تأمين وتحصين
كما عُرف تعدد الأبواب في المنازل منذ بداية التمدّن الإسلامي؛ فدار الصحابي يَعْلَى ابن مُنْيَة التميمي (ت 60هـ/680م) “كان لها بابان”؛ وفقا للمؤرخ الأزرقي (ت 250هـ/837م) في ‘أخبار مكة‘. وذكر ابن مسْكَوَيْه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم‘- أن أحد قضاة الإمارة الحمدانية بالشام “عمِلَ.. أبوابا لداره.. من الحديد”. وكان من المعتاد جعْل أبواب الدُّور الكبيرة ضخمة طلبا للأمان، ففي ‘الفرَج بعد الشِّدة‘ للتنوخي وصفٌ لبيت رجل ثريّ جاء فيه أنه احتوى “بابا شاهقا يدل على نعمة قديمة”.
وإلى جانب صناعتها من الخشب؛ ربما اتُّخِذت أبواب البيوت من الحديد كما في وصف الخليفة العباسي المأمون للدار التي اختبأ فيها بخراسان عن أعدائه قبل توليه الخلافة، وأوردها التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘؛ وكذلك في خبر دار القاضي الحمداني السالف ذكرها. وقد تُصنع الأبواب من النحاس؛ فدار الأمير المملوكي آقوش الرومي (ت 707هـ/1306م) كانت “من أجَلّ دُور القاهرة وبابُها من نحاس بديع الصنعة”؛ طبقا للمقريزي في ‘الخطط والآثار‘.
وتعدد الأبواب ونمط توزيعها وإخفاء بعضها عن عامة الناس مما يؤمّن الدار ويرمز لأهمية صاحبها؛ فقد وصف أمير بغداد أبو جعفر ابن شِيرْزَاد (ت بعد 334هـ/946م) منزله فقال: “وكان لداري أربعة عشر بابا، إلى [جانب] أربع عشرة سكة وشارعا وزُقَاقا نافذا، ومنها عدة أبواب لا يعرف جيراني أنها تُفْضي إلى داري، وأكثرُها عليه الأبواب الحديد”؛ وفقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
وربما احتوت إحدى غرف بيوت الوجهاء على باب يفضي إلى سرداب تحت الأرض ينتهي بسُلّم آخر يؤدي إلى غرفة سرية؛ يقول الأمير ابن شِيرْزَاد واصفا اختباءه في دار السيدة “خاطف” خالة الخليفة المقتدر بالله (ت 320هـ/933م): “فسلكت بي وبالمرأة العجوز إلى موضع من الدار، فدخلت إلى حجرة فأقفلتها، ومشت بين أيدينا حتى انتهت بنا إلى سرداب فأنزلتنا فيه، ومشينا فيه طويلا وهي بين أيدينا حتى صعدت منه إلى درجة طويلة، أفضت بنا إلى دار في نهاية الحسن”.
وقد تكون أمثال هذه الغرف السرية محصَّنة ضد الاختراق لزيادة تأمينها؛ ففي وصف لإحداها -في قصة اختفاء ابن شِيرْزَاد المتقدمة- ورد أنها “بيتٌ مُؤَزَّر (= مدعَّم) بالسّاج (= خشب ضخم قوي) إلى أكثر حيطانه، عليه باب حديد”؛ أي لحمايتها من الحفر بالآلات.
وقد تُجعل على الأبواب أقفال لحماية ما تغلق عليه من ساكنة ومتاع؛ ففي حكاية للتنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- نجد أن غرفة الخزن بمنزل رجل صيرفي أغلقتها أمُّه أمام أحد اللصوص، “وجعلت الحلقة في الرَّزَّة (= حديدة يدخل فيها القفل) وجاءت بقُفْل فأغلقته.
تقانة مائية
أما “المطبخ” فلا يَرِد ذكره غالبا إلا في دُور الكبار من شخصيات المجتمع، ومن ذلك ما جاء في وصف دار الوزير العباسي القاسم بن عُبيد الله (ت 291هـ/904م)، حيث ألحقت بمطبخه “حجرة الشراب” الخاصة بالمشروبات؛ وفقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘. وفي دُور الخلافة كان كل منزل منها له مطبخ خاص به، فقد حكى التنوخي في قصة التاجر العاشق قوله واصفا دخوله إحدى دُور الخلافة: “فبقيتُ أطوف في الدار إلى أن وقعتُ على المطبخ، فإذا قومٌ طبّاخون جلوس”.
