومن السخاءِ السخاءُ بالصبر، والاحتمال، والإغضاء، وهي مرتبةٌ شريفةٌ لا يقدر عليها إلا النفوسُ الكبار.

    ومن السخاءِ السخاءُ بالخلق، والبشر، والتبسم، والبشاشة، والبسطة، ومقابلة الناس بالطلاقة؛ فذلك فوق السخاء بالصبر، والاحتمال، والعفو، وهذا هو الذي بلغ بصاحبه درجةَ الصائم القائم، وهو أثقلُ ما يوضع في الميزان، وفيه من أنواع المسارّ والمنافع والمصالح ما فيه.

    يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:

    وإني لأكسو الخلَّ حُلَّةَ سُندسٍ *** إذا ما كساني من ثياب مداده

    ويدخل في السخاء حَضُّ الناس على الخير، ودِلالتهم على وجوهه، وشُكْرُ الأسخياءِ، والدعاءُ لهم.

    ومن صور السخاء الخفية المحمودة سخاء النفس بترفُّعها عن الحسد، وحبِّ الاستئثار بخصال الحمد، وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيفتح لهم المجالات، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك؛ فيفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم؛ فهذه من الصور الخفية للسخاء، وقلَّ من يتفطَّن لها، ويأخذ نفسه بها.
    ومن جميل السخاءِ سخاءُ المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه.
    وأروع ما في السخاء، سخاء المرء بنفسه، وأروع ما في ذلك ما كان في سبيل الله _عز وجل_.
    .



    .
    أيها الصائمون الكرام:
    يتفاضل الناس بالسخاء، على قدر هممهم، وشرف نفوسهم.

    فيتفاضلون من جهة الإنفاق؛ فالذي ينفق في السر أكمل من الذي لا ينفق إلا في العلانية.
    ويتفاضلون من جهة استصغارِ ما يُنْفَق واستعظامِه؛ فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق، هو أسخى ممن ينفق ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولا سيما إذا كان في معرض الامتنان.
    ويتفاضل الناس في السخاء من جهة السرعة إلى البذل، والتباطؤ فيه؛ فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد شعوره بحاجتهم، يَفْضُل مَنْ لا يبذل إلا بعد أن يسألوه.

    ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة _عرفه أو لم يعرفه_ يكون أسخى ممن يَخُصُّ بالنوال من يعرفهم ويعرفونه.

    ومن يعطي عن ارتياحٍ، وتلذُّذٍ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن وفي نفسه حرجٌ.

    ومن علامات الرسوخ في السخاء ملاقاةُ السائلين بأدب وحفاوة؛ حتى يحفظ عليهم عزتهم.

    وأبلغ ما يدل على أصالة الرجل، ورسوخ قدمه في فضيلة السخاء _أن يرقَّ عطفُه، حتى يبسط إحسانه إلى ذي الحاجة، وإن كان من أعدائه؛ فذلك من كِبَر النفس، وضروب العزة، والترفع عن العداوات.

    ومن علامات الرسوخ في السخاء أن يتألمَ المرءُ، وأن يتأسف أشد الأسف إذا سئل شيئاً وهو غيرُ واجدٍ له، قال الشافعي رحمه الله:

    إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني *** ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات



    ومن الأسخياء من تَسْمُو به الحال، فيرى أن الفضل والمنَّة إنما هي لمن جاء يستجديه ويسأله؛ حيث أحسن الظنَّ به، وتكرَّم عليه؛ فهذا من غرائب السخاء.

    ينسب لابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه قال:

    إذا طارِقَاتُ الهمِّ ضَاجعت الفتى *** وأعْمل فكرَ الليلِ والليلُ عاكرُ

    وباكرني في حاجة لم يجدْ بها *** سواي ولا مِنْ نكبة الدهرِ ناصرُ
    فَرَجتُ بمالي همَّهُ من مقامه *** وزايله همٌّ طروقٌ مسامرُ
    وكان له فضل عليَّ بظنه *** بي الخير إني للذي ظنَّ شاكرُ
    وأرفع درجات السخاء أن يكون الإنسان في حاجة ملحَّة إلى ما عنده؛ فيدع حاجته، ويصرف ما عنده في وجوه الخير؛ وذلك ما يسمى بالإيثار.



    اللهم قنا شح أنفسنا، واجعلنا من المفلحين، وصلِّ اللهم وسلم على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد


    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ

    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ


    (11)


    رَمَضَانْ شَهَر القِوَة



    الحمد لله القوي العزيز الجبار، والصلاة والسلام على النبي الكريم المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار الكرام الأطهار، ومن اتبعهم واقتفى أثرهم ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:

    فإن الإسلامَ دينُ القوة؛

    فالمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف،

    والله-عز وجل-أمرنا بإعداد القوة،

    وجاء الثناء في القرآن الكريم على القوي الأمين.


    وإن من أسرار الصيام، وآثار شهره الكريم أنه يبعث القوة في نفوس الصائمين،

    وهذا ما سيتبين في ثنايا هذا الحديث إن شاء الله.
    .


    .


    أيها الصائمون الكرام:
    هذه الحياةُ ميدانٌ لا يفوز فيها إلا الأقوياءُ، ونحن في عصر يكاد يكون شعاره:


    "إن لم تكن آكلاً فأنت مأكولٌ، وكن قوياً تُحترم".
    ثم إن القوةَ ضَربان: قوةٌ ماديةٌ، وقوة ٌمعنويةٌ،

    ومن مبادئ الإسلام أن القوة المادية قد تنتصر، ولكن انتصارها لا يكون طويلاً، ولن يكون مفيداً.



    ولقد قص القرآن الكريم علينا فيما قص:
    أن أمماً كانت قويةً في مظاهر الحياةِ الماديةِ؛ فعاثت في الأرض فساداً، وحاربت أنبياء الله ورسله وأولياءه؛ فكانت عاقبة أمرها خسراً.
    وما خبرُ عادٍ وثمودَ وغيرهما من الأمم بغريب على من يقرأ القرآن، (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ)
    تلك هي نهايةُ الأمم التي أخذت من القوة المادية بأعلى نصيب،

    ولكنها خِلْوٌ من القوة الروحية والمعنوية.



    وأما القوةُ المعنويةُ وحدها دون سند من القوة المادية -فيقرر الإسلام:

    أنه لا سبيلَ لها إلى النصر، ولا شأنَ لها في توجيهِ الحياة؛

    فسنُنُ اللهِ ماضيةٌ، لا تحابي أحداً كائناً من كان.

    لا خيرَ في حقٍّ إذا لم تَحْمِه *** حِلقُ الحديدِ وألسنُ النيرانِِ

    وقد رأينا أمماً وشعوباً عاشت في التاريخ هضيمةَ الحقِّ، كسيرةَ الجناح، تُسام في ديارها الخسفَ والهوانَ؛ لأنها لم تَسْلُكْ سبلَ القوة؛ فانهزمت أمام الأقوياء.
    .



    .
    والسبيلُ الصحيحُ إلى حياة كريمةٍ سعيدةٍ أن تتضافرَ المادةُ مع الروح،

    على تقويم الإنسان، وبناء معيشته،
    وأن تُمْسِك الأمَّةُ بجناحين من قوةِ المادة، وقوةِ الروح،

    لا يطغى أحدهما على الآخر.
    ومما أدبنا القرآن به أن أمرنا أن نقول:

    (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

    وكما أوجب علينا القرآن أن نُصَحِّحَ العقيدة، ونهذِّب النفوس، ونسموَ بالروح -أمرنا بأن نُعِدّ القوة إلى أقصى ما نستطيع (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).

    وكما أمرنا بأن نقيمَ الصلاة، ونؤتيَ الزكاة-وهما من أبرزِ دعائم القوةِ الروحيةِ المعنوية-أمرنا أن نضربَ في الأرض،ونمشي في مناكبها،وألا ننسى نصيبنا من الدنيا.

    ومما يقرره الإسلام:

    أن القوةَ المعنوية مع قليلٍ من القوةِ المادية تغلب القوةَ الماديةَ إذا هي فقدت الوازعَ النفسيَّ، والباعثَ المعنوي، قال الله-عز وجل-:

    (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).


    .


    .
    وفي معركة بدر أروعُ مثالٍ شاهدٍ على ذلك؛فالمسلون الثلاثُمائة الذين انتصروا في بدر كانوا عرباً ككفار قريش الذين بلغ عددُهم في بدر ألفاً، وأولئك أقرباء هؤلاء، ومن بلد واحد، وميزاتٍ واحدة، والسلاحُ الذي في يد الألف أكثرُ وأضر.

    ولكن المسلمين كانوا يملكون من قوة العقيدة، وقوةِ الخُلُق، وقوةِ الروح ما لا يملكه أولئك الكفرة؛ فانهزم الكفرةُ، هزيمةً سجلها القرآن كمثلٍ رائع يدل على ما تستطيع القوة المعنوية أن تحرزه من نصر على القوة المادية؛ إذا هي أخذت من قوة السلاح بالمستطاع، ولو كان أدنى نصيب؛ لأنها بذلك تستحق النصر والمدد الإلهي.

    وكما ضربَ القرآنُ المثلَ بالأمة التي تجمع بين القوتين؛ فكذلك ضرب مثلاً للفرد الذي يجمع بين القوتين؛ فَيُفْلِحُ وينجح بموسى-عليه السلام-حين سقى للفتاتين الماء بقوة عضل وجسم، ومشى معهما إلى أبيهما، لا يرتفع طرفُه إليهما عن حياء وتكرم، وخلق نبيل (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ).

    وضرب القرآن المثل بالأمة، التي تجمع بين القوتين، فتسعد وتنتصر بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-

    قال-تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)،

    وهذا عنوان القوة المادية (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)

    وهذا عنوان القوة المعنوية، (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)،

    وهذا ثمرةُ الجمعِ بين القوتين، وأبرزُ عناصر السعادة للأمة التي تجمع بينهما.
    .