ومما يتعلق بالمطبخ وما يدور فيه من مأكل ومشرب ونظافة: إدخالُ المياه في البيوت وكيف يتم توفيرها؛ فقد تناول ابن خلدون -ضمن حديثه عن العمران في ‘المقدمة‘- طرقَ جلْبِ المياه إلى المدن وتوصيلها وإدخالها في المنازل، وكيف كانت الصهاريج والآبار وسيلة للحصول على المياه داخل المنازل، حيث تحتوي على “قِصَاع الرُّخَام القَوْرَاء (= المجوَّفة) المُحْكَمة الخرط (= التامة التسوية) بالفُوَّهَات (= الفتحات) في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصّهريج، يُجْلَب إليه من خارج القنوات المُفْضِية (= المؤدية) إلى البيوت”.
وقد برع في تخصص جلب المياه بالقنوات عدد من المهندسين المسلمين، منهم المهندس الأندلسي عُبيد الله بن يونس (ت بعد 470هـ/1077م) الذي يذكره الجغرافي الشريف الإدريسي (ت 560هـ/1165م) في ‘نزهة المشتاق‘؛ فقد قال متحدثا عن مراكش: “وماؤها الذي تُسقَى به البساتين مُستخرَج بصنعة هندسية حسنة، استخرج ذلك عُبيد الله بن يونس المهندس.. فقصد إلى أعلى الأرض مما يلي البستان، فاحتفر فيه بئرا مربعة كبيرة التربيع، ثم احتفر منها ساقية متصلة الحفر على وجه الأرض، ومَرَّ يحفر بتدريج من أرفع إلى أخفض متدرجا إلى أسفله بميزان، حتى وصل الماء إلى البستان وهو منسكِبٌ مع وجه الأرض يصب فيه، فهو جارٍ مع الأيام لا يفتر”!!
وقبل ابن خلدون بخمسة قرون؛ يحدثنا الأزرقي -في ‘أخبار مكة‘- عن منازل للصحابة كانت مزودة بآبار المياه؛ فكان لمعاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) -رضي الله عنه- دارٌ “فيها بئر” ماء، ولعبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) بيوت في أحدها “بئر حفرها” بنفسه. واشترك آخرون في حفر بئر فسُمِّيت “بئر الشركاء في الدار.. ثم قيل دار الشركاء”.
وفي عهود لاحقة؛ عرف المسلمون خزْنَ ماء المطر في أحواض متفاوتة الحجم؛ حتى إن الرحالة ابن حَوْقَل الموصلي (ت بعد 367هـ/978م) حين زار مدينة سِرْت الليبية وجد أن “شرب أهلها من ماء المطر المختزن في المَوَاجِل (= جمع مَوْجِل: حُفرة مبلَّطة لخزن الماء)”. ويقول الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ (ت 481هـ/1088م) -في رحلته ‘سَفَرْنامَهْ‘- متحدثا عن بيوت الرملة بفلسطين: “والماء هناك من المطر، ولذا فقد بُنِي في كل منزل حوض لجمع مياه المطر، فيبقى ذخيرة دائمة”.
استخدام متعدد
أما أهل دمشق فقد تفنَّن بعضهم في استخدام المياه داخل بيوتهم بطرق مختلفة، وصفها لنا بدقة الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1149م) في تفسيره ‘أحكام القرآن‘؛ فقال إنه عندما أقام بدمشق رأى “فيها أربابَ دُورٍ قد مكَّنوا أنفسَهم من سَعَة الأحوال بالماء، حتى إن مُسْتَوْقَدَهم (= المطبخ) عليه ساقية، فإذا طُبخ الطعام وُضِع في القَصْعة (= إناء خشبي كبير)، وأُرْسِل في الساقية فيُجْرَف [بتيار الماء] إلى المجلس فيوضع في المائدة، ثم تُرَدُّ القَصْعة من الناحية الأخرى إلى المُسْتَوْقَدَ فارغة، فتُرْسَل أخرى مَلْأى”!!