    .
    والصيامُ الذي فرضه الله على المسلمين؛ يجمع بين القوتين جمعاً رائعاً متلائماً، يؤتي أحسنَ الثمار؛

    فهو من الناحية الصحية قوةٌ للجسم، يدفع عنه كثيراً من الأمراض، ويشفيه من كثيرٍ من العلل.

    وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم قوىً معنويةً متنوعةً، لها أكبرُ الأثرِ في سعادة الأفراد والجماعات، فيعطيه: قوةَ الصبرِ، وقوةَ النظام، وقوةَ الطاعة، وقوةَ التحملِ، وقوةَ الإيمانِ.
    أترون أمةً من الأمم تتحلى بهذه القوى المعنوية، ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟!

    أترون جيشاً يتحلى أفراده بهذه الأخلاق القوية يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟!

    أترون مجتمعاً تسود فيه هذه الأخلاق، يتطرق الفساد إلى قواعده وأُسُسِه؟!

    أترون المسلمين يومَ بدرٍ وقد كانت في السابع عشر من رمضان أترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر لولا أن الله قيَّض لهم هذا الصيام الذي بث فيهم القوة الروحية الكاملة، فجعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحراراً؟!

    أترون معاركَنا التي انتصرنا فيها في اليرموك، والقادسية، وجلولاءَ، وحطينَ وغيرها، هل كانت تتم بهذه الروعةِ المُعجزةِ، التي لا تـزال تذهل كبار الباحثين، في أسرارها لولا أن أهلَها كانوا يتخلَّقون بخلق الصائمين من عفة،وسموٍّ، وتضحية، وتحمّلٍ للشدائد، وخضوعٍ لله، واستعلاءٍ على كل ما سواه؟!!



    هل تُراهم يثبتون هذا الثباتَ، لو أنهم خاضوا المعارك بنفوس المنهزمين، الذين تغلبهم شهواتُهم،وتستحو ذُ عليهم شياطينُهم، فلا يستطيعون مقاومةَ الجوع والعطش ساعات معدودة؟!


    كلا ثم كلا!!
    .


    .
    أيها المسلم الصائم:

    لا تنس وأنت تصوم رمضان، أنهُ يراد منك أن تكون مثالَ القويِّ الأمين؛ فحذارِ أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيفُ الخائن.

    وأيها المسلمون الصائمون:

    لا تنسوا وأنتم تصومون رمضان، أن الله يريد أن تكونوا بالصيام أشداءَ على الكفار رحماءَ بينكم؛ فاحذروا أن ينسلخ الشهر عنكم وأنتم ممن ينطبق عليه قوله-تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).



    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وانصر عِبادك الموحدين يارب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ


    (12)


    آثارُ الصَومْ وأسْرَارُه


    الحمدُ للهِ المُوفِقِ المُعِينِ، إياهُ نعبدُ وإياهُ نستعينُ، منجزِ الوعدِ بالنصرِ لعبادهِ المؤمنين، منزلِ السكينةِ على الصابرين المخلصين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لآثارهم في نُصْرَة الدين إلى يوم الدين، أما بعد:




    فإن لكل عبادة في الإسلام حِكمة ً أو حِكَماً يظهر بعضها بالنص عليه، أو بأدنى عملٍ عقلي، وقد يخفي بعضُها إلا على المتأملين المتعمقين في التفكر والتدبر، والموفقين في الاستجلاء، والاستنباط.

    والحكمةُ الجامعةُ في العباداتِ كلِّها هي تزكيةُ النفوسِ، وتطهيرُها من النقائص، وتصفيتُها من الكُدُراتِ وإعدادُها للكمال الإنساني، وتقريبُها للملأ الأعلى، وتلطيفُ كثافَتِها الحيوانيةِ اللازمةِ لها من أصل الجِبِلَّة، وتغذيتُها بالمعاني السماوية الطاهرة؛ فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائنٌ وسطٌ ذو قابليةٍ للصفاء الملكي، والكدرِ الحيواني، وذو تركيبٍ يَجْمَعُ حَمَأ الأرضِ، وإشراقَ السماء، وقد أوتي العقل والإرادة والتمييز؛ ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة، أو يشقى بهما.

    ولكل عبادة في الإسلام تُؤدَّى على وجهِها المشروعِ، أو بمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس، تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجه، واستجماع الخواطر، واستحضار العلاقة بالمعبود.

    والعباداتُ إذا لم تعطِ آثارَها في أعمالِ الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.
    .


    .
    وما قست قلوبُ المسلمين،ولا تقاعسوا عن أداء واجبهم، فكانوا عرضة لغزو أعدائهم في شتى الميادين - إلا بسبب بعدهم عن هِدَاية دينهم، وقلةِ تأثرهم بما يكررون قَوْلَه وفِعْلَه من أركان الإسلام، وشعائره، مما جعلها عند كثير منهم بمثابة العادات.

    ولو أنهم تأثروا بما يقولون ويفعلون تأثراً صحيحاً لتغير وجه الأرض، ولملأوها بجمال الحق بدلاً من شغب الباطل.

    هذا وإن للصوم حكماً باهرة وأسراراً بديعة، وآثاراً عظيمة على الفرد والجماعة.

    وقد كان يكفي في الحث على الصيام، والدعوة إليه أن يقال للمسلم: إن الله يأمرك بالصيام دون ذكرٍ لفوائد الصيام، وآثاره، وحكمه، وأسراره؛ ذلك أن الصومَ تشريعٌ ربانيٌّ إلهيٌّ، صادرٌ عن الرب بمقتضى ربوبيته، وألوهيته، فله-عز وجل-أن يكلِّفَ عباده بما شاء، وعليهم طاعةُ أمرِه، واجتنابُ نهيِه.

    وَلَكنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيان بعض الأسرار، والحِكَم، والفوائد و الآثار التي ينطوي عليها شهر الصوم؛ذلك أن الله-عز وجل-علمنا في آيات كثيرة من كتابه المبين أسرارَ تشريعه،وفوائدَه ؛شحذاً للأذهان أن تفكر وتعمل، وإيماءاً إلى أن هذا التشريعَ الإلهيَّ الخالدَ لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة، أو يدفع عنهم ضرراً، وليزداد إقبال النفوس على الدين قوة إلى قوة.
    .


    .
    انظروا إلى قوله - تعالى - حين يعلمنا آداب الاستئذان في البيوت كيف يختم ذلك بقوله:(هُوَ أَزْكَى لَكُمْ).

    بل إن الله - تعالى - حين أمرنا بالصيام ذَكَرَ حكمتَهُ وفائدتَه الجامعةَ بكلمة واحدة من كلامه المعجز، فقال-عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة 183.

    فالتقوىهي الحكمة الجامعة من تشريع الصيام.

    بل انظروا إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن آداب الصائم: "إنما الصوم جنة - أي وقاية - فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل"الحديث متفق عليه.

    فقد قدم الحكمة من الصيام ثم بين آدابه؛ ليكون أوقع في النفس، وأعمق أثراً.

    وما دام الإسلام لا يتنكَّر للعقل، ولا يخاطب الناس إلا بما يتفق مع التفكير السليم، والمنطق القويم ولا يأمر من التشريع بشيء إلا إذا كانت المصلحة تحتِّم العمل به أو تركه-لم يكن علينا من حرجٍ حين ننظرُ في أسرار التشريع وبيان فوائده.
    .


    .
    وما برح الناسُ في كل عصر يرون من فوائد التشريع ما يتفق مع تفكيرهم، ومصالحهم.
    وهذا دليل على أن وراء هذا التشريع رباً حكيماً، أحسن كل شيء خَلْقَهُ ثم هدى.
    فإذا وفَّقَ الله في مثل هذه الأحاديث أن تُشرح صدور المؤمنين لفريضة الصيام،
    ويُبَيَّن لهم شيء من حكم الصيام وأسراره وآثاره
    كان ذلك سبباً كبيراً لأن يُؤتَى بالصيام على وجهه الأكمل.
    .


    .
    معاشر الصائمين

    ينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات، التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطمٌ لأمهات الجوارح عن أمهات الملذات.




    ولا مؤدِّبَ للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدِّ من سلطان الشهوات عليه.

    بل هو في الحقيقة نصرٌ له على هذه العوامل التي تُدَسِّي نفسه، وتبعده عن الكمال.

    وكما يحسن في عُرْف التربية أن يؤخذ الصغيرُ بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تمليه إليه نفسه-فإنه يجب في التربية الدينية للكبار المكلفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ).



    أو متباعدة كشهر رمضان، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهراً كلها انطلاق في الشهوات، وإمعانُ فيها، واسترسال مع دواعيها.

    وإن شهراً في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهراً من الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءاً من اثني عشر جزءاً في حكم المقارنات النسبيبة - ليسير.


    ولكنه يسر الإسلام الذي ليس بعده يسر، وسماحته التي ما بعدها سماحة.
    إن في الصوم جوعاً للبطن، وشبعاً للروح، وإضواءاً للجسم، وتقوية للقلب، وهبوطاً باللذة، وسمواً بالنَّفْس.
    في الصوم يجِدُ المؤمنُ فراغاً لمناجاة ربه، والاتصال به، والإقبال عليه، والأنس بذكره، وتلاوة كتابه.

    هذه بعضُ أسرارِ الصومِ وآثارِه،

    وهذا هو ماكان يفهمه السلفُ الصالحُ من معاني الصوم،

    وبذلك كانوا معجزة الإسلام في الثبات على الحق، والدعوة إليه، والتخلق به،

    فلم تر الإنسانية من يضاهيهم بسمو أنفسهم، ونبل غاياتهم،

    وبعد هممهم، وإشراقةِ أرواحهم، وهدايةِ قلوبهم، وحسنِ أخلاقهم.


    .