وكانوا يتخذون للماء أحواضا مستطيلة للتوضُّؤ ونحوه يسمونها “الفَسْقِيات” واحدتها “فَسْقِيَّة”، وقد تُطلَق على النافورة؛ فقد تحدث المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن دار الأمير المملوكي أحمد بن طُوغَان (ت 808هـ/1406م) بالقاهرة، فوصفها بأنها “فيها آبارٌ سبعة مَعِينة (= عَذْبَة) وفَسْقِيَّة يُنْقَل إليها الماء بساقية على فُوَّهَة بئر”.
لم يعرف العرب قديما المراحيض في منازلهم، بل ولا في الحواضر كما يدل عليه قول السيدة عائشة رضي الله عنها (ت 58 هـ/678م) في حديث الإفك: “وكنا نتأذَّى بالكُنُف (= المراحيض) أن نتَّخذها عند بيوتنا”؛ (صحيح البخاري). ويروي الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في ‘البخلاء‘- أن منافذ مجاري المراحيض -في البصرة مثلا- كانت لها مواضع معينة قرب البيوت، فيقول في قصة أحدهم إنه كان له “كَنِيفٌ إلى جانب داره يشرع في طريق [داخلي] لا ينفذ” إلى الشارع العام.
وقد يُسقَّف المرحاض بسقف مزيَّن في بيوت المترفين؛ إذ روى التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن أحد التجار جاء إلى عبد الواحد ابن الخليفة العباسي المقتدر بالله “يسأله مبايعتَه سقفَ ساجٍ مُذهبٍ (= مطلي بالذهب) كان في بيت ماء (= مرحاض) في داره على دجلة”.
ويبدو أن التأنق التقني في تجهيزات الحمامات كان متاحا للطبقة الثرية من المجتمع، وبمستوى يطابق في بعض جوانبه ما نجده اليوم في حمّامات البيوت الفخمة؛ ففي خبر ابن الجوزي -السابق الذكر- عن دار الكاتب ابن أفلح ببغداد؛ ذكَرَ أنه بنى “فيها الحمّامَ العجيب، فيه بيت مستراح فيه بيشون (= أنبوب/صنبور) إن فَرَكه (كذا؟ وربما تُقرَأ: حرَّكه) الإنسانُ يمينا خرج الماء حارًّا، وإن فَرَكه شمالا خرج باردا”!
ملحقات داعمة
ومن الأقسام الداخلية للبيت ننتقل إلى ذكر أبرز أجزائه الخارجية؛ إذ يبدو أن “الجناح” كان جزءا مخصصا للظل يبرز أمام البيت في الطريق العام، كما توحي به قصص أوردها الخطيب البغدادي في كتاب ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘؛ ففي بعضها وصَف المُغنِّي إسحق الموصلي منزلا ببغداد فكان من أجزائه “جناحٌ خارجٌ رحْبٌ على الطريق”.
كما ذكر إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) “جناح البيت” بقوله في حكاية جرت له أثناء تجواله ببغداد: “فشَمَمْتُ -يا أمير المؤمنين- من جناحٍ أبازيرَ (= بهارات) قُدُورٍ [طبخ] قد فاح طيبُها..، فرميتُ بطَرْفي (= بصري) إلى الجناح فإذا في بعضه شُبَّاكٌ”.
ومما يطلّ على الشارع العام والمتنزهات من أجزاء المنزل: “المَنْظَرة” التي هي مكان للتبرُّد والتهوية والتنزه بالإطلال على المناظر عموما، وقد تُتّخَذ مجلسا لاستقبال الضيوف؛ فقد “مَرَّ طفيليٌّ بقومٍ… وهم في “مَنْظَرة” لهم، فسلَّم عليهم وقال: آدخلُ؟ فدخل”؛ كما في ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘ للخطيب البغدادي. وربما أطلقوا على “المَنْظَرة” اسمَ “المُسْتشْرَف” [الشُّرْفة]، كما في وصف الخليفة المأمون للدار التي اختفى فيها بخراسان عن أعدائه، فقال: “وكنتُ نازلا في دار أبوابها حديد، ولِيَ [فيها] “مُسْتشْرَفات” أجلسُ فيها إذا شئتُ”.
أما الرَّوْشن فهو ما يُعرف اليوم بـ”البرندة/الفرندة” أو الرَّدْهَة المفتوحة، وكانت تُتخذ في دُور الكبراء خاصة على الأنهار طلبا للهواء البارد؛ فقد مَرَّ أحدهم بدار التاجر البغدادي ابن الجصاص وقال: “فرأيتُه على “رَوْشَن” داره على دجلة في وقت حارّ من يوم شديد الحر، وهو حافٍ (= بلا نعلين) حاسِرٍ (= مكشوف الرأس)، يعدو من أول الروشن إلى آخره”؛ وفقا للتنوخي.
ومما يتصل بالسطوح من ملحقات مصبّات “الميازيب”، وهي قنوات صغيرة تكون مثبتة في بلاط السطح وخارجة منه ناحية الشارع، ووظيفتها تصريف ماء المطر من السطح إلى الشارع حتى لا يتجمع فوق البيت فيضرّ بسقفه. وقد تؤذي مياهُها المارّةَ من أسفلها كما حصل للوزير عليّ ابن الفرات عندما اجتاز -قبل توليه الوزارة- في شارع “فسال عليه ميزابٌ من دار فصيَّره آيةً ونكالًا” بسوء حاله وبؤس مظهره؛ حسب التنوخي في ‘نشوار المحاضرة‘.
وكما اتخذوا الميازيب لتصريف مياه الأمطار عن سطوح البيوت؛ فإنهم عالجوا أيضا مشكلة تجمُّع هذه المياه ونحوها في الطرقات بأساليب تدخل عموما في إجراءات “الصرف الصحي”؛ فالمؤرخ السمهودي (ت 911هـ/1505م) يحدثنا -في كتابه ‘وفاء الوفاء‘- عن مشكلة تجمُّع مياه المطر بالمدينة المنورة وخاصة حول المسجد النبوي، فيذكر وجود “بلاليع (= جمع بالوعة) يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار [فإن مياهها] تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغُدْران الكِبار”.
ثم أوضح السمهودي الكيفية التي حُلّت بها هذه المشكلة؛ فقال إن “”مُتولِّي العمارة” (= كبير مسؤولي الإنشاءات الحكومية) حفَر سَرَبا لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد [النبوي]، وأوصلها بالسَّرَب (= المَجْرَى) الذي يسير فيه وسخ العين؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد.
تكيف وتكييف
اتخذ الناس في المناطق الحارة وسائل متنوعة لتلطيف الأجواء في المدن، فكان مما استخدموه لذلك “المراوح” اليدوية و”الخَيْش” -وهو ثياب من الكتّان- المرشوش بالماء والمراوح اليدوية لتبريد الغرف.
فقد جلس موسى بن عبد الملك الأصبهاني (ت 246هـ/860م) -حين كان وزير المالية أيام الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م)- ذات يوم “في خَيْش في حجرة من ديوانه (= مكتبه)، وفيه مِرْوحة يتناوبها فرّاشان يروِّحانه”؛ طبقا للتنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
ويبدو أن الهواء المتولِّد من الخَيْش والمِروحة كان شديد البرودة إلى درجة أن أحد زوّار الوزير “أصابـ[ـه].. بردُ المِروحة والخَيْش فنام واستثقل”، رغم قدومه لأداء مهمة رسمية خطيرة!!
وكان الخَيْش المرشوش يركَّب عند برج التهوية الخارج من أعلى السطح والمعرَّب من الفارسية باسم: “الباذْهَنْج/الباذْهَنْج” (= ساحب الهواء)، ثم أصبح يُدعَى “المُلَقّف”، وتُسمى أيضا “بيوت الخَيْش” عند الرحالة المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ/991م) في ‘أحسن التقاسيم‘.