    .
    .
    أفليست الإنسانية اليوم بأمسِّ الحاجة إلى مثل ذلك الجيل أو ما يقاربه؟

    بل أليست مجتمعات المسلمين بحاجة إلى مثل تلك النفوس؟
    بلى ثم بلى ثم بلى.
    اللهم أفِضْ علينا من جودك وكرمك،

    ولا تحرمنا بركاتِ هذا الشهرِ الكريم،

    واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب،

    واجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ
    (13)






    أََسْرَارِ الصِيَام




    الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأكرمنا بأن كتب علينا فريضة الصيام، والصلاة والسلام على خير الأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه السادة الكرام، أما بعد:



    فإن الإسلامَ دينُ تربيةٍ للملكات، والفضائل والكمالات، فهو يَعُد المسلم تلميذاً ملازماً في مدرسة الحياة دائماً فيها، دائباً عليها، يتلقى فيها ما تقتضيه طبيعتُه من نقصٍ وكمال، وما تقضيه طبيعتُها من خيرٍ وشر.



    ومن ثَمَّ فهو يأخذهُ أخذَ المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة، لا يخرج من امتحان إلا ليدخل في امتحان آخر، وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشرُه، ولا مِعْشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.

    وامتحاناتُ الإسلام تتجلى في هذه الشعائر المفروضةِ على المسلم، تلك الشعائر التي شرعت للتربية، والتزكية، والتعليم، لا ليضيَّق بها على المسلم، ولا لِيُجْعل عليه في الدين من حرج، ولكنَّ الإسلامَ يريد ليطهرَه بها، وينميَ ملكاتِ الخيرِ والرحمةِ فيه، وليقويَ إرادتَه وعزيمتَه في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروضَه على الفضائل الشاقة كالصبر والثبات،والحزم، والعزم، والنظام، وليحرِرَه من تعبِّد الشهوات له، ومَلكِ-ها لعنانه.
    .


    .
    وفي كل فريضةٍ من فرائض الإسلام امتحانٌ لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته، غيرَ أن الصيامَ أعسرُها امتحاناً؛ لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية، فعليه تروَّض النفوس المطمئنة، وبه تروض النفوس الجامحة، فمدتُه شهرٌ قمريٌّ متتابعُ، وصورتُهُ الكاملةُ فطمٌ عن شهوات البطن، والفرج، واللسان، و الأذن، والعين.



    وكلَّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقصٌ في حقيقة الصيام، كما جاءت بذلك الآثار عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمةُ الجامعةُ من معنى الصوم.



    قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "الصوم جنة " .

    أي وقاية، ففي الصومِ وقايةٌ من المأثم، ووقايةٌ من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول الملذات.



    إذا المرء لم يتركْ طعاماً يُحِبُّهُ *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما

    فيوشك أن تلقى له الدهرَ سُبَّةً *** إذا ذُكِرَتْ أمثالهُا تملأ الفمـا
    .


    .
    فلا يتوهمِ المسلمُ أن حقيقةَ الصومِ إمساكٌ عن بعض الشهوات في النهار ثم يعقبه انهماكٌ في جميع الشهوات في الليل؛ فإن الذي نشاهده من آثار هذا الصوم إجاعةُ البطنِ،وإظماءُ الكبدِ، وفتورُ الأعضاءِ وانقباضُ الأساريرِ،وبذاء ة ُ اللسانِ، وسرعةُ الانفعالِ، واتخاذُ الصومِ شفيعاً فيما لا يُحَبُّ من الجهر بالسيئ من القول، وعذراً فيما تَبْدُرُ به البوادرُ من اللِّجاج والخصام، والأيمان الفاجرة.

    كَلا إن الصومَ لا يَكْمُل، ولا تَتِمُ حقيقتُه، ولا تظهر حِكَمُهُ، ولا آثاره - إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزعةِ على الجوارح؛ فللأذن شهواتٌ في الاستماع، وللعين شهوات من مدِّ النظر وتسريحه، وللِّسان شهواتٌ في الغيبة والنميمة ولذاتٌ في الكذب، واللغو.

    وإن شهواتِ اللسانِ لَتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوةً بتلك الشهوات لا يستطيع حَبْسَهُ عنها إلا الموفقون من أهل العزائم القوية.
    .


    .
    أيها الصائمون الكرام:

    صومُ رمضان محكٌّ للإرادات النفسية، وقمعٌ للشهوات الجسمية،ورمزٌ للتعبد من صورته العليا، ورياضةٌ شاقةٌ على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريبٌ منظمٌ على حملِ المكروه من جوع وعطش،ونطقٍ بحقٍّ،وسكوتٍ عن باطل.

    والصومُ درسٌ مفيدٌ في سياسة المرء لنفسه، وَتَحكُّمِهُ في أهوائه، وضبطِه بالجد لنوازع الهزل، واللغو، والعبث.

    وهو تربيةٌ عمليةٌ لخلُقِ الرحمةِ بالعاجز المعدم؛ فلولا الصيامُ لما ذاق الأغنياء الواجدون ألمَ الجوع، ولما تصوروا ما يفعله الجوعُ بالجائعين.

    وفي الإدراكاتِ النفسيةِ جوانبُ لا يغني فيها السماعُ عن الوَجَدان؛ فلو أن جائعاً ظل وبات على الطَّوى خمس ليال، ووقف خمساً أخرى يصور للأغنياء البِطَانِ ما فعله الجوعُ بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغَ في التعبير من مقاله-لما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعةٌ واحدة ٌ في نفس غنيٍّ مترف.

    ولذلك كان نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- أجودَ الناس،وكان أجودَ ما يكون في رمضان،حين يدارسه جبريل القرآن،فلرسولُ الله أجودُ بالخير من الريح المرسلة.
    .


    .
    أيها الصائمون الكرام:
    رمضان نفحاتٌ إلهيةٌ تَهُبُّّّ على العالم الأرضي في كل عام قمريٍّ مرةً، وصفحةٌ سماويةٌ تتجلى على أهل الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفَه وبرَّه، ومن لطائف الإسلام حِكمتَه وسرَّه؛ فلينظرِ المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانُهم من تلك الصفحة.

    ورمضانُ مستشفى زمانيِّ يجد فيه كل مريض دواءَ دائه، حيث يستشفي فيه مرضى البخلِ بالإحسان، ومرضى البِطْنةِ بالجوع والعطش، ومرضى الخصاصةِ والجوع بالكفاية والشِّبَع.

    شهرُ رمضانَ عند الأَيْقاظ المُتَذَكِّرين شهرُ التجلياتِ الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، ويفيض عليها بالرَّوح، ويأخذها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جِدَّةً ونُضْرَةً، وطراوة ًوخُضْرةً.

    ولحكمةٍ ما كان شهراً قمرياً لا شمسياً، ليكون ربيعاً للنفوس، متنقلاً على الفصول، فيروِّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة.

    ثم إن رمضانَ يحرك النفوسَ إلى الخير، ويسكِّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البريئة.



    ورمضانُ يطلق النفوسَ من أسر العادات، ويحررُها من رق الشهوات، ويجتث منها فسادَ الطباع، ورعونةَ الغرائز، ويطوفُ عليها في أيامه بمحكمات الصبر، وَمُثبِّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله، والقرب منه.

    ثم إن الصومَ ينمِّي في النفوس رعايةَ الأمانة، والإخلاصَ في العمل، وألا يراعى فيه غيرُ وجهِ الله-تعالى-.

    وهذه فضيلةٌ عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء والنفاق.
    .


    .
    والصومُ من أكبر الحوافز لتحقيق التقوى، وأحسنِ الطرق الموصلة إليها؛ ولهذا السر خُتِمتْ آياتُ الصومِ بقوله -تعالى-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .



    شهرُ الصيام يربي في النفوس مكارمَ الأخلاقِ، ومحاسنَ الأعمالِ، فيبعثها إلى بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأهل والجيران.

    ومن أثر الصيام على النفوس حصولُ الصحة العامة بجميع معانيها، ففيه صحةٌ بدنيةٌ حسيةٌ، وفيه صحةٌ روحيةٌ معنويةٌ، وفيه صحةٌ فكريةٌ ذهنية.

    فالصحة البدنية تأتي من كون الصيام يقضي على المواد المترسبة في البدن، ولا سيما أبدان أولي النَّعمة والنَّهْمة والتُّخمة وقليلي العمل والحركة؛ فقد قال الأطباء: إن الصيام يحفظ الرطوباتِ الطارئةَ، ويطهر الأمعاءَ من فساد السموم التي تحدثها البِطْنة، ويحول دون كثرةِ الشحوم التي لها خطرها على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوةً على الكر والفر.

    وأما الصحةُ المعنويةُ فكما تقدم من أن الصوم من أعظم ما تصح به القلوب، وتزكو به الأرواح.



    وأما الصحة الفكرية فتأتي من أثر الصيام الصحيح، حيث يحصل به حسنُ التفكير، وسلامةُ النظرةِ، والتدبرُ في أمر الله ونهيه وحكمته.

    وبذلك يصح للصائم تفكيرُه،ويستنير بنور ربه، ويستجيب لنداءاته، ويحقق طاعته، فيخرج من صيامه بنفس جديدة، وفكر نيِّر،يسلم به من وصف البهيمية، ويصعد في مراتب السعادة والسيادة درجات.
    .


    .
    أيها الصائمون الكرام:
    هذه بعض أسرار الصوم في النفوس؛ فجدير بالصائم أن يستحضر هذه المعاني، وأن يكون له من صيامه أوفر الحظ والنصيب، وألا يفعل بعد إفطاره، أو نهاية شهره ما يُخِلُّ بهذه القوة أو يوهِنُها، فَيهدِم في ليله ما بناه في نهاره، وفي نهاية شهره ما بناه في شهره؛ فما أسعد الصائم، وما أحزمه لو اغتنم شهر الصيام، وجعله مدرسةً يتدرب فيها على هجر مألوفاته التي اعتاد عليها.



    وإنْ هو عكس الأمرَ، فصار يتأفف على ما حَرَمَهُ منه الصيامُ، ويتلهف لساعة الإفطار؛ ليسارع إلى تناول مألوفاته، المضرَّةِ به، فقد ضيع الحزمَ والعزمَ، وبرهن على خوره، وضعف نفسه، وقلةِ فائدته من صيامه.

    هذه صورة عامة مجملة،وإشارات سريعة عابرة لبعض الحكم والآثار والأسرار التي ينطوي عليها شهر الصيام.

    اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ

    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (14)

    رَمَضَانْ وحُقُوقْ الجِيرَانْ




    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،أما بعد:

    فإن رمضانَ شهرُ الترابط، وشهرُ التواصي، وشهرُ التقارب، وشهر المودّات.
    والحديث اليوم سيدور حول معنى من هذه المعاني، ألا وهو حق الجار؛ فلقد أوصى الإسلام بالجار، وأعلى من قدره؛ حيث قرن الله حق الجار بعبادته _عز وجل_ وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام.
    قال الله_عز وجل_: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ )(النساء: من الآية36).

    أما السنَّةُ النبويةُ فقد استفاضت نصوصُها في بيان رعاية حقوقِ الجارِ، والوصايةِ به، وصيانةِ عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسدّ خلَّته، وغضِّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه، ويسيء إليه.

    ومن أجلِّ تلك النصوص وأعظمها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة وابن عمر_رضي الله عنهم_أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مازال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيوَرِّثه).

    أي: ظننت أنه سَيبْلُغني عن الله الأمرُ بتوريث الجارِ الجارَ.
    .


    .
    أيها الصائم الكريم:
    الجار في الاصطلاح الشرعي هو من جاورك جواراً شرعياً، سواء كان مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، صديقاً أو عدواً، محسناً أو مسيئاً، نافعاً أو ضاراً، قريباً أو أجنبياً، غريباً أو بلدياً.

    وله مراتب بعضها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته، ودينه وتقواه، ونحو ذلك؛ فيعطى بحسب حاله وما يستحق.

    أما حدّ الجوار؛ فقد اختلفت عباراتُ أهل العلم في حدِّ الجوار المعتبر شرعاً، والأقـرب _والله أعلم_ أن حدَّ الجوار يُرجع فيه إلى عُرْفِ الناس؛ فما عُلِمَ عُرْفاً أنه جارٌ فهو جار.

    ولا ريب أن الجوارَ في المسكن هو أجل صور الجوار وأوضحُها، ولكنَّ مفهومَّ الجار والجوار لا يقتصر على ذلك فحسب، بل هو أعمُّ من ذلك وأشمل؛ فالجار معتبرٌ في المتجر، والسوق، والمزرعة، والمكتب، ومقعد الدرس.

    ومفهومُ الجارِ يشمل الرفيقَ في السفر؛ فإنه مجاورٌ لصاحبه مكاناً وبدناً، والزوجةُ كذلك تسمى جارةً، وكذلك مفهومُ الجوارِ يشمل الجوارَ بين المدن، والدول، والممالك، فلكل منهما حق على الآخر.
    .


    .
    أيها الصائمون الكرام:
    حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة جداً،

    أما أصولها فتكاد ترجع إلى أربعـة حقوق.


    أولها:
    كف الأذى:
    فالأذى على كل أحد بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريما ً.

    جاء في صحيح البخاري عن أبي شريح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

    (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمـن جاره بوائقـه).

    وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

    (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه).

    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

    (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره).

    وفي مسند الإمام أحمد، والأدب المفرد للبخاري، وعند الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله إن فلانةً تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال:

    (لا خير فيها هي في النار).

    وقيل له: إن فلانةً تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار(وهي القطع الكبيرة من الأقط وهو اللبن الجامد المستحجر) وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي جيرانـها، قال:

    (هي في الجنة).

    ولفظ الإمام أحمد:(لا تؤذي بلسانها جيرانـها).

    بل لقد جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له:

    (اطرح متاعك في الطريق).

    قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس؟ قال: وما لقيتَ منهم،

    قال: يلعنوني، قال: فقد لعنك الله قبل الناس قال: يا رسول الله فإني لا أعود).

    أخرجه البخاري في الأدب المفرد،والبزار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي.

    قال علي بن أبي طالب للعباس _رضي الله عنهما_:

    (ما بقي من كرمِ إخوانك؟ قال الإفضالُ إلى الإخوان، وتركُ أذى الجيران).

    فانظر كيفَ عدَّ العباسُ رضي الله عنه تركَ أذى الجيران من الكرم.

    ولقد كان العرب يتمدحون بكف الأذى عن الجار، قال هُدْبَةُ بنُ الخَشْرم:

    ولا نَخْذِلُ المولى ولا نرفع العصا *** عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا

    وقال لبيد:

    وإن هوانَ الجارِ للجار مؤلمٌ *** وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر
    .


    .
    الثاني من حقوق الجار:
    حماية الجار:
    فمما ينبه لشرف همّة الرجل نهوضُه لإنقاذ جاره من بلاءٍ يُنال به في عرضه، أو بدنه أو ماله، أو نحو ذلك.

    ولقد كانت حمايةُ الجار من أشهر مفاخر العرب التي ملأت أشعارهم، قال عنترة:

    وإني لأحمي الجارَ من كل ذلّة *** وأفرحُ بالضيف المقيم وأَبْهَجُ

    وقالت الخنساءُ تمدح أخاها بحمايته جارَه:

    وجارُكَ مَحْفُوظٌ منيعٌ بنجوة *** من الضيم لا يُؤذى ولا يتذللُ

    بل لقد غالى العرب، وبالغوا في المحاماة عن الجار؛ إذ لم تتوقَّف محاماتُهم عن الجار الإنسان، بل لقد تعدّوا ذلك؛ فأجاروا ما ليس بإنسان إذا نـزل حول بيوتهم حتى ولو كان لا يعقل ولا يستجير؛ مبالغةً في الكرامة والعزَّة، وتحدياً لأن يَخْفِرُ الجوارَ أحدٌ، مثل ما فعل مدلجُ بنُ سويدٍ الطائيُّ،الذي نـزل الجرادُ حول خبائه؛ فمنع أن يصيدَه أحدٌ حتى طار وبَعُدَ عنه.

    وكان كليبٌ يجير الصيدَ، فلا يَعْرِضُ له أحدٌ.
    .


    .
    الثالثُ من حقوق الجار:
    الإحسانُ إليه؛
    فذلك دليل الفضل، وبرهان الإيمان، وعنوان الصدق.

    جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) الحديث، ولمسلم_أيضاً_: (فليحسن إلى جاره).

    ومن ضروب الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة،وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان.
    .


    .
    الرابع:
    من حقوق الجار احتمال أذاه:
    وذلك بأن يغضيَ عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيراً من زلاته، ولا سيِّما إساءةً صدرت من غير قصد، أو إساءةً ندم عليها، وجاء معتذراً منها؛ فاحتمالُ أذى الجارِ ومقابلةُ إساءتِه بالإحسان من أرفع الأخلاق، وأعلى الشيم.

    ولقد فقه السلف هذا المعنى، وعملوا به،

    روى المرّوذي عن الحسن:

    ليس حسنُ الجوارِ كفَّ الأذى، حسنُ الجوارِ الصبرُ على الأذى.

    هذه هي الأصولُ الأربعةُ
    التي عليها مدارُ حقوقِ الجارِ، ومع عظم ذلك الحقِّ إلا أن هناك تقصيراً كبيراً في حقِّ الجار من كثيرٍ من ا لناس.

    فمن صورِ ذلك التقصير

    مضايقةُ الجارِ، وحسدُه، واحتقارُه، وكشفُ أسراره، وتتبعُ عثراته، والفرحُ بزلاته.

    ومن ذلك:

    إيذاؤه بالجلبة، ورفعُ الأصوات، وتأجيرُ مَنْ لا يرغب الجيران في إسكانه.



    ومن صور التقصير في حق الجار:

    خيانتُه، والغدرُ به، وقلةُ الإحسان إليه، وتركُ النهوضِ لحمايته، وقلةُ الحرص على التعرُّف على الجيران، وقلةُ التفقُّد لأحوالهم.

    ومن ذلك:

    قلّةُ التهادي بين الجيران، والتكبُّرُ عن قبول هداياهم، ومنعُهم ما يحتاجون إليه من الأدوات اليسيرة، وقلةُ الاهتمام بإعادة المعار من الجيران إليهم.

    ومن صور التقصير في حق الجيران:

    تركُ الإجابةِ لدعوتهم، وقلَّةُ المبالاة بدعوتهم إلى الولائم والمناسبات،وقلّ َةُ المناصحة لهم، وقلةُ التعاون معهم على البر والتقوى.

    ومن ذلك:

    كثرةُ الخصومةِ معهم، والتهاجرُ، والتدابرُ عند أدنى سبب، وقلةُ الحرص على إصلاح ذات البين إذا فسدت بين الجيران.



    ومن صور التقصير في حق الجار:

    تركُ الإحسان إلى الجار الغريب، وقلّةُ العناية باختيار الجار الصالح، والتفريطُ به، وقلّةُ الوفاء للجيران بعد الرحيل عنهم.

    وخلاصة القول: إن انتظام رابطة الجوار أكبر شاهد على رقي المجتمع، وسمو آدابه، والعكس بالعكس، وبإصلاح تلك الرابطة تطوى عند المحاكم قضايا كثيرة لا منشأ لها إلا عدم رعاية حق الجار.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ




    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ


    (15)



    رَمَضَانْ و غَضْ البَصَر
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله صحبه ومن والاه، أما بعد:






    فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).







    قال ابن حجر في شرح الحديث:(الوجاء: رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عُروقِهما، ومن يُفعَل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصومَ قامعٌ للشهوة).انتهى كلامه.
    معاشر الصائمين:


    في هذا الحديث إشارة إلى فائدة كبرى من فوائد الصوم،



    ألا وهي غض البصر، وإحصان الفرج.



    فالصائم ينال هذه الفضيلة، ويسلم من معاطب إطلاق البصر وآفاته؛



    فالعين مرآةُ القلب، وإذا أطلق الإنسان بصرَه أطلق القلبُ شهوتَه، ومن أطلق بصرَه دامت حسرتُه؛



    فأضرُّ شيٍء على القلب إرسالُ البصر؛ فإنه يريد ما يشتدُ إليه طلبُه، ولا صبر له عنه،



    ولا سبيل إلى الوصول إليه، وذلك غايةُ ألمه وعذابه.