ويخبرنا التنوخي عن بعض تقاليد العمل في دار الخلافة؛ فيقول إنه “كان الرسم.. على كل عريف من الفرّاشين أن يدخل يوما من الأيام -هو ومن معه في عرافته- إلى دُورِ الحُرُم (= جناح النساء) لرشِّ الخُيُوش (= جمع خَيْش) التي فيها”، فكان الفرّاشون يحملون قِرَبًا من الماء لرشّ الخَيْش في برج “الباذْهَنْج”، فـ”تخرج منه ريح طيبة” تلطِّف أجواء البيت.
وفي الدُّور التي يسكنها أو يرتادها الخلفاء والوزراء كانت تتخذ الإجراءات الكفيلة بتبريد كافة أرجاء الدار وغرفها؛ فقد حكى ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1270م) –‘عيون الأنباء‘- أن الطبيب المسيحي بَخْتَيَشُوع بن جبرائيل (ت 256هـ/870م) أقام وليمة بداره في سامُرّاء للخليفة المتوكل وكان كبيرَ أطبائه.
وعندما أقيمت الوليمة “كان الوقت صائفاً وحرُّه شديدا..؛ فأحضر [بَخْتَيَشُوع] وكلاءَه وأمرَهم بابتياع (= شراء) كل ما يوجد من الخَيْش [لتبريد الهواء]..، ففعلوا ذلك وأحضروا كل مَنْ وجدوه من النجَّادين والصُّنّاع، فقطَّع لداره كلها: صُحُونها وحُجَرها ومجالسها وبيوتها ومُسْتراحاتها خَيْشاً، حتى لا يَجْتاز الخليفةُ في موضع غير مُخَيَِّش” لتبريده!!
وكانت السطوح تستخدم زمن الحر أماكن للنوم ليلا؛ إذ ورد عند الجاحظ -في ‘البخلاء‘- قول أحدهم في حوار مع صاحب منزل عراقي: “نحن في أيام الربيع.. ولستُ أحتاج إلى سطح فأغِمَّ عيالَك بالحرّ”!!
ويفيدنا الرحالة المقدسي بأن سكان إقليم خراسان بسبب الحرِّ “ينامون على السطوح وهم في تعب” من ذلك طوال الصيف، ويقارن مناخهم بمناخ بلاده فلسطين فيقول عن نفسه: “ومكثتُ أنا عشرين سنة ببيت المقدس أنام في البيت” دون حاجة إلى السطح صيفاً.
ويصف ابن جُبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- فنادقَ مدينة جدة بأنها “لها سطوح يُستراح فيها بالليل من أذى الحرّ”. وربما تحولت أسطح بعض المنازل والقصور إلى حدائق للزينة وتبريد الأجواء بهوائها الندي، فالرحالة ناصر خُسْرَوْ يخبرنا أنه في القاهرة “غُرِست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات”!
إضاءة فائضة
وكانت القِباب تبنى لتكون مجالس باردة، فقد بنى أحمد بن طولون (ت 270هـ/884م) قبة “يقال لها “قبة الهواء” مُطِلَّة على النيل والبر”. ومن الطريف أنه في بعض البلدان صار اتخاذ القباب في البيوت مؤشرا على الملاءة المالية لأصحابها.
فهذا ابن عبد المنعم الحميري (ت 900هـ/1494م) يقول -في ‘الرَّوْض المِعْطار‘- إن مدينة جدّة في عصره يوجد “في أعلى منازلها قِبابٌ مُحْكَمة، ويَذْكُر أهلُها أن من بلغ كسْبُه مئة ألف دينار (= اليوم 16.7 مليون دولار أميركي تقريبا) بنى على داره قبة، [لـ]ـيُعْلَم بذلك أن كسبه قد بلغ العدد المذكور، وأهلها أغنى الناس وأكثرهم مالا، وبها دور كبيرة لها ثلاث قباب”.
وإضافة إلى مرافق التبريد؛ فإن البيوت كانت تزوَّد بوسائل إنارة مختلفة بعضها طبيعي من خلال فتحات الضوء الفسيحة في الغرف ومن خلال صحن الدار المفتوح بوسطها، وبعضها الآخر يتم باتخاذ الشموع والمشاعل والقناديل الصغيرة والضخمة، حتى إن بعض البيوت كان يفيض ضوؤُها على بيوت الجيران والشوارع من حولها.
ولذلك يحدثنا ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- عن “زُقَاق القناديل” بالقاهرة؛ فيقول إنه “سُمِّي بذلك لأنه كان [فيه] منازل الأشراف (= أعيان المجتمع) وكانت على أبوابهم القناديل، وكان [بدايةً] يقال له ‘زقاق الأشراف‘”.
بدأ تجميل البيوت في الحضارة الإسلامية منذ العهد الأموي؛ فقد بنى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- دُوراً بمكة المكرمة كانت منها الدار البيضاء التي “بُنِيتْ بالجِصّ ثم طُلِيَتْ به”، والدار الرَّقْطاء التي “بُنِيتْ بالآجر الأحمر والجص الأبيض فكانت رَقْطاء” اللون.
كما بُنِيتْ بمكة المكرمة دار للخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) على يد وكيله حماد البربري (ت 187هـ/803م)، فكُسِيتْ “بالرخام والفُسَيْفِساء من خارجها، وبُنِيَ باطنُها بالقوارير والمِينا (= مادة زجاجية) الأصفر والأحمر” فكانت تُعرَف بـ”دار القوارير” لاستعمال الزجاج في بنائها؛ طبقا للأزرقي في ‘أخبار مكة‘. ويصف إسحق بن الحسين المنجم (ت بعد 358هـ/969م) في كتابه ‘آكام المرجان‘- ألوانَ طلاء المنازل بصنعاء فيقول إن “دُورها مدهنة (= مصبوغة) بالأحمر والأخضر”.
ويفيدنا الرحالة ناصر خُسْرَوْ بأن أهل الرملة بفلسطين اعتادوا استخدام الرخام في منازلهم فــ”ـزُيِّنتْ مُعظم السَّرايات (= القصور) والبيوت به”، وكانوا يجلبونه من الأعمدة الأثرية القريبة من أماكن سكنهم، حيث “يقطع الرخام بمنشار لا أسنان له”، وكانوا “يعملون المنشار على أعمدة الرخام بالطول لا بالعرض، فيخرجون منه ألواحا كألواح الخشب”، ومنها ألوان كثيرة فيها “المُلمَّع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض ومن كل لون”.
لمسات جمالية
أما دار الأمير المملوكي آقوش الرومي بالقاهرة فقد زُيِّنتْ “بالرخام المنقوش الكثير الزينة”، كما يقول المقريزي. وقد تكون زخرفة البيت جزءا من عملية ترميم وصيانة شاملة له، ومع ذلك تُكلف مبالغ معتبَرة؛ فالحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) يخبرنا -في ‘إنباء الغُمْر‘- بأن أحد السماسرة الكبار بمصر “اشترى دارا.. بشاطئ النيل فزَخْرَفها وأتقنها، وغرم عليها.. أكثرَ من خمسة آلاف دينار (= نحو مليون دولار أميركي تقريبا)”.
وبعد ناصر خُسْرَوْ بثلاثة قرون؛ نجد لدى ابن خلدون ذكرا مفصلا لبعض طرق تجميل البيوت وكيفية نقش جدرانها وسقوفها، فقال إن “من صناعة البناء ما يرجِع إلى التنميق والتزيين، كما يُصنَع من فوق الحيطان الأشكالُ المجسَّمة من الجص، يخمَّر بالماء ثم يرجع جسدا وفيه بقية البلل، فيُشكَّل على التناسب تخريما بمثاقب الحديد”، وقد يُستخدم “على الحيطان أيضا بقطع الرُّخام أو الآجُرّ أو الخَزَف أو الصَّدَف أو السِّيج (= نوع من الخشب)”، سواء كاملة أو مقطعة لأشكال مختلفة و”توضع في الكِلْس”.
وكان مَن يقوم بتجميل البيوت بالرسوم والصور يُدعَى “المُزَوِّق”، فهو صاحب “حرفة التزويق وتدهين الأشياء الخشبية والسقوف”؛ طبقا للسمعاني في كتابه ‘الأنساب‘. وممن عمل في هذه المهنة من المشاهير الخطّاطُ المرموق علي بن هلال المعروف بابن البوّاب (ت 413هـ/1023م)، فقد ذكر ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- أنه “كان في أول أمره مُزوِّقاً يصوّر الدُّور”!