    ثم إن النظرةَ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس _كما جاء في الحديث_ وشأنُ السهمِ أن يسريَ في القلب؛



    فيعملَ فيه عملَ السمِّ الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر، واستفرغه وإلا قتله ولابد.







    وكذلك النظرةُ؛ فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهمُ في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحته.



    والنظرةُبمنزلة الشرارة تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه أحرقت بعضه كما قيل:

    كلُّ الحوادثِ مبداها من النظر *** ومعظمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ



    كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها *** فتكَ السهام بلا قوسٍ ولا وتر


    والمرءُ مادام ذا عينٍ يقلبها *** في أعين الغيد موقوفٌ على الخطر


    يسرُّ مُقْلَتَهُ ما ضرَّ مهجتَه *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر









    والناظر يرمي من نظره بسهامٍ غَرضُها قلبه وهو لا يشعر، قال المتنبي:






    وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُهُ *** فَمَنِ المطالبُ والقتيلُ القاتلُ
    قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان النظرُ أقربَ الوسائلِ إلى المحرم اقتضت الشريعةُ تحريمَه، وأباحتْه في موضع الحاجة.



    وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة).






    قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرفَ بصري).






    قال ابن القيم رحمه الله: (ونظرُ الفجأةِ هي النظرة الأولى، التي تقع بغير قصد؛ فما لم يتعمدْه القلبُ لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانيةَ تَعَمُّداً أثِم؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره).

    معاشر الصائمين:


    ما أحوجنا إلى غضِّ البصر،وإلى ما يذكرنا به،



    خصوصاً في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الفتن، وتنوعت؛



    حيث التبرجُ والسفورُ، والمجلاتُ الهابطةُ،والأفل ام الخليعة،



    والقنوات الفضائية التي تغري بالرذيلة، وتزري بالفضيلة.







    فغض البصر _بإذن الله_ أمانٌ من الفتنة، وسبيلٌ إلى الراحة والسلامة؛



    فإذا غض العبدُ بصره غضَّ القلب شهوتَه وإرادته.







    قال_تعالى_:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(النور: من الآية30).







    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل _سبحانه_ غضَّ البصر، وحفظَ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس.



    وزكاةُ النفوسِ تتضمن زوالَ جميعِ الشرورِ من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك).







    وقال ابن الجو زي رحمه الله: (والو اجب على من وقع بصرُه على مُسْتَحسنٍ، فوجد لذةَ تلك النظرةِ في قلبه أن يصرفَ بصرَه؛ فمتى ما تَثَّبَت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.


    فإن قيل:


    فإن وقع العشقُ بأول نظرةٍ فأي لومٍ على الناظر؟



    فالجواب:


    أنه إذا كانت النظرةُ لمحةً لم تَكَدْ توجبُ عِشقاً،إنما يوجبه جمودُ العين على المنظور بقدر ما تَثْبُتُ فيه، وذلك ممنوع منه.



    ولو قَدَّرنا وجودَه باللمحة، فأثَّر محبةً سَهُلَ قمْعُ ما حصل).










    إلى أن قال رحمه الله:


    فإن قيل:



    فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟



    قيل:



    علاجهُ الإعراضُ عن النظر؛ فإن النظرةَ مثلُ الحبةِ تُلْقَى في الأرض؛ فإذا لم يُلتَفَتْ إليها يَبَستْ، وإن سقيت نَبَتَتْ؛ فكذلك النظرةُ إذا أُلحقت بمثلها).










    وقال:



    (فإن جرى تفريطٌ باتْباعِ نظرةٍ لنظرةٍ فإن الثانية هي التي تُخاف وتُحذر؛ فلا ينبغي أن تُحْقَر هذه النظرةُ؛ فربما أورثت صبابةً، صبَّت دمَ الصبِّ).






    وقال ابن القيم : (فعلى العاقلِ ألا يُحَكِّم على نفسه عشقَ الصور؛ لئلا يؤدِّيَه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرِها، أو بعضِها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه، المُضِرُّ بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه، وطمُعه في وصاله لم يتمكَّنْ عِشْقُه من قلبه) ا_هـ













    اللهم إنَّا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى، وللحديث صلة _إن شاء الله_ وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (16)

    فإنَه أغَضُّ للبَصَر



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:



    فقد كان الحديث بالأمس يدور حول أثرِ الصيام في غضِّ البصر، وذلك انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري :(من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
    وقد جاء في الحديث الماضي ذكرٌ لأضرار إطلاق البصر، والحديث ههنا إكمال لما مضى، وبيان لفوائد غض ّالبصر.
    معاشرَ الصائمين
    قد يقول بعض الناس:

    إذا نظرتُ نظرةً، فاشتدَّ تعلقي بمن نظرتُ إليه؛

    فهل لي أن أكررَ النظرَ، لعلي أراه دون ما في نفسي، فَأَسْلوَ عنه؟

    والجواب:

    أن ذلك من تلبيس الشيطان،

    ولا يجوز فعلُه لأوجهٍ عديدةٍ ذكرها ابن الجوزي، وابن القيم _رحمهما الله_

    ومن تلك الأوجه ما يلي:

    أولاً:
    أن الله _سبحانه_ أمر بغضِّ البصر، ولم يجعلْ شفاءَ القلبِ فيما حرَّمه على العبد.
    الثاني:

    أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن نظر الفجأة،ِ وقد علم أنَّه قد يؤثر في القلب، فـأمر بمداواته بصرف البصر، لا بتكرار النظر.
    الثالث:
    أنه صرح بأن الأولى له،وليست له الثانية،ومحالٌ أن يكون داؤه مما هو له، ودواؤه فيما ليس له.

    الرابع:
    أن الظاهرَ أن الأمرَ كما رآه في أول مرة؛ فلا تحَسُنُ المخاطرةُ بالإعادة.


    الخامس:

    أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه؛ فزاد عذابُه.

    السادس:
    أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية، يقوم في ركائبه، فيزيِّن له ما ليس بحسن؛ لتتمَّ البلية.



    السابع:
    أنه لا يعان على مطلوبه، إذا أعرض عن امتثال أمر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلَّف عنه المعونة.

    الثامن:
    أن النظرةَ الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس،ومعلومٌ أن الثانية أشدُّ سُمَّاً؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟!

    التاسع:
    أن صاحبَ هذا المقام في مقام معاملة الحق _عز وجل_ في ترك محبوب _كما زعم_ وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبينَ حالَ المنظور إليه؛ فإن لم يكن مرضياً تَرَكَهُ؛ فإذاً يكون تَرْكُهُ لأنه لا يلائم غرضه، لا لله _تعالى_ فأين معاملة الله _تعالى_ بترك المحبوب لأجله؟



    وبهذه الأوجه وغيرها مما لم يذكر يتبينُ لنا خطورةُ إطلاقِ البصر، وإتْبَاعُ النظرةِ النظرة.


    معاشر الصائمين:

    لغضِّ البصر فوائدُ عظيمةٌ،

    لو استحضرها العاقل لقادته إلى غض البصر، ولمنعته من الاسترسال فيه،

    ومن تلك الفوائد ما يلي:

    الفائدة الأولى:

    تخليص القلب من ألم الحسرة.

    الفائدة الثانية:

    أنه يورثُ القلبَ نوراً وإشراقاً، يَظْهرُ في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.

    الفائدة الثالثة:
    أن غضَّ البصر يورثُ صحةَ الفِرَاسَة؛ فإنها من النور، وثمراته، وإذا استنار القلبُ صحَّت الفِراسةُ؛لأنه يصير بمنزلة المرآةِ المجلوَّةِ تظهر فيها المعلوماتُ كما هي، والنظرُ بمنزلة التنفُّس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسُه الصُّعَداءُ في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل:

    مرآةُ قلبِكَ لا تُريكَ صلاحَهُ *** والنَّفسُ فيها دائماً تتنفسُ
    والله _عز وجل_ يجازي العبدَ على عمله بما هو من جنسه، فمن غضَّ بصرَه عن المحارم عوَّضه الله إطلاقَ بصيرتِه؛ فلما حبس بصرَه لله أطلق اللهُ نور بصيرتِه، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرتَه.

    الفائدة الرابعة من فوائد غض البصر:

    أنه يفتحُ للعبد طرقَ العلمِ ويسهلُ عليه أسبابَه، وذلك بسب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائقُ المعلومات، وانكشفتْ له بسرعة، ونفذَ من بعضها إلى بعض.
    ومن أرسلَ بصَره تكدَّر عليه قلبه، وأظلم، وانسدَّ عليه بابُ العلم وطرقُه.



    الفائدة الخامسة:

    أن غضَّ البصر يورث القلبَ سروراً، وفرحاً، وانشراحاً، أعظم من اللذة والسرور الحاصلِ بالنظر؛ وذلك لقهره عدوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه، وهواه.

    ثم إنه لما كفَّ لذَّتَهُ، وحبسَ شهوتَه لله وفيها مسرةُ نفسه الأمارةِ بالسوء أعاضه الله مَسَرَّةً، ولذةً أكملَ منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفةِ أعظمُ من لذة الذنب.

    ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً، وسروراً، ولذّةً أكملَ من لذّة الهوى بما لا نسبة بينهما، وههنا يمتاز العقل من الهوى.

    الفائدة السادسة:
    أن غضَّ البصر يُخَلِّص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.
    الفائدة السابعة:

    أن غضَّ البصر يسد عنه باباً من أبواب جهنم؛ فإن النظرة باب الشهوة الحاملة على مواقعة الإثم.

    الفائدة الثامنة:

    أن غضَّ البصر يقوي العقلَ، ويزيده ويثبِّته؛ فإن إطلاق البصر وإرسالَه لا يحصل إلا من خِفة العقل، وطيشِه، وعدمِ ملاحظته للعواقب.

    الفائدة التاسعة:

    أنه يُخَلِّصُ القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدةِ الغفلة.