وقد عرف العرب المَصَاطِبَ قديما وسمَّوْها الدكاكين ومفردها دُكَّان/دكانة، ويروي الأزرقي -في ‘أخبار مكة‘- أن أبا سفيان بن حرب (ت 31هـ/652م) -رضي الله عنه- بنى أحجارا “شبه الدكان في وجه داره، [فكان] يجلس عليه في فيْء (= ظِلّ) الغداة”، فأمره الخليفة عمر بهدمها قائلا: “ما هذا البناء الذي أحدثته في طريق الحاج؟!”، فهدمها بنفسه.
وكان الدكان أمام الدُّور الصغيرة كدار مؤسس الدولة الإخْشِيدية محمد بن طُغْج (ت 334هـ/945م) أيام فقره، فقد “كان له على باب دُوَيْرَته دكانـ[ـة] يجلس عليها دائما ودابته مشدودة” إليه؛ حسب التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘.
ومن ملحقات البيوت أيضا أفْنِيتُها التي “هي متَّسَع أمام الدار” كما يقول شرف الدين الطيبي (ت 743هـ/1343م) في ‘الكاشف عن حقائق السُّنَن‘، ويعلل الطيبي الأمر النبوي بتنظيفها قائلا: “فإن ساحة الدار إذا كانت واسعة نظيفة طيبة، كانت أدعى لجلب الضِّيفان الواردين والصادرين”.
وترد في كتب التراث معطيات تفيد بأنهم كانوا يهتمون بتسمية شوارع المدن ويذكرونها عناوينَ للبيوت والمحلات؛ ومن ذلك أن الطبري ذكر -في تاريخه- مقتل الشاعر علي بن الجَهْم السامي (ت 249هـ/863م) فقال إنه “كان منزله في شارع الدُّجَيْل” ببغداد.
وترجم ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- للإمام إبراهيم بن إسحق الحربي (ت 285هـ/898م)، فقال إنه “دُفن في بيته في شارع باب الأنبار”. ويفيدنا أيضا الخطيب البغدادي -في ‘تاريخ بغداد‘- بأن الواعظ أبي الحسين بن سَمْعُون (سنة 337هـ/948م) “دُفن في داره في شارع العتابيين” ببغداد.
ظواهر عمرانية
وقد شهدت الحضارة الإسلامية مبكرا ظاهرة “بيوت العزاب” وبهذا الاسم تحديدا؛ إذ ترجع بدايتها فيها إلى الأيام الأولى للمسلمين بالمدينة المنورة؛ فقد “كان يقال لبيت سعد (بن خَيْثَمة الأنصاري ت 2هـ/624م): “بيت العزاب”، لأنه كان منزل المهاجرين منهم”؛ وفقا للإمام أبي الربيع الكلاعي الحميري (ت 634هـ/1236م) في كتابه ‘الاكتفاء‘. ثم تزايد في العهود اللاحقة انتشار “بيوت العزاب” فسكنها كثير من العبّاد والزهاد والحرفيين.
كما عرف المسلمون البناء المتعدد الطبقات الذي شيّده أهل اليمن قرونا قبل الإسلام؛ فكان منزل عبد الله ابن أرْطَبَان (ت 151هـ/770م) في الكوفة مكوَّناً من طابقين على الأقل، وكان هو “يسكن أعلى داره” التي كانت مؤجَّرة الغرف ومقسَّمة الأجزاء لتوزُّع سكانها دينيا، فقد “كان له وكيل نصراني يجبي غَلَّة داره، وكان سكّانه في داره -التي هو فيها- نصارى ومسلمون”؛ حسب ابن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘.
وفي أواسط القرن الخامس الهجري/العاشر الميلادي؛ قال الرحالة ناصر خُسْرَوْ واصفا مباني طرابلس اللبنانية: “وأربطتُها (= أبراج الحراسة) أربع أو خمس طبقات، ومنها ما هو ست طبقات”. وأما القاهرة فيقول عنها: “وبمصر بيوت مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوت من سبع طبقات”، وإن كان “معظم العمارات تتألف من خمس أو ست طبقات”.