    وبالجملة ففوائدُ غضِّ البصر، وآفاتُ إرسالِه أضعافُ أضعاف ما ذكر؛ فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغضَّ طرفَه عما تشتهيه نفسُه من الحرام، وليكن له في ذلك الغض نيةٌ يحتسب بها الأجرَ، ويكتسب الفضلَ، ويدخل في جملة مَنْ نهى النفسَ عن الهوى.

    .
    وهكذا معاشر الصائمين:

    يتبيَّن لنا أثرُ الصيامِ في غضِّ البصر، ويتّضح لنا آثار إرسالِ البصر، وثمراتُ غَضِّه.
    وإذا استفاد الصائم هذا الدرس من صيامه بعثه ذلك إلى غضِّ بصره،واستحضار مشاهدة الرب _عز وجل_ له؛ فينال بذلك فوائدَ غضِّ البصر، ويدخل في زمرة المحسنين الذين يعبدون الله كـأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم.

    اللهم اجعلنا ممن خافك، واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ

    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ



    (17)

    رَمَضَــانِ شَهْــرْ العِـــزَة

    أثر الصيام في اكتساب العزَّة

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإن العزةَ خصلةٌ شريفةٌ، وخَلّةٌ حميدة، وخُلُقٌ رفيع، وأدبٌ سامٍ، تَعْشَقُها قلوبُ الكرام، وتهفو إلى اكتسابها النفوسُ الكبار.

    وإن الإسلام لَدِينُ العزة والكرامة، ودينُ السموِّ والارتفاع، ودينُ الجدِّ والاجتهاد، فليس دينَ ذلةٍ ومَسْكنة، ولا دينَ كسلٍ وخمولٍ ودعة.

    وإن شهرَ رمضانَ لميدانٌ فسيحٌ لاكتساب العزَّة، والتحلي بها، وذلك من وجوه عديدةٍ متنوعة؛ فالصائمُ _على سبيل المثال_ ينال هذا الخُلقَ من جراء صيامه، وتركِه لطعامه، وشرابه، وشهواته المباحةِ فضلاً عن المحرمة.



    وهذا يبعثه إلى الترفع عن الدنايا،ومحقرات الأمور، ويطلقه من أسر العادات، وأهواء النفوس.

    وينال العزة ـ كذلك ـ من جراء بعده عن الجدال والمراء والجهل والرفث، والصخب، والإساءة إلى الناس، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب).

    وفي رواية (ولا يجهل)، وفي رواية (ولا يجادل).

    وإذا كان الصائم كذلك حفظ على نفسه عزَّتها وكرامتها، ورَفَعها عن مجاراة الطائفةِ التي تلذُّ المهاترةَ والإقذاع.

    وينال المؤمن الصائم العزَّة في هذا الشهر من جراء صيامه، وكثرة أعماله الصالحة، وانقطاعه عما سوى الله، وهذا هو سر العزة الأعظم؛ إذ ينال بسبب ذلك عزةَ نفسٍ، وزيادةَ إيمانٍ، واتصالاً وقرباً من الرحمن ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ )(المنافقون: من الآية8).

    وينال المؤمنون العزَّة في هذا الشهر بسبب كثرة إنفاقهم، وإحسانهم إلى الفقراء والمعوزين.

    وفي ذلك صيانةٌ للوجوه من السؤال، وإنقاذٌ لكثير من الناس من عوز الفقر، وذِلَّة الحاجة اللذين قد يَنجرِفان بهم إلى فساد الأخلاق، وضيعة الآداب.


    وهكذا يتبيَّن لنا أثرُ الصيام في اكتساب العزة، سواء للأفراد أو للأمة.

    وما أحوجنا، وما أحوج أمتنا إلى هذا الخلق العظيم، الذي أرشدنا إليه دينُنا، وحثنا على التحلِّي به، ووجهنا إلى اكتسابه، وبيَّن لنا جميعَ السبلِ الموصلةِ إليه.

    ومن مظاهر تربية الإسلام للمسلمين على هذا الخلق، أن وجَّههم إلى إفراد الله بالمسألة دقَّت أو جَلَّت، كثرت أو قلّت.

    ومن ذلك توجيه المسلمين إلى الكسب المباح، عن طريق الكدح والعمل، والمشي في مناكب الأرض، حتى يُعِفَّ الإنسانُ نفسَه، ويستغني عن غيره.

    كما وجههم في المقابل إلى أن يترفعوا عن مسألة الناس، ونفَّرهم من ذلك الخلق الذميم إلا من كان مضطراً أو متحمِّلاً حَمَالةً، أو من أصابته جائحة، أو فاقةٌ، أو نحوُ ذلك.
    كما أرشدهم إلى أن اليدَ العليا خيرٌ من اليد السفلى؛ فَمَنَعَ القادرَ على الكسب من بسط كفه؛ للاستجداء إذا كان في استجدائه إراقةً لماء وجههِ.
    بل إن من أحكام الشريعة إباحةَ التيممِ للمكلَّف، وعدمَ إلزامهِ بقبول هبةِ ثَمنِ الماء؛ لما في ذلك من المنَّة التي تُنْقِصُ حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة.

    بل ومنها عدم إلزامِ الإنسانِ باستهابة ثوبٍ يسترُ بِهِ عورتَه في الصلاة؛ صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.


    ومن الأحكام القائمة على رعاية هذا الخلق أن التبرعات لا تتقرَّر إلا بقبول المُتَبَرَّعِ له؛ إذ قََْد يَرْبأ بِهِ خُلقُ العزةِ عن قبولها؛ كراهةَ احتمالِ مِنَّتِها، والمنَّةُ تصدَعُ قناةَ العزةِ؛ فلا يحتملها ذو مروءة إلا في حال ضرورة، ولا سيما منةً تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.

    ثم إن الشريعةَ أرشدت المسلمَ إذا أخذ المال أن يأخذه بسخاوة نفس؛ ليبارِكَ اللهُ له فيه، وألا يأخذه بإسرافٍ، وهلع، وتعرضٍ، وذلَّةٍ، وإشراف.

    وإذا اتصف المرء بعزة النفس وَفُرت كرامتُه، وارتفع رأسُه، وسلم من ألم الهوان، وتحرَّر من رقِّ الأهواء وذلِّ الطمع، ولم يَسِرْ إلا على وَفْقِ ما يمليه عليه إيمانُه، والحقُّ الذي يحمله.

    ولهذا تجدُ أن أشدَّ الناس عزماً ومضاءً هو أنزهُهُم نفساً، وأبعدهم عن الطمع وجهةً.

    ثم إن عزةَ النفس تُلقي على صاحبها وقاراً، وجلالاً، ومكانةً في القلوب، وذلك مما تنشرح له صدورُ العظام.

    وإنما يعاب الرجل إذا جعل هذه المكانةَ غايتَه المنشودةَ، دون أن يكون الحاملُ عليها رضا الله، ومن ثَمَّ نفعُ الآخرين.

    وكما أن للعزة أثراً في الأفراد فكذلك لها آثارٌ صالحةٌ في الأمة؛ فالأمة التي تُشْرَب في نفوسها العزةَ يشتد حرصُها على أن تكون مستقلةً بشؤونها، غنيَّةً عن أمم غيرها، وتبالغ في الحذر من الوقوع في يدِ مَنْ يطعن في كرامتها، أو يهتضم حقاً من حقوقها.


    معاشر الصائمين
    هذا شيء من معالم العزَّة، وأثرِ الصيام في اكتسابها.

    وإليكم نبذةً من النصوص الشرعية الواردة في شأن العزة.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه أحمد والترمذي،وقال:ه ا حديث حسن صحيح .

    وقال صلى الله عليه وسلم:(لأن يأخذَ أحدُكم أَحْبُلاً، فيأخذَ حُزْمةً من حطب؛ فيكفَّ الله به وجْهَهُ ـ خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطي أو منع ) رواه البخاري ومسلم.

    وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:(من يستغنِ يغنِهِ الله، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، ومن يتصبرْ يصبرْهُ الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً أو خيراً أوسع من الصبر) رواه البخاري ومسلم .

    وفيهما ـ أيضاً ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتيَ يومَ القيامة، وليس في وجههُ مُزْعةُ لحمٍ ).

    وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من سأل الناس، تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أو ليستكثر ).

    بل لقد أوصى _عليه الصلاة والسلام_ نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً؛ ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه قالوا: فعلام نبايعك؟

    قال:(على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا...) وأسر كلمةً خفيةً: (ولا تسألوا الناس شيئاً).

    قال عوف:فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطُ أحدِهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه.

    وعن قَببيصةَ بنِ مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: (تحملت حَمَالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: (أقم حتى تأتينَا الصدقةُ؛ فنأمرَ لك بها).



    قال: ثم قال: (يا قبيصةُ! إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حمالةً، فحلَّت له المسألةُ؛ حتى يصيبَها ثم يُمْسِك، ورجلٍ أصابتْه جائحةٌ اجتاحت ماله؛ فحلَّت له المسألةُ،حتى يصيب قواماً من عيش_ أو قال:أو سِداداً من عيش_ ورجلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصاب فلاناً فاقةٌ، فحلَّت له المسألةُ حتى يصيبَ قواماً من عيش _أو سداداً من عيش_.

    فما سواهن يا قبيصةُ سحتاً يأكلها سحتاً) رواه مسلم.



    معاشر الصائمين

    وكما تظافرت نصوصُ الشرع في الثناء على خلق العزّة، والحثِّ عليه، فكذلك تتابعت وصايا العلماء والحكماء.

    قال وهب بن منبه رحمه الله لرجل يأتي الملوك: (ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتدعُ من يفتح لك بابَه بالليل والنهار ويظهر لك غناه، ويقول:(ادعني استجب لك)!.

    وقال طاووسٌ _لعطاءٍ_ رحمهما الله: (إياك أن تطلبَ حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تدعوَه، ووعدك بأن يجيبك).

    وقيل لأبي حازم رحمه الله:(ما مالُك؟ قال: ثقتي بالله، وإياسي من الناس).



    وكتب أمير المؤمنين إلى أبي حازم: ارفع إليّ حاجتك.

    قال أبو حازم:(هيهات! رفعت حاجتي إلى من لا يَخْتَزِنُ الحوائجَ؛ فما أعطاني قنعت، وما أمسك عني منها رضيت).

    وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله إذا قرأ عليه الطالبُ وانتهى يقول: (اقرأ من الباب الذي يليه ولو سطراً؛ فإني لا أحب الوقوف على الأبواب).
    وأنشد الإمام أحمد بن يحيى ثعلب رحمه الله:
    من عفّ خفّ على الصديق *** لقاؤه وأخو الحوائج وجهه مبذول
    وأخوك مَنْ وفَّرْتَ ما في كيسه *** فإذا استعنت به فأنت ثقيل
    ولله در الشيخِ المَكُّوديَّ إذ يقول:
    إذا عرضت لي في زمانيَ حاجةٌ *** وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصدُ
    وقفت بباب الله وقفةَ ضارعٍ *** وقلت: إلهي إنني لك قاصدُ

    ولست تراني واقفاً عند باب مَنْ *** يقول فتاهُ: سيديْ اليومَ راقدُ
    معاشر الصائمين:

    هذه هي العزّة، وها نحن في شهر الخير والعزّة، أفلا نستشعر هذا المعنى من جرَّاء صيامنا؟

    وندركَ أن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فنلتمس العزة من مظانها، ونسعى لإدراكها، والاتصاف بها؛

    فيكونَ لنا عزٌّ وسرورٌ وذكرٌ جميلٌ في العاجل، وأجرٌ وذخرٌ وعطاءٌ غيرُ مجذوذٍ في الآجل؟

    اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (18)



    فِيْ السِحُورِ بَرَكَة



    الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:



    فقد جاء في الحديث المتَّفقِ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة).

    ففي هذا الحديث أمرٌ بالتسحر، وهو الأكل والشرب وقت السحر؛ استعداداً للصيام،
    وذكرٌ للحكمة من ذلك وهي حلولُ البركة.
    والبركة _معاشر الصائمين_ هي نزولُ الخيرِ الإلهي في الشيء، وثبوتُه فيه.

    والبركة كذلك تعني الزيادة في الخير والأجر، وكلِّ ما يحتاجه العبد من منافع الدنيا والآخرة.

    والبركةُ إنما تكون من الله،ولا تنال إلا بطاعته _عز وجل_.



    ومما يلحظ على بعض الصائمين أنه لا يأبه بوجبة السحور، ولا بتأخيرها؛ فربما تركها البتّة،

    وربما تناول الطعام في منتصف الليل، أو قبل أن ينام، إما لخوفه من عدم القيام، أو لرغبته في النوم
    فتر ة أطول، أو لقلة مبالا ته بالسحور وبركاته، أو لجهله بذلك.
    وهذا خلل ينبغي للصائم تلافيه؛ لما فيه من مخالفة السنة، وحرمان بركات السحور.
    فَحَرِيٌّ بالصائم أن يتسحَّر، وأن يؤخر سحوره إلى ما قبيل الفجر،

    ولو كان السحور قليلاً؛ لما في ذلك من الخيرات والبركات العظيمة.
    من بركات السحور



    من ذلك أنه استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال في الحديث المتَّفق عليه:(تسحروا؛ فإن في السحور بركة).

    وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، قال الله _تعالى_:(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)(النساء: من الآية80).

    وقال: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(الأحزاب: من الآية71).



    ومن بركاته أنه شعار المسلمين، وأن فيه مخالفةً لأهل الكتاب،قال النبيصلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحر).



    ومن ذلك حصولُ الخيريةِ، والمحافظةُ عليها؛ فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) رواه البخاري ومسلم.

    ومن بركات السحور أن فيه تقويةً على الطاعة، وإعانةً على العبادة، وزيادةً في النشاط والعمل؛ ذلكم أن الجائعَ الظامئَ يعتريه الفتور، ويَدِبُّ إليه الكسل.




    ومن بركات السحور حصولُ الصلاةِ من الله وملائكته على المتسحِّرين، فعن ابن عمر _رضي الله عنهما_ مرفوعاً: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحِّرين) رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني.
    ومن بركات السحور أن فيه مدافعةً لسوء الخلق الذي قد ينشأ عن الجوع.

    ومن بركاته أن وقت السحور وقت مبارك؛ فهو وقت النزول الإلهي _كما يليق بجلال الله وعظمته_ قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرُني فأغفرَ له) رواه البخاري .

    ومن ذلك أن وقتَ السحرِ من أفضل أوقات الاستغفار إن لم يكن أفضلَها، كيف وقد أثنى الله _عز وجل_ على المستغفرين في ذلك الوقت بقوله: ( وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ)(آل عمران: من الآية17) . وقوله: (وَبِالْأَسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الذاريات:18) .



    فالقيام للسحور سببٌ لإدراك هذه الفضيلة، ونيلِ بركات الاستغفار المتعدِّدة.

    ومن بركات السحور أنه أضمن لإجابة المؤذن بصلاة الفجر؛ ولا يخفى ما في ذلك من الأجر، وأنه أضمن لإدراك صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة.




    ومن بركات السحور أن تناولَه _في حد ذاته_ عبادةٌ إذا نَوَى بها التَقَوِّيَ على طاعة الله، والمتابعةَ للرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك أن الصائم إذا تسحَّر لا يملُّ إعادة الصيام، بل يشتاق إليه، خلافاً لمن لا يتسحَّر؛ فإنه يجد حرجاً ومشقةً يُثْقِلان عليه العودة إليه.

    ومن بركات السحور أن الله _سبحانه_ يطرحُ الخيرَ في عمل المتسحِّر؛ فحريٌ به أن يوفَّق لأعمال صالحة في ذلك اليوم؛ فيجد انبعاثاً لأداء الفرائض، والنوافل، والإتيان بالأذكار، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.
    بخلاف ما إذا ترك السحور؛ فإن الصيام قد يثقله عن الأعمال الصالحة.

    وبالجملة فإن بركاتِ السحورِ كثيرةٌ، ولا يمكن الإتيانُ عليها أو حصرُها؛

    فلله في شرعه حكمٌ وأسرار تحار فيها العقول، وقد لا تحيط منها إلا بأقل القليل؛
    فحريٌ بنا أن نستحضر هذه المعاني العظيمة، وأن نُذَكِّرَ إخواننا بها،

    والله المستعان، وعليه التكلان،
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ

    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ

    (19)

    رَمَضَانْ شَهَر العِفَة



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإن رمضانَ شهرُ العفَّة، وشهرُ شرفِ النفس وزكائها؛

    ذلكم أن الصائم يدع طعامَه، وشرابَه، وشهوتَه لله -عز وجل- ويداومُ على هذا الصنيع شهراً كاملاً؛

    فيحصل له بذلك حبسُ النفس عن شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، وتعديلُ قوَّتِها الشهوانيةِ؛

    لتستعدَّ لطلب ما فيه سعادتُها، ونعيمُها، وقبولُ ما تزكو به في حياتِها الأبدية؛
    فالصيامُ لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.
    والصيامُ يقوي الإرادةَ، ويدرِّب الصائمَ على أن يمتنع باختياره عن شهواته، ولذةِ حيوانيته؛ فَيصِل بذلك إلى حالةٍ نفسية بالغةِ السُّمُو، ويروِّض نفسه رياضةً عمليةً على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق.

    وما أشدَّ حاجةَ النفوس إلى أن تروَّض على خلق العفة، ومِنَ العِفَّة ألا يكون الإنسان عبداً لشهواته، مسترسلاً مع كافة رغباته؛ فالنفس طلعة لا تقف عند حد.

    ومَنْ يطعمُ النفسَ ما تشتهي *** كمن يُطْعِمُ النارَ جزلَ الحطبْ
    ولا يكون من وراء اتباع كافة الشهوات إلا إذلالُ النفس، وموتُ الشرف، والضعة والتسفّل.
    وإن من عجائب حكمة الله، أن جعل مع الفضيلة ثوابَها من الصحة، والنشاط، وحُسن الأحدوثة.
    وجعل مع الرذيلة عقابَها من المرض، والحِطَّة، وسوء السمعة.


    ولو لم يأتِ من فضائل العفة، إلا أن يسلمَ الإنسانُ من شرور الفواحش، وينأى بنفسه عن أضرارها المتنوعة، كيف وقد قال الله - عز وجل -:(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ).

    ولا ريب أن أعظمَ الفواحش فاحشتا اللواط، والزنا،

    قال ابن القيم -رحمه الله- متحدثاً عن تلك الفاحشتين: "فليس في الذنوب أفسدُ للقلب والدين، من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصِّ-يَّةٌ في تبعيد القلب من الله؛ فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلبُ بهما بَعُد ممن هو طيب، لا يصعدُ إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً".

    وقال-رحمه الله- مبيناً أضرار اللواط: "فإنه يحدث الهمَّ، والغمَّ، والنفرةَ، عن الفاعل والمفعول.

    وأيضاًَ؛ فإنه يسوَّد الوجه، ويظلم الصدرَ، ويطمس نورَ القلب، ويكسو الوجه وحشةً تصير كالسيماء، يعرفها من له أدنى فِراسة.
    وأيضاً؛ فإنه يوجب النُّفْرةَ، والتباغضَ الشديدَ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولابد.




    وأيضاً؛ فإنه يفسد حالَ الفاعلِ والمفعولِ فساداً لا يكاد يُرجى بعده صلاح؛ إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.



    وأيضاًَ؛ فإنه يَذْهَبُ بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدَّها، كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلُهما بها تباغضاً، وتلاعناً.

    وأيضاً؛ فإنه من أكبر زوال النعم، وحلول النِّقم؛ فإنه يوجب اللعن، والمقت من الله، وإعراضَه عن فاعله، وعدمَ نظره إليه؛ فأيُّ خيرٍ يرجوه بعد هذا؟ وأي شرِّ يأمنه؟ وكيف حياةُ عبدٍ حلَّت عليه لعنةُ اللهِ ومقتُه؟ وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه؟!.