وفي القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي؛ يخبرنا ابن جبير الأندلسي -في كتاب رحلته- بأن فنادق جدة “مبنية بالحجارة والطين، وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغُرف”. أما مساحات المباني داخل تلك طبقات بيوت بعض المدن؛ فكانت كما يقول ناصر خُسْرَوْ: “سمعتُ من تاجر ثقة أن بمصر دُورا كثيرة فيها حجرات للاستغلال أي للإيجار، ومساحتها ثلاثون ذراعا في ثلاثين (= 225 مترا تقريبا)، وتَسَعُ ثلاثمئة وخمسين شخصا”.
وإلى جانب البيوت المستقلة؛ وُجدت الشقق السكنية الصغيرة في مصر منذ القرن الثامن على الأقل، وشاع أمرها فسماها أهل المغرب الإسلامي “المصريات” حتى ولو كانت جناحا خاصا داخل سفينة بحرية، كما نجد عند ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) -في كتاب رحلته- حين وصف ضخامة السفن في بحار الهند الإسلامية والصين، فقال إن بعضها يتكون من “أربعة ظهور (= طوابق)، ويكون فيه البيوت والمَصَاري (= جمع مصرية: جناح مفرد بمرافقه) والغرف للتجار، والمصرية منها يكون فيها البيوت (= الغُرَف) والسِّنْداس (= المِرحاض)، وعليها المفتاح يسدُّها صاحبها” عليه.
ونجد عند محمد بن القاسم الأنصاري (ت 825هـ/1421م) -في ‘اختصار الأخبار‘- ذكرا للشقق “المصريات” بمدينة سبتة المغربية؛ فقد عدّ فيها “من الفنادق المعدَّة لسكنى الناس -من التجار وغيرهم- الفندق المعروف بـ‘فندق ابن غانم‘، ويشتمل على ثلاث طبقات وثمانين بيتا وتسع مصريات”!!
ولعل خير ما نختم به هذا التطواف التاريخي في عمران البيوت في الحضارة الإسلامية؛ ذلك الوصف الشامل والبديع الذي أتحفنا به الرحالة المقدسي البشاري -في ‘أحسن التقاسيم‘- لدار السلطان البويهي عضد الدولة (ت 372هـ/983م)، وهو يلخص التطور الذي وصل إليه عمران البيوت بحواضر الإسلام في القرن الرابع الهجري/الـ10 الميلادي.
فقد قال المقدسي إن عضد الدولة “بنى بشيراز دارا لم أَرَ في شرق ولا غرب مثلَها، ما دخلها عامي إلا افتُتن بها، ولا عارف إلا استدل بها على نعمة الجنة وطيبها: خَرَقَ فيها الأنهار، ونصب عليها القباب، وأحاط بـ[ـها] البساتين والأشجار، وحفر فيها الحياض، وجمع فيها المرافق والعُدَد”.
ثم يعدد البشاري -الذي كان جدُّه من أمهر المهندسين بفلسطين- ما امتازت به هذه الدار قائلا: “وسمعت رئيس الفراشين يقول: فيها ثلاثمئة وستون حجرة ودارا، كان مجلسه كل يوم واحدة إلى الحول (= انتهاء السنة)، وهي سُفْلٌ وعُلْوٌ، وخزانة الكتب حجرة على حدة عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد ولم يبق كتاب صُنِّف إلى وقته -من أنواع العلوم كلها- إلا وحصله فيها.. والدفاتر منضَّدة على الرفوف، لكل نوع بيوت والفِهْرِسْتات فيها أسامي الكتب..، وطُفت في هذه الدار كلها سفلها وعلوها وقد فُرِشتْ فيها الآلاتُ فرأيتُ في كل مجلس ما يليق به من الفرش والستور، ورأيت بيوت الخَيْش ينزع (= يرشّ) عليها الماء من قُنِيّ (= قنوات) حولها من فوق بالدوام، ورأيت الأنهار تطّرد (= تجري) في البيوت والأروقة”!