    وأيضاً؛ فإنه يذهب بالحياء جملةً، والحياءُ هو حياةُ القلوبِ؛ فإن فَقَدها القلبُ استحسن القبيحَ، واستقبح الحسنَ، وحينئذٍ فقد استحكم فساده".


    إلى أن قال -رحمه الله- متحدثاً عن أضرار اللواط:

    "وأيضاً؛ فإنه يورث من الوقاحة، والجرأة، ما لا يورثه سواه.
    وأيضاً فإنه يورث من المهانة، والسِّفال والحقارة ِما لا يورثه غيره.

    وأيضاً فإنه يكسو العبدَ حُلَّةَ المقت، والبغضاءِ، وازدراءِ الناس،واحتقارِه م إياه، واستصغارهم له -ما هو مشاهد بالحس". ا-ه-.
    ولقد أثبتت الدراساتُ الطبية الحديثة؛ أن لهذه الفعلة أضراراً كبيرة، على نفوس مرتكبيها، وعقولهم، وأبدانهم.

    فمن أضرارها: التأثير على الأعصاب،والمخ، وأعضاء التناسل، والدوسنتاريا، والتهابُ الكبد الفيروسي،بل كثيراً ما يؤدي إلى أمراض الشذوذ الخطيرة: كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز.

    بل إنه على رأس الأسباب المؤدية لتلك الأمراض.

    وأكثر هذه الأضرار، يشترك فيها الزنا مع اللواط، ثم إن الزنا يجمع خلال الشر كلَّها، من قلة الدين،، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة؛ فالزنا سبب للفقر، ولذهاب حرمة فاعله وسقوطه من عين الله، وأعين عباده، والزنا يسلب صاحبَه اسمَ البرِّ، والعفيفِ، والعدلِ، ويعطيه اسمَ الفاجرِ، والفاسق، والزاني، والخائن.




    ومن أضرار الزنا: الوحشةُ التي تُوضع في قلب الزاني، وهي نظيرُ الوحشةِ التي تعلو وجهَه؛ فالعفيفُ على وجهه حلاوةٌ، وفي قلبه أنسٌ، ومَنْ جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماما ً.

    ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة، والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش لرأى أن ما فاته أضعافُ أضعافِ ما حصل له.

    والزنا يجرئ على قطيعة الرحم،وعقوق الوالدين،وكسبِ الحرام، وظلمِ الخلق، وإضاعةِ المال، والأهل، والعيال.

    والزنا يَذْهَبُ بكرامة الفتاة، ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكِّس به رؤوسهم بين الخلائق.

    وإذا حملت المرأةُ من الزنا، فقتلت ولدَها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم.



    والزنا جنايةٌ على الولد، فإن الزاني يَبْذِرُ نطفته على وجه يجعل النسمةَ المخلَّقةَ منها مقطوعةَ النسبِ إلى الآباء، فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من الروابط التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلَّت به نَعْلُه.

    وفي الزنا جنايةٌ على الولد، وتعريضٌ له لأن يعيش وضيعاً بين الأمة، مدحوراً من كل جانب، فما ذنب هذا المسكين، وأي قلب يحتمل ذلك المصير.
    أيها الصوام:
    هذا نزرٌ يسير من أضرار الفواحش، ومن خلال ذلك يتبين لنا مدى ما يصل إليه الإنسان إذا هو فارق العفةَ، واتبع هواه بغير هدى من الله، وهكذا يتبين لنا أثر الصوم في تنمية خلق العفة.

    اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

    بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
    الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ
    (20)
    رَمَضَانْ شَهَر الحِلْم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فلا ريب أن للصوم أثراً في اكتساب الحلم، ولا ريب أن للحلم فضائلَ عديدةً، والحديث ههنا تبيان لبعض فضائل الحلم.

    معاشر الصائمين:
    من فضائل الحلم أنك ترى الناسَ في جانب الحليم متى كان خصمُه أو مناظره ينحدر في جهالة، ولا يندى جبينه أن يقول سوءاً.

    قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حلمُك على السفيه يكثر أنصارَك عليه).



    قال الحكيم العربي:


    والحلمُ أعظمُ ناصرٍ تَدْعُونه *** فالزمْهُ يَكْفِكَ قلةَ الأنصار
    ومن فضل الحلم أن رئاسةَ الناسِ -صغيرةً كانت أم كبيرة- لا ينتظم أمرُها إلا أن يكون الرئيس راسخاً في خلق الحلم.

    قال معاوية رضي الله عنه لعرابةَ الأوسيِّ:
    بم سُدْتَ قومك حتى قال فيك الشماخ:
    رأيت عرابةَ الأوسيَّ يسمو *** إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
    إذا ما رايةٌ رُفعت لِمَجدٍ *** تلقَّاها عرابةُ باليمينِ
    قال عرابةُ:

    غيري أولى مني بذلك يا أمير المؤمنين.

    قال معاوية:
    عزمتُ عليك لَتُخبرَنِّي.

    قال عرابة:
    يا أمير المؤمنين! كنت أحلِم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم.

    وما ذلك _ أيها الصائمون_ إلا أن الناس يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حولَ مَنْ يأخذه الغضبُ لأدنى هفوة، إلا أن يساقوا إليه سوقاً.

    والرئيس بحق هو مَنْ يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب.

    ولقد امتن ربنا _جل وعلا_ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جبله على هذه السيرة الحميدة، وأنْ جَنَّبه الغلظةَ والفظاظة، فقال _ عز وجل_ : (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159).

    ولقد كانت سيرةُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حافلةً بهذا الخلق الكريم؛ فلقد كان يلاقي الإساءة بالإحسان، ويدفع بالحسنة السيئة، ويقابل الغِلظَ بالرفق؛ فهذه السيرةُ ترشدُ رئيسَ القومِ، والداعيةَ، والعالمَ، والمعلمَ أن يوسِّع صدرَه لمن يناقشه أو يجادله ولو صاغ أقواله في غلظة وجفاء؛ فسيرته _ عليه الصلاة والسلام _ هي التي علَّمت معاوية رضي الله عنه أن يقول: (والله لا أحْمِلُ سيفي على مَنْ لا سيفَ له؛ فإن لم يكن لأحدكم سوى كلمةٍ يقولها ليستشفيَ بها فإني أجعل لها ذلك دبر أذني، وتحت قدمي).

    ويقول رضي الله عنه: (لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي).

    وإليكم _معاشر الصائمين_ هذه القصةَ العجيبةَ من سيرة معاوية رضي الله عنه.

    قال رجل من قريش:
    ما أظن معاويةُ أغضبه شيءٌ قطُّ.

    فقال بعضهم:
    إذا ذُكرَت أُمُّه غضب.

    فقال مالك بن أسماء المنى القرشي:
    أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلاً، ففعلوا، فأتاه في الموسم، فقال له: يا أمير المؤمنين إن عينيكَ لتشبهانِ عيني أمِّك.

    قال معاوية:
    نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان! ثم دعا مولاه شقران فقال له: أَعْدِدْ لأسماء المنى ديةَ ابنها؛ فإني قد قتلته وهو لا يدري.

    فرجع مالكُ بنُ أسماءِ المنى وأخذ الجعلَ، فقيل له:
    إن أتيت عمر بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا.
    فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات.
    فبلغ ذلك معاوية، فقال:
    أنا والله قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:

    ألا قل لأسماء المنى أمِّ مالكٍ *** فإني لَعَمْرُو الله أهلكت مالكا

    قال ابن الأثير رحمه الله متحدثاً عن صلاح الدين الأيوبي:
    (وكان _رحمه الله_ حليماً، حسن الأخلاق،صبوراً على ما يكره، كثير التغاضي عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعَلِمُهُ بذلك، ولا يتغير عليه.

    وبلغني أنه كان جالساً وعنده جماعة،فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة _أي بنعل_ فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين، فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها).

    معاشر الصائمين:
    قد يقطع الحلم شَرَّاً عظيماً لو لم يقابل بالحلم لتمادى وعظم.

    قال أيوب:
    (حلمُ ساعةٍ يدفع شراً كبيراً).

    وقال الأحنف:
    (ربَّ غيظٍ تَجَرَّعْتُه، مخافةَ ما هو شرٌّ منه).

    بل قد يضع الحلمُ مكان الضغينة مودة؛ ذلكم أن الفضيلةَ محبوبةٌ في نفسها، وتدعو إلى إجلال مَنْ يتمسَّك بها.

    وكثيراً ما يكون الصفح عن المسيء دواءً لسوء خلقه، وتقويماً لعوجه، فيعود الجفاء إلى ألفة، والمناواة إلى مسالمة.

    أما التسرُّع في دفع السيئة بمثلها أو أشدَّ دونما نظرٍ إلى الأثر السيئ _فذلك دليلُ ضيقِ الصدرِ، والعجزِ عن كبح جماح الغضب.

    وإنما يتفاضل الناس في السيادة على قدر تدبُّرهم للعواقب، وإسكاتهم للغضب إذا طغى. ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34-35)

    أيها الصائمون الكرام! ومن فوائد الحلم:
    السلامة من تشوش القلب، ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب.
    أما أعظم فوائده فهي الفوزُ برضا الخالق _جل وعلا_ فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة، قال _تعالى_: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) .



    وأثنى على عباده المؤمنين بقوله:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)(الفرقان : من الآية63).


    أيها الصائم الكريم!
    تذكَّر أنك تتفيَّأُ في ظلال دين قويم، وتعيش في أيام شهر مبارك كريم؛ فإذا سابَّك أحدٌ أو شاتمك فقل:

    (إني امرؤ صائم).



    وبذلك ترضي ربك، وتحافظ على صومك، وتسلم من سماع ما يسوؤك.

    وإذا لزمت هذه السيرة الرضية في شهرك هذا، كان ذلك دافعاً لك أن تلزم الحلم في بقية عمرك،

    (وإنما الحلم بالتحلُّم، وإنما العلم بالتعلُّم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •